Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 163-166)

Tafsir: Tafsīr al-Manār

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآيات تفصيل لقوله تعالى في سورة البقرة { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ } [ البقرة : 65 ] إلى آخر الآيتين وقد تقدّم تفسيرها ، ولا أعلم للقصّة ذكراً من كتب اليهود المقدسة ولكنها كانت معروفة عندهم ، ولولا ذلك لبهتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في المدينة عندما نزل عليه { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } أو لمّا آمن مَنْ آمن به من علمائهم إذا كانوا لا يعلمون ما حكى لهم عن الله تعالى أنهم يعلمونه مؤكداً بلام القسم ، وإذا قال غير المسلم المؤمن : إنّه اطّلع على القصّة في بعض كتبهم المقدسة أو التاريخية غير المقدسة أو سمعه من بعضهم - قلنا : أوّلاً : إن آيات سورة الأعراف هذه نزلت بمكّة في أوائل الإسلام ، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم لقي أحداً من اليهود - ومن المعلوم قطعاً أنه كان أمّيّاً لم يقرأ الكتب كما قال تعالى { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [ العنكبوت : 48 ] إلخ . وثانياً : أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصدقهم بعد معاشرتهم في المدينة بكلّ ما يحكون عن كتبهم بل كذّبهم عن الله تعالى في كثير منها ، ولم يكن يصدقهم في كلّ ما يقولونه غير منقول عن كتبهم بالأولى : وهاك تفسير الآيات بمدلول ألفاظها ، ولا نعتمد على شيء من الروايات فيها . { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والسؤال فيه للتقرير المتضمن للتقريع ، والإدلال بعلم ماضيهم . والمعنى وأسأل بني إسرائيل عن أهل المدينة التي كانت حاضرة البحر أي قريبة منه راكبة لشاطئه { إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ } أي أسأل عن حالهم في الوقت الذي كانوا يعتدون في السبت ، ويتجاوزون حكم الله بالصيد المحرّم عليهم فيه { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ } أي سمكهم - ولا يزال أهل الحجاز يسمون السمكة حوتاً كبيرة كانت أو صغيرة وأهل سورية يخصون السمكة الكبيرة باسم الحوت - وقد أضيفت الحيتان إليهم لمّا كان من إبتلائهم بها ، وإحتيالهم على صيدها ، وكانت تأتيهم { يَوْمَ سَبْتِهِمْ } أي تعظيمهم للسبت ، فهو مصدر سبتت اليهود تسبت إذا عظّمت السبت بترك العمل فيه وتخصيصه للعبادة { شُرَّعاً } أي ظاهرة على وجه الماء كما روي عن ابن عباس ، وفي رواية أخرى عنه ظاهرة من كلّ مكان - وهي جمع شارع ، كالركع السجد جمع الراكع والساجد ، من شرع عليه إذا دنا وأشرف { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } أي ولا تأتيهم يوم لا يعظّمون السبت فعلاً وتركاً . قيل : إنّها إعتادت أن لا يتعرّض أحد لصيدها يوم السبت ، فأمنت وصارت تظهر فيه ، وتخفى في الأيام التي لا يسبتون فيها لمّا إعتادت من إصطيادها فيها ، فلما رأوا ظهورها وكثرتها في يوم السبت أغراهم ذلك بالإحتيال على صيدها ففعلوا . { كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } أي مثل هذا البلاء بظهور السمك لهم نبلوهم أي نختبرهم أو نعاملهم معاملة المختبر لحال مَنْ يريد إظهار كنه حاله ليترتب الجزاء على عمله بسبب فسقهم المستمر عن أمر ربّهم ، واعتدائهم حدود شرعه . { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أي وأسألهم عن حال أهل تلك القرية في الوقت الذي قالت أمّة وجماعة منهم كيت وكيت تدّل هذه الآية على أن الذين كانوا يعدون في السبت بعض أهل القرية لا كلّهم وأن أهلها كانوا ثلاث فرق : فرقة العادين التي أشير إليها في الآية الأولى ، وفرقة الواعظين الذين نهوا العادين عن العدوان ، ووعظوهم ليكفّوا عنه وهي التي أشير إليها في هذه الآية ، وفرقة اللائمين للواعظين التي قالت لهم : لم تعظون قوماً قضى الله عليهم بالهلكة أو العذاب الشديد ، فهو أمّا مهلكهم بالإستئصال ، أو بعذاب شديد دون الإستئصال ، أو المعنى مهلكهم في الدنيا ومعذبهم في الآخرة - وأياما كان المراد فأو هنا هي المانعة للخلو من وقوع أحد الجزاءين ، لا المانعة لجمعهما ، فهي لا تنفي إجتماعهما . وفي الآية من الإيجاز البليغ ما لا يوجد نظيره في غير القرآن . { قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي قال الواعظون للائمين : نعظهم وعظ عذر نعتذر به إلى ربكم عن السكوت على المنكر وقد أمرنا بالتناهي عنه ، ورجاء في انتفاعهم بالموعظة ، وحملها لهم على إتقاء الإعتداء الذي إقترفوه . أي فنحن لم نيأس من رجوعهم إلى الحق يأسكم . { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي فلما نسي العادون المذنبون ، ما ذكرهم ووعظهم به إخوانهم المتقون ، بأن تركوه وأعرضوا عنه حتى صار كالمنسي في كونه لا تأثير له { أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ } أي عن العمل الذي تسوء عاقبته أي أنجيناهم من العقاب الذي إستحقه فاعلو السوء بظلمهم { وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وحدهم { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } أي شديد من البأس وهو الشدة ، أو البؤس وهو المكروه أو الفقر { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } أي بسبب فسقهم المستمر ، لا بظلمهم في الإعتداء في السبت فقط . وذلك أن وصفهم بأنّهم ظلموا تعليل لأخذهم بعذاب بئيس ، على قاعدة كون بناء الحكم أو الجزاء على المشتق يدلّ على أن المشتق منه علّة له ، ولكن الله تعالى لا يؤاخذ كلّ ظالم في الدنيا بكلّ ظلم يقع منه ولو كان قليلاً في الصفة أو العدد - وإن شئت قلت في الكيف أو الكم - بدليل قوله : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [ فاطر : 45 ] وقوله : { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ المائدة : 15 ] وإنّما يؤاخذ الأمم والشعوب في الدنيا قبل الآخرة بالظلم والذنوب التي يظهر أثرها فيها بالإصرار والإستمرار عليها ، وهو ما أفاده هنا في هؤلاء اليهود قوله تعالى : { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } وإنّما يكون العقاب على بعض الذنوب دون بعض في الدنيا خاصاً بالأفراد أو الجماعات الصغيرة من المذنبين كأهل هذه القرية الذين كانوا بعض أهل قرية من أمّة كبيرة ، وأمّا الأمم الكبيرة فهي التي تصدّق عليها سنن الله في عقاب الأمم إذا غلب عليهم الفسق والظلم كقوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ الأنفال : 25 ] إلاّ أن يقال إن الفاسقين من أهل تلك القرية كانوا أقل من الفريقين الآخرين . وقد عاقب الله بني إسرائيل كافة بتنكيل البابليين ثمّ النصارى بهم وسلبهم ملكهم ، عندما عمّ فسقهم ، ولم يدفع ذلك عنهم وجود بعض الصالحين فيهم ، إذ لم يكونوا يخلون منهم . والآية ناطقة بهلاك الظالمين الفاسقين ، ونجاة الصالحين الذين نهوهم عن عمل السوء وارتكاب المنكر ، وسكتت عن الفرقة التي أنكرت على الواعظين وعظهم وإنكارهم ، فقيل : أنّها لم تنج ، لأنّها لم تنه عن المنكر بل أنكرت على الذين نهوا ، وقيل : بل نجت ، لأنّها كانت منكرة للمنكر مستقبحة له ، ولذلك لم تفعله ، وإنّما لم تنه عنه ليأسها من فائدة النهي ، وجزمها بأن القوم قد إستحقوا عقاب الله بإصرارهم فلا يفيدهم الوعظ ، وروي هذا عن ابن عباس كما روي عنه أنّه كان متردداً في هذه الفرقة حتى أقنعه تلميذه عكرمة بنجاتها . وقد رجّح الزمخشري وغيره هذا قال : ( فإن قلت ) الأمّة الذين قالوا : لِمَ تعظون ؟ من أي الفريقين هم ؟ أمن فريق الناجين أم المعذّبين ( قلت ) من فريق الناجين ، لأنهم من فريق الناهين ، وما قالوا ما قالوا إلاّ سائلين عن علّة الوعظ والغرض فيه ، حيث لم يروا فيه غرضاً صحيحاً لعلمهم بحال القوم ، وإذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه ، سقط عنه النهي ، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث . ألاّ ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر ، والجلادين المرتبين للتعذيب ، لتعظهم وتكفهم عمّا هم فيه ، كان ذلك عبثاً منك ، ولم يكن إلاّ سبباً للتلهي بك . وأمّا الآخرون فإنّما لم يعرضوا عنه إما لأن يأسهم لم يستحكم كما إستحكم يأس الأولين ، ولم يخبروهم كما خبروهم . أو لفرط حصرهم ، وجدّهم في أمرهم ، كما وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } [ الكهف : 6 ] اهـ . أقول : إن ما ذكره من سقوط النهي عن المنكر أو وجوب تركه في حالة اليأس من تأثيره مرجوح ولا سيّما إذا أخذ على إطلاقه ، وإنّما هو شأن أضعف الإيمان في حديث " مَنْ رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي سعيد الخدري ( رضي الله عنهم ) وإنّما تكون هذه الحالة أضعف الإيمان عند عدم استطاعة ما قبلها ، فإن استطاع النهي وسكت عنه لم يكن له عذر مطلقاً ، ولذلك إختلف في هؤلاء الساكتين المحتملة حالهم للعذر وعدمه ، واليأس قلما ينشأ إلاّ من ضعف في النفس أو الإيمان ، وكأين من مكاس وجلاد ومدمن خمر تاب وأناب ، والمحققون لم يجعلوا إحتمال الأذى ولا يقينه موجباً لترك النهي عن المنكر ولا لتفضيله عن الفعل بل قالوا في هذه الحالة بالجواز ، وإستدلّوا على تفضيل النهي بحديث " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم . وفي بئيس عدّة قراآت أخرى بين متواترة وشاذة ، تتخرج على الخلاف في أصل صيغته ، وعلى لغات العرب في التصرف في المهموز : فقرأها أبو بكر على خلاف عنه بئيس بوزن ضيغم - وإبن عامر بكسر الباء وسكون الهمزة بناء على أنّه أصله بئس بوزن حذر فنقلت حركة الهمزة إلى الفاء للتخفيف ككبد في كبد ، ونافع بيس على قلب الهمزة ياء كذئب وذيب ، أو على أنّه فعل الذم وصف به فجعل اسما ، ومن الشواذ بيّس كريس على قلب الهمزة ياء وإدغامها ، وبيس كهين على تخفيف المشدّدة ، وبائس بوزن فاعل . { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } أي فلما عتوا عن أمر ربّهم عتو إباء وإستكبار عن ترك ما نهاهم عنه الواعظون { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } هذا القول للتكوين أي تعلقت إرادتنا بأن يكونوا قردة خاسئين أي صاغرين أذلاء فكانوا كذلك . قيل : إن هذا بيان وتفصيل للعذاب البئيس في الآية السابقة ، وقيل : هو عذاب آخر ، وإن الله عاقبهم أولاً بالبؤس والشقاء في المعيشة ، لأن من الناس من لا يربيه ويهذّبه إلاّ الشدة والبؤس ، كما إن منهم من يربيه ويهذبه الرخاء والنعمة ، وبكلّ يبتلي الله عباده ويمتحنهم كما قال { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] وقال في بني إسرائيل { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] ولكن هؤلاء القوم لم يزدهم البؤس والسوء إلاّ عتوّاً وإصراراً على الفسق والظلم فدمدم عليهم ربّهم بذنبهم ، ومسخهم مسخ خلق وبدن فكانوا قردة بالفعل ، أو مسخ خلق ونفس ، فكانوا كالقردة في طيشها وشرها ، وإفسادها لمّا تصل إليه أيديها . والأوّل قول الجمهور والثاني قول مجاهد قال : مُسخت قلوبهم فلم يوفّقوا لفهم الحق .