Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 82-86)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ … } الآية : اللامُ في قوله : { لَتَجِدَنَّ } : لام ابتداءٍ ، وقال الزَّجَّاج : هي لامُ قَسَمٍ ، وهذا خبر مُطْلَقٌ منسحبٌ على الزمان كلِّه ، وهكذا هو الأمر حتَّى الآن ، وذلك أن اليهودَ مَرَنُوا على تكذيبِ الأنبياء وقَتْلِهِمْ ، ومَرَدُوا على ٱستشعارِ اللعْنَةِ ، وضَرْبِ الذِّلَّة والمَسْكنة ، فهم قد لَجَّتْ عداوتهم ، وكَثُر حَسَدهم ، فهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين ؛ وكذلك المشركون عبدةُ الأوثانِ والنِّيران ، وأما النصارَىٰ ، فإنهم يعظمون من أهْلِ الإسلام مَنِ استشعروا مِنه صِحَّة دِينٍ ، ويستهينُونَ مَنْ فهموا منه الفِسْقَ ، فهم إنْ حاربوا ، فإنما حَرْبهم أَنَفَةٌ ، لا أنَّ شرعهم يأخذهم بذلك ، وإذا سالموا ، فَسِلْمُهم صافٍ ، واليهودُ ( لعنهم اللَّه ) ليسوا علَىٰ شيء من هذه الخِلالِ ، بل شأنهم الخُبْث ، واللَّيُّ بالألسنة ، والمَكْر ، والغَدْر ، ولم يصفِ اللَّه تعالَى النَّصارَىٰ بأنهم أهْلُ وُدٍّ ، وإنما وصفهم بأنهم أقرَبُ من اليهود والمشركين ، وفي قوله سبحانه : { ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَـٰرَىٰ } : إشارةٌ إلى معاصري نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم من النصارَىٰ ؛ بأنهم ليسوا على حقيقيَّة النصرانيَّة ، وإنما هو قولٌ منهم ، وزَعْم . وقوله تعالى : { ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً … } الآية : معناه : ذلك بأن منهم أهْلَ خشْيَةٍ وٱنقطاعٍ إلى اللَّه تعالَىٰ ، وعبادةٍ ، وإنْ لم يكونوا على هُدًى ، فهم يَميلُونَ إلَىٰ أهل العبادةِ والخَشْيَةِ ، وليس عند اليهود ولا كان قَطُّ ـــ أهْلُ دياراتٍ وصوامِعَ وانقطاعٍ عن الدنيا ، بل هم معظِّمون لها ، متطاولُون في البنيان ، وأمورِ الدنيا ؛ حتَّىٰ كأنهم لا يؤمنون بالآخرة ؛ فلذلك لا يُرَىٰ فيهم زاهد ، قال الفَخْر : القُسُّ والْقِسِّيسُ : اسمُ رئيس النصارَىٰ ، والجمْعُ : قِسِّيسُونَ ، وقال قُطْرُب : القُسُّ والقِسِّيس : العَالِمُ ؛ بلغة الرُّوم ، وهذا مما وقع الوِفَاقُ فيه بَيْن اللغتَيْنِ . انتهى . ووصف اللَّه سبحانه النصارَىٰ ، بأنهم لا يستكبرون ، وهذا موجودٌ فيهم حتى الآن ، واليهوديُّ متى وجد عِزًّا ، طغَىٰ وتكبَّر ، ثم مدحهم سبحانه ، فقال : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ … } الآية : قال النوويُّ : ينبغي للقارىء أن يكون شأنُهُ الخشوعَ والتدبُّر والخضوعَ ؛ فهذا هو المقصود المطلوبُ ، وبه تنشرح الصدورُ ، وتستنيرُ القُلُوب ، ودلائلُه أكْثَرُ من أنْ تُحْصَر ، وأشهرُ من أنْ تُذْكَر ، وقد بات جماعةٌ من السَّلَف يتلو الواحدُ منهم آيةً واحدةً ، ليلةً كاملةً ، أو معظمَ ليلةٍ يتدَبَّرها ، وصُعِقَ جماعاتٌ منهم عند سماع القرآن ، وقراءتِهِ ، وماتَ جماعاتٌ منهم ، ويستحب البكاءُ والتباكِي لِمَنْ لا يقدر على البكاء ؛ فإن البكاء عند القراءة صفةُ العارفين ، وشعارُ عُبَّادِ اللَّه الصَّالحين ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } [ الإسراء : 109 ] وقد وردَتْ آثار كثيرة في ذلك . انتهى من « الحلية » للنوويِّ . وذكر ابن عباس وابن جُبَيْر ومجاهد ؛ أنَّ هذه الآية نزلَتْ بسبب وَفْدٍ بعثهم النجاشيُّ إلَىٰ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؛ لِيَرَوْهُ ويَعْرِفُوا حالَهُ ، فقرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليهم القُرآن ، فَبَكَوْا وآمَنُوا ، ورَجعُوا إلى النجاشيِّ ، فآمن ، ولم يَزَلْ مؤمناً حتَّىٰ ماتَ ، فصلَّىٰ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وروي أنَّ نَعْشَ النجاشيِّ كُشِفَ للنبيِّ ـــ عليه السلام ـــ ؛ فكان يراه مِنْ موضعه بالمدينةِ ؛ وجاء الخَبَرُ بعد مدة أنَّ النجاشيَّ دُفِنَ في اليومِ الذي صَلَّىٰ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه ، قال أبو صالح : كانوا سبعةً وستين رجلاً ، وقال ابن جُبَيْرٍ : كانوا سبعين ، عليهم ثيابُ الصُّوف ، وكُلُّهم صاحبُ صَوْمَعَة ؛ ٱختارهم النجاشيُّ . وصَدْرُ الآية في قُرْب المودَّة عامٌّ فيهم ، ولا يتوجَّه أنْ يكون صَدْر الآية خاصًّا فيمن آمن ، وإنما وقع التخصيص مِنْ قوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ } ، وجاء الضمير عامًّا ؛ إذ قد تُحْمَدُ الجماعةُ بفعْلِ واحدٍ منهم ، وفي هذا ٱستدعاءٌ للنصارَىٰ ، ولُطْفٌ من اللَّه بهم ؛ ليؤمنوا . قال * ص * : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ } : « مِن » الأُولىٰ لابتداءِ الغاية . قال أبو البقاء : ومعناها : مِنْ أجْل الذي عَرَفُوا ، و « من » الثانية لبيانِ « ما » الموصولة . انتهى . قال العراقيُّ : { تَفِيضُ } ، أي : تسيل منها العَبْرَةُ ، وفي الحديثِ : " ٱقْرِءُوا القُرْآنَ ، وَٱبْكُوا ، فَإنْ لَمْ تَبْكُوا ، فَتَبَاكَوْا " ، خرَّجه البزِّار . انتهى من « الكوكب الدري » ، وفيه عن البزَّار أيضاً ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ جَنَاحِ ذُبَابٍ دُمُوعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ حَتَّىٰ يَعُودَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهِ " انتهى . وقولهم : { مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } ، يعني : نبيِّنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم ، وأمته ؛ قاله ابن عباس وغيره ، وقال الطبريُّ : لو قال قائلٌ : معنى ذلك : « مع الشاهِدينَ بتَوْحيدك من جميع العَالَمِ » ، لكان صواباً ، وهو كلامٌ صحيحٌ ؛ وكأن ابنَ عَبَّاس خصَّص أمة محمد ؛ لقول اللَّه سبحانه : { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطاً … } [ البقرة : 143 ] ، وقولهم : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ ٱلْحَقِّ } : توقيفٌ لأنفسهم أو مُحَاجَّةٌ لِمَنْ عارضهم من الكفار ، والقومُ الصالِحُون : محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ؛ قاله ابن زيد وغيره من المفسِّرين ، ثم ذكر تعالَىٰ ما أثابهم به مِنَ النعيم علَىٰ إيمانهم وإحسانهم ، ثم ذكر سبحانه حَالَ الكَافرين المكذِّبين ، وأنهم قرناء الجحيمِ .