Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 30-44)

Tafsir: Zād al-masīr fī ʿilm at-tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { نِعْمَ العَبْدُ } يعني به سليمان . وفي الأوّاب أقوال قد تقدمت في [ بني إسرائيل : 25 ] ألْيَقُها بهذا المكان أنه رَجّاعٌ بالتَّوبة إِلى الله تعالى ممّا يقع منه من السَّهو والغَفْلة . قوله تعالى : { إِذ ُعِرضَ عليه بالعَشيّ } وهو ما بعد الزَّوال { الصّافناتُ } وهي الخيل . وفي معنى الصّافنات قولان . أحدهما : أنها القائمة على ثلاث قوائم ، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رِجْل ؛ وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد ، وابن زيد ، واختاره الزجاج ، وقال : هذا أَكثرُ قيام الخيل إذا وقفت كأنَّها تراوح بين قوائمها . قال الشاعر : @ أَلِفَ الصُّفُونَ فما يَزالُ كأنَّهُ مِمّا يَقومُ على الثَّلاثِ كَسِيرا @@ والثاني : أنها القائمة ، سواء كانت على ثلاث أو غير ثلاث . قال الفراء : على هذا رأيت العرب وأشعارهم تَدُلُّ على أنه القيام خاصة . وقال ابن قتيبة : الصافن في كلام العرب الواقفُ من الخيلِ وغيرها ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَرَّه أن يقومَ له الرجلُ صُفُوناً ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّار " ، أي : يُديمون القيام له . فأمّا الجِيادُ ، فهي السِّراعُ في الجَرْيِ . وفي سبب عرضها عليه أربعة أقوال : أحدها : أنه عَرَضَها لأنه أراد جهاد عدوٍّ له ، قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه . والثاني : أنها كانت من دوابّ البحر . قال الحسن : بلغني أنها كانت خيلاً خرجتْ من البحر لها أجنحة . وقال إبراهيم التيمي : كانت عشرين فرساً ذات أجنحة . وقال ابن زيد : أخرجتْها له الشياطين من البحر . والثالث : أنه وَرِثَها من أبيه داود عليه السلام ، فعُرِضَتْ عليه ، قاله وهب بن منبّه ومقاتل . والرابع : أنه غزا جيشاً ، فظَفِر به وغنمها ، فدعا بها فعُرضَتْ عليه ، قاله ابن السائب . وفي عددها أربعة أقوال : أحدها : ثلاثة عشر ألفاً ، قاله وهب . والثاني : عشرون ألفاً ، قاله سعيد بن مسروق . والثالث : ألف فرس ، قاله ابن السائب ، ومقاتل . والرابع : عشرون فرساً ، وقد ذكرناه عن إبراهيم التيمي . قال المفسرون : ولم تزل تُعْرَض عليه إِلى أن غابت الشمس ، ففاتته صلاة العصر ، وكان مَهِيباً لا يبتدئه أحد بشيء ، فلم يذكِّروه ، ونسي هو ، فلمّا غابت الشمسُ ذكر الصلاة ، { فقال إِنِّي أَحْبَبْتُ } فتح الياء أهل الحجاز وأبو عمرو { حُبَّ الخَيْرِ } وفيه قولان : أحدهما : أنه المال ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك . والثاني : حُبُّ الخيل ، قاله قتادة ، والسدي . والقولان يرجعان إلى معنى واحد ، لأنه أراد بالخير الخيلَ ، وهي مال . وقال الفراء : العرب تسمِّي الخيل : الخير . قال الزجاج : وقد سمَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زَيْدَ الخيل : زَيْدَ الخير ، ومعنى " أَحَبْبْتُ " آثرتُ حُبَّ الخَيْر على ذِكْر ربِّي ؛ وكذلك قال غير الزجاج . " عن " بمعنى " على " . وقال بعضهم : يحتمل المعنى فشَغَلَني عن ذِكْر ربِّي . قال أبو عبيدة : ومعنى [ الكلام ] أَحْبَبْتُ حُبّاً ، ثم أضاف الحُبَّ إلى الخير . وقال ابن قتيبة : سمَّى الخَيْل خَيْراً ، لما فيها من الخَيْر . والمفسرون على أن المراد بذِكْر ربِّه ، صلاةُ العصر ، قاله عليّ ، وابن مسعود ، وقتادة في آخرين . وقال الزجاج : لا أدري هل كانت صلاةُ العصر مفروضةً أم لا ! ، إلا أنّ اعتراضه الخيل شَغَلَه عن وقتٍ كان يذكُر الله فيه { حتى توارت بالحجاب } قال المصنف : وأهل اللغة يقولون : يعني الشمس ، ولم يَْرِ لها ذِكْر ولا أحسبهم أعطَوا في هذا الفِكْر حَقَّه ، لأن في الآية دليلاً على الشمس ، وهو قوله { بالعشيِّ } ومعناه : عُرِضَ عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب ، ولا يجوز الإِضمار ، إلا أن يجريَ ذِكْر أو دليل ذِكْر فيكون بمنزلة الذِّكْر ، وأما الحِجَاب ، فهو ما يحجُبها عن الأبصار . قوله تعالى : { رُدُّها عَلَيَّ } قال المفسرون : لمّا شغله عَرْضُ الخَيْل عليه عن الصلاة ، فصلاّها بعد خروج وقتها ، اغتمَّ وغضب ، وقال : " رُدُّوها عَلَيَّ " ، يعني : أعيدوا الخَيْل عَلَيَّ { فطَفِقَ } قال ابن قتيبة : أي : أقبل { مَسْحاً } قال الأخفش : أي : يَمْسَحُ مَسْحاً . فأمّا السُّوق ، فجمع ساق ، مثل دُور ودار ، وهمز السُّؤق ابن كثير ، قال أبو علي : وغيرُ الهمز أحسنُ منه . وقرأ أبو عمران الجوني ، وابن محيصن : " بالسُّؤوق " مثل الرُّؤوس ، وفي المراد بالمسح هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها : أنه ضربها بالسيف ، " وروى أُبيُّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { فطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوق والأعناق } قال : « بالسيف » " وروى مجاهد عن ابن عباس قال : مسح أعناقها وسوقها بالسيف . وقال الحسن ، وقتادة ، وابن السائب : قطع أعناقها وسُوقها ، وهذا اختيار السدي ، ومقاتل ، والفراء ، وأبي عبيدة ، والزجاج ، وابن قتيبة ، وأبي سليمان الدمشقي ، والجمهور . والثاني : أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حُبّاً لها ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال مجاهد : مسحها بيده ، وهذا اختيار ابن جرير والقاضي أبي يعلى . والثالث : أنه كَوَى سُوقها وأعناقها وحبسها في سبيل الله تعالى ، حكاه الثعلبي . والمفسِّرون : على القول الأول . وقد اعترضوا [ على ] القول الثاني ، وقالوا : أيّ مناسبة بين شغْلِها إيّاه عن الصلاة وبين مَسْح أعرافها حُبّاً لها ؟ ! ، ولا أعلم قوله : " حُبّاً لها " يثبت عن ابن عباس . وحملوا قول مجاهد " مَسَحها بيده " أي تولىَّ ضَرْبَ أعناقها . فإن قيل : فالقول الأول يفسُد بأنه لا ذَنْب للحيوان ، فكيف وجّه العقوبة إليه ؟ وقصد التَّشفِّي بقتله ، وهذا يشبه فِعْلَ الجبّارِين ، لا فِعْلَ الأنبياء ؟ فالجواب : أنه لم يكن لِيَفْعَلَ ذلك إلا وقد أُبيح له ، وجائز أن يُباح له ما يُمنَع منه في شرعنا ، على أنه إذا ذبحها كانت قرباناً ، وأكلُ لحمها جائز ، فما وقع تفريط . قال وهب بن منبّه : لمّا ضَرَبَ سوقها وأعناقها ، شكر اللهُ تعالى له ذلك ، فسخَّر له الرِّيح مكانها ، وهي أحْسَنُ في المنظر ، وأَسْرَعُ في السَّيْر ، وأَعْجَبُ في الأُحْدُوثة . قوله تعالى : { ولقد فَتَنّا سُلَيْمانَ } أي : ابتليناه وامْتَحَنّاه بِسَلْبِ مُلْكه { وأَلْقَيْنا على كُرْسِيِّه } أي : على سريره { جَسَداً } وفيه قولان : أحدهما : أنه شيطان ، قاله ابن عباس ، والجمهور . وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة أقوال : أحدها : صخر ، رواه العوفي عن ابن عباس . وذكر العلماء أنه كان شيطاناً مَرِيداً لم يُسَخَّر لسليمان . والثاني : آصف ، قاله مجاهد ، إلاّ أنه ليس بالمُؤْمِن الذي عنده الاسم الأعظم ، إِلاّ أنّ بعض ناقِلِي التفسير حكى أنه آصف الذي عنده عِلْمٌ من الكتاب ، وأنه لمّا فُتن سليمان سقط الخاتم من يده فلم يثبُت ، فقال آصف : أنا أقوم مقامَك إِلى أن يتوبَ الله عليك ، فقام في مقامه ، وسار بالسِّيرة الجميلة ، وهذا لا يَصِحُّ ، ولا ذكره مَنْ يوثَق به . والثالث : حبقيق ، قاله السدي ، والمعنى : أجلسْنا على كرسيِّه في مُلْكه شيطاناً . { ثم أناب } أي : رَجَع . وفيما رجع إِليه قولان : أحدهما : تاب من ذَنْبه ، قاله قتادة . والثاني : رَجَع إَلى مُلْكه ، قاله الضحاك . وفي سبب ابتلاء سليمان بهذا خمسة أقوال : أحدها : أنه كانت له امرأة يقال لها : جرادة ، وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة ، فقضى بينهم بالحق ، إلا أنه وَدَّ أن الحق كان لأهلها ، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحداً ، وأوحى اللهُ تعالى إِليه أنه سيُصيبك بلاءٌ ، فكان لا يدري أيأتيه من السماء ، أو من الأرض . رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني : أن زوجته جرادة كانت آثَرَ النِّساءِ عنده ، فقالت له يوماً : إن أخي بينه وبين فلان خصومة ، وإنِّي أُحِبُ أن تَقْضِيَ له ، فقال : نعم ، ولم يفعل فابتُليَ لأجل ما قال ، قاله السدي . والثالث : أن زوجته جرادة كان قد سباها في غَزاةٍ له ، وكانت بنتَ مَلِك فأسلمتْ ، وكانت تبكي عنده بالليل والنهار ، فسألها عن حالها ، فقالت : أذْكُر أبي وما كنتُ فيه ، فلو أنك أَمَرْتََ الشياطين فصوروا صورته في داري فأتسلىَّ بها ، [ ففعل ] ، فكانت إذا خرج سليمان ، تسجد له هي وولائدها [ أربعين صباحاً ، فلمّا عَلِم سليمان ، كسر تلك الصورة ، وعاقب المرأة وولائدها ] ثم تضرَّع إِلى الله تعالى مستغفراً ممّا كان في داره ، فسُلِّط الشيطانُ على خاتمه ، [ هذا قول وهب بن منبّه . والرابع : أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام ، فأوحى اللهُ تعالى إِليه : ياسليمان ، احتجبتَ عن الناس ثلاثةَ أيّام ، فلم تنظرُ في أُمور عبادي ولم تُنْصِف مظلوماً من ظالم ؟ ! فسلّط الشيطان على خاتمه ] ، قاله سعيد ابن المسيب . والخامس : أنه قارَبَ امرأةً من نسائه في الحيض أو غيره ، قاله الحسن . والقول الثاني : أن المراد بالجسد الذي أُلقي على كرسيّه أنه وُلد [ له ولد ] فاجتمعت الشياطين ، فقال بعضهم لبعض : إِن عاش له ولد ، لم ننفكَّ من البلاء ، فسبيلُنا أن نقتُلَ ولده أو نَخْبِلَه ، فعَلِم بذلك سليمان ، [ فأمر السَّحاب ] فحمله ، وعدا ابنه في السحاب خوفاً من الشياطين ، فعاتبه الله تعالى على تخوُّفه من الشياطين ، ومات الولد فأُلقي على كرسيه ميتاً جسداً . قاله الشعبي . والمفسرون على القول الأول . ونحن نذكُر قصة ابتلائه على قول الجمهور . الإِشارة إلى ذلك : اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين : أحدهما : أنه كان جالساً على شاطىء البحر ، فوقع منه في البحر ، قاله عليّ رضي الله عنه . والثاني : أن شيطاناً أخذه ، وفي كيفية ذلك أربعة أقوال . أحدها : أنه دخل ذات يوم الحمّام ووضع الخاتم تحت فِراشه ، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر ، وجعل الشيطانُ يقول : أنا نبيُّ الله ، قاله سعيد ابن المسيّب . والثاني : أن سليمان قال للشيطان : كيف تَفْتِنون النّاسَ ؟ قال : أَرِني خاتمك أُخْبِرْكَ ، فأعطاه إيّاه ، فنبذه في البحر ، فذهب مُلك سليمان ، وقعد الشيطان على كرسيه ، قاله مجاهد . والثالث : أنه دخل الحمّام ، ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه ، فأتاها الشيطان فتمثَّل لها في صورة سليمان ، وأخذ الخاتم منها ، فلمّا خرج سليمانُ ، طلبه منها ، فقالت : قد دفعتُه إِليك ، فهرب سليمان ، وجاء الشيطان فجلس على مُلكه . قاله سعيد بن جبير . والرابع : أنه دخل الحمّام وأعطى الشيطانَ خاتمه فألقاه الشيطان في البحر ، فذهب مُلك سليمان ، وأُلقي على الشيطان شِبْهُه ، قاله قتادة . فأمّا قِصَّةُ الشيطان ، فذكر أكثر المفسرين أنه لمّا أخذ الخاتم رمى به في البحر ، وأُلقي عليه شِبْهُ سليمان ، فجلس على كرسيّه ، وتحكَّم في سُلطانه . وقال السدي : لم يُلْقِه في البحر حتى فرّ من مكان سليمان . وهل كان يأتي [ نساءَ ] سليمان ؟ فيه قولان : أحدهما : أنه لم يَقْدِر عليهنّ ، قاله الحسن وقتادة . والثاني : أنه كان يأتيهنّ في زمن الحيض فأَنْكَرْنَه ، قاله سعيد ابن المسيب . والأول أصحّ ، قالوا : وكان يقضي بقضايا فاسدة ، ويحكُم بما لا يجوز ، فأنكره بنو إسرائيل ، فقال بعضُهم لبعض : إما أن تكونوا قد هَلَكتم أنتم ، وإمّا أن يكون مَلكُكم قد هَلَكَ ، فاذْهَبوا إِلى نسائه فاسألوهُنَّ ، فذهبوا ، فقُلْنَ : إِنّا واللهِ قد أَنْكَرْنا ذلك ؛ فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء . وفي كيفيَّة بُعْدِ الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال : أحدها : أن سليمان وجد خاتمه فتختَّم به ، ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان ، قاله سعيد بن المسيّب . والثاني : أن سليمان لمّا رَجَع إلى مُلْكه وجاءته الرِّيح والطَّير والشياطين ، فرّ الشيطان حتى دخل البحر ، قاله مجاهد . والثالث : أنه لمّا مضى أربعون يوماً ، طار الشيطان من مجلسه ، قاله وهب . والرابع : أن بني إسرائيل لمّا أنكروه ، أتوه فأحدقوا به ، ثم نَشَروا التَّوراة فقرؤوا ، فطار بين أيديهم ، حتى ذهب إِلى البحر ، فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت ، قاله السدي . وفي قدر مكث الشيطان قولان : أحدهما : أربعون يوماً ، قاله الأكثرون . والثاني : أربعة عشر يوماً ، حكاه الثعلبي . وأما قصة سليمان عليه السلام ، فإنه لما سُلب خاتمه ، ذهب ملكه ، فانطلق هارباً في الأرض . قال مجاهد : كان يَسْتَطْعِمُ فلا يُطْعَم ، فيقول : لو عَرَفْتُموني أعطيتُموني ، أنا سليمان ، فيطردونه ، حتى أعطته امرأةٌ حوتاً ، فوجد خاتمه في بطن الحوت . وقال سعيد بن جبير : انطلق سليمان حتى أتى ساحل البحر ، فوجد صيّادين قد صادوا سمكاً كثيرا ، وقد أنتن عليهم بعضُه ، فأتاهم يَسْتَطعِم فقالوا : اذهبْ إلى تلك الحيتان فخُذْ منها ، فقال : لا ، أطْعِموني من هذا ، فأبَوا عليه ، فقال : أّطْعِموني فإنِّي سليمان ، فوثب إِليه رجُلٌ منهم فضربه بالعصا غَضَباً لسليمان ، فأتى تلك الحيتان فأخذ منها شيئاً ، فشّقَّ بطنَ حوت ، فإذا هو بالخاتم . وقال الحسن : ذُكِر لي أنه لم يُؤْوِه أَحدٌ من الناس ، ولم يُعْرَف أربعينَ ليلةً ، وكان يأوي إِلى امرأة مسكينة ، فبينا هو يوما على شطّ نهر ، وجد سمكة ، فأتى بها المرأة فشقتَّها فإذا بالخاتم . وقال الضحاك : اشترى سمكة من امرأة فشقَّ بطنَها فوجد خاتمه . وفي المدة التي سُلب فيها الملك قولان : أحدهما : أربعون ليلة ، كما ذكرنا عن الحسن . والثاني : خمسون ليلة ، قاله سعيد بن جبير . قال المفسرون : فلمّا جعل الخاتم في يده ، ردَّ اللهُ عليه بهاءَه ومُلْكه ، فأظلَّته الطَّير ، وأقبل لا يستقبله جنيّ ولا طائر ولا حجر ولا شجر إِلا سجد له ، حتى انتهى إِلى منزله . قال السدي : ثم أرسل إلى الشيطان ، فجيء به ، فأَمر به ، فجُعل في صندوق من حديد ، ثم أطبق عليه وأقفل ، وختم عليه بخاتمه ، ثم أمر به فأُلقي في البحر ، فهو فيه إلى أن تقوم الساعة . وقال وهب : جابَ صخرةً فأدخله فيها ثم ، أوثقها بالحديد والرصاص ، ثم قذفه في البحر . قوله تعالى : { وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } فتح الياء نافع ، وأبو عمرو . وفيه قولان : أحدهما : لا يكون لأحد بعدي ، قاله مقاتل ، وأبو عبيدة . وقد أخرج البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِنَّ عِفْرياً من الجِنّ تفلَّت عليّ البارحةَ ليَقْطَعَ عَلَيَّ صلاتي ، فأمكنني اللهُ منه ، فأخذتُه ، فأردتُ أن أَربطه إِلى سارية من سواري المسجد حتى تنظُروا إِليه كلُّكم ، فذكرتُ دعوة أخي سليمان { هَبْ لي مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } فرددتُه خاسئاً " والثاني : لا ينبغي لأحد أن يسلبُه مِنِّي في حياتي ، كما فعل الشيطان الذي جلس على كرسيه ، قاله الحسن ، وقتادة . وإنما طلب هذا المُلك ، ليَعلم أنه قد غُفر له ، ويعرف منزلته بإجابة دعوته ، قاله الضحاك . ولم يكن في مُلْكه حين دعا بهذا الرّيحُ ولا الشياطينُ { فسَخَّرْنا له الرِّيحَ } وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو جعفر ، وأبو المتوكل : " الرِّياح " على الجمع . قوله تعالى : { رُخاءً } فيه ثلاثة أقوال : أحدها : مُطيعة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والضحاك . والثاني : أنها الطيِّبة ، قاله مجاهد . والثالث : اللَّيِّنة ، مأخوذ من الرَّخاوة ، قاله اللُّغويُّون . فإن قيل : كيف وصفها بهذا بعد أن وصفها في سورة [ الأنبياء : 81 ] بأنها عاصفة ؟ فالجواب : أن المفسرين قالوا : كان يأمُر العاصفَ تارةً ويأمُر الرُّخاءَ أُخرى . وقال ابن قتيبة : كأنَّها كانت تشتدُّ إذا أراد ، وتَلَينَ إذا أراد . قوله تعالى : { حيثُ أصابَ } أي : حيث قصد وأراد . قال الأصمعي : تقول العرب : أصابَ فلانٌ الصَّوابَ فأَخطأَ الجوابَ ، أي : أراد الصَّوابَ . قوله تعالى : { والشياطينَ } أي : وسخَّرْنا له الشياطينَ { كُلَّ بَنّاءٍ } يبنون له ما يشاء { وغَوّاصٍ } يغوصون له في البحار فيَستخرِجون الدُّرَّ ، { وآخَرِينَ } أي : وسخَّرْنا له آخَرِين ، وهم مَرَدَةُ الشياطين ، سخَّرهم له حتى قَرَّنهم في الأصفاد لِكُفرهم . قال مقاتل : أَوثَقَهم في الحديد . وقد شرحنا معنى { مُقَرَّنِينَ في الأصفاد } في سورة نبي الله إبراهيم عليه السلام [ إبراهيم : 49 ] { هذا عطاؤنا } المعنى : قُلنا له : هذا عطاؤنا . وفي المشار إليه قولان : أحدهما : أنه جميع ما أُعطي ، { فامْنُنْ أو أَمْسِكْ } أي : أَعْطِ مَنْ شئتَ من المال ، وامْنَعْ مَنْ شئتَ . والمَنَّ : الإِحسان إِلى من لا يطلب ثوابه . والثاني : أنه إِشارة إلى الشياطين المسخَّرِين له ؛ فالمعنى : فامْنُنْ على مَنْ شئتَ بإطلاقه ، وأَمْسِكْ مَنْ شئتَ منهم ، وقد روي معنى القولين عن ابن عباس . قوله تعالى : { بغير حساب } قال الحسن : لا تَبِعَةَ عليك في الدُّنيا ولا في الآخرة . وقال سعيد بن جبير : ليس عليك حسابٌ يومَ القيامة . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : هذا عطاؤنا بغير حساب فامْنُنْ أو أمْسِكْ . وما بعد هذا قد سبق تفسيره [ سبأ : 37 ] [ الرعد : 29 ] [ الأنبياء : 83 ] إِلى قوله : { مَسَّنِيَ الشَّيطانُ } وذلك أن الشيطان سُلِّط عليه ، فأضاف ما أصابه إليه . قوله تعالى : { بِنُصْبٍ } قرأ الأكثرون بضم النون وسكون الصاد ؛ وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة ، وابن السميفع ، والجحدري ، ويعقوب : بفتحهما . وهل بينهما فرق ؟ فيه قولان : أحدهما : أنهما سواء . قال الفراء : هما كالرُّشْد والرَّشَد والعُدْم ، والعَدَم ، والحُزْن والحَزَن ؛ وكذلك قال ابن قتيبة والزجاج . قال المفسرون : والمراد بالنصب : الضُّرُ الذي أصابه . والثاني : أن النُّصْب بتسكين الصاد : الشرُّ ، وبتحريكها الإِعياء ، قاله أبو عبيدة . وقرأت عائشة ، ومجاهد ، وأبو عمران ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو عمارة عن حفص : { بنُصُب } بضم النون والصاد جميعاً . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو الجوزاء ، وهبيرة عن حفص : { بنَصْب } بفتح النون وسكون الصاد . وفي المراد بالعذاب قولان : أحدهما : أنه العذاب الذي أصاب جسده . والثاني : أنه أخْذ ماله وولده . قوله تعالى : { أُرْكُضْ } أي : اضْرِب الأرضَ { برِجْلِكَ } ومنه : رَكَضْتُ الفَرَس فرَكَضَ فنبعتْ عَيْنُ ماءٍ ، فذلك قوله عز وجل : { هذا مُغْتَسَلٌ باردٌ وشرابٌ } . قال ابن قتيبة : المُغْتَسَلُ : الماءُ ، وهو الغسول أيضاً . قال الحسن : رَكَضَ برِجله فنبعتْ عَيْنٌ [ فاغتَسلَ منها ، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعاً ، ثم رَكَضَ برِجله فنبعتْ عَيْنٌ ] فشَرِب منها ؛ وعلى هذا جمهور العلماء أنه رَكَضَ ركضتين فنبعتْ له عينان ، فاغتسل من واحدة وشرب من الأُخرى . قوله تعالى : { وخُذْ بيدك ضِغْثاً } كان قد حَلَفَ لئن شفاه الله لَيَجْلِدَنَّ زوجتَه مائةَ جَلْدة . وفي سبب هذه اليمين ثلاثة أقوال : أحدها : أن إٍبليس جلس في طريق زوجة أيُّوبَ كأنه طبيب ، فقالت له : يا عبد الله إنَّ هاهنا إِنساناً مبتلىً ، فهل لكَ أن تداويَه ؟ قال : نعم ، إِن شاء شفيتُه على أن يقول إٍذا بَرَأَ : أنت شفيتَني ، فجاءت فأخبرتْه فقال : ذاك الشيطان ، للهِ عَلَيَّ إن شفاني أن أجْلِدَكِ مائةَ جَلْدة . رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس . والثاني : أن إِبليس لَقِيَها فقال : إِنِّي أنا الذي فعلت بأيوبَ مابه ، وأنا آله الأرض ، وما أخذتُه منه فهو بيدي ، فانطلِقي أًريكِ ، فمشى بها غيرَ بعيدٍ ، ثم سَحَر بَصَرَها ، فأراها وادياً عميقاً فيه أهلُها وولدُها ومالُها ، فأتت أيُّوبَ فأخبرتْه فقال : ذاكَ الشيطان ، ويحكِ كيفَ وعَى قولَه سَمْعُكِ ؟ واللهِ لئن شفاني اللهُ عز وجل لأَجْلِدَنَّكِ مائةً . قاله وهب بن منبّه . والثالث : أن إِبليس جاء إِلى زوجته بسخلة ، فقال : لِيَذْبَحْ لي هذه وقد بَرَأَ ، فأخبرتْه فحَلَفَ لَيَجْلِدَنَّها ، وقد ذكرنا هذا القول في سورة [ الأنبياء : 83 ] عن الحسن . فأمّا الضِّغْث فقال الفراء : هو كُلُّ ما جمعتَه من شيءٍ مثل الحِزْمة الرَّطْبة قال : وما قام على ساق واستطال ثم جمعتَه فهو ضِغْث . وقال ابن قتيبة : هو الحُزْمَةُ من الخِلال والعيدان . قال الزجاج : هو الحُزْمَةُ من الحشيش والرَّيْحان وما أشبههه . قال المفسرون : جزى اللهُ زوجتَه بحُسْن صبرها أن أفتاه في ضربها ، فسهّل الأمر ، فجمع لها مائة عود ، وقيل : مائة سنبلة . وقيل : كانت أَسَلاً . وقيل : من الإِذْخرِ . وقيل : كانت شماريخ ، فضربها بها ضربةً واحدةً ولم يَحْنَثْ في يمنيه . وهل ذلك خاصٌّ له ، أم لا ؟ فيه قولان : أحدهما : أنه عامٌّ وبه قال ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح [ وابن أبي ليلى ] . والثاني : أنه خاصٌّ لأيوب ، قاله مجاهد . فصل وقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يَضْرِبَ عبده عشرة أسواط فجمعها كلَّها وضربه بها ضربة واحدة ، فقال مالك ، والليث بن سعد : لا يَبَرُّ ، وبه قال أصحابنا . وقال أبو حنيفة والشافعي : إذا أصابه في الضربة الواحدة كلُّ واحدٍ منها ، فقد بَرَّ ، واحتجوا بعموم قصة أيُّوب عليه الصلاة والسلام . قوله تعالى : { إِنّا وَجَدْناه صابراً } أي : على البلاء الذي ابتليناه به .