Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 17-20)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالَىٰ : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } إلى قوله : { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } : قال الفَخْر : اعلم أن المقصود من ضرب المِثَالِ أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفْسِهِ ؛ لأن الغرض من المَثَل تشبيه الخَفِيِّ بِالجَلِيِّ ، والغائب بالشاهدِ ، فيتأكَّد الوقوفُ على ماهيته ، ويصير الحس مطابقاً للعقل ؛ وذلك هو النهاية في الإِيضاح ؛ ألا ترَىٰ أنَّ الترغيب والترهيب إِذا وقع مجرَّداً عن ضرب مَثَلٍ ، لم يتأكَّد وقوعه في القلب ؛ كتأكُّده مع ضرب المثل ، ولهذا أكثر اللَّه تعالَىٰ في كتابه المبين ، وفي سائر كتبه الأمثالَ ، قال تعالَىٰ : { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَـٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21 ] انتهى . والمَثَل والمِثْل والمَثِيلُ واحدٌ ، معناه : الشبيه ، قاله أهل اللغة . و { ٱسْتَوْقَدَ } : قيل : معناه أوقد . واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل الذي استوقد ناراً ؛ فقالت فرقةٌ : هي فيمن كان آمن ، ثم كفر بالنفاقِ ، فإِيمانه بمنزلة النار أضاءت ، وكفره بعد بمنزلة انطفائها ، وذهابِ النور ، وقالت فرقةٌ ، منهم قتادة : نطقهم بـــ « لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » والقُرْآنِ كإِضاءة النار ، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كٱنطفائها ، قال جمهورُ النحاة : جواب « لَمَّا » : « ذَهَبَ » ويعود الضمير من نورهم على « الذي » ، وعلى هذا القولِ يتمُّ تمثيل المنافق بالمستوقِدِ ؛ لأنَّ بقاء المستوقِدِ في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق ؛ على الخلاف المتقدِّم . وقال قومٌ : جوابُ « لَمَّا » مضمرٌ ، وهو « طُفِئَتْ » ، فالضمير في « نُورِهِمْ » على هذا للمنافقين ، والإخبار بهذا هو عن حال لهم تكونُ في الآخرة ، وهو قوله تعالَىٰ : { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ … } الآيةَ [ الحديد : 13 ] وهذا القول غير قويٍّ . والأصم : الذي لا يسمع ، والأبكم : الذي لا ينطق ، ولا يفهم ، فإِذا فهم ، فهو الأخرس ، وقيل : الأبكم والأخرس واحدٌ ، ووصفهم بهذه الصفات ؛ إِذْ أعمالهم من الخطإ وعدم الإِجابة ؛ كأعمال من هذه صفته . و « صُمٌّ » : رفع على خبر الابتداء ، إما على تقدير تكرير « أُولَئِكَ » ، أو إِضمارهم . وقوله تعالَىٰ : { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } قيل : معناه : لا يؤمنون بوجْهٍ ، وهذا إنما يصح أنْ لو كانت الآية في معيَّنينِ ، وقيل : معناه : فهم لا يرجعونَ ما داموا على الحال التي وصفهم بها ، وهذا هو الصحيحُ . { أَوْ كَصَيِّبٍ } : « أَوْ » : للتخيير ، معناه مثِّلوهم بهذا أو بهذا ، والصَّيِّبُ المَطَرُ ؛ من : صَابَ يَصُوبُ ، إِذا انحط من عُلْو إِلى سُفْل . و { ظُلُمَـٰتٌ } : بالجمع : إِشارة إِلى ظلمة الليل وظلمة الدجن ، ومن حيث تتراكب وتتزيد جُمِعَتْ ، وكون الدجن مظلماً هول وغم للنفوس ؛ بخلاف السحاب والمطر ، إذا انجلَىٰ دجنه ، فإنه سارٌّ جميل . واختلف العلماء في « الرَّعْدِ » ، فقال ابن عباس ومجاهد وشَهْرُ بن حَوْشَبٍ وغيرهم : هو مَلَكٌ يزجرُ السحابَ بهذا الصوتِ المسموعِ كلَّما خالفتْ سحابةٌ ، صاح بها ، فإِذا اشتد غضبه ، طارت النار من فيه ، فهي الصواعقُ ، واسم هذا الملك : الرَّعْد . وقيل : الرَّعْدُ مَلَكٌ ، وهذا الصوت تسبيحُهُ . وقيل : الرعد : اسم الصوْتِ المسموعِ ؛ قاله عليُّ بن أبي طالب . وأكثر العلماء على أن الرعد ملكٌ ، وذلك صوته يسبِّح ويزجرُ السحابَ . واختلفوا في البَرْقِ . فقال علي بن أبي طالب ؛ وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " هُوَ مِخْرَاقُ حَدِيدٍ بِيَدِ المَلَكِ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ " وهذا أصحُّ ما روي فيه . وقال ابن عبَّاس : هو سَوط نور بيد المَلَكِ يزجي به السحَابَ ، وروي عنه : " أنَّ البرق ملَكٌ يتراءى " واختلف المتأوِّلون في المقْصِد بهذ المثل ، وكيف تترتب أحوالُ المنافقينَ المُوَازِنَةُ لما في المَثَل من الظلماتِ والرعْدِ والبرقِ والصواعِقِ . فقال جمهور المفسِّرين : مَثَّلَ اللَّه تعالى القُرْآنَ بالصَّيِّبِ ، فما فيه من الإشكال عليهم والعَمَىٰ هو الظلماتُ ، وما فيه من الوعيدِ والزجْرِ هو الرعْدُ ، وما فيه من النُّور والحُجَج الباهرة هو البَرْقُ ، وتخوُّفهم ورَوْعُهُمْ وحَذَرُهم هو جَعْلُ أصابعهم في آذانهم ، وفَضْحُ نفاقهم ، واشتهارُ كفرهم ، وتكاليفُ الشرع التي يكرهونها من الجهادِ والزكاةِ ونحوه هي الصواعقُ ، وهذا كله صحيحٌ بيِّن . وقال ابنُ مسعود : إِن المنافقين في مجلسِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كانُوا يجعلون أصابعهم في آذانهم ؛ لئلا يسمعوا القرآن ، فضرب اللَّه المثل لهم ، وهذا وفاقٌ لقول الجمهورِ . و { مُحِيطٌ بِٱلْكَـٰفِرِينَ } معناه : بعقابهم ، يقال : أحاط السلطان بفلانٍ ، إِذا أخذه أخذًا حاصرًا من كل جهة ، ومنه قوله تعالَىٰ : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] . و { يَكَادُ } فعل ينفي المعنَىٰ مع إِيجابه ، ويوجبه مع النفي ، فهنا لم يخطف البرق الأبصار ، والخَطْفُ : الانتزاعُ بسرعة ، ومعنى { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ } ، تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم ، ومن جعل البَرْقَ في المثل الزجْرَ والوعيدَ ، قال : يكاد ذلك يصيبهم . و « كُلَّمَا » : ظرفٌ ، والعامل فيه « مَشَوْا » ، و « قَامُوا » معناه : ثَبَتُوا ، ومعنى الآية فيما روي عن ابن عَبَّاس وغيره : كلَّما سمع المنافقون القرآن ، وظهرت لهم الحججُ ، أنسوا ومشوا معه ، فإذا نَزَلَ من القرآن ما يعمهون فيه ، ويضلون به ، أو يكلَّفونه ، قاموا ، أي : ثَبَتُوا على نفاقهم . وروي عن ابن مسعودٍ ؛ أنَّ معنى الآية : كلَّما صلُحَتْ أحوالهم في زروعهم ومواشِيهِمْ ، وتوالَتْ عليهم النّعم ، قالوا : دين محمَّد دِينٌ مبارَكٌ ، وإِذا نزلت بهم مصيبةٌ أَو أصابتهم شدَّة ، سَخِطُوه وثَبَتُوا في نفاقهم . ووحَّد السمع ؛ لأنه مصدر يقع للواحد والجمع . وقوله سبحانه : { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لفظه العمومُ ، ومعناه عند المتكلِّمين : فيما يجوز وصفه تعالَىٰ بالقدرة عليه ، وقديرٌ بمعنَىٰ قَادِرٍ ، وفيه مبالغةٌ ، وخَصَّ هنا سبحانه صفتَهُ الَّتي هي القدرةُ بالذِّكُر ؛ لأنه قد تقدَّم ذكر فعلٍ مضمَّنه الوعيدُ والإِخافةُ ، فكان ذكر القدرة مناسباً لذلك .