Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 11-17)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سلموا لهم في أنهم يماثلونهم في البشرية وحدها ، وأما ما سوى ذلك من الأوصاف التي اختصوا بها ؛ فلم يكونوا مثلهم ، ولم يذكروا ما هم عليه من الوصف الذي تميزوا به تواضعاً منهم ، ونسبة ذلك إلى الله . ولم يصرحوا بمنّ الله عليهم وحدهم ، ولكن أبرزوا ذلك في عموم من يشاء من عباده . والمعنى : يمن بالنبوة على من يشاء تنبئته . ومعنى بإذن الله : بتسويغه وإرادته ، أي الآية التي اقترحتموها ليس لنا الإتيان بها ، ولا هي في استطاعتنا ، ولذلك كان التركيب : وما كان لنا ، وإنما ذلك أمر متعلق بالمشيئة . فليتوكل أمر منهم للمؤمنين بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً وأمروها به كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم ، وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قولهم وما لنا أن لا نتوكل على الله ومعناه : وأي عذر لنا في أنْ لا نتوكل على الله وقد هدانا ، فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه ، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يوجب عليه سلوكه في الدين . والأمر الأول وهو قوله : فليتوكل المؤمنون لاستحداث التوكل ، والثاني للثبات على ما استحدثوا من توكيلهم . ولنصبرن جواب قسم ، ويدل على سبق ما يجب فيه الصبر وهو الأذى . وما مصدرية ، وجوزوا أن يكون بمعنى الذي . والضمير محذوف أي : ما آذيتموناه وكان أصله به ، فهل حذف به أو الباء فوصل الفعل إلى الضمير قولان ؟ وقرأ الحسن : بكسر لام الأمر في ليتوكل وهو الأصل ، وأو لأحد الأمرين أقسموا على أنه لا بد من إخراجهم ، أو عودهم في ملتهم كأنهم قالوا : ليكونن أحد هذين . وتقدير أو هنا بمعنى حتى ، أو بمعنى إلا أن قول من لم ينعم النظر في ما بعدها ، لأنه لا يصح تركيب حتى ، ولا تركيب إلا أن مع قوله : لتعودن بخلاف لألزمنك ، أو تقضيني حقي والعود هنا بمعنى الصيرورة . أو يكون خطاباً للرسل ومن آمنوا بهم . وغلب حكم من آمنوا بهم لأنهم كانوا قبل ذلك في ملتهم ، فيصح إبقاء لتعودن على المفهوم منها أولاً إذ سبق كونهم كانوا في ملتهم ، وأما الرسل فلم يكونوا في ملتهم قط . أو يكون المعنى في عودهم إلى ملتهم سكوتهم عنهم ، وكونهم إغفالاً عنهم لا يطالبونهم بالإيمان بالله وما جاءت به الرسل . وقرأ أبو حيوة : ليهلكن الظالمين وليسكننكم ، بياء الغيبة اعتباراً بقوله : فأوحى إليهم ربهم ، إذ لفظه لفظ الغائب . وجاء ولنسكننكم بضمير الخطاب تشريفاً لهم بالخطاب ، ولم يأت بضمير الغيبة كما في قوله : فأوحى إليهم ربهم . ولما أقسموا بهم على إخراج الرسل والعودة في ملتهم ، أقسم تعالى على إهلاكهم . وأي إخراج أعظم من الإهلاك ، بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبداً ، وعلى إسكان الرسل ومن آمن بهم وذرياتهم أرض أولئك المقسمين على إخراج الرسل . قال ابن عطية : وخص الظالمين من الذين كفروا ، إذ جائز أنْ يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس ، وإنما توعد لإهلاك من خلص للظلم . وقال غيره : أراد بالظالمين المشركين ، قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] والإشارة بذلك إلى توريث الأرض الأنبياء ومن آمن بهم بعد إهلاك الظالمين كقوله تعالى : { والعاقبة للمتقين } [ الأعراف : 128 ] ومقام يحتمل المصدر والمكان . فقال الفراء : مقامي مصدر أضيف إلى الفاعل أي : قيامي عليه بالحفظ لأعماله ، ومراقبتي إياه لقوله : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } [ الرعد : 33 ] وقال الزجاج : مكان وقوفه بين يدي للحساب ، وهو موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة كقوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } [ الرحمن : 46 ] وعلى إقحام المقام أي لمن خافني . والظاهر أن الضمير في واستفتحوا عائد على الأنبياء : أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } [ الأنفال : 19 ] ويجوز أن يكون الفتاحة وهي الحكومة ، أي : استحكموا الله طلبوا منه القضاء بينهم . واستنصار الرسل في القرآن كثير كقول نوح : { فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجني } [ الشعراء : 118 ] وقول لوط : { رب نجني وأهلي مما يعملون } [ الشعراء : 169 ] وقول شعيب : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } [ الأعراف : 89 ] وقول موسى : { ربنا إنك آتيت فرعون } [ يونس : 88 ] الآية . وقول ابن زيد : الضمير عائد على الكفار أي : واستفتح الكفار على نحو ما قالت قريش : { عجِّل لنا قِطَّنَا } [ ص : 16 ] وقول أبي جهل : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة . وكأنهم لما قوي تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة ، ظنوا أن ما جاؤوا به باطل فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح : { فأتنا بما تعدنا } [ الأعراف : 70 ] وقوم شعيب : { فأسقط علينا كسفاً } [ الشعراء : 187 ] وعاد : { وما نحن بمعذبين } [ الشعراء : 138 ] وبعض قريش : { فأمطر علينا حجارة } [ الأنفال : 32 ] وقيل : الضمير عائد على الفريقين : الأنبياء ، ومكذبيهم ، لأنهم كانوا كلهم سألوا أن ينصر المحق ويبطل المبطل . ويقوي عود الضمير على الرسل خاصة قراءة ابن عباس ، ومجاهد ، وابن محيصن : واستفتحوا بكسر التاء ، أمراً للرسل معطوفاً على ليهلكن أي : أوحى إليهم ربهم وقال لهم : ليهلكن ، وقال لهم : استفتحوا أي : اطلبوا النصر وسلوه من ربكم . وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا ، والفتح المطر في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة الرسول فلم يسقوا ، فذكر سبحانه ذلك ، وأنه خيّب رجاء كل جبار عنيد ، وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر وهو صديد أهل النار . واستفتحوا على هذا التفسير كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم انتهى . وخاب معطوف على محذوف تقديره : فنصروا وظفروا . وخاب كل جبار عنيد وهم قوم الرسل ، وتقدم شرح جبار . والعنيد : المعاند كالخليط بمعنى المخالط على قول من جعل الضمير عائداً على الكفار ، كأن وخاب عطفاً على واستفتحوا . ومن ورائه قال أبو عبيدة وابن الأنباري أي : من بعده . وقال الشاعر : @ حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مهرب @@ وقال أبو عبيدة أيضاً ، وقطرب ، والطبري ، وجماعة : ومن ورائه أي ومن أمامه ، وهو معنى قول الزمخشري : من بين يديه . وأنشد : @ عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراء فرج قريب @@ وهذا وصف حاله في الدنيا ، لأنه مرصد لجهنم ، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها ، أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف . وقال الشاعر : @ أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقوم تميم والفلاة ورائيا @@ وقال آخر : @ أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا نحني عليها الأصابع @@ ووراء من الأضداد قاله : أبو عبيدة والأزهري . وقيل : ليس من الأضداد . وقال ثعلب : اسم لما توارى عنك ، سواء كان أمامك أم خلفك . وقيل : بمعنى من خلفه أي : في طلبه كما تقول الأمر من ورائك أي : سوف يأتيك . ويسقى معطوف على محذوف تقديره : يلقى فيها ويسقى ، أو معطوف على العامل في من ورائه ، وهو واقع موقع الصفة . وارتفاع جهنم على الفاعلية ، والظاهر إرادة حقيقة الماء . وصديد قال ابن عطية : هو نعت لماء ، كما تقول : هذا خاتم حديد وليس بماء ، لكنه لما كان بدل الماء في العرف عندنا يعني أطلق عليه ماء . وقيل : هو نعت على إسقاط أداة التشبيه كما تقول : مررت برجل أسد التقدير : مثل صديد . فعلى قول ابن عطية هو نفس الصديد وليس بماء حقيقة ، وعلى هذا القول لا يكون صديداً ولكنه ما يشبه بالصديد . وقال الزمخشري : صديد عطف بيان لماء قال : ويسقى من ماء ، فأبهمه إبهاماً ، ثم بينه بقوله : صديد انتهى . والبصريون لا يجيزون عطف البيان في النكرات ، وأجازه الكوفيون وتبعهم الفارسي ، فأعرب { زيتونة } [ النور : 35 ] عطف بيان { شجرة مباركة } [ النور : 35 ] فعلى رأي البصريين لا يجوز أن يكون قوله : صديد ، عطف بيان . وقال الحوفي : صديد نعت لماء . وقال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك : هو ما يسيل من أجساد أهل النار . وقال محمد بن كعب والربيع : هو غسالة أهل النار في النار . وقيل : هو ما يسيل من فروج الزناة والزواني . وقيل : صديد بمعنى مصدود عنه أي : لكراهته يصد عنه ، فيكون مأخوذاً عنه من الصد . وذكر ابن المبارك من حديث أبي أمامة عن الرسول قاله في قوله : { ويسقى من ماء صديد * يتجرعه } قال : « يقرب إليه فيتكرهه ، فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، وإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره » يتجرعه يتكلف جرعه . ولا يكاد يسيغه أي : ولا يقارب أن يسيغه ، فكيف تكون الإساغة . والظاهر هنا انتفاء مقاربة إساغته إياه ، وإذا انتفت انتفت الإساغة ، فيكون كقوله : { لم يكد يراها } [ النور : 40 ] أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها ؟ والحديث : « جاءنا ثم يشربه » فإن صح الحديث كان المعنى : ولا يكاد يسيغه قبل أن يشربه ثم شربه ، كما جاء { فذبحوها وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] أي وما كادوا يفعلون قبل الذبح . وتجرع تفعل ، ويحتمل هنا وجوهاً أن يكون للمطاوعة أي جرعة فتجرع كقولك : علمته فتعلم . وأنْ يكون للتكلف نحو : تحلم ، وأن يكون لمواصلة العمل في مهلة نحو : تفهم أي يأخذه شيئاً فشيئاً . وأن يكون موافقاً للمجرد أي : تجرعه كما تقول : عدا الشيء وتعدّاه . ويتجرعه صفة لما قبله ، أو حال من ضمير ويسقى ، أو استئناف . ويأتيه الموت أي : أسبابه . والظاهر أنّ قوله : من كل مكان معناه من الجهات الست ، وذلك لفظيع ما يصيبه من الآلام . وقال إبراهيم التيمي : من كل مكان من جسده ، حتى من أطراف شعره . وقيل : حتى من إبهام رجليه ، والظاهر أنّ هذا في الآخرة . وقال الأخفش : أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا ، سماها موتاً وهذا بعيد ، لأنّ سياق الكلام يدل على أنّ هذا من أحوال الكافر في جهنم . وقوله : وما هو بميت لتطاول شدائد الموت ، وامتداد سكراته . ومن ورائه الخلاف في من ورائه كالخلاف في من ورائه جهنم . وقال الزمخشري : ومن بين يديه عذاب غليظ أي : في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله وأغلظ . وعن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد انتهى . وقيل : الضمير في ورائه هو يعود على العذاب المتقدم لا على كل جبار .