Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 174-175)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما قامت الحجة في الآيات الأخيرة على النصارى ، وفيما قبلها على اليهود وهم أهل الكتاب ، والمعرفة بالنبوّات والشرائع ، وقامت الحجة قبل ذلك على المنافقين في أثناء السورة ، كما قامت على المشركين فيها وفي سور كثيرة ، وظهرت نبوّة النبي الخاتم ظهور الشمس ليس دونها سحاب - لأن سحب الشبهات قد انقشعت بالحجج المشار إليها كل الانقشاع - نادى الله تعالى الناس كافة ودعاهم إلى اتباع برهانه ، والاهتداء بالنور الذي جاء به ، فقال : { يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أي قد جاءكم من قبل ربكم ، بفضله وعنايته بتربيتكم وتزكية نفوسكم ، برهان عظيم أو جلّي يبيّن لكم حقيقة الإيمان الصحيح بالله عز وجل ، وجميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم ، مؤيّداً لكم ذلك بالدلائل والبيّنات والحكم ، وهو محمد النبي العربي الأمي ، الذي يظهر لكل من عرف سيرته في نشأته وتربيته ، وحاله في بعثته وسنته ، إنه هو نفسه برهان على حقية ما جاء به : أمي لم يتعلم شيئاً من الكتب قط ، ولم يعن في طفوليته ولا في شبابه بشيء مما كان يسمى علما عند قومه الأميين ، كالشعر والنسب وأيام العرب ، قام في كهولته يعلم الأميين والمتعلمين حقائق العلوم الإلهية ، وصفات الربوبية ، وما يجب لتلك الذات العلية ، وما تتزكى به النفس البشرية ، وتصلح به الحياة الإجتماعية ، ويكشف ما اشتبه على أهل الكتاب من أصول دينهم ، وما اضطرب فيه نظّار الفلسفة العليا من مسائل فلسفتهم ، ويرفع قواعد الإيمان على أساس الحجج الكونية العقلية ، ويسلك هذا المسلك في بيان الشرائع العملية ، والحكمة الأدبية ، والسياسة الحربية والاجتماعية ، كل ذلك كان على طريق الحجة والبرهان ، فلا غرو أن يسمى هو نفسه برهانا . وهو برهان بسيرته العملية ، كما إنه برهان في دعوته العلمية الشرعية ، فقد نشأ يتيما لم يعن بتربيته عالم ولا حكيم ولا سياسي ، بل ترك كما كان ولدان المشركين يتركون وشأنهم ، وكان في سن التعليم وتكوّن الأخلاق والملكات يرعى الغنم نهارا وينام من أول الليل ، فلا يحضر سمّار قومه ( مواضع السمر في الليل ) ولا معاهد لهوهم ، واتجر قليلاً في شبابه ، مع قومه من أبناء الجاهلية وأترابه ، فهو لم يصادف من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعي في أول نشأته ، ما يؤهله للمنصب الذي تصدى له في كهولته ، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية ، ولكنه قام بهذه التربية أكمل قيام ، وما زال يعجز عن مثل ما قام به من يستعدون له بالعلوم والأعمال ، فكان بهذا برهانا على عناية الله به ، وتأييده إياه بوحيه وتوفيقه ، وذلك قوله عز وجل : { وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } أي وأنزلنا إليكم أيها الناس بما أوحينا إليه ، كتابا من لدنا هو كالنور بيّن في نفسه مبيّن لكل ما أنزل لبيانه ، تنجلي لكم الحقائق ببلاغته وأساليب بيانه ، بحيث لا يشتبه فيها من تدبّره وعقل معانيه ، بل تثبت في عقله ، وتؤثر في قلبه ، وتكون هي الحاكمة على نفسه ، والمصلحة له في عمله . مثال ذلك توحيد الله في ألوهيته وربوبيته ، هو أثبت الحقائق ، وأعلى ما يصل إليه البشر من المعارف ، وأفضل ما تتزكى به النفوس ، وتترقى به العقول ، وقد بعث به جميع رسل الله إلى جميع الأمم ، كان كل منهم يدعو أمته إليه ، وكان يستجيب الناس لهم بقدر استعدادهم لفهم هذه الحقيقة العليا ، ثم لا يلبثون أن يشوهوها بعدهم بالشرك وضروب الوثنية التي تطمس العقول ، وتدنّس النفوس ، وتهبط بالفطرة البشرية من أوج كرامتها وعزتها التي جعلها الله أهلا لها ، إلى المهانة والذلة بالخضوع والخنوع والاستخذاء لبعض المخلوقات من جنسهم ، أو من أجناس أخرى فضّل الله جنسهم عليها ، وكان أقرب الأمم التاريخية عهداً بالأنبياء والرسل ؛ اليهود والنصارى ، وكانوا على نسيانهم حظا مما ذكّروا به ، لا يزالون يحفظون بعض وصايا رسلهم بالتوحيد ، ولكنهم لا يفقهون معناها ، إذ يلبسونها بالشرك في الألوهية كاتخاذ المسيح إلها ، بل اتخاذ من دونه من مقدسيهم ، آلهة أو أنصاف آلهة ، يزعمون أنهم وسطاء بينهم وبين الله في كل ما ينفعهم ويضرهم في معاشهم ومعادهم ، وبالشرك في الربوبية باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، يشرّعون لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، ويحلّون لهم ويحرّمون عليهم فيتبعونهم . هكذا كانت اليهود والنصارى في عهد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يتّبعون أناسا من علمائهم وأحبارهم ومقدسيهم في عقائد وآداب وشرائع مشوبة بالوثنية والخضوع لغير الله تعالى ، لم تؤخذ من وحي الله المنزل كما هو الواجب في أمور الدين الخالص من العقائد والعبادات وسائر ما يتقرب به إلى الله تعالى ، ولو كان البشر يستقلون بمعرفة هذا من غير وحي من الله ، لما كانوا محتاجين إلى بعثة الرسل ، وقد يزعمون أنهم كانوا مبينين لما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام ، ولو صدقوا لما صار دينهم في شكل غير ما كانا عليه هما ومن كان متبعاً لهما في زمنها ، بحيث لو بعثا ثانية لأنكرا كل ما عليه هؤلاء الأدعياء أو أكثره . وإذا كان الركن الأعظم لدينهما وهو التوحيد قد زلزل عند اليهود ، وزال من عند النصارى فكيف يكون دينهما هو دين موسى وعيسى عليهما السلام ؟ هذه إشارة إلى ما كان عليه أقرب الناس عهدا بدعوة الرسل إلى التوحيد فما ظنك بغيرهم ؟ فما الذي فعله القرآن في بيان هذه العقيدة ؟ . لو لم يجي محمد صلى الله عليه وسلم في بيان التوحيد بغير عنوانه في الشهادتين ( لا إله إلاّ الله ) لما كان كتابه نوراً مبيّنا لهذه الحقيقة ؛ لأن من أشرك من أهل الكتاب وأمثالهم من الأمم القديمة كالهنود والكلدانيين والمصريين واليونان ، كانوا يقولون إن الإله واحد ، وبعضهم كان يصرّح بمثل كلمة التوحيد عندنا ، أو بها نفسها ، ولكنهم كانوا على ذلك مشركين يزعمون أن بعض البشر أو الحيوان أو الجماد ينفع أو يضر بصفة خارقة للعادة غير داخلة في سلسلة نظام الأسباب والمسببات ، فيتوجهون إلى تلك الأشياء المعتقدة توجه العبادة ، ويزعمون إن ما جاءت به رسلهم من أحكام الدين غير كاف في بيان الدين ، فيجب تركه إلى ما يضعه لهم بعض رؤسائهم من أحكام الحلال والحرام ، من غير نظر في موافقته أو مخالفته له - أي لما جاء به الرسل - أو مع ضرب من النظر التقليدي فيه ، لدعمه به وإرجاعه إليه . فلما كانت الوثنية قد تغلغلت في جميع الأديان المأثورة وأفسدتها على أهلها ، فقلّد بعضهم بعضا فيما ورثوه منها ، أنزل الله لهداية البشر هذا النور المبين ( القرآن ) فكان أشد إبانة لدقائق مسائل التوحيد وخفاياها من نور الكهرباء المتألق في هذا العصر الذي نرى فيه السراج الواحد في قوة مئات أو الوف من نور الشمع ، فبيّن لمن يفهم لغته ، حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقليّة ، وضرب الأمثال المادية والمعنوية ، وضروب القصص والمواعظ ، والهداية إلى النظر والتجارب ، وكشف ما ران على هذه العقيدة من شبهات المضلّين ، وأوهام الضالين ، التي مزجتها بالشرك مزجا ، جمع بين الضدين ، بل النقيضين جمعا ، ولوّن أساليب الكلام فيها ونوّعه لتتقبل النفس تكراره بقبول حسن ، ولا يعرض لها من ترتيل آياته شيء من الملل ، فكان بيانه في تشييد صرح الوحدانية ، وتقويض بناء الوثنية ، بيانا لم يعهد مثله في كماله وتأثيره في كتاب بشري ولا إلهي . إلاّ إن إدراك هذه الحقيقة العليا والإحاطة بها ، والعلم بما كان من ضروب الشبهات عليها ، والأباطيل المتخللة فيها ، وبما لها من التمكّن في نفوس الناس ، وما يتوقف عليها امتلاخها وانتزاعها من فنون البيان ، بحسب سنة الله تعالى في تحويل الأمم من حال إلى حال . كلّ ذلك مما لا يعقل أن يتفق لرجل أمي لم يقرأ كتابا في الدين ولا في العلم ، ولا عاشر أحداً عارفا بهما ، كيف وقد كان ذلك فوق علوم الذين صرفوا كل حياتهم في الدرس والقراءة . بل نقول إنّ هذا البيان الأكمل لتقرير التوحيد واجتثاث جذور الوثنية الذي جاء به القرآن وأشرنا إليه آنفا لم يكن قط معهوداً من الحكماء الربانيين ، لا من النبيين المرسلين ، دع من دونهم من الأميين أو المتعلمين . لهذا تعيّن إن يكون الله تعالى هو المنزل لهذا النور المبين ، { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 192 - 195 ] . فمن تأمل ما قلناه بإنصاف ، ظهر له به - على اختصاره - إن محمداً النبي الأمي صلى الله عليه وسلم كان نفسه برهانا من الله تعالى ، أي حجّة قطعية على حقّية دينه ، وإن كتابه القرآن العربي أنزل من العلم الإلهي عليه ، ولم يكن لعلمه الكسبي إن يأتي بمثله ، وإنما أنزل نور مبينا إلى جميع الناس ، ليروا بتدبّره حقيقة دين الله الذي يسعدون به في حياتهم الدنيا ، وينالون به في الآخرة ما هو خير وأبقى ، ولذلك قال : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } الاعتصام : الأخذ والتمسك بما يعصم ويحفظ ، مأخوذ من العصام ، وهو الحبل الذي تشد به القربة والاداوة لتحمل به ، والاعصم : الوعل يعتصم في شعاف الجبال وقممها . فالذين يعتصمون بهذا القرآن يدخلهم الله تعالى في رحمة خاصة منه لا يدخل فيها سواهم ، وفضل خاص لا يتفضل به على غيرهم . ويدل على هذا التخصيص تنكير الفضل والرحمة ، ورحمة الله وفضله غير محصورين ، ولكنه يختص من يشاء بما شاء من أنواعهما . وقد فسرت الرحمة هنا بالجنة ، والفضل بما يزيد الله به أهلها على ما يستحقون من الجزاء ، كما قال في آية أخرى تقدمت : { وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } [ النساء : 173 ] ويمكن إن يفسرا بما هو أعم من نعيم الآخرة جزاء وزيادة ، فيشملا ما يكون لأهل الاعتصام بالقرآن الذي هو حبل الله المتين من الخصوصية في الدنيا ، إذ يكونون رحمة للناس بعلومهم وأعمالهم وفضائلهم ، واجتماعهم وتعاونهم وتراحمهم ، يُرحم الناس بالاقتداء بهم والاقتباس منهم ، ومن ذلك إنهم يكونون رحماء بالناس ، تحملهم رحمتهم على السعي لخير الناس ، وبذل فضلهم من علم وعمل ومال لهم ، فيكونون أئمة للناس برحمتهم وفضلهم . { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أي ويهديهم تعالى هداية خاصة موصلة إليه صراطاً مستقيماً ، أي طريقا قويماً قريباً يبلغون به الغاية من العمل بالقرآن ، أما في الدنيا فبالسيادة والعزة والكمال ، وأما في الآخرة فبالجنة والرضوان . فهذا الصراط المستقيم ، لا يهتدى إليه إلا بالاعتصام بالقرآن الكريم ، فيا خسارة المعرضين ، ويا طوبى للمعتصمين ، وقد صدق وعد الله للصادقين ، ففاز من اعتصم من الأولين ، وخاب وخسر من أعرض من الآخرين ، فعسى أن يعتبر بذلك المنتمون في هذا العصر إلى هذا الدين . وقد سكت عن القسم الآخر المقابل لهؤلاء المؤمنين المعتصمين ، للعلم به من المقابلة ، وللإيذان بأنه بعد ظهور البرهان ، وتألق نور البيان ، لا ينبغي إن يوجد ، وإن وجد لا يؤبه له لأنه كالعدم .