Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 21-26)

Tafsir: Zād al-masīr fī ʿilm at-tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وهل أتاكَ نبأ الخَصْمِ } قال أبو سليمان : المعنى : قد أتاكَ فاسْتَمِعْ له نَقْصُصْ عليكَ . واختلف العلماء في السبب الذي امتُحِن لأجْله داوُد عليه السلام بما امتُحن به ، على خمسة أقوال : أحدها : أنه قال : ياربِّ قد أعطيتَ إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذِّكْر ما لو ودِدْتُ أنَّك أعطيتني مِثْلَه ، فقال الله تعالى : إِنِّي ابتليتُهم بما لم أَبْتَلِكَ به ، فإن شئت ابتليتُكَ بِمثْلِ ما ابتليتُهم به وأعطيتُك كما أعطيتُهم . قال : نعم . فبينما هو في محرابه إذ وقعتْ عليه حمامة فأراد أن يأخذها فطارت ، فذهب ليأخذها ، فرأى امرأة تغتسل ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال السدي . والثاني : أنه مازال يجتهد في العبادة حتى بَرَزَ له قرناؤه من الملائكة وكانوا يصلُّون معه ويُسْعِدونه بالبُكاء ، فلمّا استأنس بهم ، قال : أَخْبِروني بأيِّ شيء أنتم موكَّلون ؟ قالوا : مانَكْتُب عليكَ ذَنْباً ، بل نكتب صالح عملك ونثبِّتُك ونوفِّقُك ونَصْرِف عنك السُّوء . فقال في نفسه : ليت شِعري ، كيف أكون لو خلّوني ونفسي ، وتمنَّى أن يُخَلّى بينه وبين نفسه ليَعْلَم كيف يكون ، فأمر اللهُ تعالى قُرَناءَه أن يعتزلوه ليَعْلَم أنه لا غَناءَ به عن الله [ عزوجل ، فلما فقدهم ، جَدَّ واجتهد ضِعْفَ عبادته إلى أن ظَنَّ أنه قد غَلَب نَفْسَه ، فأراد اللهُ تعالى ] أن يُعَرِّفَه ضَعْفَه ، فأَرسَل إِليه طائراً من طيور الجنة ، فسقط في محرابه ، فقطع صلاته ومَدَّ يده إليه ، فتنحّى عن مكانه ، فأَتْبَعَه بَصَرَه ، فإذا امرأة أوريا ، هذا قول وهب بن منبّه . والثالث : أنه تَذاكرَ هو وبنو إسرائيل ، فقالوا : هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذَنْباً ؟ فأضمر داودُ في نفسه أنه سيُطيق ذلك ، فلمّا كان يوم عبادته ، أغلق أبوابه وأَمَرَ أن لا يدخُل عليه أحد وأكبَّ على قراءه الزَّبور ، فإذا حمامة من ذهب ، فأهوى إليها فطارت ، فتَبِعها فرأى المرأة ، رواه مطر عن الحسن . والرابع : أنه قال لبني إسرائيل حين ملك : واللهِ لأَعْدِلَنَّ بينكم ، ولم يستثن ، فابتُليَ . رواه قتادة عن الحسن . والخامس : أنه أعجبه كثرة عمله ، فابتُليَ ، قاله أبو بكر الورّاق . الإِشارة إلى قصة ابتلائه : قد ذكرنا عن وهب أنه قال : كانت الحمامة من طيور الجنة ، وقال السدي : تصوَّر له الشيطان في صورة حمامة . قال المفسرون : إِنه لمّا تبع الحمامة ، رأى امرأة في بستان على شطِّ بِرْكَة لها تغتسل ، وقيل : بل على سطح لها ، فعجب من حسنها ، فحانت منها التفاته فرأت ظِلَّه فنقضت شعرها ، فغطىّ بدنها ، فزاده ذلك إِعجاباً بها ، فسأل عنها ، فقيل : هذه امرأة أوريا ، وزوجها في غزاة ، فكتب داود إلى أمير ذلك الجيش أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وكذا ، وقدِّمه قبل التابوت ، وكان مَنْ قُدِّم على التابوت لا يَحِلُّ له أن يرجع حتى يُفْتَح عليه أو يستشهد ، ففعل ذلك ، ففُتِح عليه ، فكتب إلى داود يخبره فكتب إليه أن ابعثه إِلى عدوِّ كذا وكذا ، ففُتح له ، فكتب إليه أن ابعثه إِلى عدو كذا وكذا ، فقُتل في المرَّة الثالثة ، فلمّا انقضت عِدَّة المرأة تزوَّجها داوُد فهي أُمُّ سليمان ، فلمّا دخل بها ، لم يلبث إلا يسيراً حتى بعث اللهُ عز وجل مَلَكين في صورة إنسيَّين ، وقيل : لم يأته المَلَكان حتى جاء منها سليمان وشَبَّ ، ثم أتياه فوجداه في محراب عبادته ، فمنعهما الحرس من الدُّخول إليه ، فتسوروا المحراب عليه ؛ وعلى هذا الذي ذكرناه من القصة أكثر المفسرين ، وقد روى نحوه العوفي عن ابن عباس ، وروي عن الحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل في آخرين ، وذكر جماعة من المفسرين أن داوُد لمّا نظر إلى المرأة ، سأل عنها ، وبعث زوجَها إلى الغَزاة مَرَّة بعد مَرَّة إلى أن قُتل ، فتزوََّجَها ؛ وروي مِثْلُ [ هذا ] عن ابن عباس ، ووهب ، والحسن في جماعة . قال المصنِّف : وهذا لا يصح من طريق النقل ، ولا يجوز من حيث المعنى ، لأن الأنبياء منزَّهون عنه . وقد اختلف المحقِّقون في ذَنْبه الذي عُوتب عليه على أربعة أقوال : أحدها : أنه لمَا هَويهَا ، قال لزوجها : تحوَّل لي عنها ، فعُوتب على ذلك . وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : مازاد داوُد على أن قال لصاحب المرأة : أكْفِلْنِيهَا وتحوّلْ لي عنها ؛ ونحو ذلك روي عن ابن مسعود . وقد حكى أبو سليمان الدمشقي أنه بعث إلى أوريا فأقدمه من غَزاته ، فأدناه وأكرمه جدّاً ، إلى أن قال له يوماً : أنْزِلْ لي عن امرأتك ، وانظُر أيَّ امرأة شئتَ في بني إسرائيل أزوِّجكها ، أو أيَّ أَمَةٍ شئتَ أبتاعُها لكَ ، فقال : لا أُريد بامرأتي بديلاً ، فلمّا لم يُجِبْه إِلى ما سأل أمَرَه أن يَرْجِع إلى غَزاته . والثاني : أنه تمنّى تلك المرأة حلالاً ، وحدَّث نفسه بذلك ، فاتفق غزوُ أوريا وهلاكُه من غير أن يسعى في سبب قتله ، ولا في تعريضه للهلاك ، فلمّا بلغة قتلُه ، لم يَجْزَعْ عليه كما جَزِع على غيره مِنْ جُنْده ، ثُمَّ تزوَّج امرأتَه ، فعُوتب على ذلك ، وذُنوبُ الأنبياء عليهم السلام وإن صَغُرَتْ ، فهي عظيمةٌ عند الله عز وجل . والثالث : أنه لمّا وقع بصرُه عليها ، أشبع النَّظر إليها حتى عَلِقَتْ بقلبه . والرابع : أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ، فخطبها داودُ مع عِلْمه بأن أوريا قد خطبها فتزوَّجَها ، فاغتمَّ أوريا ، وعاتب اللهُ تعالى داوَُدَ ، إذْ لم يترُكْها لخاطبها الأوَّل ، واختار القاضي أبو يعلى هذا القول ، واستدل عليه بقوله { وعَزَّني في الخِطاب } قال : فدلَّ هذا على أن الكلام إنما كان بينهما في الخِطْبة ، ولم يكن قد تقدَّم تزوُّج الآخَر ، فعُوتب داوُدُ عليه السلام لشيئين ينبغي للأنبياء التَّنَزُّه عنهم ، : أحدهما : خِطْبته على خِطْبته غيره . والثاني : إِظهار الحِرْص على التزويج مع كثرة نسائه ، ولم يعتقد ذلك معصية ، فعاتبه الله تعالى عليها ؛ قال : فأما مارُوي أنه نظر إِلى المرأة فهَويَها وقدَّم زَوْجَها للقتل ، فإنه وجهٌ لا يجوز على الأنبياء ، لأن الأنبياء لا يأتون المعاصي مع العِلْم بها . قال الزجاج : إنما قال { الخَصْمِ } بلفظ الواحد ، وقال { تَسَوَّرُوا المِحْرابَ } بلفظ الجماعة ، لأن قولك : خصم ، يَصْلحُ للواحد والاثنين والجماعة ، والذكر والأنثى . تقول : هذا خصم وهي خصم ، وهما خصم ، وهم خصم ؛ وإنما يصلح لجميع ذلك لأنه مصدر تقول : خَصَمْتُه أَخْصِمُه خَصْماً . والمحراب هاهنا كالغُرفة ، قال الشاعر : @ رَبَّةُ مِحْرابٍ إِذا جِئْتُها لَمْ ألْقَها أَوْ أرَتَقي سُلَّماً @@ و { تسوّروا } يدل على علوّ . قال المفسرون : كانا مَلَكين ، وقيل : هما جبريل وميكائيل عليهما السلام ، أتياه لينبِّهاه على التوبة ، وإنما قال { تسوَّروا } وهما اثنان ، لأن معنى الجمع ضمُّ شيء إلى شيء ، والاثنان فما فوقهما جماعة . قوله تعالى : { إِذْ دَخَلُوا على داوُدَ } قال الفراء : يجوز أن يكون معنى " تسوَّرُوا " : دَخَلوا ، فيكون تكراراً . ويجوز أن تكون { إذ } بمعنى " لمّا " فيكون المعنى إذ تسوَّروا المحراب لمّا دَخَلوا ، ولمّا تسوَّروا إِذ دخلوا . قوله تعالى : { ففَزع منهم } وذلك أنهما أتيا على غير صفة مجيء الخُصوم ، وفي غير وقت الحُكومة ، ودخلا تَسَوُّراً من غير إذن . وقال أبو الأحوص : دَخَلا عليه وكُلُّ واحد منهما آخذٌ برأس صاحبه . و { خَصْمانِ } مرفوع بإضمار " نَحْنُ " ، قال ابن الأنباري : [ المعنى ] : نحن كخصمين ، ومِثْلُ خصمين ، فسقطت الكاف ، وقام الخصمان مقامها ، كما تقول العرب : عبد الله القمرُ حُسْناً ، وهم يريدون : مِثْل القمر ، قالت هند بنت عتبة ترثي أباها وعمَّها : @ مَنْ حَسَّ لِي الأخَوَيْنِ كالـ غُصْنَيْنِ أَوْ مَنْ راهُما أسَدَيْنِ في عِيلٍ يَحِيدُ الـ قَوْمُ عَنْ عُرْواهُما صَقْرَيْنِ لا يَتَذَلَّلا نِ ولا يُباحُ حِماهُما رُمْحَيْنِ خَطِّيِّيْنِ في كَبِدِ السَّماءِ تَراهُما @@ أرادت : مِثْل أسدين ، ومثل صقرين ، فأسقطت مِثْلاً وأقامت الذي بعده مقامه ، ثم صرف اللهُ عز وجل النون والألف في " بَعْضُنا " إلى " نحن " المضمر ، كما تقول العرب : نحن قوم شَرُف أبونا ، ونحن قوم شَرُف أبوهم . والمعنى واحد . والحق هاهنا : العدل . { ولا تُشْطِطْ } أي : لا تَجُرْ ، يقال : شَطَّ وأَشَطَّ إذا جار . وقرأ ابن أبي عبلة { ولا تَشْطُطْ } بفتح التاء وضم الطاء . قال الفراء : وبعض العرب يقول : شَطَطْتَ عليَّ في السَّوْم ، وأكثر الكلام " أشططتَ " بالألف ، وشَطَّت الدّارُ : تباعدتْ . قوله تعالى : { واهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ } أي : إلى قَصْد الطَّريق ؛ والمعنى : احْمِلْنا على الحق ، فقال داوُد : تَكَلَّما ، فقال أحدُهما : { إنَّ هذا أخي } قال ابن الأنباري : المعنى : قال أحد الخصمين اللَّذين شُبِّه المَلَكان بهما : إنَّ هذا أخي ، فأضمر القول لوضوح معناه { له تِسْعٌ وتِسعونَ نَعْجَةً } قال الزجاج : كُني عن المرأة بالنَّعْجة ، وقال غيره : العرب تشبِّه النِّساء بالنعاج ، وتورِّي عنها بالشاء والبقر . قال ابن قتيبة : ورّى عن ذِكر النساء بذِكر النعاج ، كما قال عنترة : @ ياشاةَ ما قَنْصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ حَرُمَتْ عَلَيَّ ولَيْتَها لَمْ تَحْرُمِ @@ يعرِّض بجارية يقول : أيّ صيد أنتِ لِمَنْ حَلَّ له أن يَصيدَكِ ! فأمّا أنا ، فإنَّ حُرْمَةَ الجوار قد حرَّمْتكِ عَلَيَّ . وإِنما ذَكرَ المَلَكُ هذا العدد لأنه عدد نساء داوُد . قوله تعالى : { وَلِيَ نَعْجَةٌ واحدةٌ } فتح الياء حفص عن عاصم وأسكنها الباقون . { فقال أكْفِلْنِيها } قال ابن قتيبة : أي : ضُمَّها إِليّ واجعلْني كافِلَها . وقال الزجاج : انْزِلْ أنتَ عَنها واجعلْني أنا أَكْفُلُها . قوله تعالى : { وعَزَّني في الخطاب } أي : غَلَبني في القول . وقرأ عمر بن الخطاب ، وأبو رزين [ العقيلي ] ، والضحاك ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : { وعَازَّنِي } بألف ، أي : غالبَنَي . قال ابن مسعود ، وابن عباس في قوله { وعَزَّني في الخطاب } : ما زاد على أن قال : انْزِلْ لي عنها . وروى العوفي عن ابن عباس قال : إن دعوتُ ودعا كان أكثر ، وإن بَطَشْتُ وبَطَشَ كان أَشدَّ مني . فإن قيل : كيف قال المَلَكان هذا ، وليس شيء منه موجوداً عندهما ؟ فالجواب : أن العلماء قالوا : إنما هذا على سبيل المَثَل والتشبيه بقصة داوُد ، وتقدير كلامهما : ما تقولُ إن جاءك خصمان فقالا كذا وكذا ؟ وكان داوُد لا يرى أن عليه تَبِعَةً فيما فَعَلَ فنبَّهه اللهُ بالمَلَكين . وقال ابن قتيبة : هذا مَثَل ضربه اللهُ [ له ] ونبًّهه على خطيئته . وقد ذكرنا آنفاً أن المعنى : نحنُ كخَصْمَين . قوله تعالى : { قال } يعني داود { لقد ظَلَمَكَ بسؤال نَعْجتكَ إِلى نِعاجهِ } قال الفراء : أي : بسؤاله نعجتك ، فإذا ألقيتَ الهاء من السؤال ، أضفتَ الفعل إِلى النَّعْجة ، ومِثْلُه : { لا يَسْأَمُ الإِنسانُ مِنْ دُعَاءِ الخَيْرِ } [ فصلت : 49 ] أي : من دعائه بالخير ، فلمّا ألقى الهاء ، أضاف الفعل إِلى الخير ، وألقى من الخير الباء ، وأنشدوا : @ فَلَسْتُ مُسَلِّماً ما دُمْتُ حَيّاً على زَيْدٍ بتسليمِ الأميرِ @@ أي : بتسليم على الأمير . قوله تعالى : { إلى نِعاجه } أي : لِيَضُمَّها إلى نِعاجه . قال ابن قتيبة : المعنى بسؤال نعجتك مضمومةً إِلى نعاجه فاختُصر . قال : ويقال " إلى " بمعنى " مع " . فإن قيل : كيف حكم داود قبل أن يَسمع كلامَ الآخر ؟ فالجواب : أن الخصم الآخر اعترف ، فحكم عليه باعترافه ، وحذف ذِكر الاعتراف اكتفاءً بفهَم السامع . والعرب تقول : أمرتُك بالتجارة فكسبتَ الأموال ، أي فاتجَّرتَ فكسبتَ . ويدُلُّ عليه قولُ السدي : إِن داوُد قال للخصم الآخر : ما تقول ؟ قال : نعم ، أريد أن آخذها منه فأُكمل بها نعاجي وهو كاره . قال : إِذاً لا ندعُك وإِن رُمْتَ هذا ضربْنا منكَ هذا ويشير إلى أَنْفه وجبهته فقال : أنت ياداوُدُ أَحَقُّ أن يُضرب هذا منكَ حيث لك تسع وتسعون امرأة ، ولم يكن لأوريا إِلا واحدة ، فنظر داوُد فلم ير أحداً فعَرَف ما وقع فيه . قوله تعالى : { وإِنَّ كثيراً من الخُلَطاءِ } يعني الشركاء ، واحدهم : خليط ، وهو المُخالِط في المال . وإِنما قال هذا ، لأنه ظنَّهما شريكين ، { إِلاّ الذين آمنوا } أي : فإنهم لا يَظْلِمون أحداً ، { وقليلٌ ماهم } " ما " زائدة ، والمعنى : وقليل هم . وقيل المعنى : هم قليل ، يعني الصالحين الذين لا يَظلِمونَ . قوله تعالى : { وظَنَّ داوُدُ } أي : أيقن وعَلِم { أنَّما فَتَنَّاه } فيه قولان : أحدهما : اختبرناه . والثاني : ابتليناه بما جرى له من نظره إلى المرأة وافتتانه بها . وقرأ عمر بن الخطاب { أنّما فتَّنَّاهُ } بتشديد التاء والنون جميعاً . وقرأ أنس بن مالك ، وأبو رزين ، والحسن ، وقتادة ، وعليّ بن نصر عن أبي عمرو : { أنَّما فَتَنَاهُ } بتخفيف التاء والنون جميعاً ، يعني المَلَكين . قال أبو علي الفارسي : يريد صَمَدا له . وفي سبب عِلْمه وتنبيهه على ذلك ثلاثة أقوال : أحدها : أن المَلَكين أفصحا له بذلك ، على ماذكرناه عن السدي . والثاني : أنهما عَرَّجا وهما يقولان : قضى الرجلُ على نفسه ، فعَلِم أنه عُني بذلك ، قاله وهب . والثالث : أنه لمَا حكم بينهما ، نظر أحدُهما إِلى صاحبه وضحك ، ثم صَعِدا إِلى السماء وهو ينظُر ، فعلم أن الله تعالى ابتلاه بذلك ، قاله مقاتل . قوله تعالى : { فاستغْفَرَ ربَّه } قال المفسرون : لمّا فطن داوُدُ بذَنْبه خَرّ راكعاً . قال ابن عباس : أي : ساجداً . وعبَر عن السجود بالركوع ، لأنهما بمعنى الانحناء . وقال بعضهم : المعنى : فخَرَّ بعد أن كان راكعاً . فصل واختلف العلماء هل هذه من عزائم السجود ؟ على قولين : أحدهما : ليست من عزائم السجود ، قاله الشافعي . والثاني : أنها من عزائم السجود ، قاله أبو حنيفة . وعن أحمد روايتان . قال المفسرون : فبقي في سجوده أربعين ليلة ، لا يرفع رأسه إلاّ لوقت صلاة مكتوبة أو حاجة لا بُدَّ منها ، ولا يأكل ولا يشرب ، فأكلتِ الأرضُ من جبينه ، ونَبَتَ العُشْبُ من دموعه ، ويقول في سجوده : ربَّ داود زَلَّ داودُ زَلَّة أبعدَ ممّا بين المشرق والمغرب . قال مجاهد : نبت البقلُ من دموعه حتى غطَّى رأسَه ثم نادى : ربِّ قَرِح الجبين وجَمَدت العينُ وداوُدُ لم يَرْجِع إِليه في خطيئته شيء ، فنودي أجائع فتُطْعَم ، أم مريض فتُشْفَى أم مظلومٌ فيُنتصَر لك ؟ فنَحَبَ نَحيباً هاج كلَّ شيء نَبَتَ ، فعند ذلك غفر له . وقال ثابت البناني : اتخذ داوُدُ سبع حشايا من شَعْر وحشاهُنَّ من الرَّماد ، ثم بكى حتى أنفذها دموعاً ، ولم يشرب شراباً إلا ممزوجاً بدموع عينيه . وقال وهب بن منبه : نودي : يا داود ارفع رأسك فإنّا قد غَفَرْنا لكَ ، فرفع رأسه وقد زَمِن وصار مرعشاً . فأمّا قوله : { وأنابَ } فمعناه : رَجَع مِنْ ذَنْبه تائباً إلى ربِّه ، { فَغَفَرْنا له ذلكَ } يعني الذَّنْب { وإِنّ له عِنْدَنا لَزُلْفَى } [ قال ابن قتيبة ] : أي : تقدَّمُ وقُرْبة . قوله تعالى : { وحُسْنَ مَآبٍ } قال مقاتل : حُسْن مَرْجِع ، وهو ما أعدَّ الله له في الجنة . قوله تعالى : { يا داوُُدُ } المعنى : وقلنا له يا داود { إِنَّا جَعَلْناكَ } أي : صيّرْناكَ { خليفةً في الأرض } أي : تُدَبِّرُ أَمْرَ العباد مِنْ قِبَلنا بأمرنا ، فكأنك خليفة عنّا { فاحْكُم بين الناس بالحق } أي : بالعدل { ولا تَتَّبِعِ الهوى } أي : لا تَمِلْ مع ما تشتهي إِذا خالف أَمْرَ الله عز وجل { فيُضِلَّكَ عن سبيل الله } أي : عن دينه { إنَّ الذين يَضِلُّونَ } وقرأ أبو نهيك ، وأبو حيوة ، وابن يعمر : { يُضِلُّونَ } بضم الياء . قوله تعالى : { بما نَسُوا يومَ الحساب } فيه قولان : أحدهما : بما تَرَكُوا العمل ليوم الحساب ، قاله السدي . قال الزجاج : لمّا تركوا العمل لذلك اليوم ، صاروا بمنزلة الناسين . والثاني : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، تقديره : لهم عذاب شديد يومَ الحساب بما نَسُوا أي : تَرَكُوا القضاء بالعدل ، وهو قول عكرمة .