Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 21-22)
Tafsir: Tafsīr al-Manār
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قيل إنّ المراد بهذه الآية { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ } اليهود خاصّة وقد نسب إليهم قتل النبيين الذي كان من سابقهم لاعتبار الأمّة في تكافلها وجرى لاحقها على أثر سابقها - كالشخص الواحد على ما مرّ بيانه عن الأستاذ الإمام غير مرّة ، على أنّ اليهود همّت بقتل النبي صلى الله عليه وسلم في زمن نزول الآية والسورة مدنية كما علمت وهم بذلك قومه الأمّيون من قبل في مكّة ثمّ كان كلّ من الفريقين حرباً له وهم المعتدون ولذلك قال آخرون إنّ الآية فيمن سبق ذكرهم من أهل الكتاب والأميين فكلّ قاتله وقاتل الذين يأمرون بالقسط من المؤمنين به . والظاهر الأول حتّى على قراءة حمزة { وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ } لأنّ محاولة قتل نبي لا يعبّر عنه بيقتلون النبيين والقتال غير القتل ولما في آيات أخرى من إطلاق مثل هذا التعبير على اليهود خاصّة ولا حاجة إلى القول بأنّ المراد مجموع الكافرين الذين يقتل بعضهم النبيين وبعضهم الذين يأمرون بالقسط . فالآية وما بعدها إنتقال إلى خطاب اليهود خاصّة فاليهود هم الذين جروا على الكفر بآيات الله من عهد موسى إلى عهد محمّد عليهما الصلاة والسلام ، وبذلك تشهد عليهم كتبهم قبل القرآن ، وعلى قتل النبيين كزكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام ، ولكن الأستاذ الإمام وجّه القول بالعموم وجعله بالنسبة إلى مشركي العرب الذين حاولوا قتل نبي واحد على حدّ كون قتل النفس الواحدة كقتل جميع الناس . وقوله تعالى : { بِغَيْرِ حَقٍّ } بيان للواقع بما يقّرر بشاعته وانقطاع عرق العذر دونه ، وإلاّ فإنّ قتل النبيين لا يكون بحقّ مطلقاً كما يقول المفسّرون . وأقول إنّ هذا القيد يقرّر لنا أنّ العبرة في ذمّ الشيء ومدحه تدور مع الحقّ وجوداً وعدماً لا مع الأشخاص والأصناف . وإذا قلنا إنّ كلمة " حقّ " هنا المنفية تشمل الحقّ العرفي بقاعدة أنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم يدخل في ذلك مثل قتل موسى عليه السلام للمصري وإن لم يكن متعمّداً لقتله فإذا كانت الشريعة المصرية تقضي بقتل مثله وقتلوه يكون قتله حقاً في عرفهم لا يذمّون عليه وإنّما تذم شريعتهم إذا لم تكن عادلة ، واليهود لم يكن لهم حقّ ما في قتل من قتلوا من النبيين لا حقيقة ولا عرفاً . { وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ } أي الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدالة العامّة في كلّ شيء ، ويجعلونها روح الفضائل وقوامها ومرتبتهم في الهداية والإرشاد تلي مرتبة الأنبياء وأثرهم في ذلك يلي أثرهم . ذلك أنّ جميع طبقات الناس تنتفع بهدي الأنبياء كلّ صنف بقدر استعداده وأمّا الحكماء فلا ينتفع بهم إلاّ بعض الخواص المستعدّين لتلقي الفلسفة . ألم تر كيف إصطلم التوحيد وثنية العرب في مدّة قليلة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف عجزت دعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد عن مثل ذلك أو ما يقاربه فلم يستجب لهم فيها في الزمن الطويل إلاّ قليل من طلاب الفلسفة . ذلك بأنّ دعوة النبي على ما تختص به من التأييد الإلهي وتأثير روح الوحي لها ثلاثة مظاهر بيّنها الله تعالى في قوله : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] فالحكمة ما يدّعي به العقلاء وأهل النظر من البراهين والحجج ، والموعظة ما يدّعي به العوام السذّج ، والجدل بالتي هي أحسن للمتوسطين الذين لم يرتقوا إلى الاستعداد لطلب الحكمة ولا ينقادون إلى الموعظة بسهولة ، بل يبحثون بحثاً ناقصاً فلا بدّ من الحسنى في مجادلتهم ومخاطبتهم على قدر عقولهم . وأمّا الحكماء فإنّ لهم طريقة واحدة في الدعوة إلى الحقّ ، والفضيلة مبنية على طلب العدل في الأفكار والأخلاق . وقد يكون الحكيم الذي يدعو إلى ذلك متديّناً ويجري في الإقناع بالدين على الطريقة المذكورة آنفاً وقد يكون غير متديّن وهو مع ذلك يدعو إلى القسط والعدل من العقل بحسب ما وصل إليه علمه مع الصدق والإخلاص . والإقدام على قتل هؤلاء دليل على غمط العقل ، ومقت العدل ، وأقبح بذلك جرماً ، وكفى به إثماً ، ولم يفسّر الأستاذ الإمام الذين يأمرون بالقسط بالحكماء بل قال إنّ مرتبة هؤلاء تلي مرتبة الأنبياء وقال : إنّ قوله تعالى : { مِنَ ٱلنَّاسِ } يشعر بقتلهم . وأقول على ما تقدّم من الاختيار إنّه يشعر بشمول قوله : { ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ } لمن بلغته دعوة نبي على وجهها فآمن بها ومن لم يكن كذلك وإلاّ لقال : { ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ } وفي هذا تعظيم شأن الحكمة والعدالة ما فيه من شرف الإسلام وإرشاد أهله إلى أن يكونوا من أهل هذه المرتبة التي تلي مرتبة النبوّة { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [ البقرة : 269 ] . وقوله : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } يحملون مثله على التهكّم وعدوّه من المجاز بالاستعارة على ما في مفردات الراغب لأنّ التبشير من البشارة والبشرى وهي الخبر السارّ تنبسط له بشرة الوجه . وقد يقال إنّه ما ظهر أثره في البشرة بإنبساط أو إنقباض وكآبة ولكنّه غلب في الأول . وهذا العذاب يصيب من كان منهم في زمن البعثة في الدنيا ثمّ يشاركون من سبقهم بمثل ذنوبهم في عذاب الآخرة . وأي الناس أحقّ بالعذاب الأليم من هؤلاء القساة الطغاة المسرفين في الشرّ إسرافاً جعلهم على منتهى البعد عن النبيين والآمرين بالقسط حتّى كان منهم الذين قتلوهم بالفعل ومنهم الذين نفوسهم كنفوس من قتلوا وما يمنعهم عن الفعل إلاّ العجز { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ } [ الأنفال : 30 ] فهذه النفوس قد أحاطت بها خطاياها حتّى لم يبق فيها منفذ لنور آيات الله التي بها يبصر الحقّ ويهتدي إلى إقامة القسط ولذلك قال فيهم . { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } فلا ينتفعون بشيء منها لأنّ العمل الصالح إنّما ينفع بحسن أثره في النفس ونفوس هؤلاء قد أوغل فيها الفساد كما تقدّم ففقدت الاستعداد والقبول لكلّ خير . وقد تقدّم تفسير مثل هذه الجملة بالتفصيل في سورة البقرة : { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ينصرونهم من الله وقد أبسلتهم ذنوبهم بما لها من التأثير في إفساد نفوسهم فأي ناصر يدفع عنهم العذاب وهو ممّا اقتضته طبيعتهم .