Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 69-71)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } أجمع المفسرون على أنها نزلت في : معاذ ، وحذيفة ، وعمار . دعاهم يهود : بني النضير ، وقريظة ، وقينقاع ، إلى دينهم . وقيل : دعاهم جماعة من أهل نجران ومن يهود وقال ابن عباس : هم اليهود ، قالوا لمعاذ وعمار تركتما دينكما واتبعتما دين محمد ، فنزلت . وقيل : عيرتهم اليهود بوقعة أحد . وقال أبو مسلم الأصبهاني : ودّ بمعنى : تمنى ، فتستعمل معها : لو ، و : أن ، وربما جمع بينهما ، فيقال : وددت أن لو فعل ، ومصدره : الودادة ، والأسم منه : وُدّ ، وقد يتداخلان في المصدر والاسم . قال الراغب : إذا كان : ودّ ، بمعنى أحبّ لا يجوز إدخال : لو فيه أبداً . وقال عليّ بن عيسى : إذا كان : ودّ ، بمعنى : تمنى ، صلح للماضي والحال والمستقبل ، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم يصلح للماضي لأن الإرادة كاستدعاء الفعل . وإذا كان للحال والمستقبل جاز : أن ولو ، وإذا كان للماضي لم يجز : أن ، لأن : أن ، للمستقبل . وما قال فيه نظر ، ألا ترى أن : أن ، توصل بالفعل الماضي نحو : سرّني أن قمت ؟ . { من أهل الكتاب } في موضع الصفة لطائفة ، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم . وقال ابن عطية : ويحتمل : من ، أن تكون لبيان الجنس ، وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب ، وما قاله يبعد من دلالة اللفظ ، ولو ، هنا قالوا بمعنى : أن فتكون مصدرية ، ولا يقول بذلك جمهور البصريين ، والأولى إقرارها على وضعها . ومفعول : ودّ ، محذوف ، وجواب : لو ، محذوف ، حذف من كلٍّ من الجملتين ما يدل المعنى عليه ، التقدير : ودّوا إضلالكم لو يضلونكم لسرّوا بذلك ، وقد تقدم لنا الكلام في نظير هذا مشبعاً في قوله : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } [ البقرة : 96 ] فيطالع هناك . ومعنى : يضلونكم ، يردّونكم إلى كفركم ، قاله ابن عباس . وقيل : يهلكونكم ، قاله ابن جرير ، والدمشقي . قال ابن عطية : واستدل يعني ابن جرير الطبري ببيت جرير : @ كنت القذى في موج أخضر مزبد قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا @@ وبقول النابغة : @ فآب مضلُّوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل @@ وهو تفسير غير مخلص ولا خاص باللفظة ، وإنما اطرد له ، لأن هذا الضلال في الآية في البيتين اقترن به هلاك ، وأمّا أن يفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم . إنتهى . وقال غير أبن عطية أضلّ الضلال في اللغة الهلاك من قولهم : ضل اللبن في الماء ، إذا صار مستهلكاً فيه . وقيل : معناه يوقعونكم في الضلال ، ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم ، قاله أبو علي . { وما يضلون إلاَّ أنفسهم } إن كان معناه الإهلاك فالمعنى أنهم يهلكون أنفسهم وأشياعهم ، لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله وغضبه ، وإن كان المعنى الإخراج عن الدين فذلك حاصل لهم بجحد نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتغيير صفته صاروا بذلك كفاراً ، وخرجوا عن ملة موسى وعيسى . وإن كان المعنى الإيقاع في الضلال ، فذلك حاصل لهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج وإنزال الكتب وإرسال الرسل . وقال ابن عطية : إعلام أن سوء فعلهم عائد عليهم ، وأنه يبعدهم عن الإسلام . وقال الزمخشري : وما يعود وبال الضلال إلاَّ عليهم ، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم ، أو : وما يقدرون على إضلال المسلمين ، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم . إنتهى . { وما يشعرون } أن ذلك الضلال هو مختص بهم أي : لا يفطنون لذلك لما دق أمره وخفي عليهم لما اعترى قلوبهم من القساوة ، فهم لا يعلمون أنهم يضلون أنفسهم . ودل ذلك على أن من أخطأ الحق جاهلاً كان ضالاً ، أو { وما يشعرون } أنهم لا يصلون إلى إضلالكم ، أو : لا يفطنون بصحة الإسلام ، وواجب عليهم أن يعلموا لظهور البراهين والحجج ، ذكره القرطبي . أو : ما يشعرون أن الله يدل المسلمين على حالهم ، ويطلعهم على مكرهم وضلالتهم ، ذكره ابن الجوزي . وفي قوله : ما يشعرون ، مبالغة في ذمهم حيث فقدوا المنفعة بحواسهم . { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } قال ابن عباس : هي التوراة والإنجيل وكفرهم بها من جهة تغيير الأحكام ، وتحريف الكلام أو الآيات التي في التوراة والإنجيل من وصف النبي صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به ، كما بين في قوله : { يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وابن جريح . أو : القرآن من جهة قولهم : { إنما يعلمه بشر } [ النحل : 103 ] { إن هذا إلا إفك } [ الفرقان : 4 ] { أساطير الأولين } [ الأَنعام : 25 ] والآيات التي أظهرها على يديه من : انشقاق القمر ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وغير ذلك . أو : محمد والإسلام ، قاله قتادة ، أو : ما تلاه من أسرار كتبهم وغريب أخبارهم ، قاله ابن بحر أو : كتب الله ، أو : الآيات التي يبين لهم فيها صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وصحة نبوّته ، وأمروا فيها باتباعه ، قاله ابو علي . { وأنتم تشهدون } جملة حالية أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون أنها آيات الله ، ومتعلق الشهادة محذوف ، يقدّر على حسب تفسير الآيات ، فيقدّر بما يناسب ما فسرت به ، فلذلك قال قتادة ، والسدي ، والربيع : وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة . وقيل : تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها ، وقيل : بما عليكم فيه من الحجة . وقيل : إن كتبكم حق ، ولا تتبعون ما أنزل فيها . وقيل : بصحتها إذا خلوتم . فيكون : تشهدون ، بمعنى : تقرون وتعترفون . وقال الراغب : أو عنى ما يكون من شهادتهم { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم } [ النور : 24 ] . وقيل : تكفرون بآيات الله : تنكرون كون القرآن معجزاً ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم أنه معجز . { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } تقدّم تفسير مثل هذا في قوله : { ولا تلبسوا الحق بالباطل } [ البقرة : 42 ] وفسر : اللبس ، بالخلط والتغطية ، وتكلم المفسرون هنا ، ففسروا الحق بما يجدونه في كتبهم من صفة الرسول ، والباطل الذي يكتبونه بأيديهم ويحرفونه : قال معناه الحسن ، وابن زيد . وقيل : إظهار الإسلام وإبطال اليهودية والنصرانية ، قال قتادة ، وابن جرير والثعلبي . وقيل : الإيمان بموسى وعيسى ، والكفر بالرسول . وقال أبو علي : يتأولون الآيات التي فيها الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم على خلاف تأويلها ، ليظهر منها للعوامّ خلاف ما هي عليه ، وأنتم تعلمون بطلان ما تقولون . وقيل : هو ما ذكره تعالى بعد ذلك من قوله : { آمنوا بالذي أنزل } وقيل : إقرارهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم . والباطل : كتمانهم لبعض أمره ، وهذان القولان عن ابن عباس . وقيل : إقرارهم بنبوته ورسالته ، والباطل قول أحبارهم : ليس رسولاً الينا ، بل شريعتنا مؤبدة . وقرأ يحيى بن وثاب : تلبسون ، بفتح الباء مضارع : لبس ، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه ، والباء في : بالباطل ، للحال أي : مصحوباً بالباطل . وقرأ أبو مجلز : تلبسون ، بضم التاء وكسر الباء المشدّدة ، والتشديد هنا للتكثير ، كقولهم : جرّحت وقتلت ، وأجاز الفراء ، والزجاج في : ويكتمون ، النصب ، فتسقط النون من حيث العربية على قولك : لم تجمعون ذا وذا ؟ فيكون نصباً على الصرف في قول الكوفيين ، وبإضمار : أن ، في قول البصريين . وأنكر ذلك أبو علي ، وقال : الإستفهام وقع على اللبس فحسب . وأما : يكتمون ، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاَّ الرفع بمعنى أنه ليس معطوفاً على : تلبسون ، بل هو استئناف ، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق ، وقال ابن عطية : قال أبو علي : الصرف ها هنا يقبح ، وكذلك إضمار : أن ، لأن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وبمنزلة ، قولك : أتقوم فأقوم ؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب ، إلاَّ في ضرورة شعر ، كما روي : @ والحق بالحجاز فاستريحا @@ وقد قال سيبويه : في قولك : أسرت حتى تدخلها ، لا يجوز إلاَّ النصب ، في : تدخل ، لأن السير مستفهم عنه غير موجب . وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلها ، رفعت ، لأن السير موجب ، والاستفهام إنما وقع عن غيره . إنتهى ما نقله ابن عطية عن أبي علي . والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله ، لأن ما قبله فيه : أن الاستفهام وقع على اللبس فحسب ، وأما : يكتمون ، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاّ الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على اشتراكهما في الإستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون : ويكتمون ، إخباراً محضاً لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الإستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه ، تبعه في ذلك ابن مالك . فقال في ( التسهيل ) حين عد ما يضمر : أن ، لزوماً في الجواب ، فقال : أو لإستفهام لا يتضمن وقوع الفعل ، فإن تضمن وقع الفعل لم يجز النصب عنده ، نحو : لم ضربت زيداً ، فيجازيك ؟ لأن الضرب قد وقع ولم نر أحداً من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي ، وتبعه فيه ابن مالك في الإستفهام ، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله ، إما لكونه ليس ثم فعل ، ولا ما في معناه ينسبك منه ، وإما لإستحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل مضي الفعل ، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى ، فإذا قال : لم ضربت زيداً فأضربك . أي : ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا ، وما ردّ به أبو عليّ على أبي إسحاق ليس بمتجه . لأن قوله : { لم تلبسون } ليس نصاً على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة ، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره ، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله . ولو فرضنا أنه ماض حقيقة ، فلا ردّ فيه على أبي إسحاق ، لأنه كما قررنا قبل : إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة ، سبكناه من لازم الجملة . وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع ، نحو : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ وكذلك في : كم مالك فنعرفه ؟ و : من أبوك فنكرمه ؟ لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا . و : ليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا . و : ليكن منك إعلام بأبيك فاكرام منا له . وقرأ عبيد بن عمير : لم تلبسوا ، وتكتموا ، بحذف النون فيهما ، قالوا : وذلك جزم ، قالوا : ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق : لِمَ بلم في عمل الجزم . وقال السجاوندي : ولا وجه له إلاَّ أن : لم ، تجزم الفعل عند قوم كلم . إنتهى . والثابت في لسان العرب أن : لِمَ ، لا ينجزم ما بعدها ، ولم أر أحداً من النحويين ذكر أن لِمَ تجري مجرى : لَمْ في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا ، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع ، وقد جاء ذلك في النثر قليلاً جداً ، وذلك في قراءة أبي عمرو ، ومن بعض طرقه قالوا : ساحران تظاهرا ، بتشديد الظاء ، أي أنتما ساحران تتظاهرن فأدغم التاء في الظاء وحذف النون ، وأما في النظم ، فنحو : قول الراجز : @ أبيت أسرى وتبيتي تدلكي @@ يريد : وتبيتين تدلكين . وقال : @ فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو ستحتلبوها لاقحاً غير باهل @@ والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل ، وكتم الحق ، وكأن الحق منقسم إلى قسمين : قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز ، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر . { وأنتم تعلمون } جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه ، أي : لا يناسب من علم الحق أن يكتمه ، ولا أن يخلطه بالباطل ، والسؤال عن السبب سؤال عن المسبب ، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب ، وختمت الآية قبل هذه بقوله : { وأنتم تشهدون } وهذه بقوله : { وأنتم تعلمون } لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر بآيات الله ، وهي أخص من الحق ، لأن آيات الله بعض الحق ، والشهادة أخص من العلم ، فناسب الأخص الأخص ، وهنا الحق أعم من الآيات وغيرها ، والعلم أعم من الشهادة ، فناسب الأعم الأعم . وقالوا في قوله : { وأنتم تعلمون } أي : إنه نبي حق ، وإن ما جاء به من عند الله حق . وقيل : قال : { وأنتم تعلمون } ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف ، ويقوم عليهم به الحجة . وقيل : { وأنتم تعلمون } الحق بما عرفتموه من كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم . وفي هذه الآيات أنواع من البديع . الطباق في قوله : الحق بالباطل ، والطباق المعنوي في قوله : لم تكفرون وأنتم تشهدون ، لأن الشهادة إقرار وإظهار ، والكفر ستر . والتجنيس المماثل في : يضلونك وما يضلون والتكرار في : أهل الكتاب . والحذف في مواضع قد بينت .