Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 24-24)

Tafsir: Zād al-masīr fī ʿilm at-tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { ولقد همَّت به } الهم بالشيء في كلام العرب : حديث المرء نفسه بمواقعته مالم يواقع . فأما همّ أزليخا ، فقال المفسرون : دعته إِلى نفسها واستلقت له . واختلفوا في همِّه بها على خمسة أقوال : أحدها : أنه كان من جنس همِّها ، فلولا أن الله تعالى عصمه لفعل ، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسدي ، وهو قول عامة المفسرين المتقدمين ، واختاره من المتأخرين جماعة منهم ابن جرير ، وابن الأنباري . وقال ابن قتيبة : لا يجوز في اللغة : هممت بفلان ، وهمّ بي ، وأنت تريد : اختلاف الهمَّين . واحتجَ منْ نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر ، ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه . قالوا : ورجوعه عما همّ به من ذلك خوفاً من الله تعالى يمحو عنه سيء الهمِّ ، ويوجب له علوَّ المنازل ، ويدل على هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إِلى غار ، فانطبقت عليهم صخرة ، فقالوا : ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله . فقال أحدهم : اللهم إِنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إِلا بمائة دينار ، فلما أتيتها بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة ، أُرعدتْ وقالت : إِن هذا لعملٌ ما عملته قطُّ ، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار ، فإن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرِج عنا ، فزال ثلث الحجر . والحديث معروف ، وقد ذكرته في « الحدائق » فعلى هذا نقول : إِنما همت ، فترقَّت همَّتها إِلى العزيمة ، فصارت مصرَّة على الزنا . فأما هو ، فعارضه ما يعارض البشر من خَطَرَاتِ القلب ، وحديث النفس ، من غير عزم ، فلم يلزمه هذا الهمُّ ذنباً ، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد ، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم أو تعمل " وقال صلى الله عليه وسلم " هلك المصرّون " ، وليس الإِصرار إِلا عزم القلب ، فقد فرَّق بين حديث النفس وعزم القلب . وسئل سفيان الثوري : أيؤاخذ العبد بالهمة ؟ فقال : إِذا كانت عزماً ، ويؤيده الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : إِذا همّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها عليه سيئة " واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة ، وإِنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله : « قال معاذ الله إِنه ربي » وقولِه : « كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء » وكل ذلك إِخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية . فإن قيل : فقد سوّى القرآن بين الهمتين ، فلم فرقتم ؟ فالجواب : أن الاستواء وقع في بداية الهمة ، ثم ترقت همتها إِلى العزيمة ، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه ، ولم تتعد همته مقامها ، بل نزلت عن رتبتها ، وانحل معقودها ، بدليل هربه منها ، وقولِه : « معاذ الله » ، وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إِلى العزم . ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل ، فإنه لو كان هذا ، دل على العزم ، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا . والقول الثاني : أنها همت به أن يفترشها ، وهمّ بها ، أي : تمنَّاها أن تكون له زوجة ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والقول الثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، تقديره : ولقد همت به ، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، فلما رأى البرهان ، لم يقع منه الهم ، فقُدِّم جواب « لولا » عليها ، كما يقال : قد كنتَ من الهالكين ، لولا أن فلاناً خلَّصك ، لكنت من الهالكين ، ومنه قول الشاعر : @ فَلا يَدْعُني قَوْمِي صَرِيْحاً لِحُرَّةٍ لئن كُنْتُ مَقْتُولاً وتَسْلَم عَامِرُ @@ أراد : لئن كنت مقتولاً وتسلم عامر ، فلا يدعني قومي ، فقدم الجواب . وإِلى هذا القول ذهب قطرب ، وأنكره قوم ، منهم ابن الأنباري ، وقالوا : تقديم جواب « لولا » عليها شاذ مستكره ، لا يوجد في فصيح كلام العرب ، فأما البيت المستشهَد به ، فمن اضطرار الشعراء ، لأن الشاعر يضيق الكلام به عند اهتمامه بتصحيح أجزاء شعره ، فيضع الكلمة في غير موضعها ، ويقدِّم ما حكمه التأخير ، ويؤخِّر ما حكمه التقديم ، ويعدل عن الاختيار إِلى المستقبح للضرورة ، قال الشاعر : @ جَزَى ربُّه عَنِّي عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ بِتَرْكي وَخِذْلاَني جَزَاءً موفَّراً @@ تقديره : جزى عني عديَّ بن حاتم ربُّه ، فاضطر إِلى تقديم الرب ، وقال الآخر : @ لَمَّا جْفَا إِخوانُه مُصْعَبَاً أدَّى بِذَاكَ البيَعَ صَاعاً بِصاعِ @@ أراد : لما جفا مصعباً إِخوانه ، وأنشد الفراء : @ طَلَباً لعُرْفِكَ ياابْنَ يحيى بَعْدَمَا تَتَقَطَّعَت بي دونَكَ الأَسْبَابُ @@ فزاد تاء على « تقطعت » لا أصل لها ليصلح وزن شعره ، وأنشد ثعلب : @ إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَك شَتَّى فَالْزَمِي الخَفْضَ وانعمي تَبْيَضِّضي @@ فزاد ضاداً لا أصل لها لتكمل أجزاء البيت ، وقال الفرزدق : @ هُمَا تَفَلا في فِيَّ مِن فَمَوَيْهِمَا عَلَى النَّابِحِ العَاوِي أشدُّ لِجَامِيا @@ فزاد واواً بعد الميم ليصلح شعره . ومثل هذه الأشياء لا يحمل عليها كتاب الله النازل بالفصاحة ، لأنها من ضرورات الشعراء . والقول الرابع : أنه همّ أن يضربها ويدفعها عن نفسه ، فكان البرهان الذي رآه من ربه أن الله أوقع في نفسه أنه إِن ضربها كان ضربه إِياها حجة عليه ، لأنها تقول : راودني فمنعته فضربني ، ذكره ابن الأنباري . والقول الخامس : أنه همّ بالفرار منها ، حكاه الثعلبي ، وهو قول مرذول ، أفَتراه أراد الفرار منها ، فلما رأى البرهان ، أقام عندها ؟ ! قال بعض العلماء : كان همّ يوسف خطيئة من الصغائر الجائزة على الأنبياء ، وإِنما ابتلاهم بذلك ليكونوا على خوف منه ، وليعرفهم مواقع نعمته في الصفح عنهم ، وليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة . قال الحسن : إِن الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعبيراً لهم ، ولكن لئلا تقنطوا من رحمته . يعني الحسن : أن الحجة للأنبياء ألزم ، فاذا قبل التوبة منهم ، كان إِلى قبولها منكم أسرع . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . أنه قال : " ما من أحد يلقى الله تعالى إِلا وقد همّ بخطيئة أو عملها ، إِلا يحيى بن زكريا ، فإنه لم يهم ولم يعملها " . قوله تعالى : { لولا أن رأى برهان ربه } جواب « لولا » محذوف . قال الزجاج : المعنى : لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما همّ به . قال ابن الأنباري : لزنا ، فلما رأى البرهان كان سبب انصراف الزنا عنه . وفي البرهان ستة أقوال : أحدها : أنه مُثّل له يعقوب . روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : نُودي يا يوسف ، أتزني فتكون مثل الطائر الذي نُتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع ؟ فلم يعط على النداء شيئاً ، فنودي الثانية ، فلم يعط على النداء شيئاً ، فتمثل له يعقوب فضرب صدره ، فقام ، فخرجت شهوته من أنامله . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضَّاً على أنامله ، فأدبر هارباً ، وقال : وحقِّك يا أبت لا أعود أبدا . وقال أبو صالح عن ابن عباس : رأى مثال يعقوب في الحائط عاضَّاً على شفتيه . وقال الحسن : مثّل له جبريل في صورة يعقوب في سقف البيت عاضَّا على إِبهامه أو بعض أصابعه . وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن سيرين ، والضحاك في آخرين . وقال عكرمة : كل ولد يعقوب ، قد ولد له اثنا عشر ولداً ، إلاَّ يوسف فانه ولد له أحد عشر ولداً ، فنُقص بتلك الشهوة ولداً . والثاني : أنه جبريل عليه السلام . روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : مثِّل له يعقوب فلم يزدجر ، فنودي : أتزني فتكون مثل الطائر نتف ريشه ؟ ! فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في ظهره ، فوثب . والثالث : أنها قامت إِلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب ، فقال لها يوسف : أي شيء تصنعين ؟ قالت : أستحي من إِلهي هذا أن يراني على هذه السوأة ، فقال : أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ، ولا أستحي من إِلهي القائم على كل نفس بما كسبت ؟ فهو البرهان الذي رأى ، قاله علي بن أبي طالب ، وعلي بن الحسين ، والضحاك . والرابع : أن الله بعث إِليه ملكاً ، فكتب في وجه المرأة بالدم : { ولا تقربوا الزنا إِنه كان فاحشة وساء سبيلا } قاله الضحاك عن ابن عباس . وروي عن محمد بن كعب القرظي : أنه رأى هذه الآية مكتوبة بين عينيها ، وفي رواية أخرى عنه ، أنه رآها مكتوبة في الحائط . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : بدت فيما بينهما كف ليس فيها عضد ولا معصم ، وفيها مكتوب { ولا تقربوا الزنا إِنه كان فاحشة وساء سبيلاً } [ الإسراء : 32 ] ، فقام هارباً ، وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد ، فلما قعد إِذا بكفٍّ قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب { واتقوا يوماً ترجعون فيه إِلى الله … } [ البقرة 281 ] ، فقام هارباً ، فلما عاد ، قال الله تعالى لجبرئيل : أدركْ عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل عاضّاً على كفه أو أصبعه وهو يقول : يا يوسف ، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء ؟ ! . وقال وهب بن منبه : ظهرت تلك الكف وعليها مكتوب بالعبرانية { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } [ الرعد : 33 ] ، فانصرفا ، فلما عادا رجعت وعليها مكتوب { وإِنَّ عليكم لحافظين . كراماً كاتبين } [ الأنفطار : 11 - 12 ] ، فانصرفا ، فلما عادا عادت وعليها مكتوب { ولا تقربوا الزنا … } الآية ، فعاد ، فعادت الرابعة وعليها مكتوب { واتقوا يوماً ترجعون فيه إِلى الله } ، فولَّى يوسف هارباً . الخامس : أنه سيّدُه العزيز دنا من الباب ، رواه ابن إِسحاق عن بعض أهل العلم . وقال ابن إِسحاق : يقال : إِن البرهان خيال سيِّده ، رآه عند الباب فهرب . والسادس : أن البرهان أنه علِم ما أحل الله مما حرّم الله ، فرأى تحريم الزنا ، روي عن محمد بن كعب القرظي ، قال ابن قتيبة : رأى حجة الله عليه ، وهي البرهان ، وهذا هو القول الصحيح ، وما تقدَّمه فليس بشيء ، وإِنما هي أحاديث من أعمال القصاص ، وقد أشرت إِلى فسادها في كتاب « المغني في التفسير » . وكيف يُظن بنبيٍّ لله كريمٍ أنه يخوَّف ويرعَّب ويُضطر إِلى ترك هذه المعصية وهو مصرّ ؟ ! هذا غاية القبح . قوله تعالى : { كذلك } أي : كذلك أريناه البرهان { لنصرف عنه السوء } وهو خيانة صاحبه { والفحشاءَ } ركوبَ الفاحشة { إِنه من عبادنا المخلصين } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بكسر اللام ، والمعنى : إِنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بفتح اللام ، أرادوا : من الذين أخلصهم الله من الأسواء والفواحش . وبعض المفسرين يقول : السوء : الزنى ، والفحشاء : المعاصي .