Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 41-47)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله سبحانه : { وَٱلَّذِينَ هَـاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } : هؤلاء هُمُ الذين هاجروا إِلى أرض الحبشةِ ، هذا قول الجمهورِ ، وهو الصحيحُ في سبب نزولِ الآية ؛ لأن هجرة المدينة لم تكُنْ وقْتَ نزول الآيةِ ، والآيةُ تتناوَلُ كلَّ مَنْ هاجر أَولاً وآخراً ، وقرأ جماعة خارجَ السبْعِ : « لَنُثْوِيَنَّهُمْ » ، واختلف في معنى الـــ { حَسَنَةً } هنا ، فقالتْ فرقة : الحسنةُ عِدَةٌ بَبُقْعةٍ شريفةٍ ، وهي المدينةُ ، وذهبَتْ فرقةٌ إِلى أن الحسنة عامَّة في كلِّ أمْرٍ مستحسَنٍ يناله ابنُ آدم ، وفي هذا القولِ يدخُلُ ما رُوِيَ عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه : أنه كَانَ يُعْطِي المَالَ وَقْتَ القِسْمَة الرَّجُلَ مِنَ المُهَاجِرِينَ ، ويقُولُ له : خُذْ ما وَعَدَكَ اللَّهُ في الدنيا ، وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أكْبَرُ ، ثم يتلو هذه الآية ، ويدخل في هذا القولِ النَّصْرُ على العدوِّ ، وفتْحُ البلادِ ، وكلُّ أَمَلٍ بلغه المهاجرون ، والضمير في { يَعْلَمُونَ } عائدٌ على كفار قريشٍ . وقوله : { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } : من صفة المهاجرين . وقوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ } : هذه الآيةُ ردٌّ على كفَّار قريش الذين ٱستبْعدُوا أنْ يبعث اللَّه بشراً رسولاً ، ثم قال تعالَى : { فَٱسْئَلُواْ } ، أي : قلْ لهم : { فَٱسْئَلُواْ } ، و { أَهْلَ ٱلذِّكْرِ } ؛ هنا : أحبارِ اليهودِ والنصارَى ؛ قاله ابن عباس وغيره ، وهو أظهر الأقوال ، وهم في هذه النازِلَةِ خاصَّة إِنما يخبرون بأنَّ الرسُلَ من البَشَر ، وأخبارُهم حجَّة على هؤلاء ، وقدْ أرسلَتْ قريشٌ إِلى يهودِ يَثْرِبَ يسألونهم ويُسْنِدُون إِليهم . وقوله : { بِٱلْبَيِّنَـٰتِ } : متعلِّق بفعلٍ مضمرٍ ، تقديره : أرسلناهم بالبيِّنات ، وقالتْ فرقة : الباءُ متعلِّقة بـ { أَرْسَلْنَا } في أول الآية ، والتقدير على هذا : وما أرسلنا من قبلك بالبيِّنات والزُّبُرِ إِلاَّ رجالاً ، ففي الآية تقديمٌ وتأخير ، و { ٱلزُّبُرِ } : الكُتُبُ المزبورة . وقوله سبحانه : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ … } الآية . * ت * : وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ، فبيَّن عن اللَّهِ ، وأوْضَح ، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامعَ الكَلِم ، فأعرب عن دين اللَّهِ ، وأفصح ، ولنذكُر الآن طَرَفاً من حِكَمِهِ ، وفصيحِ كلامِهِ بحذف أسانيده ، قال عِياضٌ في « شِفَاهُ » : وأما كلامُهُ صلى الله عليه وسلم المعتادُ ، وفصاحَتُه المعلومةُ ، وجوامُع كَلِمِهِ ، وحِكَمُه المأثورةُ ، فمنها ما لا يُوَازَى فصاحةً ، ولا يبارَى بلاغةً ؛ كقوله : " المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ " وقوله : " النَّاسُ كَأَسْنَانِ المِشْطِ " و " المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ " و " لاَ خَيْرِ فِي صُحْبَةِ مَنْ لاَ يَرَى لَكَ مَا تَرَى لَهُ " و " النَّاسُ مَعَادِنٌ " و " مَا هَلَكَ ٱمْرُءٌ عَرَفَ قَدْرَهُ " و " المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ " و " هو بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَكَلَّم " و " رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً قَالَ خَيْراً فَغَنِمَ ، أَوْ سَكَتَ عَنْ شَرٍّ فَسَلِمَ " وقوله : " أَسْلِمْ تَسْلَمْ " و " أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ " و " إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً المُوطَّؤُونَ أَكْنَافاً الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ " وقوله : " لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ ، وَيَبْخَلُ بِمَا لاَ يُغْنِيهِ " وقوله : " ذُو الوَجْهَيْنِ لاَ يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً " وَنَهْيُهُ عَنْ قِيلٍ وَقَالَ ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ ، وَإِضَاعَةِ المَالِ ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ ، وَعُقُوقِ الأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدِ البَنَاتِ ، وقوله : " ٱتَّقِ اللَّهَ حَيْثُ كُنْتَ ، وَأَتْبِع السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِق النَّاسَ بِخُلُقٍ حسنٍ " و " خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَاطُها " وقوله : " أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَّا ، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَّا " ، وقوله : " الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَة " ، وقولِهِ في بَعْضِ دعائه : " اللَّهُمَّ ، إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي ، وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي ، وَتُلِمُّ بِهَا شَعْثِي ، وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي ، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي ، وتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي ، وَتُلْهِمُنِي بِهَا رَشَدِي ، وَتُرَدُّ بِهَا أُلْفَتِي ، وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ ، اللَّهُمَّ ، إِنِّي أَسْأَلُكَ الفَوْزَ فِي القَضَاءِ ، وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ ، وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ ، وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاءِ " ، إِلى غَيْرِ ذلكَ مِنْ بيانِهِ ، وحُسْنِ كلامه ممَّا روتْهُ الكافَّة عن الكافَّة مما لا يُقَاسُ به غيره ، وحاز فيه سبقاً لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ ؛ كقوله : " السَّعَيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ ، والشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ " في أخواتها مما يدرك الناظِرُ العَجَبَ في مضمَّنها ، ويذهَبُ به الفكْرُ في أداني حِكَمِها ، وقال صلى الله عليه وسلم : " بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ ، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ " فجمع اللَّه له بذلك قُوَّة عارضَةِ الباديةِ وجزالَتَهَا ، وَنَصَاعَةَ ألفاظِ الحاضِرَةِ وَرَوْنَقَ كلامِهَا ، إِلى التأييد الإِلٰهيِّ الذي مَدَدُهُ الوَحْي ، الذي لا يحيطُ بعلمه بَشَرِيّ . انتهى . وبالجملة فليس بَعْدَ بيان اللَّه ورسُولِهِ بيانٌ لمن عَمَّر اللَّهُ قلْبَه بالإِيمان . وقوله سبحانه : { أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ … } الآية : تهديدٌ لكفَّار مكَّة ونَصْبُ السيئات بـــ { مَكَرُواْ } وعُدِّيَ { مَكَرُواْ } لأنه في معنى عملوا ، قال البخاريُّ : قال ابن عباس : { فِي تَقَلُّبِهِمْ } ، أي : في اختلافهم انتهى . وقال المهدويُّ : قال قتادة : { فِي تَقَلُّبِهِمْ } : في أسفارهم الضَّحَّاك : { فِي تَقَلُّبِهِمْ } : باللْيلِ انتهى . وقوله : { عَلَىٰ تَخَوُّفٍ } ، أي على جهة التخُّوف ، والتخُّوفُ التنقُّص ، وروي أن عمر بن الخطَّاب رضي اللَّه عنه خَفِيَ عليه معنى التخُّوف في هذه الآية ، وأراد الكَتْبَ إلى الأمصار يسأل عن ذلك ، فيروَى أنه جاءه فَتًى مِن العرب ، فقال : يا أمير المؤمِنِين ، إِنَّ أَبي يتخَّوفُنِي مَالي ، فقَالَ عُمَرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ! { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ } ومنه قول النابغة : [ الطويل ] @ تَخَّوَفَهُمْ حَتَّى أَذَلَّ سَرَاتَهُمْ بِطَعْنِ ضِرَارٍ بَعْدَ فَتْحِ الصَّفائِحِ @@ وهذا التنقُّص يتَّجه به الوعيدُ على معنيين : أحدهما : أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخَّوف ، أي : أفذاذاً يتنقَّصهم بذلك الشيءَ بعد الشيءِ ، ويصيِّرهم إِلى ما أعدَّ لهم من العذاب ، وفي هذه الرتبةِ الثالثة مِنَ الوعيدِ رأْفَةٌ ورحمةٌ وإِمهال ؛ ليتوبَ التائِبُ ، ويرجِعَ الرَّاجع ، والثاني : ما قاله الضَّحَّاك : أنْ يأخذ بالعذابِ طائفةً أو قريةً ، ويترك أخرى ، ثم كذلك حتَّى يَهْلِكَ الكُلُّ . وقالت فرقة : « التخُّوف » هنا : من الخْوف ، أي : فيأخذهم بعد تخُّوف ينالهم يعذِّبهم به .