Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 73-81)
Tafsir: Madārik at-tanzīl wa-ḥaqāʾiq at-taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَـٰهِدِ ٱلْكُفَّـٰرَ } بالسيف { وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ } بالحجة { وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ } في الجهادين جميعاً ولا تحابهم ، وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } جهنم . أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه . منهم الجلاس بن سويد فقال : والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لأخواننا الذين خلّفناهم وهم سادتنا فنحن شر من الحمير . فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس : أجل والله إن محمداً صادق وأنت شر من الحمار . وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضر فحلف بالله ما قال ، فرفع عامر يده فقال : اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزل { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ } يعني إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير ، أو هي استهزاؤهم فقال الجلاس : يا رسول الله والله لقد قلته وصدق عامر فتاب الجلاس وحسنت توبته { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَـٰمِهِمْ } وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام ، وفيه دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد لأنه قال { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَـٰمِهِمْ } { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } من قتل محمد عليه السلام أو قتل عامر لرده على الجلاس . وقيل : أرادوا أن يتوجوا ابن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا نَقَمُواْ } وما أنكروا وما عابوا { إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة ، فآثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى { فَإِن يَتُوبُواْ } عن النفاق { يَكُ } التوب { خَيْراً لَّهُمْ } وهي الآية التي تاب عندها الجلاس { وَإِن يَتَوَلَّوْا } يصروا على النفاق { يُعَذّبْهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلأخِرَةِ } بالقتل والنار { وَمَا لَهُمْ فِى ٱلأرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } ينجيهم من العذاب . { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـٰهَدَ ٱللَّهَ } روي أن ثعلبة بن حاطب قال : يا رسول الله ادع الله يرزقني مالاً فقال عليه السلام : " يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " فراجعه وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه . فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل وادياً وانقطع عن الجمعة والجماعة ، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : كثر ماله حتى لا يسعه وادٍ فقال : " يا ويح ثعلبة " فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ، ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال : ما هذه إلا جزية وقال : ارجعا حتى أرى رأيي ، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه : « يا ويح ثعلبة » مرتين ، فنزلت فجاء ثعلبة بالصدقة فقال : إن الله منعني أن أقبل منك فجعل التراب على رأسه ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ، وجاء بها إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها ، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه { لَئِنْ ءاتَـٰنَا مِن فَضْلِهِ } أي المال { لَنَصَّدَّقَنَّ } لنخرجن الصدقة والأصل « لنتصدقن » ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } بإخراج الصدقة { فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ } أعطاهم الله المال ونالوا مناهم { بَخِلُواْ بِهِ } منعوا حق الله ولم يفوا بالعهد { وَتَوَلَّواْ } عن طاعة الله { وَّهُم مُّعْرِضُونَ } مصرون على الإعراض . { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ } فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم لأنه كان سبباً فيه { إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } أي جزاء فعلهم وهو يوم القيامة { بِمَا أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين ، ومنه جعل خلف الوعد ثلث النفاق . { أَلَمْ يَعْلَمُواْ } يعني المنافقين { أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ } ما أسروه من النفاق بالعزم على إخلاف ما وعدوه { وَنَجْوٰهُم } وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها { وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ } فلا يخفى عليه شيء { ٱلَّذِينَ } محله النصب أو الرفع على الذم ، أو الجر على البدل من الضمير في { سِرَّهُمْ وَنَجْوٰهُم } { يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ } يعيبون المطوعين المتبرعين { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَـٰتِ } متعلق بـ { يَلْمِزُونَ } . رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال : كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت أربعة لعيالي فقال عليه السلام : " بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت " فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً ، وتصدق عاصم بمائة وسق من تمر { وَٱلَّذِينَ } عطف على { ٱلْمُطَّوّعِينَ } { لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } طاقتهم . وعن نافع { جَهْدَهُمْ } وهما واحد . وقيل : الجهد الطاقة والجهد المشقة وجاء أبو عقيل بصاعٍ من تمر فقال : بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعاً لعيالي ، وجئت بصاع فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء ، وأما صاع أبي عقيل فالله غني عنه { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } فيهزءون { سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ } جازاهم على سخريتهم وهو خبر غير دعاء { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مؤلم . ولما سأل عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبيه في مرضه نزل { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وقد مر أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير وليس على التحديد والغاية ، إذ لو استغفر لهم مدة حياته لن يغفر لهم لأنهم كفار والله لا يغفر لمن كفر به ، والمعنى وإن بالغت في الاستغفار فلن يغفر الله لهم . وقد وردت الأخبار بذكر السبعين وكلها تدل على الكثرة لا على التحديد والغاية ، ووجه تخصيص السبعين من بين سائر الأعداد أن العدد قليل وكثير ، فالقليل ما دون الثلاث ، والكثير الثلاث فما فوقها ، وأدنى الكثير الثلاث وليس لأقصاه غاية . والعدد أيضاً نوعان : شفع ووتر ، وأول الإشفاع اثنان ، وأول الأوتار ثلاثة ، والواحد ليس بعدد ، والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين لأن فيها أوتاراً ثلاثة وأشفاعاً ثلاثة ، والعشرة كمال الحساب لأن ما جاوز العشرة فهو إضافة الآحاد إلى العشرة كقولك « اثنا عشر وثلاثة عشرة » إلى « عشرين » ، والعشرون تكرير العشرة مرتين ، والثلاثون تكريرها ثلاث مرات وكذلك إلى مائة ، فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه ، وكمال الحساب والكثرة منه ، فصار السبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه ولا غاية لأقصاه فجاز أن يكون تخصيص السبعين لهذا المعنى والله أعلم { ذٰلِكَ } إشارة إلى اليأس من المغفرة { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } ولا غفران لكافرين { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } الخارجين عن الإيمان ما داموا مختارين للكفر والطغيان { فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ } المنافقون الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهم وخلّفهم بالمدينة في غزوة تبوك ، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان { بِمَقْعَدِهِمْ } بقعودهم عن الغزو { خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ } مخالفة له وهو مفعول له ، أو حال أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له { وَكَرِهُواْ أَن يُجَـٰهِدُواْ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي لم يفعلوا ما فعله المؤمنون من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله ، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرّ } قال بعضهم لبعض أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } استجهال لهم لأن من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل .