Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 54-59)
Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله سبحانه : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ … } الآية : خطابٌ للمؤمنين إلَىٰ يوم القيامة ، ومعنى الآية ؛ أَنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ وعَدَ هذه الأمة أنَّ من ارتدَّ منها ، فإنه يجيءُ سبحانه بقومٍ ينصُرُونَ الدِّين ، ويُغْنُونَ عن المرتدِّين . قال الفَخْر : وقدَّم اللَّه تعالَىٰ محبَّته لهم علَىٰ محبَّتهم له ؛ إذ لولا حُبُّه لهم ، لما وفَّقهم أنْ صاروا محبِّين له . انتهى ، وفي كتاب « القصد إلى اللَّه سبحانه » ؛ للمُحَاسِبِيِّ ، قُلْتُ للشيخ : فَهَلْ يَلْحَقُ المحبِّينَ للَّه عزَّ وجلَّ خَوْفٌ ؟ قال : نَعَمِ ، الخَوْفُ لازمٌ لهم ؛ كما لزمهم الإيمَانُ لا يزولُ إلاَّ بزَوَاله ، وهذا هو خَوْفُ عذابِ التَّقْصيرِ في بدايتهم ؛ حتى إذا صاروا إلَىٰ خَوْفِ الفَوْت ، صاروا إلى الخوف الذي يكُونُ في أعلَىٰ حالٍ ، فكان الخوف الأوَّلُ يطرقهم خطراتٍ ، وصارِ خوْفُ الفَوْتِ وطنات ، قلْتُ : فما الحالَةُ التي تَكْشِفُ عن قلوبهم شَدِيدَ الخَوْف والحُزْن ؟ قال : الرجاءُ بحُسْن الظَّنِّ ؛ لمعرفتهم بسعة فَضْل اللَّه عزَّ وجلَّ ، وأَمَلُهُمْ منه أنْ يظفروا بمرادهم ، إذا وَرَدُوا عليه ، ولولا حُسْن ظنِّهم بربِّهم ، لَتَقطَّعت أنفسهم حسراتٍ ، وماتوا كَمَداً ، قلْتُ : أيُّ شيءٍ أكثَرُ شُغْلِهِمْ ، وما الغالبُ علَىٰ قلوبِهِمْ في جميعِ أحوالهم ؟ قال : كثرةُ الذِّكْر لمحبوبهم علَىٰ طريق الدوامِ والاستقامةِ ، لا يَمَلُّونَ ، ولا يَفْتُرُون ، وقد أجمع الحكماءُ أنَّ من أحَبَّ شيئاً ، أكْثَرَ مِنْ ذكره ، ثم قال : قال ذُو النُّونِ : مَا أُولِعَ أحَدٌ بذكْرِ اللَّه إلا أفاد منْهُ حُبَّ اللَّهِ تعالَى . انتهى . وفي الآية إنحاءٌ على المنافِقِينَ ، وعلَىٰ من ٱرتدَّ في مدة النبيِّ صلى الله عليه وسلم . قال الفَخْر : وهذه الآيةُ إخبارٌ بغَيْبٍ ، وقد وقع الخَبَر علَىٰ وَفْقِهِ ؛ فيكون معجزاً ، وقد ارتدَّتِ العربُ وغيرهم أيام أبِي بَكْر ، فنَصَر اللَّه الدِّين ، وأتَىٰ بخَيْرٍ منهم . انتهى . وقوله سبحانه : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } ، معناه : متذلِّلين مِنْ قِبَلِ أنفسهم ، غَيْرَ متكبِّرين ، وهذا كقوله عزَّ وجلَّ : { أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ؛ وكقوله ـــ عليه السلام ـــ : " المُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ " ، وفي قراءة ابن مسعودٍ : « أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ غُلَظَاءَ عَلَى الكَافِرِينَ » . وقوله تعالى : { وَلاَ يَخَـٰفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } : إشارةٌ إلى الرَّدِّ على المنافقين في أَنَّهم يعتَذِرُونَ بممالأَة الأحْلاَفِ والمعارِفِ مِنَ الكفَّار ، ويراعُونَ أمرهم ، قُلْتُ : وخرَّج أبو بكرِ بْنُ الخطيبِ بسنده علَىٰ أبي ذِر ، قال : « أَوْصَانِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ : أوْصَانِي أَنْ أَنْظُرَ إلَىٰ مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إلَىٰ مَنْ هُوَ فَوْقِي ـــ يعني : فِي شَأْنِ الدُّنْيَا ـــ ، وأوْصَانِي بِحُبِّ المَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ الحَقَّ وَإنْ كَانَ مُرًّا ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإنْ أَدْبَرَتْ ، وَأَوْصَانِي أَلاَّ أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ، وَأَوْصَانِي ألاَّ أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً ، وَأَوْصَانِي أَنْ أسْتَكْثِرَ مِنْ : لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ » . انتهى . وقوله سبحانه : { ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ } : الإشارةُ بـ « ذلك » إلى كون القومِ يحبُّون اللَّه عزَّ وجلَّ ويحبُّهم ، وَوَاسِع : معناها ذو سَعَةٍ فيما يملكُ ويُعْطِي وينعم به سبحانه . وقوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ … } الآية : « إنما » في هذه الآية حاصرةٌ ، وقرأ ابن مسعود : « إنَّمَا مَوْلاَكُمُ اللَّهُ » ، والزكاةُ هنا : لفظٌ عامٌّ للزكاةِ المفروضةِ ، والتطوُّعِ بالصدَقَةِ ، ولكلِّ أفعالِ البِرِّ ، إذ هي مُنَمِّيَةٌ للحسنات ، مطَهِّرة للمَرْءِ مِنْ دَنَسِ السيِّئات ، ثم وصفهم سبحانه بتَكْثير الركُوعِ ، وخُصَّ بالذكْر ؛ لكونه مِنْ أعظم أركان الصلاة ، وهي هيئَةُ تواضعٍ ، فعبَّر عن جميعِ الصلاَةِ ؛ كما قال سبحانه : { وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } [ الحج : 26 ] هذا هو الصحيحُ . ، وهو تأويل الجمهورِ ، ولكن ٱتَّفَقَ مع ذلك أنَّ عليَّ بْنَ أبي طالِبٍ ( رضي اللَّه عنه ) أعْطَىٰ خاتَمَهُ ، وهو راكعٌ . قال السُّدِّيُّ : وإن اتفَقَ ذلك لعليٍّ ، فالآية عامَّة في جميعِ المؤمنين . ثم أخبر تعالَىٰ : أنَّ مَنْ يتولَّى اللَّه ورسولَهُ والمؤمنين ، فإنه غالبٌ كُلَّ مَنْ ناوأه ، وجاءَتِ العبارةُ عامَّة في أنَّ حِزْبَ اللَّه هم الغالِبُون ، ثم نهَىٰ سبحانه المؤمنينَ عنِ ٱتخاذِ الَّذينَ ٱتخَذُوا دينَنَا هُزُواً ولعباً ، وقد ثبت ٱستهزاءُ الكُفَّار في قوله سبحانه : { إِنَّا كَفَيْنَـٰكَ ٱلْمُسْتَهْزِءِينَ } [ الحجر : 95 ] وثبت استهزاء أهْل الكتاب في لفظ هذه الآية ، وثبت استهزاءُ المُنَافِقِينَ في قولهم لشياطينهم : { إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [ البقرة : 14 ] . ثم أمر سبحانه بتَقْواه ، ونبَّه النفوسَ بقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } . وقوله سبحانه : { وَإِذَا نَـٰدَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً … } الآية : إنحاءٌ على اليَهُودِ ، وتبيينٌ لسوء فعلهم . وقوله : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَـٰسِقُونَ } : معنى المحاورةِ : هَلْ تَنْقِمُونَ منا إلا مجموعَ هذه الحالِ ؛ مِنْ أنا مؤمنون ، وأنتم فاسقون ؛ كما تقول لمن تخاصمه : هل تَنْقِمُ مني إلاَّ أَنْ صَدَقْتُ أَنَا , وَكَذَبْتَ أَنْتَ , وقال بعضُ المتأوِّلين : { وأنَّ أكثركُمْ } : معطوفٌ علَى { ما } ؛ كأَنَّه قال : إِلاَّ أَنْ آمنَّا باللَّهِ وبكُتُبِهِ ، وبأنَّ أكثركم فاسقُونَ ، وهذا مستقيمُ المعنَىٰ ، وقال : { أَكْثَرَكُمْ } ، من حيث إنَّ فيهم مَنْ آمن ؛ كَٱبْنِ سَلاَمٍ وغيرِهِ .