Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 69-104)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما كانت العرب لها خصوصية بإبراهيم عليه السلام ، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم قصصه ، وما جرى له مع قومه . ولم يأت في قصة من قصص هذه السورة أمره عليه السلام بتلاوة قصة إلا في هذه ، وإذ : العامل فيه . قال الحوفي : أتل ، ولا يتصور ما قال إلا بإخراجه عن الظرفية وجعله بدلاً من نبأ ، واعتقاد أن العامل في البدل والمبدل منه واحد . وقال أبو البقاء : العامل في إذ نبأ . والظاهر أن الضمير في { وقومه } عائد على إبراهيم . وقيل : على أبيه ، أي وقوم أبيه ، كما قال : { إني أراك وقومك في ضلال مبين } [ الأنعام : 74 ] . وما : استفهام بمعنى التحقير والتقرير . وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام ، ولكن سألهم ليريهم أن ما كانوا يعبدونه ليس مستحقاً للعبادة ، لما ترتب على جوابهم من أوصاف معبوداتهم التي هي منافية للعبادة . ولما سألهم عن الذي يعبدونه ، ولم يقتصروا على ذكره فقط ، بل أجابوا بالفعل ومتعلقه وما عطف عليه من تمام صفتهم مع معبودهم ، فقالوا : { نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين } : على سبيل الابتهاج والافتخار ، فأتوا بقصتهم معهم كاملة ، ولم يقتصروا على أن يجيبوا بقولهم : أصناماً ، كما جاء : { ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } [ النحل : 30 ] { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } [ البقرة : 219 ] ولذلك عطفوا على ذلك الفعل قولهم : { فنظل } . قال : كما تقول لرئيس : ما تلبس ؟ فقال : ألبس مطرف الخز فأجر ذيوله ، يريد الجواب : وحاله مع ملبوسه . وقالوا : فنظل ، لأنهم كانو يعبدونهم بالنهار دون الليل . ولما أجابوا إبراهيم ، أخذ يوقفهم على قلة عقولهم ، باستفهامه عن أوصاف مسلوبة عنهم لا يكون ثبوتها إلا لله تعالى . وقرأ الجمهور : { يسمعونكم } ، من سمع ؛ وسمع إن دخلت على مسموع تعدّت إلى واحد ، نحو : سمعت كلام زيد ، وإن دخلت على غير مسموع ، فمذهب الفارسي أنها تتعدى إلى اثنين ، وشرط الثاني منهما أن يكون مما يسمع ، نحو : سمعت زيداً يقرأ . والصحيح أنها تتعدى إلى واحد ، وذلك الفعل في موضع الحال ، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو . وهنا لم تدخل إلا على واحد ، ولكنه ليس بمسموع ، فتأولوه على حذف مضاف تقديره : هل يسمعونكم ، تدعون ؟ وقيل : { هل يسمعونكم } بمعنى : يجيبونكم . وقرأ قتادة ، ويحيـى بن يعمر : بضم الياء وكسر الميم من أسمع ، والمفعول الثاني محذوف تقديره : الجواب ، أو الكلام . وإذ : ظرف لما مضى ، فإما أن يتجاوز فيه فيكون بمعنى إذا ، وإما أن يتجاوز في المضارع فيكون قد وقع موقع الماضي ، فيكون التقدير : هل سمعوكم إذ دعوتم ؟ وقد ذكر أصحابنا أن من قرائن صرف المضارع إلى الماضي إضافة إذ إلى جملة مصدرة بالمضارع ، ومثلوا بقوله : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } [ الأحزاب : 37 ] أي وإذ قلت . وقال الزمخشري : وجاء مضارعاً مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية التي كنتم تدعونهم فيها ، وقولوا : هل سمعوا ، أو اسمعوا قط ؟ وهذا أبلغ في التبكيت . انتهى . وقرىء : بإظهار ذال إذ وبإدغامها في تاء تدعون . قال ابن عطية : ويجوز فيه قياس مذكر ، ولم يقرأ به أحد ؛ والقياس أن يكون اللفظ به ، إذ تدعون . فالذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل ، فكثرة المتماثلات . انتهى . وهذا الذي ذكر أنه يجوز فيه قياس مذكر لا يجوز ، لأن ذلك الإبدال ، وهو إبدال التاء دالاً ، لا يكون إلا في افتعل ، مما فاؤه ذال أو زاي أو دال ، نحو : إذدكر ، وازدجر ، وادهن ، أصله : اذتكر ، وازتجر ، وادتهن ؛ أو جيم شذوذ ، قالوا : اجد مع في اجتمع ، ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال ، ومثلوا بتاء الضمير للمتكلم فقالوا في فزت : فزد ، وفي جلدت : جلدّ ، ومن تاء تولج شذوذاً قالوا : دولج ، وتاء المضارعة ليست شيئاً مما ذكرنا ، فلا تبدل تاءه . وقول ابن عطية : والذي منع من هذا اللفظ إلى آخره ، يدل على أنه لولا ذلك لجاز إبدال تاء ، المضارعة دالاً وإدغام الذال فيها ، فكنت تقول : إذ تخرج : ادّخرج ، وذلك لا يقوله أحد ، بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء ، فتقول : اتخرج . { أو ينفعونكم بتقربكم إليهم ودعائكم إياهم . أو يضرون } بترك عبادتكم إياهم ، فإذا لم ينفعوا ولم يضروا ، فما معنى عبادتكم لها ؟ { قالوا بل وجدنا } هذه حيدة عن جواب الاستفهام ، لأنهم لو قالوا : يسمعوننا وينفعوننا ويضروننا ، فضحوا أنفسهم بالكذب الذي لا يمتري فيه ، ولو قالوا : يسمعوننا ولا يضروننا ، لسجلوا على أنفسهم بالخطأ المحض ، فعدلوا إلى التقليد البحث لآبائهم في عبادتها من غير برهان ولا حجة . والكاف في موضع نصب بيفعلون ، أي يفعلون في عبادتهم تلك الأصنام مثل ذلك الفعل الذي يفعله ، وهو عبادتهم ؛ والحيدة عن الجواب من علامات انقطاع الحجة . وبل هنا إضراب عن جوابه لما سأل وأخذ في شيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعاً وإقراراً بالعجز . { وآباؤكم الأقدمون } : وصفهم بالأقدمين دلالة على ما تقادم عبادة الأصنام فيهم ، وإذ كانوا قد عبدوها في زمان نوح عليه السلام ، فزمان من بعده ؟ وعدو : يكون للمفرد والجمع ، كما قال : { هم العدو فاحذرهم } [ المنافقون : 4 ] قيل : شبه بالمصدر ، كالقبول والولوع . قال الزمخشري : وإنما قال : { عدو لي } ، تصوراً للمسألة في نفسه على معنى : أي فكرت في أمري ، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه ، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولاً ، وبنى عليها تدبير أمره ، لينظروا ويقولوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه ، ليكون أدنى لهم إلى القبول ، وأبعث على الاستماع منه . ولو قال : فإنه عدو لكم ، لم يكن بتلك المثابة ، ولأنه دخل في باب من التعريض ، وقد يبلغ التعريض للمنصوح . ما لا يبلغ التصريح ، لأنه ربما يتأمل فيه ، فربما قاده التأميل إلى التقبل . ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي الله عنه ، أن رجلاً واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب ؛ وسمع رجل ناساً يتحدثون عن الحجر فقال : ما هو بيتي ولا بيتكم . انتهى . وهو كلام فيه تكثير على عادته ، وذهاب من ذهب إلى أن قوله : { فإنهم عدو لي } ، من المقلوب والأصل : فإني عدو لهم ، لأن الأصنام لا تعادي لكونها جماداً ، وإنما هو عاداها ليس بشيء ولا ضرورة تدعو إلى ذلك . ألا ترى إلى قوله : { كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً } [ مريم : 82 ] ، فهذا معنى العداوة ، ولأن المغري على عداوتها عدو الإنسان ، وهو الشيطان . وقيل : لأنه تعالى يحيـي ما عبدوه من الأصنام حتى يبترؤوا من عبدتهم ويوبخوهم . وقيل : هو على حذف ، أي : فإن عبادهم عدو لي . والظاهر إقرار الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير . وقال الجرجاني : تقديره : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين ، فإنهم عدو لي ، وإلا : بمعنى دون وسوى . انتهى . فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون ، ولا حاجة إلى هذا التقدير لصحة أن يكون مستثنى من قوله : { فإنهم عدو لي } . وجعله جماعة منهم الفراء ، واتبعه الزمخشري استثناء منقطعاً ، أي لكن رب العالمين ، لأنهم فهموا من قوله : ما كنتم تعبدون أنهم الأصنام . وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلاً على أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام ، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله ، وأجازوا في { الذي خلقني } النصب على الصفة لرب العالمين ، أو بإضمار ، أعني : والرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الذي . وقال الحوفي : ويجوز أن يكون { الذي خلقني } رفعاً بالابتداء ، { فهو يهدين } : ابتداء وخبر في موضع الخبر عن الذي ، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط . انتهى . وليس الذي هنا فيه معنى اسم الشرط لأنه خاص ، ولا يتخيل فيه العموم ، فليس نظير : الذي يأتيني فله درهم ، وأيضاً ليس الفعل الذي هو خلق لا يمكن فيه تحدد بالنسبة إلى إبراهيم . وتابع أبو البقاء الحوفي في إعرابه هذا ، لكنه لم يقل : ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط . فإن كان أراد ذلك ، فليس بجيد لما ذكرناه ، وإن لم يرده ، فلا يجوز ذلك إلا على زيادة الفاء ، على مذهب الأخفش في نحو : زيد فاضربه ؛ الذي خلقني بقدرته فهو يهدين إلى طاعته . وقيل : إلى جنته . وقال الزمخشري : فهو يهدين ، يريد أنه حين أتم خلقه ، ونفخ فيه الروح عقب هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى ما يصلحه ويعينه ، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذي بالدم في البطن امتصاصاً ؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة ؟ وإلى معرفة مكانه ؟ ومن هداه لكيفية الإرتضاع ؟ إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد . انتهى . والظاهر أن قوله : { يطعمني ويسقين } : الطعام المعروف المعهود ، والسقي المعهود ، وفيه تعديد نعمة الرزق . وقال أبو بكر الوراق : يطعمني بلا طعام ، ويسقيني بلا شراب ، كما جاء أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو ، فلم يكن التركيب الذي هو خلقني ، ولما كانت الهداية قد يمكن ادعاؤها . والإطعام والسقي كذلك أكد بهو في قوله : { فهو يهدين والذي هو يطعمني } ، وذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة ويستمر به نظام الخلق ، وهو الغذاء والشرب . ولما كان ذلك سبباً لغلبة إحدى الكيفيات على الأخرى بزيادة الغذاء أو نقصانه ، فيحدث بذلك مرض ذكر نعمته ، بإزالة ما حدث من السقم ، وأضاف المرض إلى نفسه ، ولم يأت التركيب : وإذا أمرضني ، وإن كان تعالى هو الفاعل لذلك وإبراهيم عليه السلام عدد نعم الله تعالى عليه والشفاء محبوب والمرض مكروه . ولما لم يكن المرض منها ، لم يضفه إلى الله . وعن جعفر الصادق ، ولعله لا يصح : وإذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة . وقال الزمخشري : وإنما قال : مرضت دون أمرضني ، لأن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك . ومن ثم قال الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم ؟ لقالوا : التخم ، ولما كان الشفاء قد يعزى إلى الطيب ، وإلى الدواء على سبيل المجاز ؛ كما قال : { فيه شفاء للناس } [ النحل : 69 ] أكد بقوله : { فهو يشفين } : أي الذي هو يهدين ويطعمني ويسقين هو الله لا غيره . ولما كانت الإماتة بعد البعث ، لا يمكن إسنادها إلا إلى الله ، لم يحتج إلى توكيد ودعوى نمروذ الإماتة والإحياء هي منه على سبيل المخرفة والقحة ، وكذلك لم يحتج إلى تأكيد في : { والذي أطمع } . وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يهديني وما بعده ، وهي رواية عن نافع . والطمع عبارة عن الرجاء ، وإبراهيم عليه السلام كان جازماً بالمغفرة . فقال الزمخشري : لم يجزم القول بالمغفرة ، وفيه تعليم لأممهم ، وليكون لطفاً بهم في اجتناب المعاصي والحذر منها ، وطلب المغفرة مما يفرط منهم . انتهى . ورده الرازي قال : لأن حاصله يرجع إلى أنه ، ونطق بكلمة لا أذكرها ، وبعدها على نفسه لأجل تعليم الأمة ، وهو باطل قطعاً . وقال الجبائي : أراد به سائر المؤمنين ، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون . ورده الرازي بأن جعل كلام الواحد من كلام غيره ، مما يبطل نظم الكلام . وقال الحسن : المراد بالطمع اليقين . وقال الرازي : لا يستقيم هذا إلا على مذهبنا ، حيث قلنا : إنه لا يجب على الله شيء ، وإنه يحسن منه كل شيء ، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله . وقال ابن عطية : أوقف عليه الصلاة والسلام نفسه على الطمع في المغفرة ، وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته . وقرأ الجمهور : { خطيئتي } على الإفراد ، والحسن : خطاياي على الجمع ، وذهب الأكثرون إلى أنها قوله : { إني سقيم } [ الصافات : 89 ] و { بل فعله كبيرهم } [ الأنبياء : 63 ] وهي أختي في سارة . وقالت فرقة : أراد بالخطيئة اسم الجنس ، قدرها في كل أمره من غير تعيين . قال ابن عطية : وهذا أظهر عندي ، لأن تلك الثلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعاريض . وقال الزمخشري : المراد ما يندر منه في بعض الصغائر ، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون مختارون على العالمين ، وهي قوله وذكر الثلاثة ثم قال وما هي إلا معاريض ، كلام وتخيلات للكفرة ، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار . فإن قلت : إذا لم يندر منهم إلا الصغائر ، وهي تقع مكفرة ، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا ، وطمع أن يغفر له ؟ قلت : الجواب ما سبق ، أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم ، ويدل عليه قوله : اطمع ، ولم يجزم القول . انتهى . و { يوم الدين } : ظرف ، والعامل فيه يغفر ، والغفران ، وإن كان في الدنيا ، فأثره لا يتبين إلا يوم الجزاء ، وهو في الدنيا لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى . وضعف أبو عبد الله الرازي حمل الخطيئة على تلك الثلاث ، لأن نسبة ما لا يطابق إلى إبراهيم غير جائز ، وحمله على سبيل التواضع قال : لأنه إن طابق في هذا الموضع زال الإشكال ، وإن لم يطابق رجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به ، لأجل تنزيهه عن المعصية . قال : والجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى ، وقد يسمى خطأ . فإن من باع جوهرة تساوي ألفاً بدينار ، قيل : أخطأ ، وترك الأولى على الأنبياء جائز . انتهى ، وفيه بعض تلخيص وتبديل ألفاظ للأدب بما يناسب مقام النبوة . وقدم إبراهيم عليه السلام الثناء على الله تعالى ، وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي طلبته ومسألته ، ثم سأله تعالى فقال : { رب هب لي حكماً } ، فدل على أن تقديم الثناء على المسألة من المهمات . والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق . وقيل : الحكم : الحكمة والنبوة ، لأنها حاصلة تلو طلب النبوة ، لأن النبي ذو حكمة وذو حكم بين الناس . وقال أبو عبد الله الرازي : لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأنها حاصلة ، فلو طلب النبوة لكانت مطلوبة ، إما عين الحاصلة أو غيرها . والأول محال ، لأن تحصيل الحاصل محال ، والثاني محال ، لأنه يمنع أن يكون الشخص الواحد نبياً مرتين ، بل المراد من الحكم ما هو كمال النبوة العملية ، وذلك بأن يكون عالماً بالخير لأجل العمل به . انتهى . وقال ابن عطية : وقد فسر الحكم بالحكمة والنبوة ، قال : ودعاؤه عليه السلام في مثل هذا هو في التثبت والدوام . وإلحاقه بالصالحين : توفيقه لعمل ينتظمه في جملتهم ، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة . وقد أجابه تعالى حيث قال : { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [ البقرة : 130 ] . قال أبو عبد الله الرازي : وإنما قدّم قوله : { هب لي حكماً } على قوله : { وألحقني بالصالحين } ، لأن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية ، لأنه يمكنه أن يعلم الحق ، وإن لم يعمل به ، وعكسه غير ممكن ، لأن العلم صفة الروح ، والعمل صفة البدن ، وكما أن الروح أشرف من البدن ، كذلك العلم أفضل من الإصلاح . انتهى . ولسان الصدق ، قال ابن عطية : هو الثناء وتخليد المكانة بإجماع من المفسرين . وكذلك أجاب الله دعوته ، فكل ملة تتمسك به وتعظمه ، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم . قال مكي : وقيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق ، فأجيبت الدعوة في محمد عليه السلام ، وهذا معنى حسن ، إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ . انتهى . ولما طلب سعادة الدنيا ، طلب سعادة الآخرة ، وهي جنة النعيم ، وشبهها بما يورث ، لأنه الذي يقسم في الدنيا شبه غنيمة الدنيا بغنيمة الآخرة ، وقال تعالى : { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً } [ مريم : 63 ] . ولما فرغ من مطالب الدنيا والآخرة لنفسه ، طلب لأشد الناس التصاقاً به ، وهو أصله الذي كان ناشئاً عنه ، وهو أبوه ، فقال : { واغفر لأبي } ، وطلبه المغفرة مشروط بالإسلام ، وطلب المشروط يتضمن طلب الشرط ، فحاصله أنه دعا بالإسلام . وكان وعده ذلك يوضحه قوله : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو } [ التوبة : 114 ] أي الموافاة على الكفر تبرأ منه . وقيل : كان قال له إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً ، تقية وخوفاً ، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك ، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ، ولذلك قال في دعائه : { واغفر لأبي إنه كان من الضالين } . فلولا اعتقاده أنه في الحال ليس بضال ما قال ذلك . { ولا تخزني } : إما من الخزي ، وهو الهوان ، وإما من الخزاية ، وهي الحياء . والضمير في { يبعثون } ضمير العباد ، لأنه معلوم ، أو ضمير { الضالين } ، ويكون من جملة الاستغفار ، لأنه يكون المعنى : يوم يبعث الضالون . وأتى فيهم : { يوم لا ينفع } بدل من : { يوم يبعثون } . { مال ولا بنون } : أي كما ينفع في الدنيا يفديه ماله ويذب عنه بنوه . وقيل : المراد بالبنين جميع الأعوان . وقيل : المعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها ، فقصد من ذلك الذكر العظيم والأكثر ، لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا . والظاهر أن الاستثناء منقطع ، أي لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه . قال الزمخشري : ولك أن تجعل الاستثناء منقطعاً ، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف ، وهو الحال المراد بها السلامة ، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان ، وإنما ينفع سلامة القلب ، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى . انتهى . ولا ضرورة تدعو إلى حذف مضاف ، كما ذكر ، إذ قدرناه ، لكن { من أتى الله بقلب سليم } ينفعه ذلك ، وقد جعله الزمخشري في أول توجيهه متصلاً بتأويل قال : إلا من أتى الله : لا حال من أتى الله بقلب سليم ، وهو من قوله : @ تحيـة بينهـم ضـرب وجيـع @@ وما ثوابه إلا السيف ، ومثاله أن يقال : هل لزيد مال وبنون ؟ فيقول : ماله وبنوه سلامة قلبه ، تريد نفي المال والبنين عنه ، وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك . وإن شئت حملت الكلام على المعنى ، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى ، كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم ، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه ، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه . انتهى . وجعله بعضهم استثناء مفرغاً ، فمن مفعول ، والتقدير : لا ينفع مال ولا بنون أحداً إلا من أتى الله بقلب سليم ، فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البر ، وبنوه الصلحاء ، إذ كان أنفقه في طاعة الله ، وأرشد بنيه إلى الدين ، وعلمهم الشرائع وسلامة القلب ، خلوصه من الشرك والمعاصي ، وعلق الدنيا المتروكة وإن كانت مباحة كالمال والبنين . وقال سفيان : هو الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره ، وهذا يقتضي عمومه اللفظ ، ولكن السليم من الشرك هو الأعم . وقال الجنيد : بقلب لديغ من خشية الله ، والسليم : اللديغ . وقال الزمخشري : هو من بدع التفاسير وصدق . { وأزلفت الجنة } : قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها . { وبرزت الحجيم } : أظهرت وكشفت بحيث كانت بمرأى منهم كقوله : { فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا } وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله [ الملك : 27 ] وذلك على سبيل التوبيخ . هل ينفعونكم بنصرهم إياكم ، أو ينتصرون هم فينفعون أنفسهم بحمايتها ، إذ هم وأنتم وقود النار ؟ وقرأ الأعمش : فبرزت بالفاء ، جعل تبريز الجحيم بعد تقريب الجنة يعقبه ، وذلك لأن الواو للجمع ، فيمكن أن يكون كل واحد منهما ظهوره قبل الآخر ، وهو من تقديم الرحمة على العذاب ، وهو حسن ، لولا أن رسم المصحف بالواو . وقرأ مالك بن دينار : { وبرزت } بالفتح والتخفيف ؛ { الجحيم } بالرفع ، بإسناد الفعل إليها اتساعاً . ولما وبخهم وقرعهم ، أخبر عن حال يوم القيامة ، وجيء في ذلك كله بلفظ الماضي في أتى وأزلفت وبرزت . وقيل : { فكبكبوا } ، لتحقق وقوع ذلك ، وإن كان لم يقع . والضمير في : فكبكبوا عائد على الأصنام ، أجريت مجرى من يعقل . قال الكرماني : فكبكبوا : قذفوا فيها . وقيل : جمعوا . وقيل : هدروا . وقيل : نكسوا على رؤوسهم يموج بعضهم في بعض . وقيل : ألقوا في جهنم ينكبون مرة بعد مرة حتى يستقروا في قعرها . { والغاوون } : هم الكفرة الذين شملتهم الغواية . وقيل : الضمير يعود على الكفار ، والغاوون : الشياطين . { وجنود إبليس } : قبيلة ، وكل من تبعه فهو جند له وعون . وقال السدّي : هم مشركو العرب ، والغاوون : سائر المشركين . وقيل : هم القادة والسفلة ، قالوا : أي عباد الأصنام ، والجملة بعده حال ، والمقول جملة القسم ومتعلقه ، والخطاب في { نسويكم } للأصنام على جهة الإقرار والاعتراف بالحق . قال ابن عطية : أقسموا بالله إن كنا إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى ، الذي هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم . انتهى . وقوله : إن كنا إلا ضالين ، إن أراد تفسير المعنى فهو صحيح ، وإن أراد أن إن هنا نافية ، واللام في لفي بمعنى إلا ، فليس مذهب البصريين ، وإنما هو مذهب الكوفيين . ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هي المخففة من الثقيلة ، وأن اللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن التي هي لتأكيد مضمون الجملة . { وما أضلنا إلا المجرمون } : أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة ، وهم ساداتهم ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم : { أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] . وقال السدي : هم الأولون الذين اقتدوا بهم . وقيل : المجرمون : الشياطين ، وقيل : من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس . وقال ابن جريج : إبليس وابن آدم القاتل ، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي . وحين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان ، وشفاعة الصديق في صديقه خاصة ، قالوا على جهة التلهف والتأسف ، { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } . وقال ابن جريج : شافعين من الملائكة وصديق من الناس . ولفظة الشفيع تقتضي رفعة مكانة عند المشفوع عنده ، ولفظة الصديق تقتضي شدة مساهمة ونصرة ، وهو فعيل من صدق الود من أبنية المبالغة ونفي الشفعاء . والصديق يحتمل أن يكون نفياً لوجودهم إذ ذاك ، وهم موجودون للمؤمنين ، إذ تشفع الملائكة وتتصادق المؤمنون ، كما قال : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين } [ الزخرف : 67 ] ، أو ذلك على حسب اعتقادهم في معبوداتهم أنهم شفعاؤهم عند الله ، وأن لهم أصدقاء من الإنس والشياطين ، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع ، لأن ما لا ينفع ، حكمه حكم المعدوم ، فصار المعنى : فما لنا من نفع من كنا نعتقد أنهم شفعاء وأصدقاء ، وجمع الشفعاء لكثرتهم في العادة . ألا ترى أنه يشفع فيمن وقع في ورطة من لا يعرفه ، وأفرد الصديق لقلته ، وأريد به الجمع ؟ إذ يقال : هم صديق ، أي أصدقاء ، كما يقال : هم عدو ، أي أعداء . والظاهر أن لو هنا أشربت معنى التمني ، وفنكون الجواب ، كأنه قيل : يا ليت لنا كرة فنكون . وقيل : هي الخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره ، فيكون قوله : { فنكون } معطوفاً على كرة ، أي فكونا من المؤمنين ، وجواب لو محذوف ، أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء ، أو لخلصنا من العذاب . والظاهر أن هذه الجمل كلها متعلقة بقول إبراهيم ، أخبر بما أعلمه الله من أحوال يوم القيامة ، وما يكون فيها من حال قومه . وقال ابن عطية : وهذه الآيات من قوله : { يوم لا ينفع مال ولا بنون } هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام ، وهي إخبار من الله عز وجل ، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزي فيه . انتهى . وكان ابن عطية قد أعرب { يوم لا ينفع } بدلاً من { يوم يبعثون } ، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام ، وجعل بعضه من كلام إبراهيم ، وبعضه من كلام الله ، لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل آخر من لفظ الأول ، أو الأول . وعلى كلا التقديرين ، لا يصح أن يكون من كلام الله ، إذ يصير التقدير : ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون . والإشارة بقوله { إن في ذلك لآية } إلى قصة إبراهيم عليه السلام ومحاورته لقومه . { وما كان أكثرهم } : أي أكثر قوم إبراهيم . بين تعالى أن أكثر قومه لم يؤمنوا مع ظهور هذه الدلائل التي استدل بها إبراهيم عليه السلام ، وفي ذلك مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه إياه عليه السلام .