Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 58-67)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله عز وجل : { وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } ، قال السدِّيُّ وغيره : سبب مجيئهم أنَّ المجاعة ٱتصَلَتْ ببلادِهِمْ ، وكان النَّاس يمتارُونَ مِنْ عنْد يوسُف ، وهو في رتبة العزيز المتقدِّم ، وكان لا يعطي الوارد أكثر مِنْ حِملٍ بَعِيرٍ يُسَوِّي بين الناس ، فلما ورد إِخوته ، عَرَفَهم ، ولم يَعْرفُوه لِبُعْدِ العهد وتغيُّر سنِّه ، ولم يقعْ لهم بَسَبِب مُلْكه ولسانِهِ القبْطِيِّ ظنٌّ عليه ، ورُوِيَ في بعض القصص ، أنه لما عرفهم أراد أنْ يخبروه بجميعِ أمرهم ، فباحَثَهُمْ بأنْ قال لهم بتَرْجُمَانٍ : « أُظنُّكُمْ جواسِيسَ » ، فٱحتاجوا حينئذٍ إِلى التعريفِ بأنفسهم ، فقالوا : نَحْنُ أبناءُ رجُلٍ صِدِّيقٍ ، وكنا اثْنَيْ عَشَرَ ذهب منَّا واحدٌ في البَرِّيَّة ، وبقي أصغرنا عنْدَ أبينا ، وجئْنَا نَحْن للميرة ، وسقنا بعير الباقي منَّا ، وكنا عَشَرَةً ، ولهم أحدَ عَشَرَ بعيراً ، فقال لهم يوسف : ولِمَ تخلَّفَ أحدكم ؟ قالوا : لمحبَّة أبينا فيه ، قال : فأتوا بهذا الأخِ ؛ حتى أعلم حقيقة قَوْلِكم ، وأرَى لِمَ أحَبُّهُ أبوكم أَكْثَرَ منكم ؛ إِن كنتم صادقين ، وروي في القصص أنهم وَرَدُوا مصْرَ وٱستأذنوا على العزيز ، وٱنْتَسَبُوا في ٱلاستئذان ، فعرفَهُمْ ، وأمر بإِنزالهم وأدخَلَهم في ثاني يومٍ على هيئة عظيمةٍ لمُلْكِه ، وروي أنه كان متلثِّماً أبداً سَتْراً لجماله ، وأنه كان يأخذ الصُّوَاع ، فينقره ، ويَفْهم منْ طنينه صدْقَ الحديثِ منْ كذبه ، فَسُئِلوا عن أخبارهم ، فكلَّما صدقوا ، قال لهم يوسف : صَدَقْتم ، فلما قالوا : وكَانَ لَنَا أخٌ أكله الذِّئب ، أطنَّ يوسُفُ الصُّواع ، وقال : كَذَبْتم ، ثم تغيَّر لهم ، وقال : أراكُمْ جواسيسَ ، وكلَّفهم سَوْقَ الأخ الباقي ؛ ليظهر صدْقُهم في ذلك ؛ في قصصٍ طويلٍ ، جاءت الإِشارة إِليه في القرآن ، « والجهاز » ما يحتاج إِليه المسافر من زَادٍ ومتاعٍ . وقوله : { بِأَخٍ لَّكُم } * ص * : نَكَّرَهُ ، ليريهم أنه لا يعرفُهُ ، وفَرْقٌ بين غلامٍ لك ، وبين غلامِكَ ، ففي الأول أنت جاهلٌ به ، وفي الثاني أنْتَ عالمٌ ، لأن التعريف به يفيدُ نَوْعَ عهدٍ في الغلامِ بَيْنَكَ وبين المخاطَب ، انتهى . وقول يوسف : { أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي ٱلْكَيْلَ … } الآية : يرغِّبهم في نفسه آخراً ويؤَنِّسهم ويَسْتميلهم ، و { ٱلْمُنْزِلِينَ } : يعني : المُضِيفين ، ثم توعَّدهم بقوله : { فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ } ، أي : في المستأنف ، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كَانَ يُوسُفُ يُلْقِي حَصَاةً في إِنَاءِ فِضَّةٍ مَخُوصٍ بالذَّهَبِ فَيَطِنُّ ، فَيَقُولُ لَهُمْ : إِنَّ هَذَا الإِنَاءَ يُخْبِرُنِي أَنَّ لَكُمْ أَباً شَيْخاً " ، ورُوِيَ أنَّ ذلك الإِناء به كان يَكِيلُ الطعامَ ، إِظهاراً لِعزَّته بحسب غَلاَئِهِ ، وروي أن يوسُفَ ٱستوفى في تلك السنين أمْوَالَ الناسِ ، ثم أملاكَهم ، وظاهر كُلِّ ما فعله يوسُفُ معهم أنَّه بوحْيٍ وأمْرٍ ، وإِلا فَكَانَ بِرُّ يعقوب يقتضي أن يبادِرَ إِلَيْهِ ويستَدْعيه ، لكنَّ اللَّه تَعَالى أَعلمه بما يَصْنَعُ ؛ ليكمل أجْرَ يعقوب ومِحْنته ، وتتفسَّر الرؤيا الأُولى . وقوله : { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } : يريد : لعلَّهم يعرفون لها يداً وتكرمةً يَرَوْنَ حقَّها ؛ فيرغبون في الرجوعِ إِلينا ، وأما مَيْزُ البِضَاعة ، فلا يُقَالُ فيه : « لَعَلَّ » وقيل : قصد يوسف بِرَدِّ البضاعة أنْ يتحرَّجوا مِنْ أخْذِ الطعامِ بِلا ثَمنٍ ، فيرجعوا لدَفْعِ الثمنِ ، وهذا ضعيفٌ من وجوهٍ ، وسرُورُهُم بالبضَاعةِ ، وقولهم : { هَـٰذِهِ بِضَـٰعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } يكشف أنَّ يوسف لم يَقْصِدْ هذا ، وإِنما قصد أنْ يستميلهم ، ويصلهم ، ويُظْهِر أَنَّ ما فعله يوسف من صلتهم وجَبْرهم في تِلْكَ الشِّدَّة كان واجباً عليه ، وقيلَ : عَلِمَ عَدَمَ البضاعةِ والدَّراهمِ عند أبيه ؛ فرَدَّ البضاعة إِليهم ؛ لئِلاَّ يمنعهم العُدْمُ من الرجوعِ إِليه ، وقيل : جعلها توطئةً لجعل السقاية في رَحْلِ أخيه بعد ذلك ، ليبيِّن أنه لم يَسْرِقْ لمن يتأمَّل القصَّة ، والظاهر منَ القصَّة أنه إِنما أَراد ٱلاستئلاف وصِلَةَ الرحِمِ ، وأصْلُ « نَكْتَلْ » : « نَكْتَئِل » ، وقولهم : { مُنِعَ مِنَّا ٱلْكَيْلُ } : ظاهره أنهم أشاروا إِلى قوله : { فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي } ، فهو خوفٌ في المستأنفِ ، وقيل : أشاروا إِلى بعيرِ يَامِينَ ، والأولْ أرجَحُ ، ثم تضمَّنوا له حِفْظَه وحَيْطَته ، وقول يعقوبَ عليه السلام : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ … } الآية : « هَلْ » توقيفٌ وتقريرٌ ولم يصرِّح بمنعهم مِنْ حمله ؛ لما رأَى في ذلك مِنَ المصلحة ، لكنَّه أعلمهم بقلَّة طَمَأْنينَتِهِ إِليهم ، ولكنْ ظاهر أمرهم أنهم قد أنابُوا إِلى اللَّه سُبْحانه ، وانتقلَتْ حالهم ، فلم يَخَفْ على يَامِينَ ، كخوفه علَى يوسُفَ ، وقرأ نافعٌ وغيره : « خَيْرٌ حِفْظاً » ، وقرأ حمزة وغيره : « خَيْرٌ حَافِظاً » ، ونصب ذلك في القراءتين ؛ على التمييز والمعنى : أنَّ حفظ اللَّه خَيْرٌ من حفْظِكم ، فٱستسلم يعقوبُ عليه السلام للَّهِ ، وتوكَّل علَيْه ، وقولهم : { مَا نَبْغِي } : يحتمل أنْ تكون « ما » ٱستفهاماً ؛ قاله قتادة : و { نَبْغِي } : من البُغْية ، أي : ماذا نَطْلُبُ بَعْدَ هذه التَّكْرِمَة ؛ هذا مَالُنَا رُدَّ إِلينا مع مِيرَتِنا ، قال الزَّجَّاج : ويحتمل أنْ تكون « ما » نافية ، أي : ما بقي لنا ما نَطْلُبُ ، ويحتمل أنْ تكون أيضاً نافيةً ، و { نَبْغِي } من البَغْيِ ، أي : ما تَعَدَّيْنا فَكَذَبْنا على هذا المَلِكِ ، ولا في وَصْف إِجماله وإِكرامه ، هذه البضاعةُ رُدَّت إِلينا ، وقرأ أبو حَيْوة : « ما تَبْغِي » ؛ على مخاطبة يعقوبَ ، وهي بمعنى ما تُرِيدُ ، وما تطلب وقولهم : { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } يريدون بَعِيرَ أخيهم ؛ إِذ كان يوسُفُ إِنما حمل لهم عَشَرَةَ أَبْعِرَةٍ ، ولم يحملِ الحادِيَ عشر ؛ لغيب صاحبه ، وقولهم : { ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } : قيل : معناه : يسيرٌ على يوسف أنْ يعطيه . وقال السدِّيَّ : { يَسِيرٌ } ، أي : سريع لاَ نُحْبَسُ فيه ولا نُمْطَلُ . وقوله تعالى : { فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } الآية : أي لمَّا عاهدوه ، أشْهَدَ اللَّه بينه وبينهم بقوله : { ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } ، و « الوكيلُ » : القيِّم الحافظُ الضَّامن . وقوله : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } : لفظٌ عامٌّ لجميع وجوه الغَلَبة ، وٱنظر أنَّ يعقوبَ عليه السلام قد توثَّق في هذه القصَّة ، وأشْهَدَ اللَّه تعالى ، ووصَّى بنيه ، وأخبر بعد ذلك بتوكُّله ، فهذا توكُّل مع سبب ، وهو توكُّل جميعِ المؤمنين إِلا مَنْ شَذَّ في رَفْض السعْي بالكليَّة ، وقَنِعَ بالماء وبَقْلِ البَرِّيَّة ، فتلك غايَةُ التوكُّل ، وعليها بعضُ الأنبياء عليهم السلام ، والشارعُونَ منهم مثبتون سُنَنَ التسبُّب الجائز ، قال الشيخُ العارِفُ باللَّه عَبْدُ اللَّه بْنُ أَبي جَمْرَةَ رضي اللَّه عنه : وقد ٱشتمل القُرْآنَ على أَحكامٍ عديدةٍ ، فمنها : التعلُّق باللَّه تعالَى ، وتركُ الأسبابِ ، ومنها : عمل الأسبابِ في الظاهِرِ ، وخُلُوُّ الباطن من التعلُّق بها ، وهو أجلُّها وأزكاها ؛ لأن ذلك جَمْعٌ بينَ الحكمَةِ وحقيقة التَّوْحيد ، وذلك لا يكُونُ إِلا للأفذاذِ الذين مَنَّ اللَّه عليهم بالتوْفِيق ؛ ولذلك مَدَحَ اللَّه تعالَى يعقُوبَ عليه الصلاة والسلام في كتابه ، فقال : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ يوسف : 68 ] لأنه عمل الأسباب ، وٱجتهد في توفيتها ، وهو مقتضَى الحكمةِ ، ثم رَدَّ الأمر كلَّه للَّه تعالى ، وٱستسلم إِليه ، وهو حقيقةُ التَّوحيد ، فقال : { وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ … } الآية : ، فأثنَى اللَّه تعالَى عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ جمعه بَيْن هاتين الحَالَتَيْنِ العظيمتين . وقوله : { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } : قيل : خَشِيَ عليهم العَيْنَ ، لكونهم أحَدَ عَشَر لرجلٍ واحدٍ ، وكانوا أهْلَ جمالٍ وبَسْطة ؛ قاله ابن عباس وغيره .