Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 249-252)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله تعالى : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ … } الآية ، أي : لما اتفق ملأهم علَىٰ تمليك طالوتَ ، وفصل بهم ، أيْ : خرج بهم من القُطْرِ ، وفَصَلَ حالَ السفر من حال الإِقامة . قال السُّدِّيُّ وغيره : وكانوا ثمانين ألفاً ، { قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ } أي : مختبركم ، فمن ظهرت طاعته في تَرْك الماءِ ، علم أنه يطيع فيما عدا ذلك ، ومن غلبته شهْوَتُه في الماء ، وعصى الأمر ، فهو بالعصيان في الشدائد أحْرَىٰ ؛ ورخَّص للمطيعين في الغُرْفة ؛ ليرتفع عنْهم أذى العَطَش بعض الاِرتفاعِ ، وليكسروا نزاعَ النَّفْس في هذه الحال . * ت * : ولقد أحْسَنَ من شبه الدُّنْيا بنَهَرِ طالوتَ ، فمن ٱغتَرَفَ منْها غُرفةً بيد الزهْدِ ، وأقبل علَىٰ ما يعنيه من أمر آخرته ، نجا ، ومَنْ أكبَّ عليها ، صدَّته عن التأهُّب لآخرته ، وقلَّت سلامته إِلاَّ أنْ يتدارَكَه اللَّه . قال ابن عَبَّاس : وهذا النَّهَر بيْن الأَرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ ، وقال أيضاً : هو نَهْرُ فِلَسْطِينَ . قال : * ع * : وظاهرُ قولِ طالوتَ { إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم } ؛ أنه بإِخبار من النبيِّ لطالوتَ ، ويحتمل أنْ يكون هذا مما ألهم اللَّه إِليه طالوتَ ، فجرَّب به جنده ، وهذه النَّزْعة واجبٌ أنْ تقع من كلِّ متولِّي حَرْب ، فليس يحارِبُ إِلا بالجنْدِ المطيعِ ، وبَيِّنٌ أن الغرفة كَافَّةُ ضرر العَطَش عنْد الحَزَمَةِ الصَّابرين على شَظَف العَيْش الَّذين هم في غير الرفاهيَةِ ، وقوله : { فَلَيْسَ مِنِّي } ، أي : ليس من أصحابي في هذه الحَرْب ، ولم يخرجْهم بذلك عن الإِيمان ، ومثلُ هذا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ غَشَّنَا ، فَلَيْسَ مِنَّا " ، و " مَنْ رَمَانَا بِالنَّبْلِ ، فَلَيْسَ مِنَّا " ، و " لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الجُيُوبَ ، وَلَطَمَ الخُدُودَ " . وفي قوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } سدُّ الذرائعِ ؛ لأنَّ أدْنَى الذَّوْق يدْخُل في لفظ الطّعم ، فإِذا وقع النَّهْيُ عن الطُّعْم ، فلا سبيل إِلى وقوع الشُّرْبِ ممَّن يتجنَّب الطعْم ، ولهذه المبالغةِ لم يأْتِ الكلامُ : ومَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ . * ص * : { إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } : استثناءٌ من الجملة الأولَىٰ ، وهو قوله : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، أيْ : إِلاَّ من ٱغترَفَ غُرْفة بيَده ، دون الكَرْع ، فهو منِّي ، والاستثناء إِذا تعقَّب جملتين فأكثر ، أمكَنَ عَوْده إِلى كلِّ منها ، فقيل : يعود على الأخيرة ، وقيل : إِلى الجميع . وقال أبو البقاء : إِنْ شئْتَ ، جعلته مِنْ « مَنِ » الأولَىٰ ، وإِنْ شئْتَ مِنْ « مَنِ » الثانيةِ ، وتُعُقِّبَ ؛ بأنه لو كان استثناءً من الثانية ، وهي : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } ، لَلَزِمَ أنْ يكون : { مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً } ليس منه ؛ لأن الاستثناء من الإِثبات نفيٌ ، ومن النفي إِثبات ؛ على الصحيح ، وليس كذلك ؛ لأنه أبيحَ لهم الاغترافُ ، والظاهر عوده إِلى الأولَىٰ ، والجملةُ الثانية مفهومةٌ من الأولَىٰ ، لأنه حين ذكر أنَّ من شربه ، فليس منه ، فُهِمَ من ذلك أنَّ مَنْ لم يشرب منه ، فإِنه منه . انتهى . ثم أخبر تعالى ؛ أن الأكثر شَرِبَ ، وخالَفَ ما أريد منه ، روي عن ابن عَبَّاس وغيره ؛ أن القوم شَرِبوا على قدر يقينهم ، فشرب الكُفَّار شُرْبَ الهيم ، وشرب العاصُون دُون ذلك ، وٱنصرفَ من القوْمِ ستَّة وسبْعُون ألفاً ، وبقي بعض المؤمنين ، لم يَشْرَبْ شيئاً ، وأخذ بعضهم الغُرْفة ، فأما مَنْ شرب ، فلم يرو ، بل برَّح به العطش ، وأما من ترك الماء ، فَحَسُنَتْ حاله ، وكان أَجْلَدَ ممن أخذ الغُرْفَة . وقوله تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ … } الآية : أكثر المفسِّرين على أنه إِنَّما جاوز النَّهَرَ مَنْ لم يشرَبْ إِلا غُرْفة ، ومن لم يَشْرَبْ جملةً ، ثم كانَتْ بصائرُ هؤلاء مختلفةً ؛ فبعضٌ كَعَّ ، وقليلٌ صَمَّم ، وهم عِدَّة أهل بدرٍ ثَلاثُمِائَةٍ ، وبضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً . وقوله تعالى : { قَالُواْ لاَ طَاقَةَ } . قال ابن عبَّاس : قال كثير من الأربعةِ الآلافِ الباقيَةِ مع طالُوت ، الذين جاوزوا النَّهَر : { لاَ طَاقَةَ لَنَا } علَىٰ جهة الفَشَل ، والفزع من الموت ، وٱنصرفوا عن طالوتَ ، فقال المؤمنون الموقنُون بالبَعْث ، والرجوعِ إِلى اللَّه تعالَىٰ ، وهم عِدَّة أهل بَدْر : { كَم مِّن فِئَةٍ } ، والظنُّ علَىٰ هذا القول : اليقينُ ، والفئةُ : الجماعة التي يرجعُ إِليها في الشدائد ، وفي قولهم - رضي اللَّه عنهم - { كَم مِّن فِئَةٍ … } الآية : تحريضٌ بالمثالِ ، وحضٌّ واستشعارٌ للصبر ، وٱقتداءٌ بمن صَدَق ربَّه ، { وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } بنصره وتأييده . وقوله تعالى : { وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } { بَرَزُواْ } : معناه صَارُوا في البَرَازِ ، وهو الأفْيَحُ من الأرض المتَّسِع ، والإِفْرَاغُ : أعظم الصبِّ ، وكان جالوتُ أمير العمالقة ، ومَلِكَهُم ، ورُوِيَ في قصَّة داود وقَتْله جالوتَ ؛ أنَّ أصحَابَ طالُوتَ كان فيهم إِخوة دَاوُد ، وهم بنو أيش ، وكان داود صغيراً يرعَىٰ غنَماً لأبيه ، فلمَّا حضَرَتِ الحربُ ، قال في نفْسه : لأذهبنَّ لرؤية هذه الحرْب ، فلمَّا نهض مَرَّ في طريقه بحَجَر ، فناداه : يا دَاوُد ، خُذْنِي ، فَبِي تَقْتُلُ جالُوتَ ، ثم ناداه حَجَرٌ آخَرُ ، ثم آخر ، ثم آخَرُ ، فأخَذَها ، وجعَلَها في مِخْلاَتِهِ ، وسار ، فلَمَّا حَضَر البأْسُ ، خَرَجَ جالُوتُ يطلب مُبَارِزاً ، فكَعَّ الناسُ عَنْه ؛ حتَّىٰ قال طالوتُ : مَنْ بَرَز له ، ويَقْتُلُه ، فأنا أزوِّجه ابنَتِي ، وأحكِّمه في مالِي ، فجاء داوُدُ ، فقال : أنا أَبْرُزُ له ، وأقتلُه ، فقال له طالوت : فَٱرْكَبْ فَرَسِي ، وخُذْ سلاحِي ، ففَعَلَ ، وخَرَج في أحْسَنِ شِكَّةٍ ، فلمَّا مشَىٰ قَليلاً ، رجَع ، فقال الناسُ : جَبُنَ الفَتَىٰ ، فقَالَ داوُد : إِنَّ اللَّه سبحانه ، إِنْ لم يَقْتُلْهُ لِي ، ويعينَنِي علَيْه ، لم ينفعْنِي هذا الفَرَسُ ، ولا هذا السِّلاحُ ، ولكنِّي أحبُّ أنْ أقاتِلَهُ علَىٰ عادَتِي ، قال : وكان داوُدُ من أرْمَى النَّاس بالمِقْلاعِ ، فنَزَلَ ، وأخَذَ مِخْلاَته ، فتقلَّدها ، وأخَذَ مِقْلاَعه ، فخَرَج إِلى جَالُوتَ ، وهو شَاكٍ فِي السِّلاحِ ، فقال له جالوت : « أنْتَ ، يا فَتَىٰ ، تَخْرُجُ إِلَيَّ » . قَالَ : نعم ، قال : هكذا ؛ كما يُخْرَجُ إِلى الكَلْبِ ، قال : نعم ، وأنْتَ أهْوَنُ ، قَالَ : لأُطْعِمَنَّ اليَوْمَ لَحْمَكَ الطيرَ ، والسِّبَاعَ ، ثُمَّ تدَانَيَا ، فأدار دَاوُدُ مِقْلاَعَهُ ، وأدْخَلَ يدَهُ إِلى الحجارةِ ، فرُوِيَ أنَّها ٱلْتَأَمَتْ ، فصارَتْ واحداً ، فأَخذه ، ووضَعَه في المِقْلاَع ، وسمَّى اللَّهَ ، وأدارَهُ ، ورَمَاه ، فأصَابَ به رَأسَ جالُوت ، فقتله ، وحزَّ رأسَهُ ، وجعَلَهُ في مِخْلاَته ، وٱختَلَطَ النَّاسُ ، وحَمَل أصْحَاب طالُوتَ ، وكانَتِ الهزيمةُ ، ثم إِنَّ داوُدَ جاء يَطْلُبُ شرطَهُ من طالُوتَ ، فقال له : إِن بناتِ المُلُوكِ لهُنَّ غرائِبُ من المَهْرِ ، ولا بُدَّ لك من قَتْل مائَتَيْنِ من هؤُلاَء الجَرَاجِمَةِ الذينَ يُؤْذُونَ النَّاس ، وتجيئَنِي بغُلُفهِمْ ، وطمع طالوتُ أنْ يُعَرِّض داوُدَ للقَتْلِ بهذه النَّزْعَة ، فقَتَل داوُدُ منْهم مائَتَيْنِ ، وجاء بذلك ، وطَلَبَ امرأته ، فدَفَعَهَا إِليه طالُوتُ ، وعَظُم أمْرُ داود ، فيُرْوَىٰ ؛ أنَّ طالُوتَ تخلَّىٰ له عن المُلْك ، وصار هو المَلِكَ ، وقد أكْثَر الناس في قَصَص هذه الآية ، وذلك كلُّه ليِّن الأَسانيد ؛ فلذلك انتقَيْتُ منه ما تنفكُّ به الآية ، ويعلم به مناقلُ النازلة . وأما الحكْمَةُ التي آتاه اللَّه ، فَهِيَ النبوَّة ، والزَّبُور ، وعلَّمه سبحانه صَنْعَة الدُّرُوع ، ومَنْطِقَ الطَّيْر ، وغيْرَ ذلك من أنواع علْمه - صلَّى اللَّه علَىٰ نبيِّنا وعلَيْه ـــ . وقوله تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ … } الآية : أخبر اللَّه سبحانه في هذه الآية ؛ أنه لوْلاَ دفعه بالمؤمنين في صدور الكَفَرة علَىٰ مرِّ الدَّهْر ، لَفَسَدَتِ الأرْض ؛ لأن الكُفْر كان يطبقها ، ولكنه سبحانه لا يُخْلِي الزمانَ مِنْ قَائِمٍ بحقٍّ ، وداعٍ إِلى اللَّه إِلى أنْ جعل ذلك في أمَّة محمَّد إِلَىٰ قيامِ السَّاعة له الحَمْدُ كَثيراً . * ص * : { وَلَـٰكِنَّ } استدراكٌ بإثبات الفضل للَّه سبحانه علَىٰ جميع العالمين ؛ لما يتوهَّمه من يريد الفَسَاد ؛ أنَّ اللَّه غير متفضِّل عليه ؛ إِذ لم يبلِّغه مقاصده ؛ وٱحتيج إِلَىٰ هذا التقديرِ ؛ لأن « لَكِنَّ » تكونُ بين متنافِيَيْن بوجْهٍ مَّا . انتهى . والإِشارةُ بـــ { تِلْكَ } إلى ما سلف من القصص والأنباء ، وفي هذه القصَّة بجملتها مثالٌ عظيمٌ للمؤمنين ومعتَبَرٌ ، وقد كان أصحابُ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم معدِّين لحَرْب الكفَّار ، فلهم في هذه النازلة معتَبَرٌ يقتضي تقْوِيَة النفُوسِ ، والثقَةَ باللَّه سبحانه ، وغيْرَ ذلك من وجوه العِبَر .