Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 25-38)
Tafsir: Maʿālim at-tanzīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ } ، قرأ أبو جعفر والكسائي : « أَلاَ يسجدوا » بالتخفيف ، وإذا وقفوا يقفون " ألاَ يا " ألا يأثم يبدئون : " اسجدوا " ، على معنى : ألاَ يا هؤلاء اسجدوا ، وجعلوه أمراً من عند الله مستأنفاً ، وحذفوا هؤلاء اكتفاءً بدلالة " يا " عليها ، وذكر بعضهم سماعاً من العرب : ألاَ يا ارحمونا ، يريدون ألاَ يا قوم ، وقال الأخطل : @ أَلاَ يا أسْلَمِي يا هِنْدَ بَنِي بَكْرِ وإنْ كانَ حَيَّانَا عِدَاً آخِرَ الدَّهْرِ @@ يريد : ألاَ يا هند اسلمي ، وعلى هذا يكون قوله « ألاَ » كلاماً معترضاً من غير القصة ، إما من الهدهد ، وإما من سليمان . قال أبو عبيدة : هذا أمر من الله مستأنف يعني : يا أيها الناس اسجدوا . وقرأ الآخرون : « ألاَّ يسجدوا » بالتشديد ، بمعنى : وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا ، { للَّهِ ٱلَّذِى يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ } ، أي الخفي المخبّأ ، { فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ، أي : ما خبأت . قال أكثر المفسرين : خبء السماء : المطر ، وخبء الأرض : النبات . وفي قراءة عبد الله : « يخرج الخبء من السموات والأرض » ، و " من " و " في " يتعاقبان ، تقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم ، يريد منكم . وقيل : معنى " الخبء " الغيب ، يريد : يعلم غيب السموات والأرض . { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } ، قرأ الكسائي ، وحفص ، عن عاصم : بالتاء فيهما ، لأن أول الآية خطاب على قراءة الكسائي بتخفيف ألاَ ، وقرأ الآخرون بالياء . { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } ، أي : هو المستحقُّ للعبادة والسجود لا غيره . وعرش ملكة سبأ وإن كان عظيماً فهو صغير حقير في جنب عرشه عزّ وجلّ ، تم هاهنا كلام الهدهد ، فلما فرغ الهدهد من كلامه . { قَالَ } ، سليمان للهدهد : { سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ } فيما أخبرت ، { أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } ؟ فدلَّهم الهدهد على الماء ، فاحتفروا الركايا ، وروى الناس والدواب ، ثم كتب سليمان كتاباً : من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : بسم الله الرحمن الرحيم ، السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين . قال ابن جريج لم يزد سليمان على ما قص الله في كتابه . وقال قتادة : وكذلك كل الأنبياء كانت تكتب جُمَلاً لا يطيلون ولا يكثرون . فلما كتب الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه . فقال للهدهد : { ٱذْهَب بِّكِتَابِى هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ } ، قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة : ساكنة الهاء ، ويختلسها أبو جعفر ، ويعقوب وقالون كسراً ، [ والآخرون بالإِشباع كسراً ] ، { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } ، تَنحَ عنهم فكنْ قريباً منهم ، { فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعون } ، يردُّون من الجواب . وقال ابن زيد : في الآية تقديم وتأخير مجازها : اذهبْ بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ، ثم تول عنهم ، أي : انصرف إليَّ ، فأخذ الهدهد الكتاب فأتى به إلى بلقيس ، وكانت بأرض يقال لها : " مَأْرِب " من صنعاء على ثلاثة أيام ، فوافاها في قصرها وقد غلّقت الأبواب ، وكانت إذا رقدت غلّقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها ، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها ، فألقى الكتاب على نحرها ، هذا قول قتادة . وقال مقاتل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه ، حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حِجْرها . وقال ابن منبه ، وابن زيد : كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع ، فإذا نظرت إليها سجدت لها ، فجاء الهدهد الكوة فسدها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم ، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر ، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب ، وكانت قارئة ، فلما رأت الخاتم أُرعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه ، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب إليها أعظم مُلْكاً منها ، فقرأت الكتاب ، وتأخر الهدهد غير بعيد ، فجاءت حتى قعدت على سرير مملكتها وجمعت الملأَ من قومها ، وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد مائة ألف مقاتل . وعن ابن عباس قال : كان مع بلقيس مائة ألف ، قَيْل ، مع كل قيْل مائة ألف ، والقَيْل الملك دون الملك الأعظم ، وقال قتادة ومقاتل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف ، قال : فجاؤوا وأخذوا مجالسهم . { قَالَتْ } ، لهم بلقيس : { يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ } ، وهم أشراف الناس وكبراؤهم { إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } ، قال عطاء والضحاك : سمته كريماً لأنه كان مختوماً . ورى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كرامة الكتاب ختمه " ، وقال قتادة ومقاتل : " كتاب كريم " أي : حسن ، وهو اختيار الزجاج ، وقال : حسنٌ ما فيه , وروي عن ابن عباس : " كريم " ، أي : شريف لشرف صاحبه ، وقيل : سمته كريماً لأنه كان مصدراً ببسم الله الرحمن الرحيم ، ثم بينت ممَّن الكتاب فقالت : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } ، وبينت المكتوب فقالت ، { وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } . { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ } ، قال ابن عباس : أي : لا تتكبروا عليّ . وقيل : لا تتعظموا ولا تترفعوا عليّ . وقيل : معناه : لا تمتنعوا من الإِجابة ، فإنَّ ترك الإِجابة من العلو والتكبر ، { وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ } ، مؤمنين طائعين . قيل هو من الإِسلام ، وقيل : هو من الاستسلام . { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلاَُ أَفْتُونِى فِىۤ أَمْرِى } ، أشيروا عليّ فيما عرض لي ، وأجيبوني فيما أشاوركم فيه ، { مَا كُنتُ قَاطِعَةً } ، قاضيةً وفاصلةً ، { أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } ، أي تحضرون . { قَالُواْ } ، مجيبين لها ، { نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ } في القتال ، { وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } ، عند الحرب ، قال مقاتل : أرادوا بالقوة كثرةَ العدد ، وبالبأس الشديد الشجاعةَ ، وهذا تعريض منهم بالقتال إنْ أمرتهم بذلك ثم قالوا : { وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ } ، أيتها الملكة في القتال وتركه ، { فَٱنظُرِى } ، من الرأي ، { مَاذَا تأْمرين } ، تجدينا لأمرك مطيعين . { قَالَتْ } ، بلقيس مجيبة لهم عن التعريض للقتال : { إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً } عنوة ، { أَفْسَدُوهَا } ، خرَّبوها ، { وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } ، أي : أهانوا أشرافها وكبراءها ، كي يستقيم لهم الأمر ، تحذرهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم ، وتناهى الخبر عنها هاهنا ، فصدّق الله قولها فقال : { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ } ، أي : كما قالت هي يفعلون . ثم قالت : { وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } ، والهدية هي : العطية على طريق الملاطفة ، وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست ، فقالت للملأ من قومها : إني مرسلة إليهم ، أي إلى سليمان وقومه ، بهدية أُصانِعُه بها عن ملكي وأختبره بها أَملِكٌ هو أم نبي ؟ فإن يكن ملكاً قبل الهدية وانصرف ، وإن كان نبياً لم يقبل الهدية ولم يُرْضِه منّا إلاّ أن نتبعه على دينه ، فذلك قوله تعالى : { فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ } ، فأهدت إليه وصفاء ووصائف ، قال ابن عباس : ألبستهم لباساً واحداً كي لا يُعْرف الذكر من الأنثى . وقال مجاهد : ألبس الغلمان لباس الجواري وألبس الجواري لباس الغلمان . واختلفوا في عددهم ، فقال ابن عباس : مائة وصيف ومائة وصيفة ، وقال مجاهد ومقاتل : مائتا غلام ومائتا جارية . وقال قتادة ، وسعيد بن جبير : أرسلت إليه بلبنة من ذهب في حرير وديباج . وقال ثابت البناني : أهدت إليه صفائح من الذهب في أوعية الديباج . وقيل : كانت أربع لبنات من ذهب . وقال وهب وغيره : عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ، فألبست الغلمان لباسَ الجواري ، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب ، وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب وفي آذانهم أقراطاً وشنوفاً مرصَّعات بأنواع الجواهر ، وألبست الجواري لباس الغلمان ؛ الأقبيةَ والمناطق ، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة ، والغلمان على خمسمائة برذون ، على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملون ، وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة ، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت المرتفع ، وأرسلت إليه المسك والعنبر والعود الألنجوج ، وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب ، ودعت رجلاً من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو ، وضمت إليه ، رجالاً من قومها أصحاب رأي وعقل ، وكتبت معه كتاباً بنسخة الهدية ، وقالت فيه : إن كنتَ نبياً فميزْ لي بيّنِ الوصائف والوصفاء ، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها ، واثقب الدر ثقباً مستوياً ، وأدخل خيطاً في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جنّ . وأمرت بلقيس الغلمان فقالت : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء ، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال . ثم قالت للرسول : أنظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك ولا يهولنك منظره ، فإنّا أعزّ منه ، وإن رأيت الرجل بشاشاً لطيفاً فاعلم أنه نبي مرسل فتفهَّمْ قوله ، ورد الجواب . فانطلق الرسول بالهدايا ، وأقبل الهدد مسرعاً إلى سليمان فأخبره الخبر كله ، فأمر سليمان الجنَّ أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا ، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة ، وأن يجعلوا حول الميدان حائطاً ، شُرفها من الذهب والفضة ، ثم قال : أي الدوابِّ أحسن مما رأيتم في البر والبحر ، قالوا : يا نبي الله إنا رأينا دواباً في بحر كذا وكذا منقطعة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواصٍ ، فقال : عليّ بها الساعة ، فأَتوا بها ، فقال شدُّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة ، وألقُوا لها علوفَتها فيها ، ثم قال للجن : عليّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير ، فأقامهم عن يمين الميدان ويساره ، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ، ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره ، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفاً فراسخ ، وأمر الإِنس فاصطفوا فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير ، فاصطفوا فراسخ عن يمينه وعن يساره . فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم ترَ أعينُهم مثلها تروث على لَبِنِ الذهب والفضة ، تقاصرت أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا ، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعاً على قدر موضع اللبنات التي معهم ، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خالياً وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان ، فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ففزعوا ، فقالت لهم الشياطين : جُوزوا فلا بأس عليكم ، فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإِنس والطير والهوام والسباع والوحوش ، حتى وقفوا بين يدي سليمان ، فنظر إليهم سليمان نظراً حسناً بوجه طلق ، وقال : ما وراءكم ؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا له ، وأعطاه كتاب الملكة ، فنظر فيه ، ثم قال : أين الحقة ، فأُتى بها فحركها ، وجاء جبريل فأخبره بما في الحقة ، فقال : إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة ، وجزعة مثقوبة معوجة الثقب ، فقال الرسول : صدقتَ فاثقب الدرة ، وأدخل الخيط في الخرزة ، فقال سليمان : من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجن ، فلم يكن عندهم علم ذلك ، ثم سأل الشياطين ، فقالوا : نرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان ما حاجتك ؟ فقالت : تصيّر رزقي في الشجرة ، فقال لك ذلك . وروي أنها جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت : أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف ، فجعل لها ذلك ، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر . ثم قال : من لهذه الخرزة فيسلكها في الخيط ؟ فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر ، فقال سليمان : ما حاجتك ؟ فقالت : تجعل رزقي في الفواكه ، قال : لك ذلك ، ثم ميّز بين الجواري والغلمان ، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم ، فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه ، والغلام كما يأخذه من الآنية فيضرب به وجهه ، وكانت الجارية تصب الماء على بطن ساعدها والغلام على ظهر الساعد ، وكانت الجارية تصب الماء صباً وكان الغلام يحدر الماء على يديه حدراً ، فميّز بينهم بذلك ، ثم ردّ سليمان الهدية , كما قال الله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } ، قرأ حمزة ، ويعقوب : { أتمدوني } بنون واحدة مشددة وإثبات الياء ، وقرأ الآخرون : بنونين خفيفتين ، ويثبت الياء أهل الحجاز والبصرة ، والآخرون يحذفونها ، { فَمَآ ءَاتَـٰنِى ٱللَّه } ، أعطاني الله من النبوة والدين والحكمة والملك ، { خَيْرٌ } أفضل ، { مِّمَّآ ءَاتَـٰكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } ، لأنكم أهل مفاخرة في الدنيا ومكاثرة بها ، تفرحون بإهداء بعضكم لبعض ، فأما أنا فلا أفرح بها ، وليست الدنيا من حاجتي ، لأن الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحداً ، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة ، ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد . { ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ } ، بالهدية ، { فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ } ، لا طاقة لهم ، { بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ } ، أي : من أرضهم وبلادهم وهي سبأ ، { أَذِلَّةً وَهُمْ صَـٰغِرُونَ } ، ذليلون إن لم يأتوني مسلمين . قال وهب وغيره من أهل الكتب : فلما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت : قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به طاقة ، فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من سبعة قصور لها ، ثم أغلقت دونه الأبواب ووكلت به حراساً يحفظونه ، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها : احتفظ بما قِبَلِك وسرير ملكي ، لا يخلص إليه أحد ولا يرينَّه حتى آتيك ، ثم أمرت منادياً ينادي في أهل مملكتها يؤذنهم بالرحيل ، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قَيْل : من ملوك اليمن ، تحت يد كلِّ قيل ألوفٌ كثيرة . قال ابن عباس : وكان سليمان رجلاً مهيباً لا يُبْتَدَأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه ، فخرج يوماً فجلس على سرير ملكه ، فرأى وهجاً قريباً منه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : بلقيس وقد نزلت منا بهذا المكان ، وكان على مسيرة فرسخ من سليمان ، قال ابن عباس : وكان بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ ، فأقبل سليمان حينئذٍ على جنوده . { قَالَ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلاَُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ } ، أي : مؤمنين ، وقال ابن عباس : طائعين . واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها ، فقال أكثرهم : لأن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها . وقيل : ليُريها قدرة الله وعظيم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها . وقال قتادة : لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد ، فأحب أن يراه . قال ابن زيد : أراد أن يأمر بتنكيره وتغييره ليختبر بذلك عقلها .