Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 8-9)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَـٰجِرِينَ } : بيان لقوله : { وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } وكرر لام الجر ، لما كانت الجملة الأولى مجرورةً باللام ؛ ليبيِّنَ أَنَّ البدل إنَّما هو منها ، ثم وصفهم تعالى بالصفة التي تقتضي فقرهم ، وتُوجِبُ الشفقة عليهم ، وهي إخراجهم من ديارهم وأموالهم { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } : يريد به الآخرة والجنة : { أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ } أي : في الأقوال والأفعال والنِّيَّاتِ { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ } : هم الأنصار ـــ رضي اللَّه عن جميعهم ـــ ، والضمير في { مِن قَبْلِهِمُ } للمهاجرين ، والدار هي المدينة ، والمعنى : تبوؤوا الدار مع الإيمان ، وبهذا الاقتران يتضح معنى قوله تعالى : { مِن قَبْلِهِمْ } فتأمله ، قال * ص * : { وَٱلإِيمَـٰنَ } منصوب بفعل مُقَدَّرٍ ، أي : واعتقدوا الإيمان ، فهو من عطف الجمل ؛ كقوله : [ من الرجز ] @ عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً … @@ انتهى ، وقيل غير هذا ، وأثنى اللَّه تعالى في هذه الآية على الأنصار بِأَنَّهُمْ يحبون المهاجرين ، وبأَنَّهم يؤثرون على أنفسهم ، وبأَنَّهم قد وُقُوا شُحَّ أنفسهم . * ت * : وروى الترمذيُّ عن أنس قال : " لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ أَتَاهُ المُهَاجِرُونَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا رَأَيْنَا قَوْماً أَبْذَلَ لِكَثِيرٍ وَلاَ أَحْسَنَ مُوَاساةً في قلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ؛ لَقَدْ كَفَوْنَا المَؤُونَةَ ، وَأَشْرَكُونَا في الْمِهْنَةِ ، حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لاَ ، مَا دَعَوتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ " قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، انتهى ، والحاجة : الحسد في هذا الموضع ؛ قاله الحسن ، ثم يَعُمُّ بعدُ وُجُوهاً ، وقال الثعلبيُّ : { حَاجَةً } أي : حَزَازَةً ، وقيل : حسداً { مِّمَّا أُوتُواْ } أي : مما أعطي المهاجرون من أموال بَنِي النضير والقرى ، انتهى . وقوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } : صفة للأنصار ، وجاء الحديث الصحيح من غير ما طريق ، " أَنَّها نزلت بسبب رجل من الأنصار وصنيعه مع ضيفِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؛ إذْ نَوَّمَ صبيانه ، وَقَدَّمَ للضيف طعامَه ، وأطفأتْ أهلُه السراجَ ، وأوهما الضيفَ أَنَّهُمَا يأكلان معه ، وباتا طاويين ؛ فلمَّا غدا الأنصاريُّ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له : « لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فِعْلِكُمَا الْبَارِحَةَ » " ونزلت الآية في ذلك ، قال صاحب « سلاح المؤمن » : الرجل الأنصاريُّ الذي أضاف هو ، أبو طلحة انتهى ، قال الترمذيُّ الحكيم في كتاب « ختم الأولياء » له : حدثنا أبي قال : حدثنا عبد اللَّه بن عاصم : حدثنا الجمانيُّ : حدثنا صالح المُرِّيُّ عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " إنَّ بُدَلاَءَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلاَ صَلاَةٍ ؛ إنَّما دَخَلُوهَا بِسَلاَمَةِ الصُّدُورِ ، وَسَخَاوَةِ الأَنْفُسِ ، وَحُسْنِ الخُلُقِ ، والرَّحْمَةِ بِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ " انتهى ، والإيثار على النفس أكرم خلق ، قال أبو يزيد البسطاميُّ : قدم علينا شاب من بَلْخٍ حاجًّا فقال لي : ما حَدُّ الزهد عندكم ؟ فقلت : إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا ، وَإذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا ، فقال : هكذا عندنا كلابُ بلخ ! فقلت له : فما هو عندكم ؟ ! فقال : إذا فقدنا صَبْرَنَا ، وَإذَا وجدنا آثرنا ، ورُوِيَ أَنَّ سبب هذه الآيةِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، لَمَّا فَتَحَ هٰذِهِ الْقُرَى قَالَ لِلأَنْصَارِ : " إنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَمْوَالِكْمْ وَدِيَارِكُمْ ؛ وَشَارَكْتُمُوهُمْ في هٰذِهِ الْغَنِيمَةِ ، وَإنْ شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ وَتَرَكْتُمْ لَهُمْ هٰذِهِ الغَنِيمَةَ ، فَقَالُوا : بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا ، وَنَتْرُكُ لَهُمْ هٰذِهِ الغَنِيمَةَ " ، فنزلت الآية ، والخصاصة : الفاقَةُ والحاجةُ ، وشُحُّ النفس : هو كثرةَ طَمَعِهَا . وضبطها على المال ، والرغبةُ فيه ، وامتدادُ الأمل ؛ هذا جماع شُحِّ النفس . وهو داعية كُلِّ خلق سوء ، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَقَرَى الضَّيْفَ ، وَأَعْطَى في النَّائِبَةِ ـــ فَقَدْ بَرِىءَ من الشُّحِّ " ، وَإلى هذا الذي قلناه ذهب الجمهور والعارفون بالكلام ، وقيل في الشح غير هذا ، قال * ع * : وشُحُّ النفس فَقْرٌ لا يذهبه غِنَى المالِ ، بل يزيده ، وينصب به ؛ و { يُوقَ } مِنْ وَقَىٰ يَقِي ، وقال الفخر : اعلم أَنَّ الفرق بين الشُّحِّ والبخل هو أَنَّ البخل نفس المنع ، والشُّحُّ هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المَنْعَ ، ولَمَّا كان الشُّحُّ من صفات النفس لا جَرَمَ ، قال اللَّه تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي : الظافرون بما أرادوا ، قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه اللَّه عن أخذه ، ولم يمنع شيئاً أمره اللَّه تعالى بإعطائه ـــ فقد وُقِيَ شُحَّ نفسه ، انتهى .