Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 75-86)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - تعالى - { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَىٰ وَهَارُونَ } الآية . قرأ مجاهد ، وابن جبير ، والأعمش : " إنَّ هذا لساحِرٌ " اسم فاعل ، والإشارةُ بـ " هَذَا " حينئذٍ إلى موسى ، أشير إليه لتقدم ذكره ، وفي قراءةِ الجماعةِ ، المشارُ إليه الشَّيءُ الذي جاء به موسى ، من قلب العصا حيَّة ، وإخراج يده بيضاء كالشمس ، ويجوز أن يشار بـ " هذا " في قراءة ابن جبير : إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغةً ؛ حيث وصفُوا المعاني بصفاتِ الأعيانِ ؛ كقولهم : " شِعْرٌ شَاعِرٌ " ، و " جَدَّ جَدُّهُ " . فإن قيل : إنَّ القوم لمَّا قالوا : { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } ، فكيف حكى موسى عنهم أنَّهُم قالوا : " أسِحْرٌ هذا " على سبيل الاستفهام ؟ . فالجواب من وجهين : أحدهما : أنَّ معمول " أتقولون " : الجملة من قوله : " أسِحْرٌ هذا " إلى آخره ، كأنهم قالوا : أجِئْتُمَا بالسِّحر تطلبان به الفلاح ، ولا يفلح السَّاحِرُون ؛ كقول موسى - عليه الصلاة والسلام - للسحرة : { مَا جِئْتُمْ بِهِ ٱلسِّحْرُ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ } [ يونس : 81 ] . والثاني : أنَّ معمول القول محذوفٌ ، مدلولٌ عليه بما تقدم ذكرهُ ، وهو { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } . ومعمولُ القول يحذف للدَّلالةِ عليه كثيراً ، كما يحذف القول كثيراً ، ويكون تقدير الآية : إن موسى - عليه الصلاة والسلام - قال لهم : { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } ما تقولون ، ثم حذف منه مفعول " أتقولون " لدلالة الحالِ عليه ، ثم قال : أسِحْرٌ هذا وهو استفهامٌ على سبيل الإنكار ، ثم احتجَّ على أنَّه ليس بسحرٍ ، بقوله : { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ } ؛ ومثلُ الآية في حذف المقول قولُ الشاعر : [ الطويل ] @ 2922 - لنَحْنُ الألَى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ بِرُؤيتنَا قبْلَ اهتِمَامٍ بكُمْ رُعْبَا @@ وفي كتاب سيبويه : " متَى رَأيتَ أو قُلْتَ زيداً مُنْطلقاً " على إعمال الأول ، وحذف معمول القول ، ويجوز إعمالُ القول بمعنى الحكاية به ، فيقال : " متى رايت أو قلت زيد مُنطلقٌ " وقيل : القول في الآية بمعنى : العَيْب والطَّعْن ، والمعنى : أتَعِيبُونَ الحقَّ وتطعنُونَ فيه ، وكان من حقِّكم تعظيمُه ، والإذعانُ له ، من قولهم : " فلان يخافُ القالة " و " بين الناس تقاولٌ " إذا قال بعضهم لبعضٍ ما يسوؤه ، ونحو القولِ الذَِّكرُ في قوله : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } [ الأنبياء : 60 ] وكلُّ هذا مُلخّص من كلام الزمخشريِّ . قوله : " قَالُوا " يعني : فرعون وقومه ، " أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا " اللاَّمُ متعلقةٌ بالمجيء ، أي : أجِئْتَ لهذا الغرضِ ، أنكروا عليه مجيئهُ لهذه العلَّة ، واللَّفتُ : الليُّ والصَّرْفُ ، لفته عن كذا ، أي : صرفه ولواه عنه ، وقال الأزهري : " لفَتَ الشَّيء وفتلهُ " : لواه ، وهذا من المقلوب . قال شهاب الدِّين : " ولا يُدَّعى فيه قلبٌ ، حتى يرجع أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر ، ولذلك لم يَجْعَلُوا جذبَ وجبذَ ، وحَمِدَ ومَدَحَ من هذا القبيل لتساويهما ، ومطاوعُ لَفَتَ : التفَت ، وقيل : انْفَتَلَ ، وكأنَّهُم استغْنَوا بمطاوع " فَتَل " عن مطاوع لَفَتَ ، وامرأة لفُوت ، أي : تَلْتفتُ لولدها عن زوجها ، إذا كان الولد لغيره ، واللَّفيتةُ : ما يغلظُ من القصيدة " والمعنى : أنَّهم قالوا : لا نترك الذي نحن عليه ؛ لأنَّا وجدنا أباءنا عليه ، فتمسكُوا بالتقليد ، ودفعُوا الحُجَّة الظاهرة بمجرد الإصرار . قوله : { وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ } الكبرياء : اسمُ " كان " ، و " لكم " : الخبر ، و " في الأرض " : جوَّز فيها أبو البقاء خمسة أوجه : أحدها : أن تكون متعلقة بنفس الكبرياء . الثاني : أن يتعلق بنفس " تكون " . الثالث : أن يتعلَّق بالاستقرار في " لكم " لوقوعه خبراً . الرابع : أن يكون حالاً من " الكبرياء " . الخامس : أن يكون حالاً من الضَّمير في " لَكُمَا " لتحمُّلِه إيَّاهُ " . والكِبرياء مصدرٌ على وزن " فِعْلِيَاء " ، ومعناها : العظيمة ؛ قال عديُّ بن الرِّقَاعِ : [ الخفيف ] @ 2923 - سُؤدُدٌ غَيْرُ فَاحِشٍ لا يُدَانِيـ ـيه تجبَّارةٌ ولا كِبْرياءُ @@ وقال ابن الرّقيات يمدح مصعب بن الزبير : [ الخفيف ] @ 2924 - مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَةٍ ليس فيه جَبَرُوتٌ مِنْهُ ولا كِبْرِيَاءُ @@ يعني : هو ليس عليه ما عليه المملوكُ من التجبُّر والتَّعظيم . والجمهور على " تكون " بالتَّأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ . وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، وإسماعيل وأبو عمرو ، وعاصم - رضي الله عنهم - في روايةٍ : " يكون " بالياء من تحت ؛ لأنَّه تأنيثٌ مجازيٌّ . قال المفسِّرون : والمعنى : ويكون لكُما الملكُ والعزُّ في أرض مصر ، والخطابُ لموسى ، وهارون - عليهما الصلاة والسلام - . قال الزَّجَّاج : سمى الملك كبرياء ؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا ، وأيضاً : فالنبيُّ إذا اعترف القوم بصدقه ، صارت مقاليدُ أمر أمته إليه ؛ فصار أكبر القوم . واعلم : أنَّ القوم لمَّا ذكروا هذين الشيئين في عدم اتِّباعهم ، وهما : التَّقليد ، والحرصُ على طلب الرِّياسة ، صرَّحُوا بالحكم ، فقالوا : { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } ، ثم شرعُوا في معارضةِ معجزات موسى - عليه الصلاة والسلام - بأنواعٍ من السحر ؛ ليظهر عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السِّحْر ، فقال فرعون : { ٱئْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } . قرأ الأخوان : سحَّار وهي قراءةُ ابن مُصرِّف ، وابن وثَّاب ، وعيسى بن عمر . { فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } . فإن قيل : كيف أمرهُم بالسِّحْر ، والسِّحر كفر ، والأمر بالكفر كُفْرٌ ؟ . فالجواب : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بإلقاء الحِبال والعِصيّ ؛ ليظهر للخلق أن ما أتوا به عملٌ فاسدٌ ، وسعيٌ باطلٌ ، لا أنَّه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بالسِّحْر ؛ فلمَّا ألقوا حبالهم وعصيَّهُم ، قال لهم موسى : ما جئتم به هو السِّحْر ، والغرض منهُ : أنَّهم لمَّا قالُوا لموسى : إنَّ ما جئتَ به سحر ، فقال موسى - عليه الصلاة والسلام - : إنَّ ما ذكرتمُوه باطلٌ ، بل الحقُّ : أنَّ الذي جئتُم به هو السِّحر الذي يظهر بطلانه ، ثم أخبرهُم بأن الله يحق الحق ، ويبطل الباطل . قوله : { مَا جِئْتُمْ بِهِ ٱلسِّحْرُ } قرأ أبو عمرو وحده : " آلسِّحر " بهمزة الاستفهام ، وبعدها ألف محضةٌ ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الدَّاخلة على لام التعريف ، ويجوز أن تُسَهَّل بين بين ، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله : { ءَآلذَّكَرَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] وهي قراءة مجاهد ، وأصحابه ، وأبي جعفر ، وقرأ باقي السبعة : بهمزة وصلٍ تسقُط في الدَّرْج ، فأمَّا قراءةُ أبي عمرو ، ففيها أوجه : أحدها : أنَّ " ما " استفهاميَّة في محلِّ رفع بالابتداء ، و " جِئْتُمْ بِه " : الخبرُ ، والتقدير : أي شيءٍ جِئْتُم ، كأنَّه استفهام إنكار ، وتقليلٌ للشَّيءِ المُجاء به . و " السِّحْر " بدلٌ من اسم الاستفهام ؛ ولذلك أعيد معه أداته ؛ لما تقرَّر في كتب النحو ، وذلك ليساوي المبدل منه في أنَّه استفهامٌ ، كما تقول : كم مالك أعشرون ، أم ثلاثون ؟ فجعلت : أعشرون بدلاً من كم ، ولا يلزم أن يضمر للسِّحر خبر ؛ لأنَّك إذا أبدلته من المبتدأ ، صار في موضعه ، وصار ما كان خبراً عن المبدل منه ، خبراً عنه . الثاني : أن يكون " السِّحْر " خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : أهُو السِّحْر . الثالث : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : السحر هو ، ذكر هذين الوجهين أبو البقاء ، وذكر الثاني مكِّي ، وفيهما بعد . الرابع : أن تكون " ما " موصولة بمعنى : الذي ، و " جئتم به " صلتها ، والموصولُ في محلِّ رفع بالابتداء ، والسِّحر على وجهيه من كونه خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : الذي جئتم به أهُو السِّحْر ؟ أو الذي جئتم به السحر هو ؟ وهذا الضميرُ هو الرَّابط ، كقولك : الذي جاءك أزيدٌ هو ؟ قاله أبو حيَّان . قال شهاب الدِّين : قد منع مكِّي أن تكون " ما " موصولةً ، على قراءة أبي عمرو ، فقال : وقد قرأ أبو عمرو : " آلسحرُ " بالمدِّ ، فعلى هذه القراءة : تكون " ما " استفهاماً مبتدأ ، و " جِئْتُم بِهِ " : الخبر ، و " السّحر " خبرُ ابتداءٍ محذوف ، أي : أهو السِّحر ؟ ولا يجوزُ أن تكون " مَا " بمعنى : " الَّذي " على هذه القراءة ؛ إذ لا خبر لها . وليس كما ذكر ، بل خبرها : الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزأيها ، وكذلك الزمخشري ، وأبو البقاء لمْ يُجِيزَا كونها موصولةً ، إلاَّ في قراءة غير أبي عمرو ، لكنَّهُمَا لم يتعرَّضَا لعدم جوازه . الخامس : أن تكون " ما " استفهامية في محلِّ نصبِ بفعل مقدَّرٍ بعدها ؛ لأنَّ لها صدر الكلام ، و " جِئْتُم به " مفسِّر لذلك الفعل المقدَّر ، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال ، والتقدير : أيُّ شيءٍ أتيتُم جِئْتُم به ، و " السِّحْر " على ما تقدَّم ، ولو قُرىء بنصب " السِّحْر " على أنَّه بدلٌ مِنْ " ما " بهذا التقدير ، لكان لهُ وجه ، لكنَّه لم يقرأ به فيما علمت ، وسيأتي ما حكاه مكِّي عن الفرَّاء من جواز نصبه لمدركٍ آخر ، لا على أنَّها قراءةٌ منقولةٌ عن الفرَّاء . وأمَّا قراءةُ الباقين ، ففيها أوجهٌ : أحدها : أن تكون " ما " بمعنى : " الذي " في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و " جِئْتُم بِه " صلته وعائده ، و " السِّحرُ " خبرهُ ، والتقدير : الذي جئتم به السحر ، ويؤيِّد هذا التقدير ، قراءة أبيّ ، وما في مصحفه : " ما أتيتم به سِحْرٌ " ، وقراءة عبد الله بن مسعود والأعمش : " مَا جِئْتُمْ بِهِ سحْرٌ " . الثاني : أن تكون " ما " استفهامية في محلِّ نصبٍ ، بإضمار فعل على ما تقرَّر و " السِّحْر " خبر ابتداء مضمر ، أو مبتدأ مضمر الخبر . الثالث : أن تكون " ما " في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و " السِّحْر " على ما تقدَّم من كونه مبتدأ ، أو خبراً ، والجملة خبر " ما " الاستفهامية . قال أبو حيَّان - بعد ما ذكر الوجه الأول - : " ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهاميَّة في موضع رفع بالابتداء ، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال ، وهو استفهامٌ على سبيل التَّحقير ، والتَّقليل لما جاؤوا به ، و " السِّحْر " خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو السِّحْر " . قال شهاب الدِّين : ظاهرُ عبارته : أنَّه لم يَرَ غيره ، حيث قال وعندي ، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكِّي . قال أبو البقاء - لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو - " ويُقْرَأ بلفظ الخبر ، وفيه وجهان " ، ثم قال : " ويجوزُ أن تكون " ما " استفهاميَّة ، و " السِّحْر " خبر مبتدأ محذوف " . وقال مكِّي - في قراءة غير أبي عمرو ، بعد ذكره كون " ما " بمعنى : الذي - ويجوز أن تكون " ما " رفعاً بالابتداء ، وهي استفهامٌ ، و " جِئْتُم بهِ " : الخبر ، و " السِّحْر " خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو السِّحر ، ويجُوزُ أن تكون " ما " في موضع نصبٍ على إضمار فعلٍ بعد " ما " تقديره : أيُّ شيءٍ جئتم به ، و " السحرُ " : خبر ابتداء محذوف . الرابع : أن تكون هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى ، أي : أنَّها على نيةِ الاستفهامِ ، ولكن حذفت أداته للعلم بها . قال أبو البقاء : ويقرأ بلفظِ الخبر ، وفيه وجهان : أحدهما : أنَّه استفهامٌ في المعنى أيضاً ، وحذفت الهمزة للعلم بها وعلى هذا الذي ذكره : يكونُ الإعرابُ على ما تقدَّم ، واعلم أنَّك إذا جعلت " ما " موصولة بمعنى : الذي ، امتنع نصبُها بفعلٍ مقدَّرٍ على الاشتغال . قال مكِّي : ولا يجُوزُ أن تكون " ما " بمعنى : الذي ، في موضع نصْبٍ لأنَّ ما بعدها صلتها ، والصلةُ لا تعمل في الموصول ، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول وهو كلامٌ صحيحٌ ؛ فتلخَّص من هذا : أنَّها إذا كانت استفهامية ، جاز أن تكون في محلِّ رفع أو نصب ، وإذا كانت موصولة ، تعيَّن أن يكون محلُّها الرفع بالابتداء ، وقال مكي : وأجاز الفرَّاءُ نصب " السِّحْر " فجعل " ما " شرطاً ، وينصبُ " السِّحْر " على المصدر ، وتضمرُ الفاءُ مع { إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ } ، وتجعل الألف واللام في " السِّحْر " زائدتين ، وذلك كلُّه بعيدٌ ، وقد أجاز عليُّ بن سليمان : حذف الفاءِ من جواب الشَّرط في الكلام ، واستدلَّ على جوازه بقوله - تعالى - : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] ، ولم يجزه غيره إلاَّ في ضرورة شعر . قال شهاب الدِّين : وإذا مشينَا مع الفرَّاء ، فتكون " ما " شرطاً يُراد بها المصدرُ ، تقديره : أيَّ سحر جئتم به ، فإنَّ الله سيبطله ، ويُبَيِّن أنَّ " ما " يراد بها السحر قوله : " السِّحْر " ؛ ولكن يقلقُ قوله : " إنَّ نصب السِّحْر على المصدريَّة " فيكون تأويله : أنَّه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال ؛ ولذلك قدَّره بالنَّكرة ، وجعل " أل " مزيدة فيه . وقد نُقِلَ عن الفرَّاء : أنَّ هذه الألف واللام للتعريف ، وهو تعريف العهد ، قال الفرَّاء : " وإنَّما قال " السِّحر " بالألف واللاَّم ؛ لأنَّ النَّكرة إذا أعيدتْ ، أعيدت بالألف واللاَّم " يعنى : أنَّ النَّكرة قد تقدَّمت في قوله : { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } [ يونس : 76 ] ، وبهذا شرحهُ ابنُ عطيَّة . قال ابن عطيَّة : والتعريف هنا في السحر أرْتَبُ ؛ لأنَّه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم : " إنَّ هذا لسحرٌ " ، فجاء هنا بلام العهد ، كما يقال أوَّل الرسالة : " سلامٌ عليك " . قال أبو حيَّان " وما ذكراه هنا في " السِّحْر " ليس من تقدُّم النكرة ، ثُمَّ أخبر عنها بعد ذلك ؛ لأنَّ شرط هذا أن يكون المعرَّفُ بـ " أل " هو المنكر المتقدَّم ، ولا يكون غيره ، كقوله - تعالى - : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } [ المزمل : 15 ، 16 ] . وتقول : " زارنِي رجلٌ ، فأكرمتُ الرَّجُل " لمَّا كان إيَّاه ، جاز أن يُؤتَى بضميره بدلهُ ، فتقول : " فأكرمته " ، و " السِّحْر " هنا : ليس هو السحرَ الذي في قولهم : " إنَّ هذا لسحْرٌ " لأنَّ الذي أخبروا عنه بأنَّه سحرٌ ، هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا ، والسِّحْر الذي في قول موسى ، إنَّما هو سحرهُم الذي جاؤوا به ، فقد اختلف المدلولان ، إذ قالوا هم عن معجزة موسى ، وقال موسى عمَّا جاؤوا به ؛ ولذلك لا يجُوز أن يؤتى هنا بالضَّمير بدل السِّحْر ؛ فيكون عائداً على قولهم : لسحْرٌ " . قال شهاب الدِّين : " والجوابُ : أنَّ الفرَّاء ، وابن عطيَّة إنَّما أرَادَا السِّحر المتقدِّم الذكر في اللفظ ، وإن كان الثَّاني هو غير عين الأول في المعنى ، ولكن لمَّا أطلق عليهما لفظ " السِّحْر " جاز أن يقال ذلك ، ويدلُّ على هذا : أنَّهم قالوا في قوله - تعالى - : { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ } [ مريم : 33 ] إنَّ الألف واللام للعهد ؛ لتقدُّم ذكر السَّلام في قوله - تعالى - : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ } [ مريم : 15 ] ، وإن كان السَّلامُ الواقعُ على عيسى ، هو غير السلام الواقع على يحيى ؛ لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصه به ، وهذا النَّقْل المذكورُ عن الفرَّاء في الألف واللاَّم ، ينافى ما نقلهُ عنه مكِّي فيهما ، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال : يحتمل أن يكون له مقالتان ، وليس ببعيدٍ ؛ فإنَّه كُلَّما كثر العلمُ ، اتَّسعت المقالاتُ " . قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ } أي : سيهلكه ، ويظهر فضيحة صاحبه ، { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ } أي : لا يقوِّيه ولا يكمِّله ، وقوله : " المُفْسدينَ " من وقوع الظَّاهر موقع ضمير المخاطب ؛ إذ الأصلُ : لا يصلح عملكم ؛ فأبرزهم في هذه الصِّفة الذَّميمة شهادة عليهم بها ، ثم قال : { وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ } أي : يظهره ويقوِّيه ، " بِكلماتِهِ " أي : بوعده موسى ، وقيل : بما سبق من قضائه وقدره ، وقرىء : " بكَلمتهِ " بالتوحيد ، وتقدَّم نظيره [ الأنفال : 7 ] . قوله : { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ } الفاءُ للتَّعقيب ، وفيها إشعارٌ بأنَّ إيمانهم لم يتأخَّر عن الإلقاء ، بل وقع عقيبهُ ؛ لأنَّ الفاء تفيد ذلك ، وقد تقدَّم توجيهُ تعدية " آمن " باللاَّم ، والضَّمير في " قَوْمِهِ " فيه وجهان : أظهرهما : أنَّه يعودُ على موسى ؛ لأنَّهُ هو المُحدَّث عنه ؛ ولأنَّه أقربُ مذكورٍ ، ولو عاد على فرعون ، لمْ يكرِّرْ لفظه ظاهراً ، بل كان التركيب : " على خوفٍ منه " وإلى هذا ذهب ابنُ عبَّاس ، وغيره ، قال : المراد مؤمني بني إسرائيل الذين كانُوا بمصر ، وخرجُوا معه . قال ابن عبَّاس : لفظ الذُّريَّة يُعَبَّر به عن القوم على وجه التَّحقير والتَّصغير ، ولا سبيل لحمله على التقدير على وجه الإهانة ههنا ؛ فوجب حمله على التصغير ، بمعنى : قلة العدد . قال مجاهد : كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل ، هلك الآباء ، وبقي الأبناء . وقيل : هم قوم نَجَوْا من قتل فرعون ؛ وذلك أنَّ فرعون لما أمر بقتل أبْنَاءِ بني إسرائيل ، كانت المرأة في بني إسرائيل ، إذا ولدت ابناً وهبته لقبطيَّة ، خوفاً عليه من القتل ، فنشئُوا بين القبط ، وأسلمُوا في اليوم الذي غلب فيه موسى السَّحرة . والثاني : أنَّ الضمير يعُود على فرعون ، ويُروى عن ابن عبَّاس أيضاً ، ورجَّح ابنُ عطيَّة هذا ، وضعف الأول ، فقال : وممَّا يضعفُ عود الضَّمير على مُوسى : أنَّ المعروف من أخبار بني إسرائيل ، أنهم كانوا قد فشتْ فيهم النبواتُ ، وكانُوا قد نالهُم ذلٌّ مفرط ، وكانوا يرجُون كشفهُ بظُهُورِ مولُود ، فلمَّا جاءهُم موسى أصْفَقُوا عليه وتابعُوه ، ولم يُحْفَظْ أنَّ طائفة من بني إسرائيل كفرتْ بمُوسَى ، فكيف تُعْطِي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَّ منهم كان الذي آمَنَ ؟ فالذي يترجَّحُ عودُه على فرعون ، ويؤيِّده أيضاً : ما تقدَّم من محاورة موسى وردِّه عليهم وتوبيخهم . قيل : المراد بالذرية : أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون ، وأمَّهاتُهُم من بني إسرائيل ، فجعل الرَّجُل يتبع أمَّهُ وأخوالهُ . روي عن ابن عبَّاس : أنَّهم كانوا ستمائة ألفٍ من القبط . قيل : سُمُّوا ذُرِّيَّة ؛ لأنَّ آباءهم كانوا من القبط ، وأمهاتهم من بني إسرائيل ، كما يقال لأولاد فارس - الذين سقطوا إلى اليمن - : الأبناء ؛ لأنَّ أمُّهاتهم من غير جنس آبائهم . وقيل : المراد بالذُّرِّيَّة من آل فرعون : آسيةُ ، ومُؤمنُ آلِ فرعون ، وامرأته ، وخازنه ، وامرأةُ خازنه ، وماشطتها . واعلم : أنَّه - تعالى - إنَّما ذكر ذلك تسلية لمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - ؛ لأنَّه كان يغتمُّ بسبب إعراض القوم عنه ، واستمرارهم على الكُفْر ، فبيَّن أنَّ له في هذا الباب أسوة بسائر الأنبياء ؛ لأنَّ الذي ظهر من موسى كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم ، ومع ذلك فما آمن منهم إلا ذرية . قوله " عَلى خوفٍ " : حالٌ ، أي : آمنوا كائنين على خوف ، والضَّمير في " ومَلئِهِم " فيه أوجه : أحدها : أنَّه عائدٌ على الذُّرية ، وهذا قولُ أبي الحسن ، واختيارُ ابن جرير ، أي : خوفٍ من ملأ الذرية ، وهم أشراف بني إسرائيل . الثاني : أنه يعودُ على " قَوْمِهِ " بوجهيه ، أي : سواءٌ جعلنا الضمير في " قومِهِ " لمُوسى ، أو لفرعون ، أي : وملأ قوم موسى ، أو ملأ قوم فرعون . الثالث : أن يعود على فرعون ؛ لأنَّهم إنَّما كانُوا خائفين من فرعون ، واعترض على هذا ؛ بأنَّهُ كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد ؟ واعتذر أبو البقاء بوجهين : أحدهما : أنَّ فرعون لمَّا كان عظيماً عندهم ، عاد الضَّمير عليه جمعاً ، كما يقول العظيم : نحن نأمُرُ ، وهذا فيه نظرٌ ؛ لأنَّه لو ورد ذلك من كلامهم محْكِيّاً عنهم ، لاحتمل ذلك . الثاني : أنَّ فرعون صار اسماً لأتباعه ، كما أنَّ ثمود اسمٌ للقبيلة كلها . وقال مكِّي وجهين آخرين قريبين من هذين ، ولكنَّهما أخلص منهما ، قال : إنَّما جمع الضميرُ في مَلَئهم ؛ لأنَّه إخبار عن جبَّار ، والجبَّار يخبر عنه بلفظ الجمع ، وقيل : لمَّا ذكر فرعونُ ، عُلِمَ أنَّ معه غيرهُ ، فرجع الضَّميرُ عليه ، وعلى من معه . وقد تقدم نحوٌ من هذا عند قوله : { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ } [ آل عمران : 173 ] والمراد بالقائل الأول : نعيم بن مسعود ؛ لأنَّه لا يخلُو من مساعدٍ لهُ على ذلك القول . الرابع : أنْ يعود على مضافٍ محذوف وهو آل ، تقديره : على خوفٍ من آل فرعون ، ومَلئِهم ، قاله الفرَّاء ، كما حذف في قوله : { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] . قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزُه لأحدٍ : " وهذا عندنا غلطٌ ؛ لأنَّ المحذوف لا يعود إليه ضميرٌ ، إذ لو جاز ذلك ، لجاز أن يقول : " زَيْدٌ قاموا " وأنت تريد : غلمان زيد قامُوا " . قال شهاب الدِّين : قوله : " لأنَّ المحذوف لا يعودُ إليه ضمير " ممنوعٌ ، بل إذا حذف مضافٌ ، فللعرب فيه مذهبان : الالتفات إليه ، وعدمُه وهو الأكثر ، ويدلُّ على ذلك : أنَّه قد جمع بين الأمرين في قوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأعراف : 4 ] أي : أهل قرية ، ثم قال : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه ، وقوله : " لجازَ زيد قاموا " ليس نظيره ، فإنَّ فيه حذفاً من غير دليلٍ ، بخلاف الآية . وقال أبو حيان - بعد أن حكى كلام الفرَّاء - : ورُدَّ عليه : بأنَّ الخوف يمكنُ من فرعون ، ولا يمكن سؤالُ القرية ، فلا يحذفُ إلاَّ ما دلَّ عليه الدَّليلُ ، وقد يقال : ويدلُّ على هذا المحذوف جمع الضمير في " ومَلئِهم " . يعني أنَّهم ردُّوا على الفراء ، بالفرق بين { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] وبين هذه الآية : بأنَّ سؤال القرية غير ممكنٍ ، فاضطررنا إلى تقدير المضاف ، بخلاف الآية فإنَّ الخوفَ تمكَّن من فرعون ، فلا اضطرار بنا يدُلُّنا على مضاف محذوف . وجواب هذا : أنَّ الحذف قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي ، على أنَّه قيل في { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] إنَّه حقيقةٌ ، إذ يمكن النبيُّ أن يسأل القرية ؛ فتُجِيبه . الخامس : أنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً حذف للدَّلالةِ عليه ، والدَّليلُ عليه ؛ كونُ الملك لا يكونُ وحده ، بل له حاشيةٌ ، وعساكرُ ، وجندٌ ؛ فكان التقدير : على خوفٍ من فرعون ، وقومه ، وملئِهِم ، أي : ملأ فرعون وقومه ، وهو منقولٌ عن الفرَّاء أيضاً . قال شهاب الدِّين : حذف المعطوف قليلٌ في كلامهم ، ومنه عند بعضهم ، قوله - تعالى - : { تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [ النحل : 81 ] أي : والبرد ؛ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 2925 - كأنَّ الحصى من خلفها وأمَامِهَا إذَا حذفتْهُ رِجْلُها حذفُ أعْسَرَا @@ أي : ويدها . قوله : " أن يفْتنَهُم " أي : يصرفهم عن دينهم ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها : أنَّه في محلِّ جرٍّ على البدل من " فِرْعَون " ، وهو بدلُ اشتمالٍ ، تقديره : على خوفٍ من فرعون فتنة ، كقولك : " أعْجَبني زيد علمُهُ " . الثاني : أنَّه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر ، أي : خوف فتنته ، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثيرٌ ؛ كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] ، وقول الآخر : [ الطويل ] @ 2926 - فَلوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ منْكَ ورهْبَةٌ عِقابَك قد كانُوا لنا بالمَوارِدِ @@ الثالث : أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حذف اللام ، ويجري فيها الخلافُ المشهورُ . وقرأ الحسن ، ونبيح : " يُفْتِنَهم " بضمِّ الياءِ من " أفتن " وقد تقدَّم ذلك [ النساء : 101 ] . قوله : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ } أي : مُتكبِّر ، أو ظالمٌ ، أو قاهر ، و " فِي الأرض " متعلِّقٌ بـ " عَالٍ " ؛ كقوله : [ الكامل ] @ 2927 - فاعْمَدْ لِمَا تعلُو فما لك بالَّذي لا تَسْتطيعُ مِنَ الأمُورِ يَدَانِ @@ أي : لِمَا تَقْهَر ، ويجوز أن يكون " فِي الأرْضِ " متعلِّقاً بمحذوف ؛ لكونه صفة لـ " عَالٍ " فيكون مرفوع المحلِّ ، ويرجح الأول قوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [ القصص : 4 ] ثم قال : { وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } : المجاوزين الحدَّ ؛ لأنه كان عبداً ، فادَّعى الرُّبُوبيَّة ، وقيل : لأنه كان كثير القتل والتعذيب لمنْ يخالفُه ، والغرضُ منهُ : بيان السَّبب في كون أولئك المؤمنين خائفين . قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَىٰ يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ } الآية . قوله تعالى : " فَعَليْهِ " جوابُ الشرط ، والشرط الثاني - وهو " إن كنتم مُسلمينَ " - شرطٌ في الأول ، وذلك أنَّ الشَّرطين متى لمْ يترتَّبا في الوجودِ ، فالشَّرطُ الثَّاني شرطٌ في الأول ، ولذلك يجب تقدُّمُه على الأول ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك [ البقرة 38 ] . قال الفقهاء : المتأخر يجب أن يكون متقدماً ، والمتقدِّم يجب أن يكون متأخراً ، مثاله قول الرَّجُلِ لامرأته : إن دخلت الدار ، فأنت طالقٌ إن كلمت زيداً ، فمجموع قوله : إن دخلت الدَّار ، فأنت طالقٌ مشروطٌ بقوله : إن كلَّمت زيداً ، والمشروط متأخِّر عن الشَّرطِ ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخِّر في اللفظ ، متقدماً في المعنى ، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخراً في المعنى ، فكأنَّه يقول لامرأته : حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدَّار ، فأنت طالقٌ ، فلو حصل هذا التعليقُ ، قيل : إن كلَّمَتْ زيداً لمْ يقع الطلاق . قوله : { إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً ؛ لأن يصيروا مخاطبين بقوله : { إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ } فكأنَّه - تعالى - يقول للمسلم حال إسلامه : إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكَّلْ ، والأمر كذلك ؛ لأنَّ الإسلام عبارة عن الاستسلام ، وهو الانقياد لتكاليف الله ، وترك التمرد ، والإيمان عبارةٌ عن صيرورة القلب ، عارفاً بأن واجب الوُجُود لذاته واحدٌ ، وأنَّ ما سواه محدث مخلُوق تحت تدبيره ، وقهره ، وإذا حصلت هاتان الحالتان ، فعند ذلك يفوِّض العبدُ جميع أموره إلى الله - تعالى - ، ويحصُلُ في القلب نور التَّوكُّل على الله - تعالى - . فصل إنما قال : " فعليه توكَّلُوا " ولم يقل : " توكَّلُوا على اللهِ " ، لأن الأول يفيد الحصر ، كأنه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بالتَّوكُّل عليه ، ونهاهُم عن التوكُّلِ على الغير ، ثم بيَّن - تعالى - أنَّ موسى - عليه الصلاة والسلام - لمَّا أمرهم بذلك قبلوا قوله { فَقَالُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا } أي : توكُّلُنا عليه واعتمادنا ، ولم نلتفت إلى أحد سواه ، ثم اشتغلوا بالدعاء ، وطلبوا من الله شيئين : أحدهما : أن قالوا : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } . والثاني : { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } أما قولهم : { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } ففيه وجوه : الأول : لا تفتن بنا فرعون وقومه ؛ لأنك لو سلطَّتهُم علينا ، لوقع في قلوبهم أنَّا لو كنَّا على الحقِّ ، لما سلَّطتهُم علينا ؛ فيصير ذلك شبهةً قويَّةً في إصرارهم على الكفر ؛ فيكون ذلك فتنةً لهم . الثاني : لو سلَّطتهُم علينا ، لاستوجبُوا العقاب الشَّديد في الآخرة ، وذلك يكون فتنة لهم . الثالث : أنَّ المراد بالفتنة المفتُون ؛ لأنَّ إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز ، كالخلق بمعنى المخلوق والتقدير : لا تَجْعلْنا مفْتُونين بأنَّ يقهَرُونا بالظُّلْمِ على أن ننصرف من هذا الدِّين الذي قبلناهُ ، ويؤكِّد هذا قوله : { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } [ يونس : 83 ] وأمَّا المطلوبُ الثاني ، فهو قوله : { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } . وهذا يدلُّ على أنَّ اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم ؛ لأنَّا إذا حملنا قولهم : { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } [ يونس : 85 ] ، على تسليط الكفَّار عليهم وصيرورة ذلك التسليط شبهة للكفار في أنَّ هذا الدِّين باطلٌ ، فتضرعوا إلى الله - تعالى - في صون الكُفَّار عن هذه الشُّبهة ، وتقديم هذا الدُّعاء على طلب النَّجاة لأنفسهم ، وذلك يدل على أن اهتمامهُم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم .