Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 21-25)
Tafsir: Maʿālim at-tanzīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله عز وجل : { وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } ، أي وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها ، { قَدْ أَحَاطَ ٱللهُ بِهَا } ، حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى تأخذوها ، قال ابن عباس : علم الله أنه يفتحها لكم . واختلفوا فيها ، فقال ابن عباس ، ومقاتل : هي فارس والروم ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم ، بل كانوا خولاً لهم حتى قدروا عليها بالإسلام . وقال الضحاك وابن زيد : هي خيبر وعَدَها الله نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصيبها ، ولم يكونوا يرجونها . وقال قتادة : هي مكة . وقال عكرمة : حنين . وقال مجاهد : ما فتحوا حتى اليوم . { وَكَانَ ٱللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً } . { وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ } يعني : أسد ، وغطفان ، وأهل خيبر ، { لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَـٰرَ } ، لانهزموا ، { ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } . { سُنَّةَ ٱللهِ ٱلَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ } ، أي كسنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه ، { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللهِ تَبْدِيلاً } . قوله عزّ وجلّ : { وَهُوَ ٱلَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } ، قرأ أبو عمرو بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، واختلفوا في هؤلاء : أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا يزيد ابن هارون ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم : أن ثمانين رجلاً من أهل مكة ، هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غدر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأخذوا سلماً فاستحياهم ، وأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية : { وَهُوَ ٱلَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } . قال عبد الله بن مغفل المزني : كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن ، وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره ، وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح ، فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا ، فدعا عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : جئتم في عهد ؟ أو هل جعلَ لكم أحدٌ أماناً ؟ فقالوا : اللهم لا ، فخلى سبيلهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية . قوله عزّ وجلّ : { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } , الآية . روى الزهري ، عن عروة عن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، يريدون زيارة البيت ، لا يريدون قتالاً ، وساق معه سبعين بدنةً ، والناس سبعمائة رجل ، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر ، فلما أتى ذا الحُلَيفة قلّد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة ، وبعث عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش ، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط قريباً من عُسْفان ، أتاه عينة الخزاعي وقال : إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً ، وقد جمعوا لك الأحابيش ، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أشيروا عليّ أيها الناس ، أترون أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم ؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين ، وإن نجوا تكن عُنقاً قطعها الله ؟ أو ترون أن نؤم البيت فمن صدَّنا عنه قاتلناه ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله إنما خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حرباً ، فتوجَّهْ له فمن صدَّنا عنه قاتلناه . فقال : امضوا على اسم الله ، فنفروا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن خالد بن الوليد بالغَمِيم في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش ، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته ، فقال الناس : حلِّ حلِّ ، فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ، ثم قال : والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظِّمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إيّاه ، ثم زجرها فوثبت . قال : فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء ، يتبرضه الناس تبرضاً ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، وشكا الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم العطش ، فنزع سهماً من كنانته وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له ناجية بن عمير ، وهو سائق بُدْن النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل في البئر فغرزه في جوفه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب ابن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لم نجيء لقتال أحد ، ولكنّا جئنا معتمرين ، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرَّت بهم ، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلّوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا قد جمُّوا وإنْ همْ أبوْا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذنّ الله أمره . فقال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشاً ، قال : إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولاً ، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، قال : فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء ، وقال ذووا الرأي منهم : هاتِ ما سمعته يقول . قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فحدّثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال : أيْ قومِ ألستُم بالوالد ؟ قالوا : بلى ، قال : أولستُ بالولد ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل تتهموني ؟ قالوا : لا ، قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما بلَّحُوا عليَّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته ، قالوا : ائته . فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل ، فقال عروة : عند ذلك يا محمد أرأيتَ إن استأصلتَ قومك فهل سمعت بأحد منَ العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فإني والله لأرى وجوهاً وأشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدَعوك . فقال له أبو بكر الصديق : امصصْ بظْرَ اللات ، أنحن نفرّ عنه وندعه ؟ . فقال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر ، فقال : أمَا والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتُك . قال وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحيةِ النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف ، وقال أخّرْ يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة ، فقال : أيْ غُدَرُ ألست أسعى في غدرتك . وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الإِسلام فأقبل ، وأما المال فلستُ منه في شيء . ثم إنّ عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : فوالله - ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فَدَلَكَ بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له ، فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أيْ قومِ والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إنْ رأيتُ ملكاً قط يعظمه أصحابه مايعظم أصحابُ محمدٍ محمداً ، والله إنْ تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فَدَلَكَ بها وجهه وجلدَه ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون إليه النظرة تعظيماً له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا فلان وهو من قوم يعظمون البُدْن ، فابعثوها له ، فبعث له واستقبله الناس يلبُّون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدّوا عن البيت ؟ فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشْعِرَتْ ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت . ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه ، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس ، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى ، فقال : يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صدّ الهدي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، فقالوا له : اجلس إنما أنت رجل أعرابي لا علم لك ، فغضبَ الحليس عند ذلك ، فقال : يا معشر والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم ، أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظماً له ، والذي نفس الحليس بيده لتخلنّ بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد ، فقالوا له : مه ، كفّ عنّا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به . فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر ، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل ابن عمرو . وقال عكرمة فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قد سهل لكم من أمركم " . قال الزهري في حديثه : " فجاء سهيل بن عمرو ، فقال : هات نكتب بيننا وبينك كتاباً ، فدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له : اكتبْ بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل : أمّا الرحمن فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتبْ باسمك اللهم ، كما كنت تكتب . فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : اكتبْ باسمك اللهم ، ثم قال : اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب يا علي محمدُ بن عبد الله . قال الزهري : وذلك لقوله : لا يسألون خطة يعظمون فيها حرمات الله إلاّ أعطيتهم إيّاها ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد ابن عبد الله سهيل بن عمرو واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : وعلى أن تخلوا بيننا وبين البيت ، فنطوف به ، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب إنا أُخِذْنا ضُغْطة ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب ، فقال سهيل : وعلى أنه لا يأتيك منّا رجل - وإن كان على دينك - إلاّ رددته إلينا ، قال المسلمون : سبحان الله كيف يُردُّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً ؟ . وروى أبو إسحاق عن البراء قصة الصلح وفيه قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد الله ، قال : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ، ثم قال لعلي رضي الله عنه : امحُ رسول الله ، قال علي : لا والله لا أمحوك أبداً ، قال : فأرنيه فأراه إيّاه ، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ، وفي روايته : فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن أن يكتب ، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله . قال البراء : صالح على ثلاثة أشياء : على أن من أتاه من المشركين ردّه إليهم ، ومن أتاهم من المسلمين لم يرده ، وعلى أن يدخلها من قابل ، ويقيم بها ثلاثة أيام ، ولا يدخلها إلا بجُلُبّانِ السلاح السيف والقوس ونحوه . وروى ثابت عن أنس : أن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا : أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منّا رددتموه علينا ، فقالوا : يا رسول الله أنكتب هذا ؟ قال : " نعم إنه من ذهب منّا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ، ومخرجاً " . رجعنا إلى حديث الزهري قال : " فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، يرسف في قيوده قد انفلت وخرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ ، فقال النبي : إنا لم نقض الكتاب بعد ، قال فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فأجِرْهُ لي ، فقال : فما أنا بمجيره لك ، قال : بلى فافعلْ ، قال : ما أنا بفاعل ، ثم جعل سهيل يجره ليرده إلى قريش ، قال أبو جندل : أيْ معشر المسلمين أُردّ إلى المشركين وقد جئت مسلماً ألا ترون ما لقيت ؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله . وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا أبا جندل احتسبْ فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقداً وصلحاً وإنّا لا نغدر فوثب عمر يمشي إلى جنب أبي جندل ، ويقول : اصبر فإنما هم المشركون ودم أحدهم كدم كلب ، ويدني قائم السيف منه ، قال عمر : رجوت أن يأخذ السف فيضرب به أباه فضنَّ الرجل بأبيه ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكُّون في الفتح ، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوا ذلك دخل الناسَ أمرٌ عظيم حتى كادوا يهلكون ، وزادهم أمرُ أبي جندل شراً إلى ما بهم . قال عمر : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ . قال الزهري في حديثه عن عروة عن مروان والمسور ، ورواه أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ألستَ نبيُّ الله حقاً ؟ قال : بلى ، قلتُ : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قلت : فلِمَ نُعطي الدنيّة في ديننا إذن ؟ قال : إني رسول الله ولستُ أعصيه وهو ناصري ، قلت : أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي في البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرتُكَ أنّا تأتيه العام ؟ قلت : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوِّف به ، قال : فأتيتُ أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقّاً ؟ قال : بلى ، قلتُ : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلتُ : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قلت : فلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله ليس يعصي ربَّه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق ، قلتُ : أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، أفَأخبرك أنّك تأتيه العام ؟ قلتُ : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوف به . قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالاً . قال : فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ، ثم احلقوا ، قال : فوالله ما قام رجل منهم ، حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرجْ ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كان بعضهم أن يقتل بعضاً غمّاً . قال ابن عمر وابن عباس : حلق رجال يوم الحديبية وقصَّر آخرون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحم الله المحلّقين قالوا : والمقصرين ؟ قال : يرحم الله المحلّقين . قالوا : يا رسول الله والمقصرين ؟ قال : والمقصرين ، قالوا : يا رسول الله فلِمَ ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين ؟ قال لأنهم لم يشكُّوا " قال ابن عمر : وذلك لأنه تربص قوم وقالوا لعلنا نطوف بالبيت . قال ابن عباس : " وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ المشركين بذلك " . وقال الزهري في حديثه : " ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى : { يـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتُ مُهَـٰجِرَٰتٍ } ، حتى بلغ { بِعِصَمِ الكَوَافِر } [ الممتحنة : 10 ] ، فطلق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية ابن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية ، قال : فنهاهم أن يردوا النساء ، وأمر بردّ الصداق . قال : ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فجاءه أبو بصير عتبة بن أسيد ، رجل من قريش وهو مسلم ، وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا في طلبه رجلاً من بني عامر بن لؤي ، ومعه مولى لهم ، فقدِمَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالا : العهد الذي جعلت لنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح في ديننا الغدر ، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، ثم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغنا ذا الحُليفة ، فنزلوا يأكلون من تمرٍ لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيداً فاستلَّه الآخر ، فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت به ، فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه ، فأخذوه وعلاه به فَضربه حتى برد ، وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه : لقد رأى هذا ذعراً ، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : ويلك مَالَكَ ؟ قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول ، فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحاً السيف حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا نبي الله أوفَى الله ذمتَك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ويل أمه مِسْعَر حرب ، لو كان معه أحد " ، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سِيفَ البحر ، وبلغ المسلمين الذين كانوا حُبسوا بمكة قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير : ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد ، فخرج عصابة منهم إليه ، وانفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير ، حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلاّ اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لَما أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقدموا عليه بالمدينة ، فأنزل الله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } حتى بلغ { حَمِيَّةَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ } ، وكانت حميتهم أنهم لم يقرُّوا أنه نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينه وبين البيت . قال الله عزّ وجلّ : { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، يعني كفار مكة ، { وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامَ } ، أن تطوفوا به ، { وٱلْهَدْيَ } ، أي : وصدوا الهدي ، وهي البدن التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعين بدنة ، { مَعْكُوفاً } ، محبوساً ، يقال : عكفته عكفاً إذا حبستُه وعكوفاً للازم ، كما يقال : رجع رجعاً ورجوعاً ، { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } ، منحره وحيث يحل نحره يعني الحرم ، { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَـٰتٌ } ، يعني المستضعفين بمكة ، { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } ، لم تعرفوهم ، { أَنْ تَطَئُوهُمْ } ، بالقتل وتوقعوا بهم ، { فَتُصِيبَكم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، قال ابن زيد : معرة إثم . وقال ابن إسحاق : غرم الدية . وقيل : الكفارة لأن الله عز وجل أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدية ، فقال : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [ النساء : 92 ] . وقيل : هو أن المشركين يعيبونكم ويقولون قتلوا أهل دينهم ، والمعرة : المشقة ، يقول : لولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فيلزمكم بهم كفارة أو يلحقكم سبة ، وجواب لولا محذوف ، تقديره : لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك . { لِّيُدْخِلَ ٱللهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } ، فاللام في " ليدخل " متعلق بمحذوفٍ دلَّ عليه معنى الكلام ، يعني : حال بينكم وبين ذلك ليدخل الله في رحمته في دين الإِسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح قبل أن تدخولها ، { لَوْ تَزَيَّلُواْ } ، لو تميزوا يعني المؤمنين من الكفار ، { لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَليماً } ، بالسبي والقتل بأيديكم . وقال بعضُ أهل العلم : " لعذبنا " جواب لكلامين أحدهما : " لولا رجال " ، والثاني : " لو تزيلوا " ، ثم قال : { لِّيُدْخِلَ ٱللهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يشَآءُ } ، يعني المؤمنين والمؤمنات . وقوله : { فِى رَحْمَتِهِ } ، أي جنته . وقال قتادة في هذه الآية : إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة .