Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 58, Ayat: 11-12)
Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى ٱلْمَجَـٰلِسِ … } الآية ، وقرأ عاصم : « في المَجَالِسِ » قال زيد بن أسلم وقتادة : هذه الآية نزلت بسبب تضايُقِ الناس في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك أَنَّهُمْ كانوا يتنافسون في القُرْبِ منه وسَمَاعِ كلامه والنظر إليه ، فيأتي الرجلُ الذي له الحَقُّ والسِّنُّ والقَدَمُ في الإسلام ، فلا يجد مكاناً ، فنزلت بسبب ذلك ، وروى أبو هريرة أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لاَ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ فِيهِ الرَّجُلُ ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ " ، قال جمهور العلماء : سببُ نزولِ الآية مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ثم الحكم مُطَّرِدٌ في سائر المجالس التي هي للطاعات ؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " أَحَبُّكُمْ إلَى اللَّهِ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ في الصَّلاَةِ ، وَرُكَباً في المَجَالِسِ " ، وهذا قول مالك رحمه اللَّه ، وقال : ما أرى الحكم إلاَّ يَطَّرِدُ في مجالس العلم ونحوها غَابِرَ الدهر ؛ قال * ع * : فالسنة المندوبُ إليها هي التفسُّحُ ، والقيامُ مَنْهِيٌّ عنه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، حيثُ نَهَىٰ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ ؛ فَيَجْلِسَ الآخَرُ مَكَانَهُ . * ت * : وقد روى أبو دَاوُدَ في « سننه » عن سَعِيدِ بْنِ أبي الحَسَنِ قال : « جَاءَنَا أَبُو بَكْرَةَ في شَهَادَةٍ ، فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ ، وَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ذَلِكَ ، وَنَهَى أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ يَدَهُ بِثَوْبِ مَنْ لَمْ يَكْسُهُ » وروى أبو داودَ عن ابن عمر قال : جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ ، فَذَهَبَ لِيَجْلِسَ فِيهِ ، فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم » انتهى ، قال * ع * : فَأَمَّا القيام إجلالاً فجائز بالحديث ، وهو قوله ـــ عليه السلام ـــ حين أقبل سعد بن معاذ : " قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ " وواجب على المُعَظَّمِ أَلاَّ يُحِبَّ ذَلِكَ وَيَأْخُذَ النَّاسَ بِهِ ؛ لقوله ـــ عليه السلام ـــ : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَاماً ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " . * ت * : وفي الاحتجاج بقضية سعد نظر ؛ لأَنَّها احْتَفَّتْ بِها قرائن سَوَّغَتْ ذلك ؛ انظر السير ، وقد أطنب صاحب المدخل في الإنحاء والرَّدِّ على المجيزين للقيام ، والسلامةُ عندي تركُ القيام . وقوله تعالى : { يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ } معناه : في رحمته وَجَنَّتِهِ . * ص * : { يَفْسَحِ } مجزوم في جواب الأمر ، انتهى ، { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ } معناه : ارتفعوا ، وقوموا فافعلوا ذلك ؛ ومن « رياض الصالحين » للنوويِّ : وعن عمرو بن شُعَيْبٍ ، عن أبيه ، عن جَدِّهِ ، أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : " لاَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلاَّ بِإذْنِهِمَا " رواه أبو داودَ ، والترمذيُّ وقال : حديث حسن ، وفي رواية لأبي داودَ : " لاَ يَجْلِسْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلاَّ بِإذْنِهِمَا " وعن حُذَيْفَةَ - رضي اللَّه عنه - أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " لَعَنَ مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الحَلْقَةِ " ، رواه أبو داود بإسناد حسن ، وروى الترمذيُّ عن أبي مِجْلِزٍ ؛ أَنَّ رَجُلاً قَعَدَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ : " مَلْعُونٌ عَلَىٰ لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، أَوْ لَعَنِ اللَّهُ عَلَىٰ لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ " قال الترمذيُّ : حديث حسن صحيح ، انتهى . وقوله سبحانه : { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ … } الآية : قال جماعة : المعنى : يرفع اللَّه المؤمنين العلماءَ درجاتٍ ؛ فلذلك أمر بالتفسُّح من أجلهم ، وقال آخرون : المعنى : يرفع اللَّه المؤمنين والعلماءَ الصنفينِ جميعاً درجاتٍ ، لَكِنَّا نعلمُ تفاضُلَهم في الدرجات من مواضعَ أُخَرَ ؛ فلذلك جاء الأمر بالتفسح عامًّا للعلماء وغيرهم ، وقال ابن مسعود وغيره : { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ } وهنا تَمَّ الكلامُ ، ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات ، ونصبهم بإضمار فعلٍ ، فللمؤمنين رفع على هذا التأويل ، وللعلماء درجات ، وعلى هذا التأويل قال مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّخِّيرِ : فَضْلُ العلمِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ فَضْلِ العِبَادَةِ ، وخيرُ دِينِكُمُ الوَرَعُ ، وروى البخاريُّ وغيره عن أبي موسى عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بهِ مِنَ الهُدَىٰ وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً ، فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الماء ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ ؛ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ ، فَشَرِبُوا ، وَسُقُوا ، وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَىٰ إنَّما هِيَ قِيَعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءَ ، وَلا تُنْبِتُ كَلأً ؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ " انتهى . وقوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَي نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ } روي عن ابن عباس وقتادة في سببها : أَنَّ قوماً من شباب المؤمنين وأغْفَالِهِمْ كَثُرَتْ مناجاتُهم للنبي صلى الله عليه وسلم في غير حاجة ، وكان صلى الله عليه وسلم سَمْحاً ، لا يَرُدُّ أحداً ، فنزلت هذه الآية مُشَدِّدَةً عليهم ، وقال مقاتل : نزلتْ في الأغنياء ؛ لأَنَّهُمْ غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسته ، قال جماعة من الرواة : نُسِخَتْ هذه الآيةُ قبل العمل بها ، لكنِ استقر حُكْمُهَا بالعزم عليه ، وصَحَّ عن عليٍّ أَنَّهُ قال : " ما عَمِلَ بها أَحَدٌ غيري ، وأنا كنتُ سَبَبَ الرخصة والتخفيفِ عن المسلمين ، قال : ثم فَهِمَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هٰذِهِ الْعِبَادَةَ قد شَقَّتْ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ لي : يَا عَلِيُّ ، كَمْ تَرَىٰ أَنْ يَكُونَ حدُّ هٰذِهِ الصَّدَقَةِ ؟ أَتَرَاهُ دِينَاراً ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ : فَنِصْفُ دِينِارٍ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ : فَكَمْ ؟ قُلْتُ : حَبَّةٌ مِنْ شَعِيرٍ ، قَالَ : إنَّكَ لَزَهِيدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ " ، يريد لِلْوَاجِدِينَ ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ فَالرُّخْصَةُ لَهُ ثَابِتَةٌ ؛ بقوله : « فَإنْ لَمْ تَجِدُوا » قال الفخر : قوله عليه السلام لعليٍّ : " إنَّكَ لَزَهِيدٌ " معناه : إنك قليل المال ، فقدَّرْتَ عَلَىٰ حَسَبِ حالك ، انتهى .