Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 71-74)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } الآية . لمَّا بالغ في تقرير الدَّلائل ، والجواب عن الشُّبه ، شرع في بيان قصص الأنبياء ؛ لوجوه : الأول : أنَّ الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العُلُوم ؛ فربَّما حصل نوع من الملالة ، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفنِّ إلى فنٍّ آخر ، انشرح ، ووجد في نفسه رغبةً شديدةً . الثاني : ليتأسَّى الرسول وأصحابه بمن سلف من الأنبياء ؛ فإنَّ الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكُفَّار مع الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه ، خفَّ ذلك على قلبه ، كما يقال : إن المصيبة إذا عمَّتْ خفَّتْ . الثالث : أنَّ الكُفَّار إذا سمعُوا هذه القصص ، وعلموا أنَّ الجُهَّال وإن بالغُوا في إيذاء الأنبياء المتقدِّمين ، إلاَّ أنَّ الله - تعالى - أعانهم بالآخرة ، ونصرهم ، وأيَّدهُم ، وقهر أعداءهم ، كان سماع هؤلاء الكُفَّار لهذه القصص ، سبباً لانكسار قلوبهم ، ووقوعِ الخوف في صدورهم ؛ فحينئذٍ يُقَلِّلُون من الأذى والسَّفاهة . الرابع : أنَّ محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - لمَّا لمْ يتعلَّم علماً ، ولم يطالع كتاباً ، ثم ذكر هذه القصص من غير تفاوُتٍ ، ومن غير زيادة ولا نقصان ، دلَّ ذلك على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - إنَّما عرفها بالوحْي والتنزيل ، وحذفت الواو من " اتْلُ " لأنه أمر . قوله : " إذْ قال " يجوز أن تكون " إذْ " معمولةً لـ " نَبَأ " ويجوز أن تكون بدلاً من " نَبَأ " بدل اشتمال ، وجوَّز أبو البقاء : أن تكون حالاً من " نَبَأ " وليس بظاهر ، ولا يجوزُ أن يكون منصوباً بـ " اتلُ " لفساده ؛ إذ " اتْلُ " مستقبلٌ ، و " إذ " ماضٍ ، و " لِقوْمِهِ " اللام : إمَّا للتبليغ ، وهو الظاهرُ ، وإمَّا للعِلَّة ، وليس بظاهرٍ . قال المفسرون : " قوم نُوح هم : ولد قابيل " . قوله : { كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي } من باب الإسناد المجازيِّ ؛ كقولهم : " ثَقُلَ عليَّ ظلُّه " . وقرأ أبو رجاء ، وأبو مجلز ، وأبو الجوزاء : " مُقَامِي " بضمِّ الميم ، و " المقام " بالفتح : مكان القيام ، وبالضم : مكان الإقامة ، أو الإقامة نفسها . وقال ابن عطيَّة : " ولم يُقْرَأ هنا بضمِّ الميم " . كأنَّه لم يطَّلع على قراءة هؤلاء . قال الواحدي : يقال : كَبُرَ يَكبُرُ كِبراً في السِّنِّ ، وكَبُرَ الأمرُ والشيء ، إذا عظم ، يَكْبُرُ كِبَراً وكُبَّارة ، قال ابن عبَّاس : " ثقُل عليكم ، وشقَّ عليكم " وأراد بالمقام ههنا : مُكْثَهُ . وسبب هذا الثِّقل أمران : الأول : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - مكث فيهم ألف سنةٍ إلاَّ خمسين عاماً . والثاني : أنَّ أولئك الكُفَّار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة ، ومن ألف طريقة في الدِّين ؛ فإنه يثقل عليه أن يدعى إلى خلافها ؛ فإن اقترن بذلك طول مُدَّة الدُّعاءِ ، كان أثقل ، وأشدّ كراهية ، وقوله { وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ } : بحُجَجِه وبيناته . قوله : { فَعَلَى ٱللَّهِ } جواب الشَّرط ، وقوله { فَأَجْمِعُوۤاْ } عطف على الجواب ، ولم يذكر أبُو البقاء غيره ، واستُشْكِل عليه أنَّه متوكلٌ على الله دائماً ، كبُر عليهم مقامُه أوْ لمْ يَكْبُرْ . وقيل : جوابُ الشَّرط قوله : " فأجْمِعُوا " وقوله : { فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ } : جملةٌ اعتراضية بين الشَّرطِ وجوابه ؛ وهو كقول الشاعر : [ الكامل ] @ 2912 - إمَّا تَرَيْنِي قَد نَحَلْتُ ومَنْ يكُنْ غَرضاً لأطْرَافِ الأسنَّةِ يَنْحَلِ فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ ثِقْلِكِ بَادِنٍ ضَخْمٍ على ظَهْرِ الجَوَادِ مُهَيَّلِ @@ وقيل : الجوابُ محذوفٌ ، أي : فافْعَلُوا ما شِئْتُم . وقرأ العامَّة : " فأجْمِعُوا " أمْراً من " أجْمَع " بهمزة القطع ، يقال : أجمع في المعاني ، وجمع في الأعيان ، فيقال : أجْمَعْتُ أمري ، وجمعتُ الجيشَ ، هذا هو الأكثر . قال الحارثُ بن حلِّزة : [ الخفيف ] @ 2913 - أجْمَعُوا أمْرَهُمْ بِليْلٍ فلمَّا أصْبَحُوا أصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ @@ وقال آخر : [ الرجز ] @ 2914 - يَا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ هَلْ أغْدُوَنْ يَوْماً وأمْرِي مُجْمَعُ ؟ @@ وهل أجمع متعدٍّ بنفسه ، أو بحرف جر ثم حذف اتساعاً ؟ فقال أبو البقاء : من قولك أجمعتُ على الأمْرِ : إذا عزمتَ عليه ؛ إلاَّ أنَّه حُذفَ حرفُ الجر فوصل الفعل إليه ، وقيل : هو متعدٍّ بنفسه ، وأنشد قول الحارث . وقال أبو فيد السَّدُوسي : أجمعت الأمر ، أفصحُ من أجمعت عليه . وقال أبو الهيثم : أجمع أمرهُ جعلهُ مجموعاً بعد ما كان متفرقاً ، قال : وتفرقته أن يقول مرَّة افعل كذا ، ومرَّة افعل كذا ، وإذا عزم على أمرٍ واحدٍ ، فقد جمعه أي : جعله جميعاً ، فهذا هو الأصلُ في الإجماع ، ثم صار بمعنى : العزْم ، حتى وصل بـ " عَلَى " فقيل : أجمعتُ على الأمر ؛ أي : عَزَمْتُ عليه ، والأصلُ : أجمعتُ الأمرَ . وقرأ العامَّةُ : " وشُركَاءَكُم " نصباً وفيه أوجه : أحدها : أنَّه معطوفٌ على " أمركُم " بتقدير حذف مضافٍ ، أي : وأمر شركائكم ؛ كقوله : { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] ، ودلَّ على ذلك ما تقدَّم من أنَّ " أجمع " للمعاني . الثاني : أنَّه عطفٌ عليه من غير تقدير حذف مضافٍ ، قيل : لأنَّه يقال أيضاً : أجمعت شركائي . الثالث : أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ لائق ، واجمعُوا شركاءكم بوصل الهمزة ، وقيل : تقديره : وادعوا ، وكذلك هي في مصحف أبيِّ " وادعوا " فأضمر فعلاً لائقاً ؛ كقوله - تعالى - : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } [ الحشر : 9 ] ، أي : واعتقدوا الإيمان . ومثله قول الآخر : [ الرجز ] @ 2915 - عَلفتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً حتَّى شَتَتْ همَّالةً عَيْنَاهَا @@ أي : وسقيتها ماءً ؛ وكقوله : [ مجزوء الكامل ] @ 2916 - يا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا @@ وقول الآخر : [ الوافر ] @ 2917 - إذَا مَا الغَانِيَاتُ يَرَزْنَ يَوْماً وزجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا @@ يريد : ومُعْتَقِلاً رمحاً ، وكحَّلنَ العُيُونا ، وقد تقدَّم أنَّ في هذه الأماكن غير هذا التخريج . الرابع : أنه مفعولٌ معه ، أي : " مع شُركائكم " . قال الفارسيُّ : وقد يُنْصَب الشُّرَكاء بواو " مع " ، كما قالوا : جاء البرد والطَّيالسة ، ولم يذكر الزَّمخشريُّ غير قول أبي علي . قال الزَّجَّاج : " معناه : فأجمعُوا أمركم مع شُركائِكُم ، فلما ترك انتصب " . قال أبو حيَّان : " وينبغي أن يكون هذا التخريجُ على أنَّه مفعولٌ معه من الفاعل ، وهو الضمير في " فأجْمِعُوا " لا من المفعول الذي هو " أمْرَكُمْ " وذلك على أشهر الاستعمالين ؛ لأنَّه يقال : " أجمع الشركاءُ أمرهم " ولا يقال : " جمع الشركاء أمرهم " إلا قليلاً " . قال شهاب الدين : يعني : أنَّهُ إذا جعلناه مفعولاً معه من الفاعل ، كان جائزاً بلا خلافٍ ، وذلك لأنَّ من النَّحويين من اشترط في صحَّة نصب المفعول معه : أن يصلح عطفُه على ما قبله ، فإنْ لَمْ يصلح عطفه ، لم يصحَّ نصبُه مفعولاً معه ، فلو جعلناه من المفعول لم يجز على المشهور ، إذ لا يصلح عطفه على ما قبله ؛ إذ لا يقال : أجمعت شركائي ، بل جمعت . وقرأ الزهري ، والأعمش ، والأعرج ، والجحدري ، وأبو رجاء ، ويعقوب ، والأصمعي عن نافع : " فاجْمَعُوا " بوصل الألف ، وفتح الميم من جمع يجْمَعُ ، و " شُرَكاءكُمْ " على هذه القراءةِ يتضح نصبه نسقاً على ما قبله ، ويجوز فيه ما تقدَّم في القراءة الأولى من الأوجه . قال صاحبُ اللوامح : أجمعت الأمر : أي : جعلته جميعاً ، وجمعتُ الأموال جمعاً ، فكان الإجماع في الأحداث ، والجمعُ في الأعيان ، وقد يستعمل كلُّ واحدٍ مكان الآخر ، وفي التنزيل : { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } [ طه : 60 ] وقد اختلف القراء في قوله : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } [ طه : 64 ] . فقرأ الستَّة : بقطع الهمزة ، جعلوه من " أجْمع " وهو موافق لما قيل : إنَّ " أجْمَع " في المعاني . وقرأ أبو عمرو وحدهُ " فاجْمَعُوا " بوصل الألف ، وقد اتفقوا على قوله { فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ } [ طه : 60 ] ، فإنَّه من الثلاثي ، مع أنَّه متسلِّطٌ على معنًى ، لا عينٍ . ومنهم من جعل للثلاثي معنى غير معنى الرُّباعي ؛ فقال في قراءة أبي عمرو : من جمع يَجْمع ضد فرَّق يفرق ، وجعل قراءة الباقين من : أجمع أمرهُ إذا أحكمه وعزم عليه ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ] @ 2918 - يَا ليتَتْ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ هَلْ أغْذُونْ يوماً وأمْرِي مُجْمَع ؟ @@ وقيل : المعنى : فاجمعوا على كيدكم ؛ فحذف حرف الجرِّ . وقرأ الحسن ، والسلمي ، وعيسى بن عمر ، وابن أبي إسحاق ، وسلام ، ويعقوب : " وشُرَكاؤكُمْ " رفعاً ، وفيه تخريجان : أحدهما : أنَّه نسقٌ على الضَّمير المرفوع بـ " أجْمِعُوا " قبله ، وجاز ذلك ؛ إذ الفصل بالمفعول سوَّغ العطف . والثاني : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : وشُركاؤكُم فليُجْمِعُوا أمرهم ، وشذَّتْ فرقةٌ فقرأت : " وشُرَكائِكُمْ " بالخفضِ ، ووُجِّهَتْ على حذف المضاف ، وإبقاء المضاف إليه مجرُوراً على حاله ؛ كقول الشاعر : @ 2919 - أكُلَّ امرِىءٍ تَحْسِبينَ امْرَءًا ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْل نَارَا @@ أي : وكُلَّ نار ، فتقدير الآية : وأمر شركائكم ؛ فحذف الأمر ، وأبقى ما بعده على حاله ، ومن رأى برأي الكوفيين جوَّزَ عطفه على الضَّمير في " أمركم " من غير تأويل ، وقد تقدَّم ما فيه من المذاهب ، أعني : العطف على الضَّمير المجرور من غير إعادة الجارِّ في سُورة البقرة . قوله : " غُمَّةً " يقال : غمٌّ وغُمَّةٌ ، نحو كَرْبٌ وكُربَةٌ . قال أبو الهيثم : هو من قولهم : غمَّ علينا الهلالُ ، فهو مغمومٌ إذا التمسَ ، فلم يُرَ ؛ قال طرفةُ بن العبد : [ الطويل ] @ 2920 - لعَمْرُكَ ما أمْرِي عليَّ بغُمَّةٍ نَهَاري ولا لَيْلِي عليَّ بِسرمَدِ @@ وقال اللَّيث : يقال : هُو في غُمَّةٍ من أمره ، إذا لَمْ يتبيَّنْ لهُ . قوله : { ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ } مفعول " اقضوا " محذوف ، أي : اقضُوا إليَّ ذلك الأمر الذي تريدون إيقاعه بي ؛ كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ } [ الحجر : 66 ] فعدَّاه لمفعول صريح . وقرأ السَّري : " ثُمَّ أفْضُوا " بقطع الهمزة والفاء ، من أفْضى يُفضِي إذا انتهى ، يقال : أفضَيْتُ إليك ، قال تعالى : { وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] ، فالمعنى : ثُمَّ أفضُوا إليَّ سرَّكم ، أي : انتهوا به إليَّ ، وقيل : معناه : أسْرِعُوا به إليَّ ، وقيل : هو مِنْ أفْضَى ، أي : خَرَجَ إلى الفضاءِ ، أي : فأصْحِرُوا به إليَّ ، وأبرزُوه لي ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2921 - أبَى الضَّيْمَ والنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نابهُ عليه فأفْضَى والسُّيُوفُ معاقِلُه @@ ولامُ الفضاءِ واوٌ ؛ لأنَّه من فضا يَفْضُو ، أي : اتَّسعَ ، والمعنى : فأحكمُوا أمركُم ، واعزِمُوا وادعُوا شُركَاءَكُم ، أي : آلهتكُم ، فاستعينوا بها لتجتمع . وروى الأصمعي ، عن نافع : " فأجمعُوا ذوي الأمر منكم " فحذف المضاف ، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت . قال ابن الأنباري : المرادُ من الأمر هنا : وجوه كيدهم ، ومكرهم ، والتقدير : لا تتركوا مِن أمركُم شيئاً إلا أحضرتُمُوه . والمراد من الشركاء : إما الأوثان ؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّها تَضُرُّ وتنفعُ ، وإمَّا أن يكون المرادُ : من كان على مثل دينهم . { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي : خفيًّا مبهماً ، من قولهم : غَمَّ الهلالُ على النَّاسِ ، أي : أشْكل عليهم ، فهو مغمومٌ إذا خفي . " ثُمَّ اقضُوا " أي : امضُوا ، " إليَّ " : بما في أنفسكم من مكروه وافرغوا منه ، يقال : قضى فلان : إذا مات ، وقضى دينه : إذا فرغ منه ، وقيل معناه : توجَّهُوا إليَّ بالقتل والمكروه ، وقيل : " فاقْضُوا ما أنتم قاضُون " كقول السَّحرة لفرعون " { فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } [ طه : 72 ] . قال القفال : ومجاز دُخُول كلمة " إلى " في هذا الموضع من قولهم : برئت إليك ، وخرجت إليك من العهد ، وفيه معنى الإخبار ؛ فكأنَّه - تعالى - قال : ثم اقضُوا إليَّ ما يستقرُّ رأيكم عليه محكماً مفروغاً منه ، ثم لا تنظرون أي : لا تمهلون ولا تُؤخِّرُون . وقد نظَّم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه ، فقال : إنه - عليه الصلاة والسلام - قال في أول الأمر : فعلى الله توكلت ؛ فإنِّي واثقٌ بوعد الله ، جازم بأنَّه لا يخلفُ الميعاد ، فلا تظُنُّوا أنَّ تهديدكم إيَّاي بالقتلِ والإيذاء يمنعني من الدُّعاء إلى الله ثم إنَّه - عليه الصلاة والسلام - أورد عليهم ما يدل على صحة دعواهُ ، فقال : { فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ } كأنَّهُ يقول : اجمعوا ما تقدرُون عليه من الأشياء التي توجبُ حُصُول مطلوبكم ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل أمرهم أن يضُمُّوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أنَّ حالهم يقوى بمكانتهم وبالتَّقَرُّب إليهم ، ثم لم يقتصر على هذين ، بل ضمَّ إليهما ثالثاً ، وهو قوله : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أراد أن يبلغوا فيه كل غايةٍ في المكاشفةِ والمجاهرة ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل ضمَّ إليها رابعاً ، فقال : { ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ } والمراد : أن وجهوا كلَّ تلك الشُّرُور إليَّ ، ثم ضمَّ إلى ذلك خامساً ، وهو قوله : " لاَ تُنظِرُون " أي : عجِّلُوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير انتظار ، ومعلومٌ أنَّ مثل هذا الكلام يدل على أنه - عليه الصلاة والسلام - كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله ، وأنَّه كان قاطعاً بأنَّ كيدهم لا يضرُّه ، ولا يصل إليه ، ومكرهم لا ينفذُ فيه . قوله : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أعرضتم عن قولي ، وقُبُول نُصْحِي ، { فَمَا سَأَلْتُكُمْ } على تبليغ الرِّسالة والدَّعوة " مِّنْ أَجْرٍ " جعل وعوض ، { إِنْ أَجْرِيَ } : ما أجري وثوابي ، { إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } . قال المفسِّرُون : وهذا إشارةٌ إلى أنَّه ما أخذ منهم مالاً على دعواهُم إلى دين الله ، وكُلَّما كان الإنسانُ فارغاً من الطَّمع ، كان قوله أقوى تأثيراً في القلب . قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر : وهو أنَّه - عليه الصلاة والسلام - بيَّن أنه لا يخافُ منهم بوجهٍ من الوجوه ، وذلك لأنَّ الخوف إنَّما يحصل بأحد شيئين : إمَّا بإيصال الشَّر ، أو بقطع المنافع ، فبيَّن فيما تقدَّم أنه لا يخافُ شرَّهُم ، وبيَّن في هذه الآية أنَّه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعُوا عنه خيراً ؛ لأنَّه ما أخذ منهم شيئاً ، فكان يخافُ أن يقطعوا منه خيراً ، ثم قال : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } وفيه قولان : الأول : أنكم سواء قبلتم دين الإسلام ، أو لم تقبلوا ، فأنا مأمورٌ بأن أكون على دين الإسلام . الثاني : أنِّي مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليَّ لأجل هذه الدَّعوة ، وهذا الوجهُ أليق بهذا الموضع ؛ لأنَّه لمَّا قال اقضُوا إليَّ بيَّن أنَّه مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليه . قوله : { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ } . لمَّا حكى كلام نُوحٍ مع الكُفَّار ، ذكر - تعالى - ما آل أمرهم إليه : أمَّا في حقِّ نُوح وأصحابه ، فنجَّاهم وجعلهم خلائف ، أي : يخلفون من هلك بالغرق ، وأمَّا في حق الكفار فإنَّه - تعالى - أهلكهم وأغرقهم ، وهذه القصَّة إذا سمعها من صدَّق الرسول ومن كذب به ، كانت زجراً للمكذِّبين فإنهم يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نُوح ، وتكون داعيةً للمؤمنين إلى الثَّبات على الإيمان ؛ ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نُوح . قوله { فِي ٱلْفُلْكِ } يجوز فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلَّق بـ " نجَّيناه " ، أي : وقع الإنجاء في هذا المكان . والثاني : أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به الظرفُ ، وهو " معهُ " لوقوعه صلة ، أي : والذين استقرُّوا معه في الفلك ، وقوله : " وجَعلْنَاهُم " أي : صيَّرناهُم ، وجمع الضميرُ في " جَعلْنَاهُمْ " حملاً على معنى " مَنْ " ، و " خَلائِفَ " جمع خليفة ، أي : يخلفُون الغارقين . قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد نوحٍ ، { رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ } ولمْ يسمِّ الرسل ، وقد كان منهم هودٌ ، وصالحٌ ، وإبراهيمُ ، ولوطٌ ، وشعيبٌ ، { فَجَآءُوهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ } ، وهي المعجزات الباهرة ، و " بالبيِّنَاتِ " متعلقٌ بـ " فَجاءوهُمْ " أو بمحذوف على أنه حال أي : ملتبسين بالبينات ، { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي : أنَّ حالهم بعد بعثةِ الرسل ، كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية . قال القرطبيُّ : التقدير : بما كذَّب به قوم نُوحٍ من قبل ، وقيل " بِمَا كذَّبُوا بهِ " أيْ : من قبل يوم الذرِّ فإنه كان فيهم من كذَّب بقلبه ، وإن قال الجميعُ : بلى . وقال النحاس : أحسن ما قيل في هذا : أنَّه لقوم بأعيانهم ، مثل : { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] . و " بالبيِّنَاتِ " متعلق بـ " جَاءوهُم " ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ ، أي : مُلتبسين بالبيِّناتِ . وقوله : " لِيُؤْمِنُواْ " أتى بلام الجحود توكيداً ، والضَّمير في " كَذَّبُواْ " عائدٌ على من عاد عليه الضَّمير في كانُوا ، وهم قومُ الرُّسُل . وقال أبُو البقاء ومكِّي : إنَّ الضمير في كانوا يعُود على قوم الرُّسُل ، وفي " كَذَّبُوا " يعود على قوم نوح ، والمعنى : فما كان قوم الرُّسُل ليؤمنوا بما كذَّب به قوم نُوح ، أي : بمثله ، ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على نوح نفسه ، من غير حذف مضافٍ ، والتقدير : فما كان قومُ الرُّسُل بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ ؛ إذ لو آمنوا به ، لآمنوا بأنبيائهم . و " مِنْ قَبْلُ " متعلقٌ بـ " كَذَّبُوا " أي : من قبل بعثةِ الرُّسُل . وقيل : الضَّمائرُ كُلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر : وهو أنَّهم بادرُوا رسلهم بالتكذيب ، كُلما جاء رسولٌ ، لجُّوا في الكفر ، وتمادوا عليه ، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجِّهم في الكفر ، وتماديهم . وقال ابن عطية : ويحتمل اللَّفظُ عندي معنى آخر ، وهو أن تكون " ما " مصدرية ، والمعنى : فكذَّبُوا رسلهم ، فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليُؤمِنُوا بتكذيبهم من قبل ، أي : من سببه ومن جرَّائه ، ويُؤيِّد هذا التأويل : " كذلِكَ نَطْبَعُ " وهو كلام يحتاجُ إلى تأمُّل . قال أبو حيان : والظَّاهر أنَّ " ما " موصولةٌ ؛ ولذلك عاد الضميرُ عليها في قوله : { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } ولو كانت مصدرية ، بقي الضمير غير عائدٍ على مذكور ؛ فتحتاج أن يُتكلَّفَ ما يعود عليه الضمير . قال شهاب الدِّين - رحمه الله - : " الشيخ بناه على قول جمهور النُّحاة : في عدم كونِ " ما " المصدريَّة اسماً ؛ فيعُود عليها ضميرٌ ، وقد تقدَّم مراراً ، أنَّ مذهب الأخفش ، وابن السراج : أنَّها اسمٌ فيعود عليها الضمير " . قرأ العامَّةُ : " نَطْبَع " بالنُّون الدَّالة على تعظيم المتكلِّم . وقرأ العبَّاس بن الفضل : بياء الغيبة ، وهو الله - تعالى - ؛ ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخر : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ } [ الأعراف : 101 ] . والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف ، أو حالٌ من ذلك المصدر على حسب ما عرفته من الخلاف ، أي : مثل ذلك الطَّبع المحكم الممتنع زواله ، نطبع على قلوب المعتدين على خلق الله . فصل احتجَّ أهل السُّنَّة على أنَّه - تعالى - قد يمنع المكلَّف عن الإيمان بهذه الآية . قالت المعتزلة : فقد قال - تعالى - : { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] ولو كان هذا الطَّبع مانِعاً ، لما صحَّ هذا الاستثناء ، وقد تقدَّم البحث في ذلك عند قوله - تعالى - : { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } [ البقرة : 7 ] .