Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 92-96)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

سبق التذكير باتخاذ العجل في قوله تعالى : { وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [ البقرة : 51 ] ثم أعاده هنا بعبارة وأسلوب آخرين في سياق آخر . أمّا إختلاف العبارة والأسلوب فظاهر ، وأمّا السياق فقد كان أوّلاً في تعداد النعم على بني إسرائيل وبيان ما قابلوها به من الكفران ، وهو هنا في ذكر الآيات وردّ شبهاتهم المانعة بزعمهم من الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم . فهناك يقول : إنّ النعم التي أسبغها الله عليكم لم يكن لها من شكر عندكم ، إلاّ اتخاذ عجل تعبدونه من دونه . وهاهنا يقول : إن الآيات البيّنات على النبوّة والوحدانيّة ، لم تزدكم إلاّ إيغالاً في الشرك وانهماكاً في الوثنيّة ، فكيف تعتذرون عن الإيمان بمحمد بأنكم لا تؤمنون إلاّ بما أنزل إليكم وهذا شأنكم فيه ؟ ومجموع الآيتين ينبئ بفساد قلوب القوم ، وفساد عقولهم حتى لا مطمع في هداية أكثرهم من جهة الوجدان ، ولا من ناحية العقل والجنان . وهذه البيّنات التي ذكرها هاهنا قد كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة ، وأمّا النعم التي ذكرها هناك فقد كانت في أرض الميعاد كما تقدّم . ووجه الاتّصال بين هذه الآية وما قبلها قد علم ممّا قلناه في السياق ، وفيه المقابلة بين معاملتهم لموسى عليه السلام ومعاملتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم إذ قالوا : قلوبنا غلف ، وادعوا أنّهم مأمورون بأن لا يؤمنوا إلاّ بما أُنزل عليهم خاصّة . وقد علم من هذه الحجج كلّها بطلان شبههم وكذبهم في دعواهم ، وأنّه لا عذر لهم في ترك الإيمان . قال : { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ } أي من بعد هذا المجيء لا من بعد موسى ، والمراد أنّه لم يكن لهم عذر في ذلك الإتخاذ فإنّه بعد بلوغ الدعوة . وقيام الحجّة ؛ ولذلك قال { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } وأي ظلم أعظم من الشرك بالله تعالى ؟ ولا تغفل عن الإيجاز في قوله : { مِن بَعْدِهِ } وحذف مفعول { ٱتَّخَذْتُمُ } أي اتخذتموه إلهاً . ثم ذكرهم هنا أيضاً بأخذ الميثاق ورفع الطور ، كما ذكرهم به في آية تقدّمت ، وقد قال هناك : { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } [ البقرة : 63 ] وقال هنا : { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ } وأمرهم في تلك بالحفظ ، وأمرهم في هذه بالفهم والطاعة . وقلنا في تفسير { وَٱذْكُرُواْ } : إن المراد الحث به على العمل ، فالعبارتان تتلاقيان في المعنى والمراد . وفي اختلاف النظم والأسلوب ، حجّة على الذين توهموا أن إعجاز القرآن في البلاغة إنّما هو في السبق إلى العبارة التي يتأدّى بها المعنى على أكمل الوجوه الممكنة في نظم الكلمات العربيّة . رأى هؤلاء أنّ المعنى الذي يفيد علماً بشيء ما له كلمات في اللغة تؤدّيه بوجوه من النظم ، وأنّ الكلمات والوجوه محدودة ، فمَنْ سبق إلى أتمّها أداء وأبلغها تأثيراً ، كان كالسابق إلى إنتقاء أكرم جوهرة من طائفة من الجواهر أمامه ، أو إلى أنفس عقد وأحسنه نُظماً من عقود عرضت عليه . مثال ذلك قوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } [ غافر : 28 ] قال علماء هذا الشأن إنّه يتألّف من هذه الكلمات عشرة ضروب من النظم بالتقديم والتأخير ، ما من ضرب منها إلاّ وهو منتقد بالخطل ، أو إيهام خلاف المراد ، أو الخطأ في الإعراب ، إلاّ نظم الآية فهو الذي يؤدّي المعنى على أكمل الوجوه ولا يتأتّى نظم آخر يؤدّي مؤداه . وزعم بعض الناس أنّ هذا الإعجاز ليس إلهيّاً . لو أُخذ ما قالوه مسلّما على إطلاقه ، لكان لنا أن نقول : إنّه ليس في قدرة أحد من البشر أن يأتي بكلام طويل يتجلّى له في كلّ جملة منه ، جميع الكلمات التي تدخل في تأدية المعنى المراد له ، وجميع ضروب النظم ووجوه الأساليب الممكنة في ترتيب تلك الكلمات وتأليفها فيختار الأحسن الأبلغ منها . وإذا لم يكن هذا في قدرة البشر - كما هو ظاهر - فلا بدّ أن يكون من جاء به مؤيّداً بعناية من الله تعالى . على أننا لا نسلّم بما قالوه على إطلاقه ، فإنّه لا يتّجه إلاّ في ألفاظ معيّنة كألفاظ آية { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ غافر : 28 ] إلخ . وإذا نظرنا إلى المعاني ، لا سيّما الكليّة ، نراها تتجلّى في صور كثيرة من النظم الذي تختلف ألفاظه . وأمامنا الآن معنى الآية التي نفسّرها ، وهو : إنّ الله أخذ العهد على بني إسرائيل بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وأن يعملوا بشريعته ووصاياه ، وكان أخذ هذا العهد في موقف رهبة وخشوع يعين على أخذه بالجد والعزيمة ، إذ كان الجبل مرفوعاً فوقهم بصفة لم يعهدوها ، حتى ظنّوا أنه يريد أن يقع بهم ، ولكنّهم لم يلبثوا أن نقضوا هذا الميثاق وتركوا العمل به ، وعبدوا العجل الذي صاغوه من حليّهم بأيديهم عن حبّ متمكن من النفس ، وغالب على العقل والحس ، وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في كتابه غير مرّة ، ولكن بعبارات مختلفة ، كالآية التي تقدّمت ، وذكر هناك أنّهم تولوا عن الميثاق بعد الأمر بحفظه والعمل به رجاء التقوى ، وكآية الأعراف { وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } [ الأعراف : 171 ] وتقدّمت الإشارة إليها هناك ، وكلاهما غاية في البلاغة . وذكره هنا بنظم آخر تنتهي إليه البلاغة في سياق آخر فقال : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ } ثم التفت عن خطاب الحاضرين إلى الحكاية عن الغابرين فقال : { قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي إنّهم قبلوا الميثاق وفهموه ، ولكنّهم لم يعملوا به ، بل خالفوه تعنّتاً وتأوّلاً ، وليس المراد أنّهم نطقوا بهاتين الكلمتين : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } بل المراد أنّهم بمثابة من قال ذلك ، ومثل هذا التجوّز معروف في عهد العرب ، وفي هذا العهد يعبّرون عن حال الإنسان وغيره ، بقول يحكيه عن نفسه ، حتّى حكي مثل ذلك عن الحيوانات والطيور وعن الجمادات أيضاً ، وهو أسلوب أظن أنّه يوجد في كل لغة أو في اللغات الراقية فقط . ثم ذكر أقبح أمثلة هذا العصيان بعبارة مدهشة في بلاغتها فقال : { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } هذه الإستعارة من فرائد الإستعارات يتمثّل بها عند ذكر بلاغة القرآن . وإشراب الشيء مخالطته إياه وإمتزاجه به ، يقال بياض مشرّب بحمرة ، أو هو من الشرب كأن الشيء المحبوب شراب يساغ ، فهو يسري في قلب المحب ويمازجه ، كما يسري الشراب العذب البارد في لهاته . وقد قدّر الأكثرون هنا مضافاً محذوفاً ، فقالوا : المراد " حب العجل " . وذهب بعض الجامدين على الظواهر : إلى أن المراد بالشرب هنا حقيقته . وزعموا أن موسى لما سحق العجل وذراه في اليم طفقوا يشربون المسحوق مع الماء ، وغفل صاحب هذا الزعم عن قوله تعالى : { فِي قُلُوبِهِمُ } والشراب الحقيقي لا يكون في القلب . والشرب غير الإشراب . ولبعض المفسّرين مزاعم وقصص في العجل لا يدلّ عليها وحي منزل ، ولا تاريخ صحيح ينقل ، والباء في قوله : { بِكُفْرِهِمْ } للسببية ، أي سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل ، هو ما كانوا عليه من الوثنيّة في مصر ، فقد رسخ الكفر في قلوبهم بطول الزمن وورثه الأبناء عن الآباء . وأمّا السياق الذي وردت فيه هذه الآية بهذا النظم والأسلوب المخالفين لأسلوب تلك الآية ، مع الإتحاد في المعنى ، فهو إقامة الحجّة على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، ورد زعمهم أنّهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها كما قلنا في التي قبلها ، ولذلك ختم الآية بقوله تعالى مخاطباً للنبيّ صلى الله عليه وسلم : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي إن صحّ زعمكم أنكم مؤمنون بشريعة - والإيمان الحقيقي يقتضي العمل بما له من السلطان على الإرادة - فبئسما يأمركم به ذلك الإيمان من الأعمال التي منها عبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق . لكن هذا الزعم مشكوك فيه ، بل يصحّ القطع بعدمه ، بدليل الأعمال التي يستحيل أن تكون أثراً له . ولا ينسى القارئ ما تقدّم من ربط الإيمان بالعمل الصالح في تفسير قوله تعالى : { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ } [ البقرة : 81 ] الآية . هذه حجّة عليهم بطبيعة الإيمان وأثره في عمل المؤمن ، وتليها حجّة أخرى تتعلّق بفائدة الإيمان ومثوبته في الحياة الأخرى ، وهي قوله عزّ وجلّ : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } المراد من الدار الآخرة ثوابها ونعيمها ؛ لأن حال الإنسان فيها لا يخلو من أحد الأمرين : المثوبة بالنعيم المقيم ، والعقوبة بالعذاب الأليم . واستغنى عن التصريح بالنعيم أو الثواب بقوله : { لَكُمُ } فإنّه يشعر بالمحذوف . وإنّما أوجز هنا في خطاب اليهود ؛ لأنه يحكي عن شيء يعرفونه في أنفسهم ، وقد أوضح المراد بقوله : { خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ } والخالصة هي السالمة من الشوائب . قال الأستاذ الإمام : فسّر مفسّرنا ( الجلال ) الخالصة بالخاصّة ، وقالوا : إنّه استعمال لم يعهد في الكلام الفصيح ، والتخصيص مفهوم من قوله : { مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ } يقول : إن صحّت دعواكم وصدق قولكم إنّه لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً ، وأنكم شعب الله المختار ، فلن تمسّكم النار إلاّ أياماً معدودات لا تزيد على أيام عبادة العجل ولا تتجاوز عابديه : فتمنّوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم ، الذي لا منازع لكم فيه ولا مزاحم ، وإن لم تتمنّوا الموت فما أنتم بصادقين ، إذ لا يُعقل أن يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء عليها . والتمنّي : هو ارتياح النفس وتشوّقها إلى الشيء ، تودّه وتحب المصير إليه . وروي عن ابن عباس تفسير التمنّي بالسؤال والطلب ، وهو غير معروف عن غيره من العرب . ولعلّه فسّره باللازم ، فإنّ مَنْ تمنّى شيئاً طلبه بالقول أو الفعل أو بهما . وقد روى عن كثير من الصحابة عليهم رضوان الله تمنّي الموت عند القتال وبعد القتال ، يعبّرون بألسنتهم عمّا في نفوسهم ، وما هو إلاّ صدق الإيمان بما أعدّ الله للمؤمنين في الدار الآخرة . أقول : تفسير التمنّي بلازمه القولي كما نُقل عن ابن عباس ، أو العملي كالتعرّض للقتل في سبيل الإيمان كما نُقل عن غيره ، يدفع إيراد من يقول : إذا كان المراد بالتمنّي : تمنّي النفس ، فلا يظهر صدق قوله تعالى في الآية التي بعد هذه الآية : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ } وقد ظهر صدقها على الوجه الأوّل ، فلم يتمنّ أحد من المخاطبين الموت ، وقد ورد أنّهم لو تمنّوا الموت لماتوا ، رواه البخاري . وما قاله الأستاذ الإمام في تفسير التمنّي بحقيقته يدفع كل إيراد . فقد قال : إن الكلام حجّة على مدّعي الإيمان ، واستحقاق ما أعدّه الله لأهله في الآخرة تقنعهم في أنفسهم بأنّهم إمّا صادقون في دعواهم ، وذلك إذا كانوا يتمنّون في أنفسهم الموت والوصول إلى الدار الآخرة ويبذلون أرواحهم في سبيل الله بإرتياح إذا كان حفظ الحق يقتضي بذلها ، وإمّا كاذبون فيها ، وذلك إذا كانوا شديدي الحرص على هذه الحياة . وليس المراد به الحجّة الإلزامية أمام الناس . ولذلك كانت العبرة في الآية عامّة ، فهي واردة في سياق الإحتجاج على اليهود ويجب على المسلمين أن يتخذوها ميزاناً يزنون به دعواهم اليقين في الإيمان والقيام بحقوقه ؛ لأن الله أنزلها لذلك . لو كان المراد بقوله : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } أنّهم لن يقولوا : يا ليتنا نموت . أو كلمة هذا معناها ، لكان الإحتجاج عليهم إنّما هو بالتعجيز عن لفظ يحركون به ألسنتهم ، ولكان ذلك من الخوارق الكونيّة ، ولما صحّ تعليل نفي التمنّي بقوله : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } فإنّ هذا التعليل صريح بأن المانع لهم من تمنّي الموت ، هم أنّهم يعرفون من أنفسهم أنّهم عاصون مقترفون للذنوب التي يستحقون عليها العقوبة ، لا أن ألسنتهم عاجزة عن النطق بكلمة تدلّ على تمنّي وإن كذبا - وكثيراً ما كانوا يكذّبون - وقد أسند الفعل إلى الأيدي ؛ لأن أكثر الأعمال تزاول بها ولذلك جرى عرف اللغة على جعلها كناية عن الشخص بإعتبار أنّه عامل مطلقاً . وقد ختم الآية بقوله : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ } ليبيّن أنّهم ظالمون في حكمهم بأنّ الدار الآخرة خالصة لهم ، وأنّ غيرهم من الشعوب محروم منها ، وأن كلّ مَنْ كان مثلهم مفتاتاً على الله تعالى فهو ظالم مثلهم . ثم بيّن حقيقة حالهم في الإخلاد إلى الأرض ، والفناء في حب البقاء ، وأنّهم ليسوا على بيّنة ممّا يدّعون ، ولا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون ، فقال : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ } كذلك كانوا وكذلك هم الآن . والظاهر من سيرتهم ونظام معيشتهم أنّهم كذلك يكونون إلى ما شاء الله ، وإن كان الظاهر أنّ الكلام خاص بمن كانوا في عصر التنزيل يحاجّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ويشاغبونه ويجاحدونه ، معتزّين بشعبهم مغترّين بكتابهم ، بل ذهب بعض المفسّرين إلى أن المراد علماؤهم فقط . ونكّر الحياة للتحقير ، كأنّه يقول : إنّهم شديدو والحرص على الحياة وإن كانت في بؤس وشقاء . ثم خصّ طائفة من الناس بالذكر عُرفوا بشدة الحرص على الحياة وتمنّي طول البقاء في الدنيا ؛ لأنّهم لا يؤمنون بحياة بعدها فقال : { وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } أي أنّهم أحرص الناس من جميع الناس ، حتى من الذين أشركوا ، ثم بيّن مثالا من هذا الحرص مستأنفاً فقال : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } أي يتمنّى لو يعمّره الله ويبقيه ألف سنة ، أو أكثر ، فإنّ لفظ الألف عند العرب منتهى أسماء العدد ، فيعبّر به عن المبالغة في الكثرة ؛ لأنّه يعرف من نفسه أنّه مخالف لكتابه ، ويتوقع سخط الله وعقابه ، فيرى أن الدنيا على ما فيها من المنغصات خير له من الآخرة وما يتوقعه فيها . قال تعالى : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } أي وما تعميره الطويل بمزحزحه ، أي منحّيه ومبعده عن العذاب المعدّ له ولأمثاله ، فإنّه ميّت مهما طال عمره ، وكل ما له حدّ فهو منته إليه { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } لا تخفى عليه خافية من أمرهم ولو عرفوه حق معرفته لعلموا أن طول العمر لا يخرجهم من قبضته ، ولا ينجيهم من عقوبته ، فإنّ المرجع إليه ، والأمر كلّه بيديه . ومن مباحث اللفظ أنّ الضمير في قوله : { وَمَا هُوَ } مبهم يفسّره ما بعده ، كما اختاره الأستاذ الإمام وأكثر المفسّرين على أن " ما " حجازية والضمير العائد على { أَحَدُهُمْ } اسمها وبمزحزحه خبرها ، والباء زائدة في الإعراب ، و { أَن يُعَمَّرَ } فاعل مزحزحه .