Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 171-173)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآيات نزلت في محاجّة النصارى خاصة ، بعد محاجّة اليهود وإقامة الحجة عليهم ، وقد غلت اليهود في تحقير عيسى وإهانته والكفر به ، ففرّطوا كل التفريط ، فغلت النصارى في تعظيمه وتقديسه ، فأفرطوا كل الإفراط ، فلما دحض تعالى شبهات أولئك ، قفّى بدحض شبهات هؤلاء ، فقال عز من قائل : { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } فتتجاوزوا الحدود التي حدّها الله لكم ، فإن الزيادة في الدين كالنقص منه ، كلاهما مخرج له عن وضعه { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أي الثابت المتحقق في نفسه ، إما بنص ديني متواتر ، وإما ببرهان عقلي قاطع ، وليس لكم على مزاعمكم في المسيح شيء منهما { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ } إلى بني إسرائيل ، أمرهم بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً ، وإن يرجعوا عن الإيمان بالجبت والطاغوت ، وعن اتباع الهوى وعبادة المال ، وإيثار شهوات الأرض على ملكوت السماء ، وزهدهم في الحياة الدنيا ، وحثّهم على حق التقوى ، وبشرّهم بالنبي الخاتم الذي يبيّن لهم كل شيء ، ويقيمهم على صراط الاعتدال ، ويهديهم إلى الجمع بين حقوق الأرواح وحقوق الأجساد { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } أي وهو تحقيق كلمته التي ألقاها إلى أمّه مريم ومصداقها ، والمراد كلمة التكوين أو البشارة ، فإنه لما أرسل إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام بشّرها بأنه مأمور بأن يهب لها غلاماً زكيّاً ، فاستنكرت أن يكون لها ولد وهي عذراء لم تتزوج ، فقال لها : { كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ] فكلمة " كن " هي الكلمة الدالة على التكوين بمحض قدرة الله تعالى عند إرادته خلق الشيء وإيجاده ، وقد خلق المسيح بهذه الكلمة . وفي تفسيرها وجوه أخرى سبقت في الجزء الثالث من التفسير والإلقاء يستعمل في المعاني والكلام كما يستعمل في المتاع ، قال تعالى : { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ ٱلسَّلَمَ } [ النحل : 86 - 87 ] ومعناه الطرح والنبذ . فلما عبر الله عن التكوين أو البشارة بالكلمة ، حسن التعبير بقوله : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } أي أوصلها إليها وبلّغها إياها . وأما قوله : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } ففيه وجهان : ( أحدهما ) : إن معناه إنه مؤيد بروح منه تعالى . ويوضحه قوله فيه : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } [ البقرة : 253 ] وقال في صفات المؤمنين الذين لا يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كان من ذوي القربى : { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [ المجادلة : 22 ] . ( وثانيهما ) : إن معناه إنه خلق بنفخ من روح الله وهو جبريل عليه السلام ، ويوضحه قوله تعالى في أمه : { وَٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ] وقال تعالى فيها : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] كما قال في خلق الإنسان بعد ذكر بدئه من طين : { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ السجدة : 8 - 9 ] وقال بعضهم إن المراد بالروح هنا النفخ ، أي نفخ الملك بأمر الله في مريم ، فإنه استعمل بمعنى النفخ والنفس الذي ينفخ ، كما قال ذو الرمة في إضرام النار : @ فقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واجعلها لها فيئة قدرا @@ والروح الذي يحيا به الإنسان مأخوذ من اسم الريح ( وأصل الريح روح بالكسر ، فقلبت الواو ياء لتناسب الكسرة ، وجمعه أرواح ورياح وأصل هذه رواح بالكسر ) كما إن اسم النفس بسكون الفاء من النفس بفتحها . ويجوز أن يراد بقوله تعالى : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } الأمران معاً ، أي إنه خلق بنفخ الملك المعبّر عنه بالروح وبروح القدس في أمه نفخا كان كالتلقيح الذي يحصل باقتران الزوجية ، وكان مؤيدا بهذا الروح مدة حياته ، ولذلك غلبت عليه الروحانية ، وظهرت آيات الله فيه زمن الطفولية وزمن الرجولية { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } [ المائدة : 110 ] فلما كان كذلك أطلق عليه أنه " روح " كأنه هو عين ذلك الملك الذي جعله الله سبب ولادته ، وأيّده به مدة حياته ، كما يقال : " رجل عدل " على سبيل المبالغة والمراد ذو عدل . وقال بعض المفسرين : إن المراد بالروح هنا الرحمة ، كقوله تعالى في المؤمنين : { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [ المجادلة : 22 ] ويقويه قوله تعالى فيه { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا } [ مريم : 21 ] ويمكن إدخال هذا المعنى في الوجه الأول ؛ لأنه من فروعه . والمعنى الجامع : إن الروح ما به الحياة ، والحياة قسمان : حسيّة ومعنويّة . فالأولى ما به يشعر الإنسان ويدرك ويتفكر ويتذكر ، والثانية ما به يكون رحيماً حكيماً فاضلاً محباً محبوباً نافعاً للخلق ، وقد سمّى الله الوحي روحا ، فقال لخاتم رسله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] وقال : { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ النحل : 2 ] وكلا المعنيين متحقق في عيسى عليه السلام على وجه الكمال ، فلهذا جوّزنا الوجهين في المسألة . وآية الله تعالى في خلق عيسى بكلمته ، وجعله بشرا سويا بما نفخ فيه من روحه ، كآيته في خلق آدم بكلمته وما نفخ فيه من روحه ، إذ كان خلق كل منهما بغير السنة العامة في خلق الناس من ذكر وأنثى { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] . وقد علم مما قرّرناه إن قوله " منه " متعلق بمحذوف صفة لروح ، أي وروح كائنة منه . وزعم بعض النصارى إن من للتبعيض ، وإن عيسى جزء من الله بمعنى إنه ابنه . ونقل المفسرون إن طبيباً نصرانياً للرشيد ناظر علي بن حسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية فقرأ له الواقدي قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] وقال يلزم إذاً إن تكون جميع هذه الأشياء أجزاء منه تبارك وتعالى ، فانقطع النصراني وأسلم ففرح الرشيد بإسلامه ووصل الواقدي بصلة فاخرة . أما أناجيل النصارى وكتبهم ، فقد استعملت لفظ الروح في معان مختلفة فيما يتعلق بالمسيح وفي غير ما يتعلق به . فمن ذلك قول متى : ( 1 : 18 أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا : لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس ) وفي الفصل الأول من إنجيل لوقا تفصيل لظهور الملك جبريل لها وتبشيره إياها بولد ومحاورتهما في ذلك ، ومنها إنها سألته عن كيفية ذلك فقال لها : " 35 الروح القدس يحل عليك " فروح القدس ليس هو الله ، ومن يؤيده الله به لا يكون إلها ، ففي هذا الفصل نفسه من إنجيل لوقا أن ( اليصابات ) أم يحيى امتلأت من الروح القدس ( 41 ) وبذلك حملت بيحيى وكانت عاقرا . وإن زكريا أباه امتلأ من الروح القدس ( 67 ) وفي الفصل الثاني منه ما نصه : " 25 وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان ، وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه 26 وكان قد أوحي إليه بالروح القدس " وهذا الاستعمال كثير عندهم لا حاجة لإضاعة الوقت بكثرة إيراد الشواهد فيه ، وإنما نقول أن روح القدس عندهم وعندنا واحد وهو ملك من ملائكة الله الذين لا يحصي عددهم غيره تعالى ، والقدس الطهر ، ويذكر في مقابله في الأناجيل الروح النجس أي الشيطان ، فجعلوه إلها كما فعل الوثنيون من قبل . وجملة القول : إن هذه الأناجيل تدل على ما ذكرناه آنفا من كون عيسى خلق بواسطة روح القدس ، وأن يحيى خلق كذلك ، وكان خلقه آية من وجه آخر ، إذ كان أبوه شيخاً كبيراً وأمّه عاقراً ، ولكن الواسطة والسبب واحد ، وهو الملك المسمّى بروح القدس ، أيّدهم الله به نساء ورجالا عليهم السلام ، فمن الحماقة أن يقول قائل مع هذا أن قوله تعالى : " وروح منه " يفيد إنه جزء من الله ، تعالى الله عن التركيب والتجزؤ والحلول والاتحاد بخلقه . بل يقولون إن تلاميذ المسيح أنفسهم كانوا مؤيدين بروح القدس حتى من طرده المسيح ولعنه منهم وسمّاه شيطانا . وقد أيّد به من كان دونهم أيضاً . علمنا أن مؤلفي الأناجيل يستعملون كلمة روح القدس استعمالا يدل على أنه ملك من خلق الله ، ولكن يوحنا قد انفرد بعبارات يمكن إرجاعها إلى استعمال غيره ، ويمكن تحريفها للاستدلال بها على شيء آخر كما فعلوا ، فهم يقولون إن الروح منبثق من الآب ، وإنه عين الآب ، ويستدلون على ذلك بقول يوحنا حكاية عن المسيح : ( 15 : 26 ومتى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي ) أصل الانبثاق أن يكسر الماء ما أمامه من سد على الشط ويفيض على ما وراءه ، وفي قراءة أخرى في ترجمة البروتستانت " يخرج " فمن هذه الكلمة استنبطوا عقيدة وثنية تنقضها نصوص كثيرة في الأناجيل . وهذه الجملة خبر عن شيء يكون في المستقبل ( وفرق بين ينبثق من عنده ، وبين انبثق منه ، على إن هذه لا تدل على ما زعموا أيضاً ) وهي بشارة من المسيح بمن يرسله الله تعالى بعده الذي عبروا عنه هنا بالمعزّي . وكلمة المعزّي ترجمة للبارقليط وهي كلمة يونانية معناها ( محمد أو أحمد ) وتقرأ بالاستقامة وبالإمالة ، فلا يحتاج في تحريفها عن المعنى الذي قلناه إلى معنى المعزي الذي قالوه ، إلاّ إلى ليّ اللسان بها ليّا قليلا . وقد ترجمت في إنجيل برنابا بمحمد ، فكانت هذه الترجمة موضع الاستغراب عند كثير من الناس ظانين إن برنابا نقل عن المسيح إنه نطق بكلمة محمد العربية ، والظاهر إنه نطق بترجمتها ، ومن عادة أهل الكتاب ، ترجمة الأعلام والألقاب ، على إن " روح الحق " من جملة أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم كما ترى في أسمائه المسرودة في دلائل الخيرات . وقد بيّن يوحنا في الفصل السادس عشر من إنجيله تفصيلا عن المسيح عليه السلام لبشارته بالبارقليط ، منه أنه خير لهم إن يذهب هو من الدنيا ؛ لأنه إذا لم يذهب لا يأتي البارقليط ، وإنه متى جاء يبكت العالم على الخطيئة وعلى البر والحساب ( الدينونة ) وفسّر الخطيئة بعدم الإيمان به أي المسيح ، ومنه إنه هو - أي المسيح - لا يستطيع إن يقول لهم كل شيء لعدم استعدادهم وعدم طاقتهم الاحتمال قال : ( 13 وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ؛ لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية 14 ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم ) ولم يجيء بعد المسيح أحد من عند الله وبخّ الناس وبكتهم على عدم الإيمان بالمسيح وعلى طعن بعضهم فيه وفي أمه ، وعلى غلو طائفة فيهما وجعلهما آلهين مع الله ، وعلّم الناس كل شيء من أمور العقائد والآداب والفضائل والأحكام الشخصية والمدنية ، وأخبر بالأمور المستقبلة ، لم يجيء أحد بكل هذا ، إلاّ روح الحق محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو منبثق من الله ، أي مرسل منه لإحياء الناس ، كما يرسل الله الغيث لإحياء الأرض ، وفي الحديث إنه شبّه بعثته بالغيث الذي تأخذ منه كل أرض بحسب استعدادها . فإذا كانت عبارة يوحنا تدل على إن روح الحق الذي بشّر به المسيح ، وإنه يأتي بعده ، تدل بلفظ الانبثاق على ما قالوا ، فليجعلوا محمداً صلى الله عليه وسلم هو الاقنوم الثالث ، أو اقنوماً رابعاً ، وينتقلوا من التثليث إلى التربيع ، لا ، لا أقول لهم أصروا على هذا التأويل والتضليل ، بل أقول لهم ما قاله الله عز وجل ، { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } [ النساء : 171 ] " إلى قوله تعالى : { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } إلخ ، أي فإذا كان الأمر كذلك وهو المعقول ، الذي لا تحتمل غيره النقول ، فآمنوا بالله إيمانا يليق به ، وهو إنه واحد أحد ، فرد صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، تنزه عن صفات الحوادث ، ونسبتها إليه واحدة ، وهي إنها مخلوقة وهو الخالق ، ومملوكة وهو المالك ، وإن هذه الأرض في مجموع ملكه أقل من حبة رمل بالنسبة إلى اليابس منها ، ومن نقطة ماء بالنسبة إلى بحارها وأنهارها ، فمن الجهل الفاضح إن يجعل له ندّ وكفوء فيها ، أو يقال إنه حل أو اتحد بشيء منها . وآمنوا برسله كلهم ، كما يليق بهم ، وهو إنهم عبيد له خصّهم بضرب من العلم والهداية ( الوحي ) ليعلّموا الناس كيف يوحّدون ربهم ويعبدونه ويشكرونه ، وكيف يزكّون أنفسهم ، ويصلحون ذات بينهم . ولا تقولوا : الآلهة ثلاثة : الآب والابن وروح القدس ، أو الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر ، فكل منها إله كامل ، ومجموعها إله واحد ، فتسفّهوا أنفسكم بترك التوحيد الخالص الذي هو ملة إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام ، والقول بالتثليث الذي هو عقيدة الوثنيين الطغام ، ثم تدعوا الجمع بين التثليث الحقيقي والتوحيد الحقيقي ، وهو تناقض تحيله العقول ولا تقبله الأفهام ، { ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } أي أنتهوا عن هذا القول الذي ابتدعتموه في دين الأنبياء ، تقليداً لآبائكم الوثنيين الأغبياء ، يكن هذا الانتهاء خيراً لكم ، أو انتهوا عنه وانتحلوا قولاً آخر خيراً لكم منه ، وهو قول جميع النبيين والمرسلين بتوحيده وتنزيهه ، حتّى المسيح الذي سميتموه إلها ، فإن مما لا تزالون تحفظون عنه قوله في إنجيل يوحنا : ( وهذه هي الحياة الأبدية إن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ) . { إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } ليس له أجزاء ولا أقانيم ، ولا هو مركب ولا متحد بشيء من المخلوقات { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي تنزه وتقدس عن أن يكون له ولد كما تقولون في المسيح إنه ابنه وإنه هو عينه ، فإنه تبارك وتعالى ليس له جنس فيكون له منه زوج يقترن بها فتلد له ابنا . والنكتة في اختيار لفظ الولد في الرد عليهم ، على لفظ الابن الذي يعبّرون به ، هي بيان إنهم إذا كانوا يريدون الابن الحقيقي الذي يفهم من هذا اللفظ ، فلا بد أن يكون ولدا ، أي مولودا من تلقيح أبيه لأمه ، وهذا محال على الله تعالى ، وإن أرادوا إنه ابن مجازا لا حقيقة كما أطلق في كتب العهد العتيق والعهد الجديد على إسرائيل وداود وعلى صانعي السلام وغيرهم من الأخيار ، فلا يكون له دخل في الألوهية ، ولا يعد من باب الخصوصية . { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي ليس له ولد خاص مولود منه يصح أن يسمّي ابنه حقيقة ، بل له كل ما في السماوات والأرض - والمسيح من جملتها - خلق كل ذلك خلقا ، وكل ذي عقل منها وإدراك يفتخر بأن يكون له عبدا ، { إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً } [ مريم : 93 ] لا فرق في هذا بين الملائكة المقرّبين ، والنبيّين الصالحين كما صرّحت به الآية التالية لهذه - ولا بين من خلقه ابتداء من غير أب ولا أم كالملائكة وآدم ، ومن خلق من أصل واحد كحواء وعيسى ، ومن خلق من الزوجين الذكر والأنثى . كلهم بالنسبة إليه تعالى سواء عبيد له من خلقه محتاجون دائما إلى فضله وهو يتصرف فيهم كما يشاء ، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي به الكفاية لمن عرفه وعرف سننه في خلقه ، إذا وكلوا إليه أمورهم ، ولم يحاولوا الخروج عن سننه وشرائعه بسوء اختيارهم . ( فصل في عقيدة التثليث ) قلنا إن العقيدة وثنية نقلها الوثنيون المتنصرون إلى النصرانية ، وفسروا بعض الألفاظ الواردة في كتبهم اليهودية ، على إن تعطيهم شبهة يتكئون عليها في هذا التضليل ، وأرغموها عليه بضرب من التحريف والتأويل ، هدّموا به آيات التوحيد القوية البنيان ، العالية الأركان ، أما كون هذه العقيدة وثنية ، فقد بيّنه علماء أوربة بالتفصيل ، وأتوا عليه بالشواهد الكثيرة من الآثار القديمة والتاريخ ، وإننا نشير إلى قليل منها في هذا المقام . التثليث عند البراهمة قال موريس ( في ص 35 من المجلد السادس من كتابه " الآثار الهندية القديمة " ) ما ترجمته : كان عند أكثر الأمم الوثنية البائدة تعاليم دينية جاء فيها القول باللاهوت الثلاثي أو الثالوثي . وقال دوان ( في ص 366 من كتابه خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الأخرى ) : إذا رجعنا البصر إلى الهند ، نرى إن أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتية هو التثليث . ويسمّون هذا التعليم بلغتهم " ترى مورتي " وهي عبارة مركبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتية " ترى " ومعناها ثلاثة ، و " مورتي " ومعناها هيئات أو أقانيم ، وهي " برهما وفشنو وسيفا " ثلاثة أقانيم متحدة لا تنفك عن الوحدة فهي إله واحد ( بزعمهم ) . وقد شرح المؤلف معنى هذه الأصول أو الأقانيم عندهم ، وذكر إنهم يرمزون إليها بثلاثة أحرف وهي ( أ . و . م ) وإنهم يصفون هذا الثالوث المقدس الذي لا ينقسم في الجوهر ولا في الفعل ولا في الاتحاد بقولهم " برهما الممثل لمبادي التكوين والخلق ولا يزال خلاقا إلهيا ، وهو ( الآب ) . وفشنو يمثل حفظ الأشياء المكونة ( أي من الزوال والفساد ) وهو ( الابن ) المنبثق والمتحول عن اللاهوتية . وسيفا هو المهلك والمبيد والمبدئ والمعيد ( أي الذي له التصرف والتحويل في الكون ) وهو ( روح القدس ) . ويدعونه : ( كرشنا ) الرب المخلص والروح العظيم الذي ولد منه ( فشنو ) الإله الذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلص الناس . فهو أحد الأقانيم الثلاثة التي هي الإله الواحد " . إلخ ما قال ، ومنه أنهم يرمزون للأقنوم الثالث بصورة حمامة ، وهذه عين عقيدة النصارى في التثليث من كل وجه ، فهي عقيدة برهمية وثنية ، أخذها النصارى عن البراهمة ، وصاروا يدعونهم أخيراً إليهم . وكان منتهى شوط أحد اليسوعيين في التفرقة بينهما إن ثالوث البراهمة وأمثالهم نجس وثالوث النصارى مقدس ! ! فإذا قال لهم الوثنيون الأمر بالعكس ، فارجعوا إلى الأصل ودعوا المبتدع ، فبماذا يحجونهم . والذي يظهر لي إن التوحيد هو أصل عقيدة البراهمة ، وأن أول رسول أرسل إليهم وصف لهم الإله بثلاث صفات ، هي التي تظهر بها حقيقة الألوهية وهي : ( 1 ) ما به الخلق والإيجاد . و ( 2 ) الحفظ والإمداد . و ( 3 ) التصرف والتغيير في عالم الكون والفساد . فلما طال عليهم الأمد ودبّت إليهم الوثنية جعلوا لكل فعل من هذه الأفعال آلها ، وجعلوا أسماء الصفات ، أسماء أقانيم وذوات ، ولما كانوا ناقلين بالتواتر كلمة التوحيد ، وإن الله إله واحد ، قالوا إن الثلاثة واحد ، وكل واحد منها عين الثلاثة . وسرت هذه العقيدة إلى غيرهم من الوثنيين في الشرق والغرب . وللهنود تماثيل للوحدة والتثليث رأيت واحدا منها في دار العاديات التي بنتها الحكومة الهندية الإنكليزية في ضواحي مدينة بنارس ( المقدسة عند البراهمة ) وهو تمثال واحد له ثلاثة وجوه . ولعله هو الذي قال عنه موريس ( في ص 372 من المجلد الرابع من كتابه آثار الهند القديمة ) : " لقد وجدنا في أنقاض هيكل قديم قوّضه مرور القرون صنما له ثلاثة رؤوس على جسد واحد والمقصود منه الرمز للثالوث " . التثليث عند البوذيين قال مستر فابر في كتابه ( أصل الوثنية ) : كما نجد عند الهنود ثالوثا مؤلفا من برهما وفشنو وسيفا ، نجد عند البوذيين ثالوثا ، فإنهم يقولون إن ( بوذه ) إله له ثلاثة أقانيم . وكذلك بوذيو ( جينست ) يقولون إن ( جيفا ) مثلث الأقانيم ( قال ) والصينيون يعبدون بوذه ويسمونه ( فو ) ويقولون إنه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود . وذكر رمزهم ( أ . و . م ) . وقال دوان ( في ص 172 من كتابه خرافات التوراة إلخ ) وأنصار لاوكومتذا الفيلسوف الصيني المشهور - وكان قبل المسيح بأربع سنين وست مئة ( 604 ) يدعون " شيعة تاوو " ويعبدون إلها مثلث الأقانيم . وأساس فلسفته اللاهوتية إن " تاوو " وهو العقل الأول الأزلي انبثق منه واحد ، ومن الثاني انبثق ثالث ، وعن هذا الثالث انبثق كل شيء . وهذا القول بالتولد والانبثاق أدهش العلامة موريس ؛ لأن قائله وثني . التثليث عند قدماء المصريين قال دوان في ص 473 من كتابه المشار إليه آنفا : وكان قسيسو هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدس للمبتدئين بتعلم الدين بقولهم : إن الأول خلق الثاني ، وهما خلقا الثالث ، وبذلك تم الثالوث المقدس . وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره : هل كان قبله أحد أعظم منه وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كل شيء ثم الكلمة ومعها روح القدس ، ولهؤلاء الثلاثة طبيعة واحدة وهم واحد بالذات ، وعنهم صدرت القوة الأبدية ، فاذهب يا فاني يا صاحب الحياة القصيرة . قال المؤلف : لا ريب إن تسمية الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس " كلمة " هو من أصل وثني مصري دخل في غيره من الديانات كالمسيحية . و " أبولو " المدفون في ( دهلي ) يدعى " الكلمة " وفي علم اللاهوت الاسكندري الذي كّان يعلّمه ( بلاتو ) قبل المسيح بسنين عديدة " الكلمة هي الإله الثاني " ويدعى أيضاً ابن الله البكر . وقال بونويك ( في ص 402 من كتابه عقائد قدماء المصريين ) : أغرب عقيدة عم انتشارها في ديانة المصريين ، هي قولهم بلاهوت الكلمة ، وإن كل شيء صار بواسطتها ، وإنها منبثقة من الله ، وأنها هي الله وكان بلاتو عارفاً بهذه العقيدة الوثنية وكذلك أرسطو وغيرهما ، وكان ذلك قبل التاريخ المسيحي بسنين ( بل بقرون ) ولم نكن نعلم إن الكلدانيين والمصريين يقولون هذا القول ويعتقدون هذا الاعتقاد ، إلاّ في هذه الأيام اهـ . أقول : الذي يظهر لي إن الرسل الذين أرسلهم الله إلى المصريين وأمثالهم من القائلين بمثل قولهم هذا ، كانوا يقولون لهم إن كل شيء خلق بكلمة الله ، فلما طال عليهم الأمد وسرت إليهم الوثنية ظنّوا أن الكلمة ذات تفعّل بالإرادة والإختيار فقالوا ما قالوا . والحق أنها عبارة عن تعلق إرادة الله الواحد الأحد بالشيء الذي يريد خلقه ، ومتى تعلقت إرادته بخلق شيء كان كما أراد { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] فلو لم يكن عندنا من إعجاز القرآن إلا بيان هذه الحقيقة التي ضلت بها الأمم من أقدمها كالهنود والمصريين إلى أحدثها قبل الإسلام كالنصارى ، لكفى في الاستدلال على إنه من عند الله ، فإنّه بيّن لنا ضلال تلك الأمم ، والأصل المعقول المقبول الذي يتفق مع التوحيد الذي نقل عنهم أجمعين ، فتجلّى بذلك دين الله إلى جميع رسله نقيّا من أدران الشرك ونزغات الشياطين . التثليث عند الفرس وغيرهم من أهل آسية قال هيجين ( في ص 162 من كتابه الأنكلوسكسون ) : كان الفرس يدّعون متروسا الكلمة والوسيط ومخلص الفرس ، اهـ . وقال مثل هذا دونلاب وبنصون . وقال دوان في كتابه الذي ذكر غير مرة : كان الفرس يعبدون إلها مثلث الأقانيم مثل الهنود ، ويسمّونها أوزمرد ومترات وأهرمن ، فأوزمرد الخلاّق ، ومترات ابن الله المخلص والوسيط ، وأهرمن الملك . أقول : وقد بينت آنفا أصل هذا الاعتقاد ، وكيف سرى إليه الفساد . والمشهور عن مجوس الفرس التثنية دون التثليث ، فكانوا يقولون بإله مصدر النور والخير ، وإلّه مصدر الظلمة والشر . ونقل عن الكلدانيين والأشوريين والفينيقيين ، الإيمان بالكلمة على أنها ذات تعبّد ويسميها الكلدانيون ( ممرار ) والأشوريون ( مردوخ ) ويدعون مردوخ ابن الله البكر ، وهكذا الأمم يأخذ بعضها عن بعض . وقد قال برتشرد ( في ص 285 من كتابه خرافات المصريين الوثنيين ) : لا يخلو شيء من الأبحاث الدينية المأخوذة عن مصادر شرقية ، من ذكر أحد أنواع التثليث أو التولّد الثلاثي . ونقول : إن أديان أسلافه الغربيين كذلك ، فإن لم تكن أعرق في الوثنية . فهم تلاميذ الشرقيين فيها ، ولا سيّما المصريين منهم ، ولكنهم هم الذين شوّهوا الديانة المسيحية الشرقية ، فنقلوها من التوحيد الإسرائيلي إلى التثليث الوثني . التثليث عند أهل أوربة اليونان والرومان وغيرهم جاء في كتاب ( سكان أوربة الأولين ) ما ترجمته : كان الوثنيون القدماء يعتقدون إن الإله واحد ولكنه ذو ثلاثة أقانيم . وجاء في كتاب ترقي الأفكار الدينية ( ص 307 م1 ) : إن اليونانيين كانوا يقولون إن الإله مثلث الأقانيم ، وإذا شرع قسيسوهم بتقديم الذبائح يرشون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات ( إشارة إلى الثالوث ) ويرشون المجتمعين حول المذبح ثلاث مرات ، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع ، ويعتقدون إن الحكماء قالوا إنه يجب أن تكون جميع الأشياء المقدّسة مثلثة ، ولهم اعتناء بهذا العدد في جميع شعائرهم الدينية . اهـ . أقول وقد اقتبست الكنيسة بعد دخول نصرانية قسطنطين فيهم هذه الشعائر كلها ، ونسخت بها شريعة المسيح التي هي التوراة ، ويسمّون أنفسهم مع ذلك مسيحيين ويعملون كل شيء باسم المسيح ! فهل ظلم أحد من البشر بالافتيات عليه كما ظلم المسيح عليه السلام ؟ لا لا . ونقل دوان عن أورفيوس أحد كتّاب اليونان وشعرائهم قبل المسيح بعدة قرون إنه قال : " كل الأشياء صنعها الإلّه الواحد مثلث الأسماء والأقانيم " . وقال فسك ( في ص 205 من كتاب الخرافات ومخترعوها ) : كان الرومانيون الوثنيون القدماء يؤمنون بالتثليث يؤمنون بالله أولا ، ثم بالكلمة ثم بالروح . وقال بارخورست في القاموس العبراني : كان للفلنديين ( البرابرة الذين كانوا في شمال بروسية ) إله اسمه ( تريكلاف ) وقد وجد له تمثال في ( هرتونجربرج ) له ثلاثة رؤوس على جسد واحد . أقول تريكلاف مركب من كلمة تري ، ومعناها ثلاثة وكلمة كلاف ، ولعل معناها إله . وقال دوان ( في ص 377 من كتابه ) : كان الإسكندناويون يعبدون إلها مثلث الأقانيم يدعونها أودين وتورا وفري . ويقولون هذه الثلاثة الأقانيم إله واحد . وقد وجد صنم يمثّل هذا الثالوث المقدس بمدينة ( أو بسال ) من أسوج ، وكان أهل أسوج ونروج والدنمارك يفاخر بعضهم بعضا في بناء الهياكل لهذا الثالوث . وكانت تكون جدران هذه الهياكل ، مصفّحة بالذهب ، ومزينة بتماثيل هذا الثالوث . ويصوّرون أودين بيده حسام ، وتورا واقفا عن شماله وعلى رأسه تاج وبيده صولجان ، وفري واقفا عن شمال تورا وفيه علامة الذكر والأنثى ويدّعون أودين الأب وتورا الابن البكر - أي ابن الأب أودين - وفري مانح البركة والنسل والسلام والغنى اهـ . أقول فهل ترك الأوربيون أديانهم الوثنية إلى دين المسيح عليه السلام الذي هو التوراة المبنية على أساس التوحيد الخالص ، أم ظلّوا على وثنيتهم وأدخلوا فيها شخص المسيح وجعلوه أحد آلهتهم التي كانوا يعبدون من قبل … ؟ ؟ إنهم نقلوا عنه إنه ما جاء لينقض الناموس ( شريعة موسى ) وإنما جاء ليتممها ، ولكن مقدسهم بولس نقضها حجرا حجرا ولبنة لبنة ، إلاّ ذبيحة الأصنام والدم المسفوح والزنا الذي لا عقاب عليه عندهم ، فأراحهم ومهّد لهم السبيل لتأسيس دين جديد لا يتفق مع دين المسيح عليه السلام في عقائده ولا في أحكامه ولا في آدابه ، وأبعد الناس عن دين المسيح الإفرنج الذين بذلوا الملايين من الدنانير لتنصير البشر كلهم باسم المسيح ، وغرضهم من ذلك استعباد جميع البشر بإزالة ملكهم وسلب أموالهم ، لتكون جميع لذّات الدنيا وشهواتها وزيّنتها وعظمتها خالصة لهم ، فهل جاء المسيح لهذا ، وبهذا أمر أم بضده ؟ والله إنني لا أرى من عجائب أطوار البشر وقلبهم للحقائق ولبسهم الحق بالباطل ، أعجب وأغرب من وجود الديانة النصرانية في الأرض ديانة بنيت على أساس التوحيد الخالص المعقول ، جعلوها ديانة وثنية بتثليث غير معقول ، أخذوه من تثليث اليونان والرومان المقتبس من تثليث المصريين والبراهمة اقتباسا مشوها ديانة شريعة سماوية ، نسخوا شريعتها برمّتها وأبطلوها ، واستبدلوا بها بدعا وتقاليد غريبة عنها . ديانة زهد وتواضع وتقشف وإيثار وعبودية ، جعلوها ديانة طمع وجشع وكبرياء وترف وأثرة واستعباد للبشر . ديانة أصولها التي هم عليها مقتبسة من الوثنية الأولى ، لم يرد كلمة تدل على عقيدتها عن أنبياء بني إسرائيل ، ولكنهم زعموا إنها مستمدة من جميع كتب أنبياء بني إسرائيل . ديانة نسبوها إلى المسيح عليه السلام ، وليس عندهم نص من كلامه في أصول عقيدتها التي هي التثليث ، وإنما بقي عندهم نصوص قاطعة من كلامه في حقيقة التوحيد والتنزيه وإبطال التثليث وعدم المساواة بين الآب والابن ، الذي أطلق لفظه مجازا عليه وعلى غيره من الأبرار ، على إنه كان يعبر عن نفسه في الأكثر بابن الإنسان . لو لم يكن عندهم من النصوص في هذه العقيدة إلا ما رواه يوحنا في الفصل السابع عشر من إنجيله لكفى وهو قوله عليه السلام : ( 3 وهذه هي الحياة الأبدية إن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ) فبيّن أن الله تعالى هو الإله وحده ، وأنه هو رسوله ، وهذا هو الذي دعا إليه القرآن ، وكان يجب أن يكون أساس عقيدتهم ، يردّ إليه كل ما يوهم خلافه ، ولو بالتأويل ، لأجل المطابقة بين المعقول والمنقول . ونقل مرقس في الفصل الثاني عشر من إنجيله : إن أحد الكتبة سأله عن أول الوصايا قال : ( 29 فأجابه يسوع أول الوصايا اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد إلخ … - 32 فقال له الكاتب جيدا يا معلم بالحق قلت لأنه واحد وليس آخر سواه … - 34 فلما رأى يسوع إنه أجاب بعقل قال له لست بعيداً عن ملكوت السماوات ) فعلم من هذا إن التوحيد الخالص هو العقيدة المعقولة التي تؤخذ على ظاهرها بلا تأويل ، فإن فرضنا إنه ورد ما ينافيها ، وجب رده أو إرجاعه إليها . وروى يوحنا عنه في الفصل الأول من إنجيله إنه قال : ( 28 الله لم يره أحد قط ) ومثله في الفصل الرابع من رسالة يوحنا الأولى : ( 12 الله لم ينظره أحد قط ) وفي الفصل السادس من رسالة بولس الأولى إلى أهل تيموثاوس : ( 16 لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه ) وقد رأى الناس المسيح والروح القدس . وروى مرقس في الفصل الثالث عشر من إنجيله إنه قال في الساعة ويوم القيامة ما نصه : ( 32 وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلم يعلم بها أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب ) فلو كان الابن عين الآب لكان يعلم كل ما يعلمه الاب ، وقوله عليه السلام في القيامة موافق لقول الله سبحانه في القرآن خطابا لخاتم رسله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] . ولو كان هؤلاء النصارى يقبلون نصوص إنجيل برنابا ، لأتيناهم بشواهد منه على التوحيد مؤيدة بالبراهين العقلية والنقلية عن إن المسيح بشر رسول قد خلت من قبله الرسل وليس بدعا فيهم ، وناهيك بالفصل الرابع والستين منه الذي يحتج به المسيح بما أتى الله الأنبياء من الآيات ، على إن الآيات لا تنافي البشرية والعبودية لله تعالى ، وبالفصل الخامس والتسعين الذي يحتج فيه بأقوال الأنبياء في التوحيد وأنه تعالى خلق كل شيء بكلمته وأنه يَرى ولا يُرى ، وأنه غير متجسد وغير مركب وغير متغير ، وأنه لا يأكل ولا يشرب ولا ينام . ثم قال : ( 19 فإني بشر منظور وكتلة من طين تمشي على الأرض وفان كسائر البشر 20 وإنه كان لي بداية وسيكون لي نهاية ، وإني لا أقتدر أن أبتدع خلق ذبابة ) وحسبنا ما كتبناه هنا في مسألة التثليث الآن ، وسنبقي بقية مباحثها إلى تفسير سورة المائدة . { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ } الاستنكاف : الامتناع عن الشيء أنفة وانقباضاً منه . قيل أصله من نكف الدمع ، إذا نحّاه عن خده بأصبعه حتى لا يظهر ، ونكف منه أنف . وأنكفه عنه برأه . والمعنى لن يأنف المسيح ولا يتبرأ من أن يكون عبداً لله ولا هو بالذي يترفع عن ذلك ؛ لأنه من أعلم خلق الله بعظمة الله وما يجب له على العقلاء من خلقه من العبودية والشكر ، وأن هذه العبودية هي أفضل ما يتفاضلون به { وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } يستنكفون عن أن يكونوا عبيداً لله أو عن عبادته ، أو لا يستنكف أحد منهم أن يكون عبداً لله . ( كل تقدير من هذه التقديرات صحيح يفهم من الكلام ) على أنهم أعظم من المسيح خلقا وأفعالا ، ومنهم روح القدس جبريل عليه السلام الذي بنفخة منه خلق المسيح ، وبتأييد الله إياه به كان يبريء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، ولولا نفخته وتأييده لما كان للمسيح مزية على غيره من الناس . وقد استدل بهذه الآية على أن الملائكة المقرّبين أفضل من الأنبياء المرسلين ، وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني والحليمي من أئمة الأشعرية وجمهور المعتزلة ، وأما جمهور الأشعرية فيفضلون الأنبياء على الملائكة ، ووجه التفضيل أن السياق في رد غلوّ النصارى في المسيح إذ اتخذوه إلها ورفعوه عن مقام العبودية ، فالبلاغة في الرد عليهم تقتضي الترقّي في الرد من الرفيع إلى الأرفع ، كما تقول إن فلانا التقي لا يستنكف عن تقبيل يده الوزير ولا الأمير . فإذا بدأت بذكر الأمير لم يعد لذكر الوزير مزية ولا فائدة ، بل يكون لغوا ؛ لأنه يندمج في الأول بالطريق الأولى . وقد بيّن ذلك الزمخشري وجزم به ، فتكلف بعضهم في الرد عليه ، وكان آخر شوط البيضاوي إن جعل غاية الآية تفضيل الملائكة المقرّبين على أولي العزم من المرسلين لا كل الملائكة على كل الأنبياء . وأما القاضي أحمد بن المنير فإنه بعد إن أطال في تقريره على الكشّاف برد طريقة الترقّي والتفصي من الاستدلال بها على تفضيل الملائكة المقربين ، على الأنبياء المرسلين ، عاد إلى الإنصاف من نفسه ، وجزم بأن الآية تدل على تفضيل هؤلاء الملائكة في عظم الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة وهو الذي يناسب الرد على من استكبروا خلق المسيح من غير أب وصدور بعض الآيات عنه فجعلوه إلها ، والملائكة خلقوا من غير أب ولا أم ، ويعملون ما هو أعظم من آيات المسيح ، فهم بهذا أفضل منه وأعظم ، ولكن هذا التفضيل في غير موضع الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة وهو كثرة الثواب على الأعمال في الآخرة . والمنصف يرى إن التفاضل في هذا من الرجم بالغيب ، إذ لا يعلم إلا بنص من الشارع ولا نص ، وليس للخلاف في هذه المسألة فائدة في إيمان ولا عمل ، ولكنه من توسيع مسافة التفرق بالمراء والجدل . { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ } الاستكبار أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة فوق ما هي غروراً وإعجاباً ، فيحملها بذلك على غمط الحق سواء كان لله أو لخلقه ، وعلى احتقار الناس . ومعنى الجملة : ومن يترفع عن عبادته أنفة ويتبرأ منها ، ويجعل نفسه كبيرة فيرى إنه لا يليق بها التلبس بها { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } أي فسيحشر هؤلاء المستنكفين والمستكبرين للجزاء ، مجتمعين مع غير المستكبرين والمستنكفين الذين ذكر بعضهم في أول الآية ، فإن الله يحشر الخلق كلهم في صعيد واحد كما ورد . ثم يحاسبهم ويجزيهم عملهم كما يجزي غيرهم على النحو المبين في قوله : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } أي يعطيهم أجورهم على إيمانهم وعملهم الصالح وافية تامة كما يستحقون بحسب سنته تعالى في ترتيب الجزاء على تأثير الإيمان والعمل في النفس ، ويزيدهم عليه من محض فضله وجوده من عشرة أضعاف إلى سبع مئة ضعف إلى ما شاء ( وتقدم الكلام في المضاعفة في تفسير سورة البقرة ) . { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي فيعذبهم عذاباً مؤلماً كما يستحقون بحسب سنته تعالى أيضاً ، ولكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئاً ؛ لأن الرحمة سبقت الغضب ، فهو تعالى يجازي المحسن بالعدل والفضل ، ويجازي المسيء بالعدل فقط { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليّا يتولى شيئاً من أمرهم يوم الجزاء والحساب ، ولا نصيرا ينصرهم فيدفع عنهم العذاب ، { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] . ومن مباحث اللفظ والإعراب في الآية : إفراد فعل يستنكف وما عطف عليه مراعاة لفظ " من " وجمع فعل فسيحشرهم مراعاة لمعناها ، فإنها من صيغ العموم ( ومنها ) : مسألة مطابقة التفصيل في هذه الآية للمفصّل المذكور بصيغة العموم في آخر الآية التي قبلها . قال بعضهم : إنّ التفصيل للمجازاة ، لا للمحشورين المجزيين ، فلا حاجة إلى المطابقة ، وذلك إن الجزاء لازم للحشر فبيّنه عقبه ، واختار هذا البيضاوي ، وردّه السعد . وقال الزمخشري : هو مثل قولك جمع الإمام الخوارج ، فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ( أي أعطاه ما يركبه ) ومن خرج نكّل به . وصحة ذلك لوجهين : ( أحدهما ) : أن يحذف أحد الفريقين لدلالة الآخر عليه ، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني ، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ } [ النساء : 175 ] . ( والثاني ) : هو إن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم ، فكان داخلا في جملة التنكيل بهم ، فكأنه قيل ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين ، وبما يصيبه من عذاب الله اهـ . أقول : وقد يدل على حشر المستنكفين مع غيرهم قوله تعالى ( جميعا ) كما أشرنا إليه . وثم وجه آخر ، وهو إن القرآن كثيراً ما يذكر العاملين بصيغة مبتدأ يكون خبره محذوفاً لدلالة الكلام أو القرينة عليه ، ولا سيما إذا كان شرطاً كما هنا ، وكان جزاؤه كلاما عاماً يشير إلى الخبر إشارة ضمنية كقوله تعالى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 49 ] وقوله : { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } [ الحديد : 24 ] ولا يبعد إن يكون ما هنا من هذا القبيل . والمراد : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ، فسيجزيه إذ يحشر الناس كلهم للجزاء . ثم فصّل هذا الجزاء المشار إليه بذكر لازمه ، والله أعلم .