Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 35, Ayat: 36-41)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر حال المؤمنين ومقرهم ، ذكر حال الكافرين ، وهذا يدل على أن أولئك الثلاثة هم في الجنة ، { والذين كفروا } هم مقابلوهم ، { لا يقضى عليهم } : أي لا يجهز عليهم فيموتوا ، لأنهم إذا ماتوا بطلت حواسهم فاستراحوا . وقرأ الجمهور : { فيموتوا } ، بحذف النون منصوباً في جواب النفي ، وهو على أحد معنيـي النصب ؛ فالمعنى انتفى القضاء عليهم ، فانتفى مسببه ، أي لا يقضى عليهم ولا يموتون ، كقولك : ما تأتينا فتحدثنا ، أي ما يكون حديث ، انتفى الإتيان ، فانتفى الحديث . ولا يصح أن يكون على المعنى الثاني من معنى النصب ، لأن المعنى : ما تأتينا محدثاً ، إنما تأتي ولا تحدث ، وليس المعنى هنا : لا يقضى عليهم ميتين ، إنما يقضى عليهم ولا يموتون . وقرأ عيسى ، والحسن : فيموتون ، بالنون ، وجهها أن تكون معطوفة على لا يقضى . وقال ابن عطية : وهي قراءة ضعيفة . انتهى . وقال أبو عثمان المازني : هو عطف ، أي فلا يموتون ، لقوله : { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } [ المرسلات : 36 ] ، أي فلا يعتذرون ولا يخفف عنهم نوع عذابهم . والنوع في نفسه يدخله أن يحيوا ويسعدوا . قال ابن عطية : وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو : ولا يخفف بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل ، كقوله : @ فاليوم أشرب غير مستحقب @@ وقرأ الجمهور : { نجزي كل } ، مبنياً للفاعل ، ونصب كل ؛ وأبو عمرو ، وأبو حاتم عن نافع : بالياء مبنياً للمفعول ، كل بالرفع . { وهم يصطرخون } : بني من الصرخ يفتعل ، وأبدلت من التاء طاء ، وأصله يصرخون ، والصراخ : شدة الصياح ، قال الشاعر : @ صرخت حبلى أسلمتها قبيلها @@ واستعمل في الاستغاثة لجهة المستغيث صوته ، قال الشاعر : @ وطول اصطراخ المرء في بعد قعرها وجهد شقي طال في النار ما عوى @@ { ربنا أخرجنا } : أي قائلين ربنا أخرجنا منها ، أي من النار ، وردنا إلى الدنيا . { نعمل صالحاً } قال ابن عباس : نقل : لا إله إلا الله ، { غير الذين كنا نعمل } ، أي من الشرك ، ونمتثل أمر الرسل ، فنؤمن بدل الكفر ، ونطيع بدل المعصية . وقال الزمخشري : هل اكتفى بصالحاً ، كما اكتفى به في { فارجعنا نعمل صالحاً } [ السجدة : 12 ] وما فائدة زيادة { غير الذي كنا نعمل } على أنه يوهم أنهم يعملون صالحاً آخر غير الصالح الذي عملوه ؟ قالت : فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به ، وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي ، ولأنهم كانوا يحسنون صنعاً فقالوا : أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نحسبه صالحاً فنعمله . انتهى . روي أنهم يجابون بعد مقدار الدنيا : { أوَلم نعمركم } ، وهو استفهام توبيخ وتوقيف وتقرير ، وما مصدرية ظرفية ، أي مدة يذكر . وقرأ الجمهور : { ما يتذكر فيه من تذكر } . وقرأ الأعمش : ما يذكر فيه ، من اذكر ، بالادغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظاً بها في الدرج . وهذه المدة ، قال الحسن : البلوغ ، يريد أنه أول حال التذكر ، وقيل : سبع عشرة سنة . وقال قتادة : ثمان عشرة سنة . وقال عمر بن عبد العزيز : عشرون . وقال ابن عباس : أربعون ؛ وقيل : خمسون . وقال علي : ستون ، وروي ذلك عن ابن عباس . { وجاءكم } معطوف على { أوَلم نعمركم } ، لأن معناه : قد عمرناكم ، كقوله : { ألم نربّك فينا وليداً } [ الشعر اء : 18 ] ، وقوله : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] ، ثم قال : { ولبثت فينا } [ الشعراء : 18 ] وقال { ووضعنا } [ الشرح : 2 ] ، لأن المعنى قدر بيناك وشرحنا . والنذير جنس ، وهم الأنبياء ، كل نبي نذير أمته . وقرىء : النذر جمعاً ، وقيل : النذير : الشيب ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسفيان ، ووكيع ، والحسن بن الفضل ، والفراء ، والطبري . وقيل : موت الأهل والأقارب ؛ وقيل : كمال السفل . { فذوقوا } : أي عذاب جهنم . وقرأ جناح بن حبيش : عالم منوناً ، غيب نصباً ؛ والجمهور : على الإضافة . ومجيء هذه الجملة عقيب ما قبلها هو أنه تعالى ذكر أن الكافرين يعذبون دائماً مدة كفرهم . كانت مدة يسيرة منقطعة ، فأخبر أنه تعالى ، { عالم غيب السماوات والأرض } ، فلا يخفى عليه ما تنطوي عليه الصدور من المضمرات . وكان يعلم من الكافر أنه تمكن الكفر في قلبه ، بحيث لو دام إلى الأبد ما آمن بالله ولا عبده . وخلائف : جمع خليفة ، وخلفاء : جمع خليف ويقال للمستخلف : خليفة وخليف ، وفي هذا تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم ، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من مكذبي الرسل وما حل بهم من الهلاك ، ولا اعتبروا بمن كفر ، ولم يتعظوا بمن تقدم . { فعليه كفره } : أي عقاب كفره ، والظاهر أنه خطاب عام ؛ وقيل : لأهل مكة . والمقت : أشد الاحتقار والبغض والغضب ، والخسار : خسار العمر . كان العمر رأس مال ، فإن انقضى في غير طاعة الله ، فقد خسره واستعاض به بدل الربح بما يفعل من الطاعات سخط الله وغضبه ، بحيث صاروا إلى النار . { قل أرأيتم شركاءكم } ، قال الحوفي : ألف الاستفهام ذلك للتقرير ، وفي التحرير : أرأيتم : المراد منه أخبروني ، لأن الاستفهام يستدعي ذلك . يقول القائل : أرأيت ماذا فعل زيد ؟ فيقول السامع : باع واشترى ، ولولا تضمنه معنى أخبروني لكان الجواب نعم أو لا . وقال ابن عطية : أرأيتم ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني . وقال الزمخشري : أروني بدل من أرأيتم لأن معنى أرأيتم أخبروني ، كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعن ما استحقوا به الإلهية والشركة ، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله ، أم لهم مع الله شركة في خلق السموات ؟ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه ؟ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب ، أو يكون الضمير في { آتيناهم } للمشركين لقوله : { أم أنزلنا عليهم سلطاناً } [ الروم : 35 ] ، { أم آتيناهم كتاباً من قبله } [ الزخرف : 21 ] . { بل إن يعد الظالمون بعضهم } : وهم الرؤساء ، { بعضاً } : وهم الأتباع ، { إلا غروراً } وهو قولهم : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] . انتهى . أما قوله { أروني } بدل من { أرأيتم } فلا يصح ، لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بد من دخول الأداة على البدل ، وأيضاً فإبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم ، ثم البدل على نية تكرار العامل ، ولا يتأتى ذلك هنا ، لأنه لا عامل في أرأيتم فيتخيل دخوله على أروني . وقد تكلمنا في الأنعام على أرأيتم كلاماً شافياً . والذي أذهب إليه أن أرأيتم بمعنى أخبرني ، وهي تطلب مفعولين : أحدهما منصوب ، والآخر مشتمل على استفهام . تقول العرب : أرأيت زيداً ما صنع ؟ فالأول هنا هو { شركاءكم } ، والثاني { ماذا خلقوا } ، وأروني جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد . ويحتمل أن يكون ذلك أيضاً من باب الإعمال ، لأنه توارد على ماذا خلقوا ، أرأيتم وأروني ، لأن أروني قد تعلق على مفعولها في قولهم : أما ترى ، أي ترى هاهنا ، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين . وقيل : يحتمل أن يكون أرأيتم استفهاماً حقيقياً ، وأروني أمر تعجيز للتبيين ، أي أعملتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز ، أو تتوهمون فيها قدرة ؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة ، فكيف تعبدونها ؟ أو توهمتم لها قدرة ، فأروني قدرتها في أي شيء هي ، أهي في الأرض ؟ كما قال بعضهم : إن الله إله في السماء ، وهؤلاء آلهة في الأرض . قالوا : وفيها من الكواكب والأصنام صورها ، أم في السماوات ؟ كما قال بعضهم : إن السماء خلقت باستعانة الملائكة ، فالملائكة شركاء في خلقها ، وهذه الأصنام صورها ، أم قدرتها في الشفاعة لكم ؟ كما قال بعضهم : إن الملائكة ما خلقوا شيئاً ، ولكنهم مقربون عند الله ، فنعبدهم لتشفع لنا ، فهل معهم من الله كتاب فيه إذنه لهم بالشفاعة ؟ انتهى . وأضاف الشركاء إليهم من حيث هم جعلوهم شركاء لله ، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولهم وجعلهم ، قيل : ويحتمل شركاءكم في النار لقوله : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأَنبياء : 98 ] . والظاهر أن الضمير في { آتيناهم } عائد على الشركاء ، لتناسب الضمائر ، أي هل مع ما جعل شركاء لله كتاب من الله فيه إن له شفاعة عنده ؟ فإنه لا يشفع عنده إلا بإذنه . وقيل : عائد على المشركين ، ويكون التفاتاً خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضاً عنهم وتنزيلاً لهم منزلة الغائب الذي لا يحصل للخطاب ، ومعناه : أن عبادة هؤلاء أما بالعقل ، ولا عقل لمن يعبد ما لا يخلق من الأرض جزءاً من الأجزاء ولا له شرك في السماء ؛ وأما بالنقل ، ولم نؤت المشركين كتاباً فيه أمر بعبادة هؤلاء ، فهذه عبادة لا عقلية ولا نقلية . انتهى . وقرأ ابن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وحفص ، وأبان عن عاصم : { على بينة } ، بالإفراد ؛ وباقي السبعة : بالجمع . ولما بين تعالى فساد أمر الأصنام ووقف الحجة على بطلانها ، عقبة بذكر عظمته وقدرته ليتبين الشيء بضده ، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله فقال : { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا } : والظاهر أن معناه أن تنتقلا عن أماكنهما وتسقط السماوات عن علوها . وقيل : معناه أن تزولا عن الدوران . انتهى . ولا يصح أن الأرض لا تدور . ويظهر من قول ابن مسعود : أن السماء لا تدور ، وإنما تجري فيها الكواكب . وقال : كفى بها زوالاً أن تدور ، ولو دارت لكانت قد زالت . وأن تزولا في موضع المفعول له ، وقدر لئلا تزولا ، وكراهة أن تزولا . وقال الزجاج : يمسك : يمنع من أن تزولا ، فيكون مفعولاً ثانياً على إسقاط حرف الجر ، ويجوز أن يكون بدلاً ، أي يمنع زوال السماوات والأرض ، بدل اشتمال . { ولئن زالتا } : إن تدخل غالباً على الممكن ، فإن قدرنا دخولها على الممكن ، فيكون ذلك باعتبار يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال ، فإن ذلك ممكن ، ثم واقع بالخبر الصادق ، أي ولئن جاء وقت زوالهما . ويجوز أن يكون ذلك على سبيل الفرض ، أي ولئن فرضنا زوالهما ، فيكون مثل لو في المعنى . وقد قرأ ابن أبي عبلة : ولو زالتا ، وإن نافية ، وأمسكهما في معنى المضارع جواب للقسم المقدّر قبل لام التوطئة في لئن ، وإنما هو في معنى المضارع لدخول إن الشرطية ، كقوله : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } [ البقرة : 145 ] . أي ما يتبعون ، وكقوله : { ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا } [ الروم : 51 ] : أي ليظلوا ، فيقدّر هذا كله مضارعاً لأجل إن الشرطية ، وجواب إن في هذه المواضع محذوف لدلالة جواب القسم عليه . قال الزمخشري : و { إن أمسكها } جواب القسم في { ولئن زالتا } ، سدّ مسدّ الجوابين . انتهى ، يعني أنه دل على الجواب المحذوف ، وإن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح ، لأنه لو سدّ مسدّهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار جواب الشرط ، ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم . والشيء الواحد لا يكون معمولاً غير معمول . ومن في { من أحد } لتأكيد الاستغراق ، ومن في { من بعده } لابتداء الغاية ، أي من بعد ترك إمساكه . وسأل ابن عباس رجلاً أقبل من الشام : من لقيت ؟ قال كعباً ، قال : وما سمعته يقول ؟ قال : إن السماوات على منكب ملك ، قال : كذب كعب ، أما ترك يهوديته بعد ؟ ثم قرأ هذه الآية . وقال ابن مسعود لجندب البجلي ، وكان رجل : أي كعب الأحبار في كلام آخره ما تمكنت اليهودية في قلب وكادت أن تفارقه . وقالت طائفة : اتصافه بالحلم والغفران في هذه الآية إنما هو إشارة إلى أن السماء كادت تزول ، والأرض كذلك ، لإشراك الكفرة ، فيمسكها حكماً منه عن المشركين وتربصاً ليغفر لمن آمن منهم ، كما قال في آخر آية أخرى : { تكاد السماوات يتفطرن منه } [ مريم : 90 ] . الآية . وقال الزمخشري : { حليماً غفوراً } ، غير معاجل بالعقوبة ، حيث يمسكها ، وكانتا جديرتين بأن تهدهد العظم كلمة الشرك ، كما قال { تكاد السماوات يتفطرن منه } [ مريم : 90 ] الآية .