Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 87-89)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } الآية . لمَّا شرح خوف المؤمنين من الكُفَّار ، وما ظهر منهم من التَّوكُّل على الله ، أتبعه بأن أمر موسى ، وهارون باتخاذ المساجد ، والإقبال على الصَّلوات . قوله " أَن تَبَوَّءَا " يجوز في " أنْ " أن تكون المفسِّرة ؛ لأنَّه قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول وهو الإيحاء ، ويجوز أن تكون المصدريَّة ، فتكون في موضع نصب بـ " أوْحَيْنَا " مفعولاً به ، أي : أوحينا إليهما التَّبَوُّء . والجمهور على الهمزة في " تَبَوَّآ " وقرأ حفص " تَبَوَّيَا " بياء خالصة ، وهي بدلٌ عن الهمزة ، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي ، إذ قياسُ تخفيف مثل هذه الهمزة : أن تكون بين الهمزة والألف ، وقد أنكر هذه الرِّواية عن حفص جماعةٌ من القُرَّاءِ ، وخصَّها بعضهم بحالة الوقف ، وهو الذي لم يحكِ أبُو عمرو الدَّاني والشاطبي غيره ، وبعضهم يُطلق إبدالها عنه ياء وصلاً ووقفاً ، وعلى الجملة فهي قراءةٌ ضعيفةٌ في العربية ، وفي الرواية . والتَّبَوُّؤُ : النزولُ والرجوعُ ، يقال : تبوَّأ المكان : أي : اتخذه مُبَوَّأ ، وقد تقدَّمت هذه المادة في قوله : { تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 121 ] والمعنى : اجعلا بمصر بيوتاً لقومكما ، ومرجعاً ترجعون إليه للعبادة . قوله : " لِقَوْمِكُما " يجوزُ أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول الأول ، و " بُيُوتاً " مفعول ثان ، بمعنى : بوِّآ قومكما بيوتاً ، أي : أنزلوهم ، وفعَّلَ وتَفَعَّلَ بمعنًى ، مثل " عَلَّقَهَا " و " تعلَّقها " قاله أبو البقاء ، وفيه ضعفٌ : من حيث إنَّه زيدت اللامُ ، والعاملُ غير فرع ، ولم يتقدم المعمُولُ . الثاني : أنَّها غير زائدة ، وفيها حينئذٍ وجهان : أحدهما : أنَّها حالٌ من " البُيُوتِ " . والثاني : أنَّها وما بعدها مفعول " تَبَوَّءا " . قوله " بِمِصْرَ " جوَّز فيه أبو البقاء أوْجُهاً : أحدها : أنَّه متعلِّق بـ " تَبَوَّءا " ، وهو الظَّاهرُ . الثاني : أنَّه حالٌ من ضمير " تَبَوَّءا " ، واستضعفهُ ، ولمْ يُبَيِّنْ وجه ضعفه لوضوحه . الثالث : أنَّه حالٌ من " البُيُوت " . الرابع : أنَّهُ حالٌ من : " لِقَوْمِكُما " ، وقد ثنَّى الضمير في قوله : " تَبَوَّءَا " وجمع في قوله : " واجْعَلُوا " و " أقِيمُوا " وأفرد في قوله : " وبَشِّر " لأن الأول أمرٌ لهما ، والثاني لهما ولقومهما ، والثالث لمُوسى فقط ؛ لأنَّ أخاهُ تبعٌ لهُ ، ولمَّا كان فعلُ البشارة شريفاً خصَّ به موسى ، لأنَّه هو الأصل ، وقيل : وبشِّر المؤمنين يا محمَّد . فصل قال بعضهم : المراد من البُيُوتِ : المساجد ؛ لقوله : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ } [ النور : 36 ] وقيل : مطلق البيوت ، أمَّا الأوَّلُون ففسَّرُوا القبلة بالجانب ، الذي يستقبل في الصلاة ، أي : اجعلُوا بيوتكُم مساجداً ، تستقبلونها في الصَّلاة . وقال ابن الأنباريِّ : المعنى : اجعلوا بيوتكم قبلاً ، أي : مساجد ؛ فأطلق لفظ الواحد ، والمراد : الجَمْع ، ومن قال : المرادُ : مطلق البيوت ففيه وجهان : أحدهما : قال الفراء : أي : اجعلوا بيوتكم إلى القبلة . الثاني : المعنى : اجعلوا بيوتكم متقابلة ، والمراد منه : حصول الجمعيَّة ، واعتضاد البعض بالبعض . واختلفوا في هذه القبلة أين كانت ؟ ظاهر القرآن لا يدلُّ على تعيينها ، وروي عن ابن عبَّاس : كانت الكعبةُ قبلةَ مُوسى ، وكان الحسن يقول : الكعبة قبلةَ كلِّ الأنبياء ، وإنما وقع العُدُول عنها بأمر الله - تعالى - في أيَّام الرسُول - عليه الصلاة والسلام - بعد الهجرة . وقال آخرون : كانت القبلة : بيت المقدس . فصل ذكر المُفَسِّرُون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً : أحدها : أن موسى ومن معه كانوا مأمورين في أول أمرهم ، بأن يُصَلُّوا في بيوتهم خُفيةً من الكُفَّار ؛ لئلا يظهروا عليهم ، فيُؤذُوهُم ، ويفتنوهُم عن دينهم ، كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة . قال مجاهد : خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة ، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد جهة الكعبة ، يُصَلُّون فيها سرّاً . وثانيها : أنَّه لمَّا أرْسِلَ مُوسى إلى فرعون ، أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ، ومنعهم من الصلاة ، فأمرهُم الله - تعالى - باتِّخاذِ المساجد في بيوتهم ، رواه عكرمة ، عن ابن عبَّاس . وهو قول إبراهيم . وثالثها : أنَّه تعالى لمَّا أرسل مُوسى إليهم ، وأظهر فرعون لهم العداوة الشديدة ، أمر الله - تعالى - موسى ، وهارون ، وقومهما باتِّخاذِ المساجد على رغم الأعداء ، وتكفَّل الله بصونهم عن شرِّ الأعداءِ . قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً } الآية . لمَّا بالغ موسى في إظهار المعجزات ، ورأى القوم مُصرِّينَ على الجُحُود والعنادِ ؛ دعا عليهم ، ومن حقِّ من يدعُو على الغير أن يذكُر سبب جرمه ، وجرمهم : كان حُبَّ الدنيا ؛ فلأجله تركوا الدِّين ؛ فلهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : { رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } والزينة : عبارة عن الصحَّة ، والجمال ، واللباس ، والدوابِّ ، وأثاث البيت ، والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصَّامت ، والنَّاطق ، وقرأ الفضل الرَّقاشي " أئنَّكَ آتيْتَ " . قوله : " ليُضِلُّوا " في هذه اللاَّم ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أنَّها لامُ العلَّة ، والمعنى : أنَّك آتيتهُم ما آتَيْتَهم على سبيل الاستدراج ، فكان الإيتاءُ لهذه العلة . والثاني : أنَّها لامُ الصَّيرورةِ والعاقبة ؛ كقوله : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، وقوله : [ الوافر ] @ 2928 - لِدُوا للمَوْتِ وابنُوا لِلْخَرَابِ … @@ وقوله : [ الطويل ] @ 2929 - ولِلْمَوْتِ تَغْذُو الولِدَاتُ سِخالَهَا كمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المسَاكِنُ @@ وقوله : [ البسيط ] @ 2930 - ولِلْمنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مرضِعَةٍ ولِلْخَرابِ يُجِدُّ النَّاسُ عُمْرَانَا @@ والثالث : أنَّها للدعاء عليهم بذلك ؛ كأنه قال : ليثبتُوا على ما هم عليه من الضلال ، وليكونُوا ضُلاَّلاً ، وإليه ذهب الحسن البصريُّ ، وبدأ به الزمخشريُّ ، وقد استُبعدَ هذا التَّأويلُ بقراءة الكوفيين ، " لِيُضِلُّوا " بضمِّ الياء ، فإنه يبعد أن يدعُو عليهم بأن يُضِلُّوا غيرهم ، وقرأ الباقون بفتحها ، وقرأ الشعبيُّ بكسرها ، فوالى بين ثلاث كسرات إحداها في ياء . وقال الجبائي : إنَّ " لا " مقدرةٌ بين اللاَّم والفعل ، تقديره : لئلاَّ يضلُّوا ، ورأي البصريين في مثل هذا تقدير : " كرَاهَةَ " ، أي : كراهة أن يضلُّوا . فصل احتج أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنه - تعالى - يضلُّ الناس من وجهين : أحدهما : أن اللام في " لِيضلُّوا " لام التَّعليل . والثاني : قوله : { وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ } فقال - تعالى - : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } قال القاضي : لا يجوز أن يكون المرادُ من الآية ما ذكرتُم لوجوه : الأول : لأنَّه - تعالى - منزَّهٌ عن فعل القبائح ، وإرادة الكفر قبيحة . وثانيها : أنَّه - تعالى - لو أراد ذلك ، لكان الكافرُ مطيعاً لله بكفره ؛ لأنَّ الطاعة : هي الإتيان بمراد الأمر ، ولو كان كذلك ، لما استحقُّوا الدُّعاء عليهم . وثالثها : لو جوَّزْنَا إرادة إضلال العباد ، لجوَّزْنَا أن يبعث الأنبياء بالدُّعاء إلى الضَّلالِ ، ولجاز أن يقوي الكذَّابين الضَّالين بإظهار المعجزات ، وفيه هدم الدِّين . ورابعها : أنَّه لا يجوز أن يقول لموسى وهارون : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [ طه : 44 ] ، وأن يقول : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ الأعراف : 130 ] ، ثم إنَّه - تعالى - إراد الضَّلال منهم ، وأعطاهم النِّعم لكي يضلُّوا ، وهذا كالمناقضة ، فلا بُدّ من حَمْلِ أحدهما على الآخر . وخامسها : لا يجوز أن يقال : إن مُوسى دعا ربَّهُ بأن يُطْمِسَ على أموالهم ؛ لأجل أن لا يؤمنوا ، مع تشدده في إرادة الإيمان . وإذا ثبت هذا ؛ وجب تأويلُ هذه الكلمة ، وذلك من وجوه : الأول : أنَّ اللاَّم في " لِيُضِلُّوا " : لامُ العاقبة كما تقدَّم ، ولما كانت عاقبة قوم فرعون ، هو الضَّلال ، عبَّر عن هذا المعنى بهذا اللفظ . الثاني : أنَّ التقدير : لئلاَّ يضلوا ، كقوله : { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ، فحذف لدلالة المعقُول عليه ، كقوله - تعالى - : { بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ الأعراف : 172 ] ، أي : لئلاَّ تقُولُوا . الثالث : أن يكون موسى ذكر ذلك على وجه التَّعجُّبِ المقرُون بالإنكار ، أي : إنَّك أتيتهُم بذلك لهذا الغرض فإنَّهُم لا ينفقُون هذه الأموال إلاَّ فيه ، كأنَّه قال : أتيتهم زينةً وأموالاً لأجْلِ أن يُضلُّوا عن سبيلك ، ثم حذف حرف الاستفهام ، كما في قوله : [ الكامل ] @ 2931 - كذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رأيْتَ بواسِطٍ غَلَسَ الظَّلامِ منَ الرَّبَابِ خَيَالاَ @@ والمرادُ : أكذبتك فكذا ههنا . الرابع : أنَّ هذه لام الدُّعاء ، وهي لام مكسورة تجزم المستقبل ، ويفتتح بها الكلام ، فيقال : ليغفرُ الله للمؤمنين ، وليُعذِّب الله الكافرين ، والمعنى ؛ ربنا ابتليهم بالضَّلال عن سبيلك . الخامس : سلَّمنا أنَّها لامُ التَّعليل ، لكن بحسب ظاهر الأمر ، لا في نفس الحقيقة ، والمعنى : أنه - تعالى - لمَّا أعطاهم هذه الأموال ، وصارت سبباً لبغيهم وكفرهم ، أشبهت حال من أعطى المال لأجل الإضلال ، فورد هذا الكلامِ بلفظ التَّعليل لهذا المعنى . السادس : أنَّ الضَّلال قد جاء في القرآن بمعنى : الهلاك ، يقال : ضلَّ الماءُ في اللَّبن ، أي : هلك ، فقوله : " ليضلُّوا عن سبيلك " أي : ليهلكوا ويموتوا ، كقوله - تعالى - : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ التوبة : 55 ] . قال ابن الخطيب : واعلم : أنَّ الجواب قد تقدَّم مراراً ، ونُعيد بعضه ، فنقول : الذي يدُلُّ على أنَّ الإضلال من الله - تعالى - وجوه : الأول : أنَّ العبد لا يقصدُ إلا حُصُول الهداية ، فلمَّا لمْ تحصُل الهداية بل حصل الضَّلال الذي لا يُريده ، علمنا أنَّ حصُوله ليس من العَبْدِ ، بل من الله - تعالى - . فإن قالوا : إنَّه ظنَّ هذا الضَّلال هُدًى ، فلذلك أوقعه في الوُجُود فنقول : إقدامُه على هذا الجهل ، إن كان بجهل سابق ، فذلك الجهل السابق يكون حُصُوله لسبق جهل آخر ويلزمُ التسلسل وهو محال ؛ فوجب أنَّ هذه الجهالات والضَّلالات لا بُدَّ من انتهائها إلى جهل أوَّلٍ ، وضلال أولٍ ، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد ؛ لأنَّه يكرهُه ويُريد ضدَّهُ ؛ فوجب أن يكون من الله - تعالى - . الثاني : أنَّه تعالى لمَّا خلق الخلق يُحِبُّون المال حُبّاً شديداً ، بحيث لا يمكنهُم إزالة هذا الحُبِّ عن النَّفْسِ ألبتَّة ، وكان حُصُول هذا الحُبِّ يوجب الإعراض عن خدمة الله وطاعته ، ويوجب التَّكبُّر عليه ، وترك اللُّزُوم ؛ فوجب أن يكون فاعل هذا الكفر ، هو الذي خلق الإنسان مجبُولاً على حُبِّ هذا المال والجاه . الثالث : أنَّ القُدْرة بالنِّسْبَة إلى الضِّدَّين على السَّويَّة ، فلا يترجَّحُ أحدُ الطَّرفين على الآخر إلاَّ بمرجِّح ، وذلك المُرجِّحُ ليس من العبد ، وإلا لعاد الكلام فيه ، فلا بُدَّ وأن يكون من الله - تعالى - ، وإذا كان كذلك ، كانت الهدايةُ والضلال من الله - تعالى - . وإذا عرفت هذا ، فنقول : أما حملهم اللاَّم على لامِ العاقبة فضعيفٌ ؛ لأنَّ موسى - عليه الصلاة والسلام - ما كان عالماً بالعواقب . فإن قالوا : إنَّ الله تعالى أخبرهُ بذلك . قلنا : فلمَّا أخبر الله عنهم أنَّهُم لا يُؤمِنُون ، كان صدور الإيمان منهم مُحَالاً ؛ لأنَّ ذلك يستلزمُ انقلاب خبر الله كذباً ، وهو محال ، والمفضي إلى المُحال محال . وأمّا قولهم : يحمل قوله : " لِيُضِلُّوا " على أنَّ المراد : لئلاَّ يُضِلُّوا ، كما ذكره الجبائي ، فأقول : إنَّه لمَّا فسَّر قوله - تعالى - : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] نقل قراءة " فمنْ نفسِك " على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ، ثم إنَّه استبعد هذه القراءة ، وقال : إنَّها تَقْتَضِي تحريف القرآن ، وتغييرهُ ، وتفتحُ تأويلات الباطنيَّة - والباطنية هم الملاحدة ، ويقال لهم : القرامِطَة ، والإسماعيلية القائلون : بأنَّ محمَّد بن إسماعيل نَسَخَ شريعة محمَّد بن عبد الله - ويقال لهم أيضاً : الناصرية أتباع محمد بن نصير ، وكان من غلاة الروافض القائلين بالألوهية على توهُّم الدرزية أتباع بنشكين الدرزي ، كان من موالي الحاكم أرسله إلى وادي تيم الله بن ثعلبة ، فدعاهم إلى ألوهية الحاكم ويسمونه بالبازي ، والغلام ، ويحلفون به ، ويقال لهم : الحرمية والمحمرة ، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم ، ويقال لهم أيضاً : الفداوية والرافضة ، وهم يحرفون كلام الله - تعالى - ورسوله عن مواضعه ، ومقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام ، ويظهرون لهذه الأمور حقائق يعرفونها ، فيقولون : إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم ، والصيام المفروض من كتمان أسرارهم ، وحج البيت زيارة شيوخهم ، ويدا أبي لهب أبو بكر وعمر ، والبناء العظيم والإمام المبين علي بن أبي طالب ، فهم لا تحل ذبائحهم لا يناكحونا ، وتجب مجاهدتهم ؛ لأنهم مرتدون ، قاله ابن تيمية ، وبالغ في إنكار تلك القراءة . وهذا الوجه الذي ذكرهُ هنا شرٌّ من ذلك ؛ لأنَّه قلب النَّفْي إثباتاً ، والإثبات نفياً ، وتجويزه يفتح باب ألاَّ يعتمد على القرآن لا في نفيه ، ولا في إثباته ، وحينئذٍ يبطل القرآن بالكُلِّيَّة ، وهذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد فيه الاستفهام ، بمعنى : الإنكار ، فإنَّ تجويزهُ يوجبُ تجويز مثله في سائر المواضع ، فلعله - تعالى - إنما قال : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } [ البقرة : 43 ] على سبيل الإنكار والتعجُّب ، ثم قال : { رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ } . قال مجاهد : أهلكها ، والطَّمسُ : المَسْخُ . وقال أكثر المفسرين : مسخها الله وغيَّرها عن هيئتها . قال ابن عبَّاس : بلغنا أنَّ الدَّراهم والدَّنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها ، صحاحاً وأنصافاً ، وأثلاثاً ، وجعل سكنهم حجارة . قال محمد بن كعب : " كان الرجل مع أهله في فراشه ، فصارا حجرين ، والمرأة قائمة تخبز فصارت حجراً " ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا أهل فرعون ، فأخرج منها البيضة منقوشة ، والجوزة مشقوقة وهي حجارة . { وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي : أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان . قال الواحدي : " وهذا دليلٌ على أنَّ الله يفعل ذلك بمن يشاء ، ولولا ذلك لما حسن من موسى هذا السُّؤال " . قوله : " فَلاَ يُؤْمِنُواْ " يحتمل النَّصْبَ والجزمَ ، فالنَّصْب من وجهين : أحدهما : عطفهُ على " لِيُضِلُّوا " . والثاني : نصبه على جواب الدُّعاءِ في قوله : " اطْمِسْ " ، والجزم على أنَّ " لا " للدُّعاءِ ، كقولك : لا تُعذِّبْنِي يا ربِّ ، وهو قريبٌ من معنى : " لِيُضلُّوا " في كونه دعاءً ، هذا في جانب شبه النَّهي ، وذلك في جانب شبه الأمر ، و " حتَّى يروا " : غايةٌ لنفي إيمانهم ، والأولُ قول الأخفش ، والثاني بدأ به الزمخشري ، والثالث : قول الكسائيِّ ، والفرَّاء ؛ وأنشد قول الشاعر : [ الطويل ] @ 2932 - فلا يَنْبَسِطْ منْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ ما انزوى ولا تَلْقَنِي إلاَّ وأنفُكَ راغمُ @@ وعلى القول بأنه معطوفٌ على " ليُضِلُّوا " يكون ما بينهما اعتراضاً . قوله : { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } : الضمير لمُوسى وهارُون . قيل : كان موسى يدعو وهارون يُؤمِّن ، فنسب الدعاء إليهما ؛ لأنَّ المؤمن أيضاً داعٍ ؛ لأنَّ قوله : " آمين " أي : استجب . وقيل : المراد موسى وحده ، ولكن كنَّى عن الواحد بضمير الاثنين . وقيل : لا يبعُد أن يكون كلُّ واحدٍ منهما ذكر هذا الدُّعاء ؛ غاية ما في الباب أن يقال : إنَّما حَكَى هذا الدعاء عن موسى ، بقوله : { وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً } إلاَّ أنَّ هذا لا ينافي أن يكون هارون ذكر ذلك الدعاء أيضاً . وقرأ السلمي ، والضحاك : " دَعواتُكُما " على الجمع . وقرأ ابن السَّميفع : " قَدْ أجبتُ دعوتكما " بتاء المتكلم ، وهو الباري - تعالى - ، " دَعوتَكُمَا " نصب على المفعول به . وقرأ الرَّبيع : " أجَبْتُ دعوتيكُما " بتاء المتكلم أيضاً ، ودعوتيكما تثنيةٌ ، وهي تدلُّ لمن قال : إنَّ هارون شارك موسى في الدُّعاء . قوله : " فاسْتَقِيمَا " أي : على الدَّعوة والرِّسالة ، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذابُ ، قال ابن جريج : لبث فرعون بعد هذا الدُّعاء أربعين سنة . " وَلاَ تَتَّبِعَانِّ " : قرأ العامَّةُ بتشديد التاء والنون ، وقرأ حفص بتخفيف النُّون مكسورة ، مع تشديد التَّاء وتخفيفها ، وللقُرَّاء في ذلك كلامٌ مضطربٌ بالنِّسبة للنَّقْلِ عنهُ . فأمَّا قراءةُ العامَّة ، فـ " لا " فيها للنَّهي ، ولذلك أكَّد الفعل بعدها ، ويضعفُ أن تكون نافية ؛ لأنَّ تأكيد المنفيِّ ضعيفٌ ، ولا ضرورة بنا إلى ادِّعائه ، وإن كان بعضهم قد ادَّعى ذلك في قوله : { لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ الأنفال : 25 ] لضرورةٍ دعتْ إلى ذلك هناك ، وقد تقدَّم تحريره في موضعه ، وعلى الصحيح تكون هذه جملة نهيٍ معطوفة على جملة أمرٍ . قال الزجاج : " ولا تتَّبعانِّ " : موضعه جزم ، تقديره : و لاتتَّبِعَا ، إلاَّ أنَّ النُّون الشديدة ، دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها ، وسكون النون التي قبلها ، فاختير لها الكسرة ، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية . وأمَّا قراءة حفص ، فـ " لاَ " : تحتمل أن تكون للنَّفي ، وأن تكون للنَّهْي . فإن كانت للنفي ، كانت النون نون رفعٍ ، والجملة حينئذٍ فيها أوجه : أحدها : أنَّها في موضع الحال ، أي : فاسْتقيمَا غيرَ مُتَّبِعيْنِ ، إلاَّ أنَّ هذا مُعترض بما قدَّمْتُه من أنَّ المضارعَ المنفيَّ بـ " لا " كالمثبت في كونه لا تباشره واو الحال ، إلاَّ أن يقدَّر قبلهُ مبتدأ ، فتكون الجملة اسميَّة أي : وأنتما لا تتَّبعَان . والثاني : أنَّهُ نفيٌ في معنى النَّهي ؛ كقوله - تعالى - : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ } [ البقرة : 83 ] . الثالث : أنَّها خبرٌ محضٌ مستأنف ، لا تعلُّق له بما قبله ، والمعنى : أنَّهُمَا أخبرا بأنَّهما لا يتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون . وإن كانت للنَّهي ، كانت النون للتوكيد ، وهي الخفيفة ، وهذا لا يراه سيبويه ، والكسائي ، أعني : وقوع النون الخفيفة بعد الألف ، سواء كانت الألف ألف تثنية ، أو ألف فصلٍ بين نُون الإناث ، ونون التوكيد ، نحو " هل تضربنانِ يا نسوة " وقد أجاز يونس ، والفرَّاء : وقوع الخفيفة بعد الألف وعلى قولهما تتخرَّج القراءةُ ، وقيل : أصلها التشديد ، وإنَّما خففت للثقل فيها ؛ كقولهم : " رُبَ " في " رُبَّ " . وأمَّا تشديدُ التاء وتخفيفها ، فلغتان ، من اتَّبَع يتَّبع ، وتَبع يتْبَع ، وقد تقدَّم [ الأعراف : 175 ] هل هما بمعنى واحد ، أو مختلفان في المعنى ؟ وملخصه : أنَّ تبعه بشيءٍ : خلفه ، واتَّبعه كذلك ، إلاَّ أنه حاذاهُ في المشي واقتدى بِهِ ، وأتبعه : لحقهُ . فصل المعنى : لا تسلك طريق الجاهلين الذين يظنُّون أنه : متى كان الدعاء مُجاباً ، كان المقصُود حاصلاً في الحال ، فربما أجاب الله تعالى الإنسان في مطلوبه ، إلاَّ أنَّه يوصله إليه في وقته المقدَّر ؛ فإنَّ وعد الله لا خلف له ، والاستعجال لا يصدر إلا من الجُهَّال ؛ كما قال لنُوح - عليه الصلاة والسلام - { إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [ هود : 46 ] ، وهذا النَّهي لا يدلُّ على صدور ذلك من موسى - عليه الصلاة والسلام - كما أن قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] لا يدل على صدور الشرك منه .