Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 20-20)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله سبحانه : { ٱعْلَمُواْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } هذه الآيةُ وعظ ، وتبيين لأمر الدنيا وَضَعَةِ منزلتها ، والحياة الدنيا في هذه الآية : عبارة عن الأشغال والتصرفاتِ والفكرِ التي هي مختصة بالحياة الدنيا ، وأَمَّا ما كان من ذلك في طاعة اللَّه تعالى ، وما كان في الضرورات التي تقيم الأود وتعينُ على الطاعات ـــ فلا مدخلَ له في هذه الآية ، وتأملْ حالَ الملوك بعد فقرهم ، يَبِنْ لك أَنَّ جميعَ ترفهم لَعِبٌ ولهو ، والزينة : التحسين الذي هو خارج عن ذات الشيء ، والتفاخرُ بالأموال والأنساب وغيرُ ذلك على عادة الجاهلية ، ثم ضرب اللَّه عز وجل مَثَلَ الدنيا ، فقال : { كَمَثَلِ غَيْثٍ … } الآية : وصورة هذا المثالِ أَنَّ الإنسانَ ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك ، فيشُبُّ في النعمة ، ويقوى ، ويكسب المال والولد ، ويغشاه الناسُ ، ثم يأخذُ بعد ذلك في انحطاطٍ ، ويشيب ، ويضعف ويسقم ، وتصيبه النوائب في ماله وذريته ، ويموتُ ، ويضمحلُّ أَمرهُ ، وتصيرُ أمواله لغيره ، وتتغير رُسُومُه ؛ فأمره مِثْلُ مطر أصاب أرضاً ، فنبت عن ذلك الغيثِ نباتٌ معجب أنيق ، ثم هاج ، أي : يبس ، واصْفَرَّ ، ثم تحطم ، ثم تفرق بالرياح واضمحل . وقوله : { أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ } أي : الزراع ؛ فهو من كَفَرَ الحَبَّ ، أي : ستره ، وقيل : يحتمل أَنْ يعني الكفار باللَّه ، لأَنَّهم أَشَدُّ إعجاباً بزينة الدنيا ، ثم قال تعالى : { وَفِى ٱلأَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ … } الآية : كأنَّه قال : والحقيقة هاهنا ، وذكر العذابَ أَوَّلاً ؛ تَهَمُّمَاً به من حيث الحذر في الإنسان ، ينبغي أَنْ يكونَ أولاً ، فإذا تحرز من المخاوف مَدَّ حينئذ أمله ، فذكر تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه ، وهو المغفرة والرضوان ، وعبارة الثعلبيِّ : { ثُمَّ يَهِـيجُ } أي : يجفُّ { وَفِى ٱلأَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } : لأعداء اللَّه { وَمَغْفِرَةٌ } : لأوليائه ، وقال الفَرَّاءُ { وَفِى ٱلأَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ } أي : إمَّا عذاب شديد ، وإمَّا مغفرة { وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ } : هذا تزهيد في العمل للدنيا ، وترغيبٌ في العمل للآخرة ، انتهى ، وهو حسن ، وعن طارق قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " نِعْمَتِ الدَّارُ الدُّنْيَا لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا لآِخِرَتِهِ ، وَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ صَدَّتْهُ عَنْ آخِرَتِهِ ، وَقَصَّرَتْ بِهِ عَنْ رِضَا رَبِّهِ ، فَإذَا قَالَ الْعَبْدُ : قَبَّحَ اللَّهُ الدُّنْيا قَالَتِ الدُّنْيَا : قَبَّحَ اللَّهُ أَعْصَانَا لِرَبِّهِ " رواه الحاكم في « المستدرك » ، انتهى من « السلاح » ، ولا يشك عاقل أَنَّ حُطَامَ الدنيا مُشْغِلٌ عنِ التأهب للآخرة ؛ قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب « فضل العلم » : وقد رُوِيَ مرفوعاً : " لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ ، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي المَالُ " قال أبو عمر : ثم نقول : إنَّ الزهد في الحلال ، وترك الدنيا مع القدرة عليها ـــ أفضلُ من الرغبة فيها في حلالها ، وهذا ما لا خلافَ فيه بين علماء المسلمين قديماً وحديثاً ، والآثار الواردة عنِ الصحابة والتابعين ، ومَنْ بعدهم من علماء المسلمين في فضل الصبر والزهد فيها ، وفَضْل القناعة ، والرضا بالكفاف ، والاقتصارِ على ما يكفي دون التكاثر الذي يُلْهِي ويُطْغِي ـــ : أكثر من أَنْ يحيط بها كتاب ، أو يشمل عليها باب ، والَّذِينَ زوى اللَّه عنهم الدنيا من الصحابة ، أكثرُ من الذين فتحها عليهم أضعافاً مضاعفةً ، وقد روينا عن عبد الرحمن بن عوف أَنَّهُ لما حضرته الوفاةُ بَكَى بُكَاءً شديداً ، وقال : كان مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ خيراً مِنِّي ؛ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَتْرُكْ ما يُكَفَّنُ فيه ، وَبَقِيتُ بعده حتى أَصَبْتُ من الدنيا وأصابت مِنِّي ، ولا أحسبني إلاَّ سَأُحْبَسُ عن أصحابي بما فتح اللَّهُ عليَّ من ذلك ، وجعل يبكي حتى فاضتْ نفسه ، وفارق الدنيا رحمة اللَّه عليه ، فإنْ ظَنَّ ظانٌّ جاهل أَنَّ الاستكثار من الدنيا ليس به بأس ، أو غلب عليه الجهل ؛ فَظَنَّ أَنَّ ذلك أفضل من طلب الكفاف منها ، وشُبِّهَ عليه بقول اللَّه تعالى : { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ } [ الضحى : 8 ] فيما عَدَّده سبحانه على نبيِّه صلى الله عليه وسلم من نعمه عنده ـــ فَإنَّ ذلك ليس كما ظَنَّ ؛ بل ذلك غنى القلب ، دَلَّتْ على ذلك الآثارُ الكثيرة ؛ كقوله عليه السلام : " لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ ، وَإنَّما الغِنَى غِنَى النَّفْسِ " انتهى .