Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 28-44)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أخبر تعالى بإهلاك قوم حبيب بصيحة واحدة صاح بهم جبريل ، وفي ذلك توعد لقريش أن يصيبهم ما أصابهم ، إذ هم المضروب لهم المثل . وأخبر تعالى أنه لم ينزل عليهم لإهلاكهم جنداً من السماء ، كالحجارة والريح وغير ذلك ، وكانوا أهون عليه . وقوله : { من بعده } ، يدل على ابتداء الغاية ، أي لم يرسل إليهم رسولاً ، ولا عاتبهم بعد قتله ، بل عاجلهم بالهلاك . والظاهر أن ما في قوله : { وما كنا منزلين } نافية ، فالمعنى قريب من معنى الجملة قبلها ، أي وما كان يصح في حكمنا أن ننزل في إهلاكهم جنداً من السماء ، لأنه تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض ، كما قال : { فكلاً أخذنا بذنبه } [ العنكبوت : 40 ] الآية . وقالت فرقة : ما اسم معطوف على جند . قال ابن عطية : أي من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم . انتهى ، وهو تقدير لا يصح ، لأن من في من جند زائدة . ومذهب البصريين غير الأخفش أن لزيادتها شرطين : أحدهما : أن يكون قبلها نفي ، أو نهي ، أو استفهام . والثاني : أن يكون بعدها نكرة ، وإن كان كذلك ، فلا يجوز أن يكون المعطوف على النكرة معرفة . لا يجوز : ما ضربت من رجل ولا زيد ، وإنه لا يجوز : ولا من زيد ، وهو قدر المعطوف بالذي ، وهو معرفة ، فلا يعطف على النكرة المجرورة بمن الزائدة . وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون ما زائدة ، أي وقد كنا منزلين ، وقوله ليس بشيء . وقرأ : { إن كانت إلا صيحة } ، بنصب الصيحة ، وكان ناقصة واسمها مضمر ، أي إن كانت الأخذة أو العقوبة . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ومعاذ بن الحارث القارىء : صيحة بالرفع في الموضعين على أن كانت تامة ، أي ما حدثت أو وقعت إلا صيحة ، وكان الأصل أن لا يلحق التاء ، لأنه إذا كان الفعل مسنداً إلى مابعد إلا من المؤنث ، لم تلحق العلامة للتأنيث فيقول : ما قام إلا هند ، ولا يجوز : ما قامت إلا هند ، عند أصحابنا إلا في الشعر ، وجوزه بعضهم في الكلام على قلة . ومثله قراءة الحسن ، ومالك بن دينار ، وأبي رجاء ، والجحدري ، وقتادة ، وأبي حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبي بحرية : لا ترى إلا مساكتهم بالتاء ، والقراءة المشهورة بالياء ، وقول ذي الرمة : @ وما بقيت إلا الضلوع الجراشع @@ وقول الآخر : @ ما برئت من ريبة وذمّ في حربنا إلا بنات العمّ @@ فأنكر أبو حاتم وكثير من النحويين هذه القراءة بسبب لحوق تاء التأنيث . { فإذا هم خامدون } : أي فاجأهم الخمود إثر الصيحة ، لم يتأخر . وكنى بالخمود عن سكوتهم بعد حياتهم ، كنار خمدت بعد توقدها . ونداء الحسرة على معنى هذا وقت حضورك وظهورك ، هذا تقدير نداء ، مثل هذا عند سيبويه ، وهو منادى منكور على قراءة الجمهور . وقرأ أبيّ ، وابن عباس ، وعلي بن الحسين ، والضحاك ، ومجاهد ، والحسن : يا حسرة العباد ، على الإضافة ، فيجوز أن تكون الحسرة منهم على ما فاتهم ، ويجوز أن تكون الحسرة من غيرهم عليهم ، لما فاتهم من اتباع الرسل حين أحضروا للعذاب ؛ وطباع البشر تتأثر عند معاينة عذاب غيرهم وتتحسر عليهم . وقرأ أبو الزناد ، وعبد الله بن ذكوان المدني ، وابن هرمز ، وابن جندب : { يا حسرة على العباد } ، بسكون الهاء في الحالين حمل فيه الوصل على الوقف ، ووقفوا على الهاء مبالغة في التحسر ، لما في الهاء من التأهه كالتأوّه ، ثم وصلوا على تلك الحال ، قاله صاحب اللوامح . وقال ابن خالويه : يا حسرة على العباد بغير تنوين ، قاله ابن عباس ، انتهى ، ووجهه أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف التي هي بدل من ياء المتكلم في النداء ، كما اجتزأ بالكسرة عن الياء فيه . وقد قرىء : يا حسرتا ، بالألف ، أي يا حسرتي ، ويكون من الله على سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ، وفرط إنكاره وتعجيبه منه . والظاهر أن العباد هم مكذبو الرسل ، تحسرت عليهم الملائكة ، قاله الضحاك . وقال الضحاك أيضاً : المعنى يا حسرة الملائكة على عبادنا الرسل حتى لم ينفعهم الإيمان لهم . وقال أبو العالية : المراد بالعباد الرسل الثلاثة ، وكان هذا التحسر هو من الكفار ، حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم . قال ابن عطية : وقوله { ما يأتيهم } الآية يدفع هذا التأويل . انتهى . قال الزجاج : الحسرة أمر يركب الإنسان من كثرة الندم على ما لا نهاية له حتى يبقى حسيراً . وقيل : المنادى محذوف ، وانتصب حسرة على المصدر ، أي يا هؤلاء تحسروا حسرة . وقيل : { ياحسرة على العباد } من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ، لما وثب القوم ولقتله . وقيل : هو من قول الرسل الثلاثة ، قالوا ذلك حين قتلوا ذلك الرجل وحل بهم العذاب ، قالوا : يا حسرة على هؤلاء ، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد آمنوا . انتهى . فالألف واللام للعهد إذا قلنا إن العباد المراد بهم الرسل الثلاثة أو من أرسلوا إليه وهم الهالكون بسبب كفرهم وتكذيبهم إياهم . والظاهر أنها لتعريف جنس الكفار المكذبين وتلخص أن المتحسر الملائكة أو الله تعالى أو المؤمنون أو الرسل الثلاثة أو ذلك الرجل ، أقوال . { ما يأتيهم } إلى آخر الآية : تمثيل لقريش ، وهم الذين عاد عليهم الضمير في قوله { ألم يروا كم أهلكنا } . قال ابن عطية : وكم هنا خبرية ، وأنهم بدل منها ، والرؤية رؤية البصر . انتهى . فهذا لا يصح ، لأنها إذا كانت خبرية فهي في موضع نصب بأهلكنا ، ولا يسوغ فيها إلا ذلك . وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون أنهم بدل منها ، لأن البدل على نية تكرار العامل ، ولو سلطت أهلكنا على أنهم لم يصح . ألا ترى أنك لو قلت أهلكنا انتفاء رجوعهم ، أو أهلكنا كونهم لا يرجعون ، لم يكن كلاماً ؟ لكن ابن عطية توهم أن يروا مفعوله كم ، فتوهم أن قولهم أنهم لا يرجعون بدل ، لأنه يسوغ أن يتسلط عليه فتقول : ألم يروا أنهم لا يرجعون ؟ وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية . وقال الزجاج : هو بدل من الجملة ، والمعنى : ألم يروا أن القرون التي أهلكناها إليهم لا يرجعون ، لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى النهي . وهذا الذي قاله الزجاج ليس بشيء ، لأنه ليس بدلاً صناعياً ، وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صنعة النحو . وقال أبو البقاء : أنهم إليهم . انتهى ، وليس بشيء ، لأن كم ليس بمعمول ليروا . ونقل عن الفراء أنه يعمل يروا في الجملتين من غير إبدال ، وقولهم في الجملتين تجوز ، لأن أنهم وما بعده ليس بجملة ، ولم يبين كيفية هذا العمل . وقال الزمخشري : { ألم يروا } : ألم يعلموا ، وهو معلق عن العمل في كم ، لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها كانت للاستفهام أو للخبر ، لأن أصلها الاستفهام ، إلا أن معناها نافذ في الجملة ، كما نفذ في قولك : ألم يروا أن زيداً لمنطلق ؟ وأن لم تعمل في لفظه . و { أنهم إليهم لا يرجعون } بدل من { أهلكنا } على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ؟ انتهى . فجعل يروا بمعنى يعلموا ، وعلقها على العمل في كم . وقوله : لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها ، كانت للاستفهام أو للخبر ، وهذا ليس على إطلاقه ، لأن العامل إذا كان حرف جر أو اسماً مضافاً جاز أن يعمل فيها ، نحوكم على : كم جذع بيتك ؟ وأين : كم رئيس صحبت ؟ وعلى : كم فقير تصدّقت ؟ أرجو الثواب ، وأين : كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه ؟ وقوله : أو للخبر الخبرية فيها لغتان : الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار واللغة الأخرى ، حكاها الأخفش ؛ يقولون فيها : ملكت كم غلام ؟ أي ملكت كثيراً من الغلمان . فكما يجوز أن يتقدم العامل على كثير ، كذلك يجوز أن يتقدم على كم لأنها بمعناها . وقوله : لأن أصلها الاستفهام ، ليس أصلها الاستفهام ، بل كل واحدة أصل في بابها ، لكنها لفظ مشترك بين الاستفهام والخبر . وقوله : إلا أن معناها نافذ في الجملة ، يعني معنى يروا نافذ في الجملة ، لأن جعلها معلقة ، وشرح يروا بيعلموا . وقوله : كما تقدم في قولك : ألم يروا أن زيداً لمنطلق ؟ فإن زيداً لمنطلق معمول من حيث المعنى ليروا ، ولو كان عاملاً من حيث اللفظ لم تدخل اللام ، وكانت أن مفتوحة ، فإن وفي خبرها اللام من الأدوات التي تعلق أفعال القلوب . وقوله : و { أنهم إليهم لا يرجعون } إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلاً ، لا على اللفظ ولا على المعنى . أما على اللفظ فإنه زعم أن يروا معلقة ، فيكون كم استفهاماً ، وهو معمول لأهلكنا ، وأهلكنا لا يتسلط على { أنهم إليهم لا يرجعون } ، وتقدّم لنا ذلك . وأما على المعنى ، فلا يصح أيضاً ، لأنه قال تقديره ، أي على المعنى : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ؟ فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك ، فلا يكون بدل كل من كل ، ولا بعضاً من الإهلاك ، ولا يكون بدل بعض من كل ، ولا يكون بدل اشتمال ، لأن بدل الاشتمال يصح أن يضاف إلى ما أبدل منه ، وكذلك بدل بعض من كل ، وهذا لا يصح هنا . لا تقول : ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم ، وفي بدل الاشتمال نحو : أعجبني الجارية ملاحتها ، وسرق زيد ثوبه ، يصح أعجبني ملاحة الجارية ، وسرق ثوب زيد ، وتقدم لنا الكلام على إعراب مثل هذه الجملة في قوله : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } [ الأَنعام : 6 ] ، في سورة الأنعام . والذي تقتضيه صناعة العربية أن أنهم معمول لمحذوف ، ودل عليه المعنى ، وتقديره : قضينا أو حكمنا { أنهم إليهم لا يرجعون } . وقرأ ابن عباس والحسن : إنهم بكسر الهمزة على الاستئناف ، وقطع الجملة عن ما قبلها من جهة الإعراب ، ودل ذلك على أن قراءة الفتح مقطوعة عن ما قبلها من جهة الإعراب لتتفق القراءتان ولا تختلفا . والضمير في أنهم عائد على معنى كم ، وهم القرون ، وإليهم عائد على من أسند إليه يروا ، وهم قريش ؛ فالمعنى : أنهم لا يرجعون إلى من في الدنيا . وقيل : الضمير في أنهم عائد على من أسند إليه يروا ، وفي إليهم عائد على المهلكين ، والمعنى : أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة ، أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم ، والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم . وقرأ عبد الله : ألم يروا من أهلكنا ، وأنهم على هذا بدل اشتمال ؛ وفي قولهم : أنهم لا يرجعون ، رد على القائلين بالرجعة . وقيل لابن عباس : إن قوماً يزعمون أن علياً مبعوث قبل يوم القيامة ، فقال : ليس القوم نحن إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه . وقرأ عاصم ، وحمزة ، وابن عامر : بتثقيل لما ؛ وباقي السبعة : بتخفيفها . فمن ثقلها كانت عنده بمعنى إلا ، وإن نافية ، أي ما كل ، أي كلهم { وإن كلٌ لما جميعٌ لدينا محضرون } : أي محشورون ، قاله قتادة . وقال ابن سلام : معذبون ؛ وقيل : التقدير لمن ما وليس بشيء ، ومن خفف لما جعل إن المخففة من الثقيلة ، وما زائدة ، أي إن كل لجميع ، وهذا على مذهب البصريين . وأما الكوفيون ، فإن عندهم نافية ، واللام بمعنى إلا ، وما زائدة ، ولما المشددة بمعنى إلا ثابت في لسان العرب بنقل الثقاة ، فلا يلتفت إلى زعم الكسائي أنه لا يعرف ذلك . وقال أبو عبد الله الرازي : في كون لما بمعنى إلا معنى مناسب ، وهو أن لما كأنها حرفا نفي جميعاً . وهما لم وما ، فتأكد النفي ؛ وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا ، فاستعمل أحدهما مكان الآخر . انتهى ، وهذا أخذه من قول الفراء في إلا في الاستثناء أنها مركبة من إن ولا ، إلا أن الفراء جعل إن المخففة من الثقيلة وما زائدة ، أي إن كل لجميع ، وهذا على مذهب البصريين . وأما الكوفيون ، فإن عندهم نافية ، واللام بمعنى إلا ، وما زائدة ، ولما المشددة بمعنى إلا ثابت حرف نفي ، وهو قول مردود عند النحاة ركيك ، وما تركب منه وزاد تحريفاً أرك منه ، وكل بمعنى الإحاطة ، وجميع فعيل بمعنى مفعول ، ويدل على الاجتماع ، وجميع محضرون هنا على المعنى ، كما أفرد منتصر على اللفظ ، وكلاهما بعد جميع يراعى فيه الفواصل . وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإهلاك تبييناً أنه تعالى ليس من أهله يترك ، بل بعد إهلاكهم جمع وحساب وثواب وعقاب ، ولذلك أعقب هذا بما يدل على الحشر من قوله : { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } وما بعده من الآيات . وبدأ بالأرض ، لأنها مستقرهم ، حركة وسكوناً ، حياة وموتاً . وموت الأرض جدبها ، وإحياؤها بالغيث . والضمير في لهم عائد على كفار قريش ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر . و { أحييناها } : استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية ، وكذلك نسلخ . وقيل : أحييناها في موضع الحال ، والعامل فيها آية بما فيها من معنى الإعلام ، ويكون آية خبراً مقدماً ، والأرض الميتة مبتدأ ؛ فالنية بآية التأخير ، والتقدير : والأرض الميتة آية لهم محياة كقولك : قائم زيد مسرعاً ، أي زيد قائم مسرعاً ، ولهم متعلق بآية ، لا صفة . وقال الزمخشري : ويجوز أن يوصف الأرض والليل بالفعل ، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض ، وليل بإحيائهما ، فعوملا معاملة النكرات في وصفها بالأفعال ونحوه : @ ولقد أمر على اللئيم يسبني @@ انتهى . وهذا هدم لما استقر عند أئمة النحو من أن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ، ولا دليل لمن ذهب إلى ذلك . وأما يسبني فحال ، أي ساباً لي ، وقد تبع الزمخشري ابن مالك على ذلك في التسهيل من تأليفه . وفي هذه الجمل تعدد نعم إحياؤها بحيث تصير مخضرة تبهج النفس والعين ، وإخراج الحب منها حيث صار ما يعيشون به في المكان الذي هم فيه مستقرون ، لا في السماء ولا في الهواء ، وجعل الحبات لأنهم أكلوا من الحب ، وربما تاقت النفس إلى النقلة ، فالأرض يوجد منها الحب ، والشجر يوجد منه الثمر ، وتفجير العيون يحصل به الاعتماد على تحصيل الزرع والثمر ، ولو كان من السماء لم يدر أين يغرس ولا أين يقع المطر . وقرأ جناح بن حبيش : { وفجرنا } بالتخفيف ، والجمهور : بالتشديد . { ومن ثمره } بفتحتين ؛ وطلحة ، وابن وثاب ، وحمزة ، والكسائي : بضمتين ؛ والأعمش : بضم الثاء وسكون الميم ؛ والضمير في ثمره عائد على الماء ، قيل : لدلالة العيون عليه ولكونه على حذف مضاف ، أي من ماء العيون ؛ وقيل : على النخيل ، واكتفى به للعلم في اشتراك الأعيان فيما علق به النخيل من أكل ثمره ، أو يراد من ثمر المذكور ، وهو الجنات ، كما قال الشاعر : @ فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق @@ فقيل له : كيف قلت بعيون ، كأنه والذي تقدم خطوط ؟ فقال أرت : كان ذاك . وقيل : عائد إلى التفجير الدال عليه وفجرنا الآية أقرب مذكور ، وعنى بثمرة : فوائده ، كما تقول : ثمرة التجارة الربح . وقال الزمخشري : وأصله من ثمرنا ، كما قال : { وجعلنا } ، { وفجرنا } ، فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات ، والمعنى : ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر ، ومما عملته أيديهم من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه ، وبأن أكله يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه ، وفيه آثار من كد بني آدم . ويجوز أن تكون ما نافية ، على أن الثمر خلق الله ، ولم تعمله أيدي الناس ، ولا يقدرون على خلقه . وقرأ الجمهور : { وما عملته } بالضمير ، فإن كانت ما موصولة فالضمير عائد عليها ، وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر . وقرأ طلحة ، وعيسى ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : بغير ضمير مفعول عملت على التقديرين محذوفة ، وجوز في هذه القراءة أن تكون ما مصدرية ، أي وعمل أيديهم ، وهو مصدر أريد به المعمول ، فيعود إلى معنى الموصول . ولما عدد تعالى هذه النعم ، حض على الشكر فقال ؛ { أفلا يشكرون } ، ثم نزه تعالى نفسه عن كل ما يلحد به ملحد ، أو يشرك به مشرك ، فذكر إنشاء الأزواج ، وهي الأنواع من جميع الأشياء ، { مما تنبت الأرض } : من النخل والشجر والزرع والثمر وغير ذلك . وكل صنف زوج مختلف لوناً وطعماً وشكلاً وصغراً وكبراً ، { ومن أنفسهم } : ذكوراً وإناثاً ، { ومما لا يعلمون } : أي وأنواعاً مما لا يعلمون ، أعلموا بوجوده ولم يعلموا ما هو ، إذ لا يتعلق علمهم بماهيته ، أمر محتاج إليه في دين ولا دنيا . وفي إعلامه بكثرة مخلوقاته دليل على اتساع ملكه وعظم قدرته . ولما ذكر تعالى الاستدلال بأحوال الأرض ، وهي المكان الكلي ، ذكر الاستدلال بالليل والنهار ، وهو الزمان الكلي ؛ وبينهما مناسبة ، لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر ، والزمان لا تستغني عنه الأعراض ، لأن كل عرض فهو في زمان ، ومثله مذكور في قوله : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر } [ فصلت : 37 ] ، ثم قال بعده : { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة } [ فصلت : 39 ] الآية . وبدأ هناك بالزمان ، لأن المقصود إثبات الوحدانية بدليل قوله : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } [ فصلت : 38 ] الآية ، ثم الحشر بقوله : { إن الذي أحياها لمحيي الموتى } [ فصلت : 39 ] ، وهذا المقصود الحشر أولاً لأن ذكره فيها أكثر ، وذكر التوحيد في فصلت أكثر بدليل قوله : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض } [ فصلت : 9 ] . انتهى ، وهو من كلام أبي عبد الله الرازي ، وفيه تلخيص . و { نسلخ } : معناه نكشط ونقشر ، وهو استعارة لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل . و { مظلمون } : داخلون في الظلام ، كما تقول : أعتمنا وأسحرنا : دخلنا في العتمة وفي السحر . واستدل قوم بهذا على أن الليل أصل والنهار فرع طارىء عليه ، ومستقر الشمس بين يدي العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها . كما جاء في حديث أبي در : " ويقال لها اطلعي من حيث طلعت ، فإذا كان طلوعها من مغربها يقال لها اطلعي من حيث غربت ، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها ، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً " وقال ابن عباس : إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه ، استوت تحت العرش إلى أن تطلع . وقال الحسن : للشمس في السنة ثلاثمائة وستون مطلعاً ، تنزل كل يوم مطلعاً ، ثم لا تنزل إلى الحول ، وهي تجري في فلك المنازل ، أو يوم القيامة ، أو غيبوبتها ، لأنها تجري كل وقت إلى حد محدود تغرب فيه ، أو أحد مطالعها في المنقلبين ، لأنهما نهايتا مطالعها ؛ فإذا استقر وصولها كرت راجعة ، وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين . ونحا إلى هذا ابن قتيبة ، أو وقوفها عند الزوال كل يوم ، ودليل استقرارها وقوف ذلك الظلام حينئذ . وقال الزمخشري : بمستقر لها : لحدِّها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة . شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره ، أو كمنتهي لها من المشارق والمغارب ، لأنها تتقصاها مشرقاً مشرقاً ومغرباً مغرباً حتى تبلغ أقصاها ثم ترجع ، فلذلك حدها ومستقرها ، لأنها لا تعدوه أو لا يعدلها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب . وقيل : مستقرها : محلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها فاستقرت عليه ، وهو آخر السنة . وقيل : الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها ، وهو يوم القيامة . وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : في المستقر وجوه في الزمان وفي المكان ، ففي الزمان الليل أو السنة أو يوم القيامة ، وفي المكان غاية ارتفاعها في الصيف وانخفاضها في الشتاء ، وتجري إلى ذلك الموضع فترجع ، أو غاية مشارقها ، فلها في كل يوم مشرق إلى ستة أشهر ، ثم تعود على تلك المقنطرات ؛ وهذا هو ما تقدم في الارتفاع . فإن اختلاف المشارق سبب اختلاف الارتفاع ، أو وصولها إلى بيتها في الأسد ، أو الدائرة التي عليها حركتها ، حيث لا تميل عن منطقة البروج على مرور الشمس . ويحتمل أن يقال : تجري مجرى مستقرها ، فإن أصحاب الهيئة قالوا : الشمس في فلك ، والفلك يدور فيدير الشمس ، فالشمس تجري مجرى مستقرها . انتهى . وقرىء : إلى مستقرها . وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وعكرمة ، وعطاء بن رباح ، وزين العابدين ، والباقر ، وابنه الصادق ، وابن أبي عبدة : لا مستقر لها ، نفياً مبنياً على الفتح ، فيقتضي انتفاء كل مستقر وذلك في الدنيا ، أي هي تجري دائماً فيها ، لا تستقر ؛ إلا ابن أبي عبلة ، فإنه قرأ برفع مستقر وتنوينه على إعمالها إعمال ليس ، نحو قول الشاعر : @ تعز فلا شيء على الأرض باقياً ولا وزر مما قضى الله واقياً @@ الإشارة بذلك إلى جري الشمس : أي ذلك الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق . { تقدير العزيز } : الغالب بقدرته على كل مقدور ، المحيط علماً بكل معلوم . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وابن محيصن ، والحسن : بخلاف عنه . { والقمر } : بالرفع على الابتداء ؛ وباقي السبعة : بالنصب على الاشتغال . و { قدرناه } على حذف مضاف ، أي قدرنا سيره ، و { منازل } : طرف ، أي منازله ؛ وقيل : قدرنا نوره في منازل ، فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية وينقص في المنازل الاستقبالية . وقيل : قدرناه : جعلنا أنه أجري جريه عكس منازل أنوار الشمس ، ولا يحتاج إلى حذف حرف الصفة ، فإن جرم القمر مظلم ، ينزل فيه النور لقبوله عكس ضياء الشمس ، مثل المرأة المجلوة إذا قوبل بها الشعاع . وهذه المنازل معروفة عند العرب ، وهي ثمانية وعشرون منزلة ، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها ، لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه ، على تقدير مستولا بتفاوت ، يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ، ثم يسير ليلتين إذا نقص الشهر ، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة ، وهي : الشرطين ، البطين ، الثريا ، الدبوان ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الدبرة ، الصرفة ، العواء ، السماك ، العفر ، الزباني ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرع الدلو المقدم ، فرع الدلو المؤخر ، بطن الحوت ، ويقال له الرشاء ، فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس واصفر ، فشبه بالعرجون القديم من ثلاثة الأوجه . وقرأ سليمان التيمي : كالعِرجون ، بكسر العين وفتح الجيم ؛ والجمهور : بضمها ، وهما لغتان كالبريون . و { القديم } : ما مر عليه زمان طويل . وقيل : أقل عدة الموصوف بالقدم حول ، فلو قال رجل : كل مملوك لي قديم فهو حر ، أو كتب ذلك في وصية ، عتق منهم من مضى له حول وأكثر . انتهى . والقدم أمر نسبي ، وقد يطلق على ما ليس له سنة ولا سنتان ، فلا يقال العالم قديم ، وإنما تعتبر العادة في ذلك . { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } : ينبغي لها مستعملة فيما لا يمكن خلافه ، أي لم يجعل لها قدرة على ذلك ، وهذا الإدراك المنبغي هو ، قال الزمخشري : إن الله تعالى جعل لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسماً من الزمان ، وضرب له حداً معلوماً ، ودبر أمرهما على التعاقب . فلا ينبغي للشمس أن لا يستهل لها ، ولا يصح ، ولا يستقيم ، لوقوع التدبير على العاقبة . وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان ، على حياله أن يدرك القمر ، فتجتمع معه في وقت واحد ، وتداخله في سلطانه ، فتطمس نوره . ولا يسبق الليل النهار ، يعني آية الليل آية النهار ، وهما النيران . ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك ، وينقص ما ألف ، فيجمع بين الشمس والقمر ، فتطلع الشمس من مغربها . انتهى . وقال ابن عباس ، والضحاك : إذا طلعت ، لم يكن للقمر ضوء ؛ وإذا طلع ، لم يكن للشمس ضوء . وقال مجاهد : لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر . وقال قتادة : لكل أحد حدّ لا يعدوه ولا يقصر دونه ، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا . وقال ابن عباس أيضاً : إذا اجتمعا في السماء ، كان أحدهما بين يدي الآخر ، في منازل لا يشتركان فيها . وقال الحسن : لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة ، أي لا تبقى الشمس حتى يطلع الفجر ، ولكن إذا غربت طلع . وقال يحيـى بن سلام : لا تدركه ليلة البدر خاصة ، لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها . وقيل : لا يمكنها أن تدركه في سرعته ، لأن دائرة فلك القمر داخلة في فلك عطارد ، وفك عطارد داخل في فلك الزهرة ، وفلك الزهرة داخل في فلك الشمس . فإذا كان طريق الشمس أبعد ، قطع القمر جميع أجزاء فلكه ، أي من البروج الاثني عشر ، في زمان تقطع الشمس فيه برجاً واحداً من فلكه . وقال النحاس : ما قيل فيه ، وأبينه أن مسير القمر مسير سريع ، والشمس لا تدركه في السير . انتهى ، وهو ملخص القول الذي قبله : { ولا الليل سابق النهار } ، لا يعارض قوله : { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً } [ الأعراف : 54 ] ، لأن ظاهر قوله : { يطلبه حثيثاً } ، أن النهار سابق أيضاً ، فيوافق الظاهر . وفهم أبو عبد الله الرازي من قوله : { يطلبه حثيثاً } أن النهار يطلب الليل ، والليل سابقه . وفهم من قوله : { ولا الليل سابق النهار } ، أن الليل مسبوق لا سابق ، فأورده سؤالاً . وقال : كيف يكون الليل سابقاً مسبوقاً ؟ وأجاب بأن المراد من الليل هنا سلطان الليل ، وهو القمر ، وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية السريعة . والمراد من الليل هناك نفس الليل ، وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه . انتهى . وعرض له هذا السؤال لكونه جعل الضمير الفاعل في يطلبه عائداً على النهار ، وضمير المفعول عائداً على الليل . والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل ، لأنه كان قبل دخول همزة النقل { يغشي الليل النهار } [ الأعراف : 54 ] ، وضمير المفعول عائد على النهار ، لأنه المفعول قبل النقل وبعده . وقرأ عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير الخطفي : سابق بغير تنوين ، النهار : بالنصب . قال المبرد : سمعته يقرأ فقلت : ما هذا ؟ قال : أردت سابق النهار ، فحذفت لأنه أخف . انتهى ، وحذف التنوين فيه لالتقاء الساكنين . وتقدّم شرح : { وكل في فلك يسبحون } في سورة الأنبياء . والظاهر من الذرية أنه يراد به الأبناء ومن نشأ منهم . وقيل : ينطلق على الآباء وعلى الأبناء ، قاله أبو عثمان . وقال ابن عطية : هذا تخليط ، ولا يعرف هذا في اللغة . انتهى . وتقدّم الكلام في الذرية في آل عمران . والظاهر أن الضمير في لهم وفي ذرياتهم عائد على شيء واحد ، فالمعنى أنه تعالى حمل ذريات هؤلاء ، وهم آباؤهم الأقدمون ، في سفينة نوح عليه السلام ، قاله ابن عباس وجماعة . ومن مثله : للسفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة أو أريد بقوله : ذرياتهم ، حذف مضاف ، أي ذريات جنسهم ، وأريد بالذرية من لا يطيق المشي والركوب من الذرية والضعفاء . فالفلك اسم جنس من عليهم بذلك ، وكون الفلك مراداً به الجنس ، قاله ابن عباس أيضاً ومجاهد والسدّي ، ومن مثله : الإبل وسائر ما يركب . وقيل : الضميران مختلفان ، أي ذرية القرون الماضية ، قاله عليّ بن سليمان ، وكان آية لهؤلاء ، إذ هم نسل تلك الذرية . وقيل : الذرية : النطف ، والفلك المشحون : بطون النساء ، ذكره الماوردي ، ونسب إلى عليّ بن أبي طالب ، وهذا لا يصح ، لأنه من نوع تفسير الباطنية وغلاة المتصوفة الذين يفسرون كتاب الله على شيء لا يدل عليه اللفظ بجهة من جهات الدلالة ، يحرفون الكلم عن مواضعة . ويدل على أنه أريد ظاهر الفلك قوله : { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } : يعني الإبل والخيل والبغال والحمير ، والمماثلة في أنه مركوب مبلغ للأوطان فقط ، هذا إذا كان الفلك جنساً . وأما إن أريد به سفينة نوح ، فالمماثلة تكون في كونها سفناً مثلها ، وهي الموجودة في بني آدم . ويبعد قول من قال : الذرية في الفلك قوم نوح في سفينته ، والمثل الأجل : وما يركب ، لأنه يدفعه قوله : { وإن نشأ نغرقهم } . وقرأ نافع ، وابن عامر ، والأعمش ، وزيد بن عليّ ، وأبان بن عثمان : ذرياتهم بالجمع ؛ وكسر زيد وأبان الذال ؛ وباقي السبعة ، وطلحة ، وعيسى : بالإفراد . وقال الزمخشري : ذريتهم : أولادهم ومن يهمهم حمله . وقيل : اسم الذرية يقع على النساء ، لأنهن مزراعها . وفي الحديث : " أنه نهى عن قتل الذراري " ، يعني النساء . { من مثله } : من مثل الفلك ، { ما يركبون } : من الإبل ، وهي سفائن البر . وقيل : { الفلك المشحون } : سفينة نوح . ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها : أنه حمل فيها آباؤهم الأقدمون ، وفي أصلابهم هم وذرياتهم . وإنما ذكر ذرياتهم دونهم ، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ، وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح . و { من مثله } : من مثل ذلك الفلك ، { ما يركبون } : من السفن . انتهى . وقال أبو عبد الله الرازي : إنما خص الذريات بالذكر ، لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم ، أي لم يكن الحمل حملاً لهم ، وإنما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين . وقال أيضاً : الضمير في وآية لهم عائد على العباد في قوله : { يا حسرة على العباد } ثم قال بعد { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } ، { وآية لهم الليل } ، { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } : ذريات العباد ، ولا يلزم أن يكون الضمير في الموضعين لمعنيين ، فهو كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] ، إنما يريد : لا يقتل بعضكم بعضاً ، فكذلك هذا . { وآية لهم } : أي آية كل بعض منهم ، { أنا حملنا } ذرية كل بعض منهم ، أو ذرية بعض منهم . انتهى . والظاهر في قوله : { وخلقنا } أنه أريد الإنشاء والاختراع ، فالمراد الإبل وما يركب ، وتكون من للبيان ، وإن كان ما يصنعه الإنسان قد ينسب إلى الله خلقاً ، لكن الأكثر ما ذكرنا . وإذا أريد به السفن ، تكون من للتبعيض ، ولهم الظاهر عوده على ما عاد عليه { وآية لهم } ، لأنه المحدث عنهم ، وجوز أن يعود على الذرية ؛ والظاهر أن الضمير في مثله عائد على الفلك . وقيل : يعود على معلوم غير مذكور وتقديره : من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله : { سبحان الذين خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض } ، كما قالوا : في قوله { من ثمره } ، أي من ثمر ما ذكرنا . وقرأ الحسن : نغرقهم مشدداً ؛ والجمهور : مخففاً ؛ والصريخ : فعيل بمعنى صارخ : أي مستغيث ، وبمعنى مصرخ : أي مغيث ، وهذا معناه هنا ، أي فلا مغيث لهم ولا معين . وقال الزمخشري : { فلا صريخ لهم } : أي فلا إغاثة لهم . انتهى . كأنه جعله مصدراً من أفعل ، ويحتاج إلى نقل أن صريخاً يكون مصدراً بمعنى صراخ . والظاهر أن قوله : { فلا صريخ لهم } : أي لا مغيث لهؤلاء الذين شاء الله إغراقهم ، { ولا هم ينقذون } : أي ينجون من الموت بالغرق . نفي أولاً الصريخ ، وهو خاص ؛ ثم نفى ثانياً إنقاذهم بصريخ أو غيره . وقال ابن عطية : وقوله { فلا صريخ لهم } استئناف إخبار عن المسافرين في البحر ، ناجين كانوا أو مغرقين ، فهم في هذه الحال لا نجاة لهم إلا برحمة الله . وليس قوله : { فلا صريخ لهم } مربوطاً بالمغرقين ، وقد يصح ربطه به ، والأول أحسن فتأمله . انتهى ، وليس بحسن ولا أحسن . والفاء في { فلا صريخ لهم } تعلق الجملة بما قبلها تعليقاً واضحاً ، وترتبط به ربطاً لائحاً . والخلاص من العذاب بما يدفعه من أصله ، فنفي بقوله : { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } ، وما يرفعه بعد وقوعه ، فنفي بقوله : { ولا هم ينقذون } . وانتصب { رحمة } على الاستثناء المفرغ للمفعول من أجله ، أي لرحمة منا . وقال الكسائي ، والزجاج : { إلى حين } : أي إلى حين الموت ، قاله قتادة . وقال الزمخشري : إما لرحمة منا ، وليتمتع بالحياة إلى حين : أي إلى أجل يموتون فيه لا بد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق . انتهى . وإنما قال : لا بد لهم من موت الغرق ، لأنه تعالى قال { وإن نشأ } : أي إغراقهم ، { نغرقهم } : فمن شاء إغراقه لا بد أن يموت بالغرق . والظاهر أن { رحمة } ، { ومتاعاً إلى حين } يكون للذين ينقذون ، فلا يفيد الدوام ، بل ينقذه الله رحمة له ويمتعه إلى حين ثم يميته . وقيل : فيه تقسيم ، إلا رحمة لمن علم أنه يؤمن من فينقذه الله رحمة ، ومن علم أنه لا يؤمن يمنعه زماناً ويزداد إثماً .