Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 93-100)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال تعالى : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } الآية . لمَّا ذكر خاتمة فرعون ذكر خاتمة بني إسرائيل ، فقال : " ولقدْ بوَّأنا " أي : أسكنا بني إسرائيل " مُبَوَّأ صِدْقٍ " أي : مكاناً محموداً . ويجُوزُ أن يكون " مُبَوَّأ صِدْقٍ " منصوباً على المصدر ، أي : بَوَّأناهم مُبَوَّأ صدقٍ ، وأن يكون مكاناً أي : مكان تبوُّء صدقٍ . ويجوز أن ينتصب " مُبَوَّأ " على أنَّه مفعولٌ ثانٍ كقوله تعالى : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] أي : لنُنْزلنَّهُمْ . ووصف المُبَوَّأ بكونه صدقاً ؛ لأنَّ عادة العربِ أنها إذا مدحتْ شيئاً أضافته إلى الصِّدْقِ ، تقولُ : رَجُلٌ صدقٌ ، وقدم صدقٍ ، قال تعالى : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الإسراء : 80 ] . والمراد بالمبوَّأ الصدق : قيل : " مصر " ، وقيل : الأردن وفلسطين وهي الأرض المقدسة { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } الحلال " فَمَا اخْتَلَفُوا " يعنى اليهود الذين كانُوا في عَهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم في تصديقه وأنه نبيٌّ حقٌّ " حتَّى جاءَهمُ العِلْمُ " يعنى القرآن ، والبيان بأنه رسول الله صدق ودينه حق ، وسمى القرآن علماً ؛ لأنه سببُ العِلْمِ ، وتسمية المُسَبَّبِ باسم السبب مجاز مشهور . قال ابنُ عباس : هم قريظة والنَّضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق : ما بين المدينة ، والشام ورزقناهم من الطيبات ، وهو ما في تلك البلادِ من الرطب ، والتمر الذي لا يوجد مثله في البلاد وقيل : المراد بني إسرائيل الذين نجوا من فرعون أورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق ، والصامت ، والحرث ، والنسل ، كما قال : { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } [ الأعراف : 137 ] . فصل في كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان : الأول : أنَّ اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ويفتخرون به على سائر النَّاس ، فلمَّا بعثه الله تعالى كذَّبوهُ حسداً ، وبغياً وإيثاراً لبقاء الرِّياسة ، وآمن به طائفةٌ منهم ، فبهذا الطريق كان سبباً لحدوث الاختلاف فيهم . الثاني : أنَّ هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً بالكلِّيَّة ، وبقوا على هذه الحالة حتَّى جاءهم القرآنُ ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قومٌ وبقي قومٌ كفاراً . ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : أنَّ هذا الاختلاف لا يمكن إزالته في دار الدنيا ، وإنَّما يقضى بينهم في الآخرة ، فيتميز المحق من المبطل . قوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ } الآية . قال الواحديُّ " الشَّك في اللغةِ ، ضمَّ بعض الشَّيءِ إلى بعضٍ ، يقال : شَكَكْتُ الصَّيْدَ إذا رميْتَه فنظمْتَ يدهُ إلى أو رجلهُ إلى رجله ، والشِّكائِكُ من الهوادج ما شُكَّ بعضها ببعضٍ والشِّكاكُ : البُيوتُ المُصطفَّة ، والشَّكائِكُ : الأدْعياءُ ؛ لأنَّهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم ، أي : يضُمُّون ، وشكَّ الرَّجُلُ في السِّلاحِ ، إذا دخل فيه وضمَّهُ إلى نفسه . فإذا قالوا : شكَّ فلانٌ في الأمور أرادوا أنَّه وقف نفسه بين شيئين ، فيجوزُ هذا ويجوزُ هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه " . ولمَّا ذكر اختلافهم عندما جاءهم العلم ذكر في هذه الآية ما يُقَوِّي قلبه في صحَّة القرآن والنبوة . وفي " إن " هذه وجهان : أظهرهما : أنَّها شرطيةٌ ، واستشكلوا على ذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُن في شكٍّ قط قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : كيف قال لرسوله : " فإن كُنت في شكٍّ " مع قوله للكفرة : { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [ هود : 110 ] ؟ قلت : فرقٌ عظيم بين إثباته والتَّمثيل " . وقال أبو حيان : فإذا كانت شرطية فقالوا : إنَّها تدخلُ على الممكن وجوده أو المحقَّقِ وجوده ، المبهم زمن وقوعه ، كقوله تعالى : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } [ الأنبياء : 34 ] قال : " والذي أقوله إنَّ " إن " الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيءٍ ، ولا تستلزمُ تحقُّقَ وقوعه ولا إمكانه ، بل قد يكونُ ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى { إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } [ الزخرف : 81 ] ، ومستحيلٌ أن يكون له ولدٌ فكذلك مستحيلٌ أن يكون في شك ، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى : { فَإِنِ ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 35 ] لكنَّ وقوعها في تعليق المستحيل قليلٌ " . ثم قال : " ولمَّا خفي هذا الوجه على أكثر النَّاس ؛ اختلفوا في تخريج هذه الآية فقال ابن عطيَّة : الصَّواب أنَّها مخاطبةٌ له ، والمرادُ من سواه من أمته ممن يمكنُ أن يشُكَّ أو يعارض ؛ كقوله : { يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب : 1 ] وقوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ويدلُّ على ذلك قوله في آخر السورة : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي } [ يونس : 104 ] وأيضاً لو كان شاكّاً في نبوة نفسه ؛ لكان شك غيره في نبوته أولى ، وهذا يوجب سقوطُ الشريعة بالكلية ، وأيضاً فبتقدير أن يكون شاكّاً في نبوَّةِ نفسه ، فكيف يزول هذا الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم كفار ، وإن كان قَدْ حصل فيهم مؤمن إلاَّ أن قوله ليس بحجة ، لا سيَّما وقد تقرَّر أنهم حرَّفُوا التوراة ، والإنجيل ؛ فثبت أنَّ هذا الخطابَ وإن كان في الظَّاهر مع الرسول إلاَّ أنَّ المراد هو الأمة ، وعلى هذا فإنَّ الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة : المصدقون ، والمكذبون ، والمتوقفون في أمره الشَّاكون فيه ، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال : أيُّها الإنسان : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحَّة نُبوَّته " . ولمَّا ذكر الله تعالى لهم ما يزيل الشَّك عنهم ، حذَّرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني ، وهم المكذِّبون ، فقال : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } [ يونس : 95 ] الآية . وقيل : كنى بالشَّك عن الضِّيق . وقيل : كنى به عن العجب ، ووجه المجازِ فيه أنَّ كُلاًّ منهما فيه تردُّد ، وقال الكسائيُّ : إن كنت في شكٍّ أنَّ هذه عادتُهُم مع الأنبياء ؛ فسلهم كيف صبر موسى - عليه السلام - ؟ . وقيل : إنه تعالى علم أنَّ الرسول لم يشك في ذلك ، إلاَّ أنَّ المقصود منه أنَّهُ متى سمع هذا الكلام فإنَّهُ يصرخ ويقول " يا ربّ لا أشك ، ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب ، بل يكفيني ما أنزلته عليَّ من الدلائل الظاهرة " ونظيره قوله تعالى للملائكة : { أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] والمقصودُ أن يُصرِّحُوا بالجواب الحق ويقولوا : { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } [ سبأ : 41 ] . وكقوله لعيسى - عليه الصلاة والسلام - { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ المائدة : 116 ] والمقصود منه أن يصرح عيسى بالبراءة عن ذلك . وقيل : التقدير إنَّك لسيت بشاك البتة . ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة الشَّك كقوله تعالى { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] أي : أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً ؛ لزم فيه المحال الفلاني ، فكذا ههنا ، ولو فرضنا وقوع الشَّك فارجع إلى التَّوراةِ ، والإنجيل لتعرف بهما أنَّ هذا الشك زائل . والوجه الثاني من وجهي إنْ أنَّها نافيةٌ . قال الزمخشري : " أي : فما كنتَ في شكٍّ فاسأل ، يعنى لا نأمرك بالسُّؤال لكونكَ شاكاً ، ولكن لتزداد يَقِيناً كما ازداد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بمعاينة إحياء الموتى " وهذا القول سبقه إليه الحسنُ البصريُّ والحسينُ بنُ الفضل ، وكأنَّهُ فرارٌ من الإشكال المتقدِّم في جعلها شرطية ، وقد تقدَّم جوابه من وجوهٍ . قال القرطبي : قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزَّاهد : سمعت الإمامين : ثَعْلباً والمبرد يقولان : معنى : " فإن كُنتَ في شكٍّ " أي : قُلْ يا محمَّدُ للكافر : فإن كُنتَ في شكٍّ { فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } . وقال الفراء : أعْلمَ اللهُ أنَّ رسولهُ غير شاكٍّ ، لكنَّه ذكره على عادة العرب ، يقول الواحدُ لعبده : إن كنت عبدي فأطِعْني ، ويقول لولده افعل كذا إن كنت ولدي ، ولا يكونُ ذلك شكّاً . وقال الفقيه : وقال بعضهم : هذا الخطاب لمنْ كان لا يقطعُ بتكذيب محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ولا بتصديقه بل كان في شكٍّ . وقيل : المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى : لو كنت ممَّن يلحقك شكٌّ فيما أخبرناك به ، فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشَّكَّ . والمراد بالشَّك هنا : ضيق الصدر ، أي : إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرَؤونَ الكتابَ من قَبْلكَ ، يُخْبِرُوكَ صَبْرَ الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف كان عاقبة أمرهم . والشَّكُّ في اللغةِ : أصله الضِّيق ، يقال : شكَّ الثَّوب ، أي : ضمَّهُ بخلال حتى يصير كالوعاء ، فالشكُّ يقبض الصدر ، ويضمه حتَّى يضيق . فصل قال المُحَقِّقُون : المراد بالذين يقرءون الكتاب : المؤمنون من أهْلِ الكتابِ ، كعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن صوريا ، وتميم الداري ، وكعب الأحبار ، لأنَّهُم هم الذين يوثق بأخبارهم . وقال بعضهم : المراد الكل سواء كانوا من المسلمين أم من الكُفَّار ؛ لأنَّهم إذا بلغُوا عدد التواتر ، وقرؤوا آية من التَّوراة ، والإنجيل ، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدمِ النبي صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرضُ . وقرا يحيى ، وإبراهيم : الكتب بالجمع ، وهي مبنيةٌ أنَّ المراد بالكتاب الجنسُ لا كتابٌ واحد . فإن قيل : إن كتبهم قد دخلها التَّحريفُ والتَّغييرُ ، فكيف يمكنُ التعويلُ عليها ؟ . فالجواب : أنهم إنما حرَّفُوها لإخفاء الآيات الدَّالة على نبوَّةِ محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ، فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته ؛ كان ذلك من أقوى الدَّلائل على صحَّة نبوَّة محمد - عليه الصلاة والسلام - لأنَّها لمَّا بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دلَّ ذلك على أنَّها كانت في غاية الظهور . فصل قيل : السؤالُ كان عن القرآن ، ومعرفة نُبوَّةِ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - . وقيل : السؤال راجعٌ إلى قوله { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } والأول أولى ؛ لأنَّه الأهمُّ . ولمَّا بين هذا الطريق قال : { لَقَدْ جَآءَكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } أي : ثبت عنده بالآيات والبراهين القاطعة أنَّ ما أتاك هو الحق : " فلا تكُوننَّ من المُمترينَ " أي : لا مدخل للمرية فيه { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } أي : اثبت ، ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية ، وانتفاء التكذيب بآيات الله ؟ وروي أنَّه عليه الصلاة والسلام قال عند نزوله : " لا أشُكُّ ولا أسْألُ بلْ أشهدُ أنَّهُ الحقُّ " . ثم لمَّا فصَّل تعالى هذا التفصيل ، بيَّن أنَّ له عباداً ، قضى عليهم بالشَّقاءِ ، فلا تتغيَّر ، وعباداً قضى لهم بالكرامة ، فلا تتغير ، فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } . قرأ نافعٌ وابن عامر كلمات على الجمع ، والباقون : بالإفراد . فكلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة بحسب الجنسية . والمراد بهذه الكلمة : حكمُ الله بذلك ، وإخباره عنه ، وخلقه في العبد مجموع القدرة ، والدَّاعية الموجبة لحصول ذلك الأثر . واحتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القول بالقضاءِ والقدرِ . ثم قال : { وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } أي : أنهم لا يؤمنون ألبتَّة ، ولو جاءتهم الدَّلائل التي لا حدَّ لها ولا حَصْرَ ؛ لأنَّ الدَّليل لا يهدي إلاَّ بإعانة الله ، فإذا لم تحصيل الإعانة ضاعت تلك الدَّلائل . القصة الثالثة قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ } الآية . لمَّا بيَّن بقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } أتبعه بهذه الآية ؛ لأنَّها دالةٌ على أنَّ قوم يونس آمنوا بعد كفرهم ، وانتفعوا بذلك الإيمان ، فدلَّ ذلك على أنَّ الكُفَّار فريقان : فريق ختم له بالإيمان . وفريق ختم له بالكفر ، وكلُّ ما قضى الله به فهو واقعٌ . قوله : " فلولا " لولا هنا تحضيضيةٌ ، وفيها معنى التَّوبيخ ؛ كقول الفرزدق : [ الطويل ] @ 2938 - تَعُدُّونَ عَقْرَ النَّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ بَنِي ضَوْطَرَى لولاَ الكَمِيَّ المقنَّعا @@ وفي مصحف أبيِّ ، وعبد الله - وقرأ كذلك - فَهَلاَّ ، وهي نصٌّ في التحضيض وزعم عليُّ بنُ عيسى ، والنَّحَّاس أنَّ لولا تأتي بمعنى ما النَّافية ، وحملا على ذلك هذه الآية أي : ما كانت قرية نقله ابنُ قاسم ، وهو منقولٌ أيضاً عن الهرويِّ ، وكانت هنا تامة و " آمنت " صفة لـ " قرية " ، وفنفعها نسق على الصِّفة . قوله : " إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ " فيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ استثناء منقطع ، وإليه ذهب سيبويه ، والكسائي ، والأخفش ، والفراء ، ولذلك أدخلهُ سيبويه في باب " ما لا يكون فيه إلاَّ النصب لانقطاعه " وإنما كان منقطعاً ؛ لأنَّ ما بعد " إلاَّ " لا يندرجُ تحت لفظ " قرية " . والثاني : أنَّه متصلٌ . قال الزمخشري : " استثناءٌ من القرى ، لأنَّ المراد أهاليها وهو استثناء منقطع بمعنى : ولكن قوم يونس ، ويجُوزُ أن يكون مُتَّصِلاً ، والجملةُ في معنى النَّفي كأنَّه قيل : ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلاَّ قوم يونس " . وقال ابنُ عطيَّة : هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطعٌ ، وكذلك رسمه النَّحويون ، وهو بحسب المعنى متصلٌ لأنَّ تقديره : ما آمن أهل قريةٍ إلاَّ قوم يونس . قال شهاب الدين : " وتقدير هذا المضاف هو الذي صحَّح كونه استثناء مُتَّصلاً " ، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهم . وأمَّا الزَّمخشري فإنَّ ظاهر عبارته أنَّ المُصَحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النَّفي ، وليس كذلك بل المسوِّغ كون القرى يُرادُ بها أهاليها من باب إطلاق المحلِّ على الحال ، وهو أحدُ الأوجه المذكورة في قوله { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] . وقرأ فرقة : " إلاَّ قومُ " بالرَّفع . قال الزمخشريُّ : وقُرىء بالرفع على البدل ، روي ذلك عن الجرمي ، والكسائي . وقال المهدويُّ : " والرَّفْعُ على البدل من قَرْية " . فظاهر هاتين العبارتين أنَّها قراءةٌ منقولةٌ ، وظاهرُ قول مكِّي ، وأبي البقاء أنَّها ليست قراءة ، وإنَّما ذلك من الجائز ، وجعلا الرَّفع على وجهٍ آخر غير البدلِ ، وهو كون " إلاَّ " بمعنى " غير " في وقوعها صفةً . قال مكي " ويجوزُ الرَّفعُ على أن تجعل إلا بمعنى " غير " صفة للأهْلِ المحذوفين في المعنى ، ثم يُعْرَب ما بعد إلاَّ بإعراب " غير " لو ظهرت في موضع " إلاَّ " . وقال أبو البقاء - وأظنه أخذه منه - : ولو كان قد قُرىء بالرَّفع لكانت إلاَّ فيه بمنزلة غير فيكون صفة ، وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات وقرئ بها . فصل قال البغويُّ : المعنى فلم تكن قرية ؛ لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْدِ ؛ أي : أهل قرية آمنت عند معاينة العذاب ، " فنفعها إيمانها " في حال اليَأسِ " إلاَّ قوم يونس " ، فإنَّهم نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، و " قوم " نصب على الاستثناء المنقطع ، أي : ولكن قوم يونس " لما آمنوا كشفْنَا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدُّنْيَا ، ومتعناهم إلى حين " ، وهي وقت انقضاء آجالهم ، واختلفوا في أنَّهُمْ هل رأوا العذاب عياناً فقال بعضهم : رأوا دليل العذاب . والأكثرون على أنَّهُم رأوا العذاب عياناً لقوله : { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ } ، والكَشْفُ يكون بعد الوقوع ، أو إذا قرب قوله : " ولو شاء ربُّك " يا مُحمَّدُ " لآمن من في الأرض كلهم جميعاً " . واعلم أنَّ هذه السُّورة من أوَّلها إلى هنا في بيان شبهات الكفار في إنكار النبوة ، والجواب عنها ، وكانت إحدى شبهاتهم ؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُهَدِّدهُم بنزول العذاب على الكُفَّار ، وبعد أتباعه أن الله ينصرهم ، ويعلي شأنهم ، ويقوي جانبهم ، ثمَّ إنَّ الكُفَّارَ ما رأوا ذلك ؛ فجعلوا ذلك شبهة في الطَّعْنِ في نبوته ، وكانوا يبالغون في استعجال العذاب على سبيل السخرية ، ثم إن الله تعالى بيَّن أنَّ تأخير الموعود به لا يقدحُ في صحَّة الوعد ، ومن ثم ضرب لهذا أمثلة ، وهي قصَّة نوح - عليه السلام - وموسى - عليه السلام - إلى هاهنا ، ثم في هذه الآية بيَّن أنَّ جدَّ الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفعُ ، ومبالغته في تقريرِ الدلائل في الجواب عن الشبهات لا يفيدُ ؛ لأن الإيمان لا يحصلُ إلا بخلق الله ، ومشيئته وإرشاده ، وهدايته ، إذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمانُ . فصل استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ جميع الكائنات لا تحصلُ إلا بمشيئة الله تعالى ؛ لأنَّ كلمة " لَوْ " تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره ، فقوله : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً } يقتضي أنَّه ما حصلت تلك المشيئة ، وما حصل إيمانُ أهل الأرض بالكليَّة ، فدلَّ هذا على أنَّه تعالى ما أراد الكل ، وأجاب الجبائيُّ ، والقاضي وغيرهما أنَّ المراد مشيئة الإلجاء ، أي : لو شاء الله أن يُلْجِئهُم إلى الإيمان لقدر عليه ، ولكنَّهُ ما فعل ذلك ؛ لأنَّ الإيمان الصَّادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ، ولا يفيده فائدة ، ثم قال الجبائيُّ : ومعنى إلجاء الله تعالى إيَّاهُم إلى ذلك ، أن يُعَرِّفهم أنَّهُمْ لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك ، وعند هذا لا بُدَّ وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه . والجواب من وجوه : أحدها : أنَّ الكافر لو كان قادراً على الكفر ، ولم يقدر على الإيمان ، فحينئذٍ تكونُ القدرة على الكفر مستلزمة للكفر ، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أنْ يقال : إنَّه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر ؛ فوجب أن يقال : أراد منه الكفر ، وإن كانت القدرة صالحة للضِّدين ، فرجحان أحد الطَّرفين على الآخر - إن لم يتوقف على المرجح - فقد حصل الرجحانُ لا لمرجحٍ ، وهو باطلٌ ، وإن توقف على مرجح ، فذلك المرجحُ إمَّا أن يكون من العبد ، أو من الله ، فإن كان من العبد عاد التَّقْسِيمُ ولزم التسلسل ، وهو محالٌ ، وإن كان من الله ، كان مجموع تلك القدرة مع تلك الدَّاعية موجباً لذلك الكفر ، فإذا كان خالق القدرة والدَّاعية هو الله تعالى عاد الإلزام . ثانيها : أن قوله : " ولو شاءَ ربُّكَ " لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء ؛ لأنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - ما كان يطلب منهم إلاَّ إيماناً ينتفعون به في الآخرة ، فبيَّن تعالى ؛ أنَّه لا قدرة للرَّسُولِ على تحصيل هذا الإيمان ، ثم قال : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً } فوجب أن يكون المرادُ منه هذا الإيمان النَّافع حتى ينتظم الكلام ، وحمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء لا يليقُ بهذا الموضع . وثالثها : أنَّ الإلجاء إمَّا أن يكون بأن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ، فيأتي بالإيمان عندها ، وإمَّا أن يكون بخلق الإيمان فيهم ، والأولُ باطلٌ ؛ لأنه تعالى قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [ يونس : 96 - 97 ] وقال : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الأنعام : 111 ] فبيَّن أنَّ إنزال الإيمان لا يفيدُ ، وإن كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان ، بل كان عبارة عن خلق الإيمان فيهم ، فيصير المعنى : ولو شاء ربك حصول الإيمان لهم لخلق الإيمان فيهم ، ثم يقال : لكنه ما خلق الإيمان فيهم ، فدلَّ على أنَّه ما أراد حصول الإيمان لهم ، وهو المطلوب . ثم قال : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي : أنه : لا قدرة لك على التَّصرف في أحد . قوله : " أفأنت " يجوز في " أنت " وجهان ، أحدهما : أن يرتفع بفعل مقدَّر مفسَّر بالظَّاهر بعده ، وهو الأرجحُ ؛ لأنَّ الاسم قد ولي أدَاة هي بالفعل أولى . والثاني : أنَّه مبتدأ والجملةُ بعده خبره ، وقد تقدَّم ما في ذلك من كون الهمزة مقدمة على العاطف أو ثمَّ جملةٌ محذوفةٌ كما هو رأي الزمخشري . وفائدة إيلاء الاسم للاستفهام إعلامٌ بأنَّ الإكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه ، وإنَّما الشَّأنُ في المكره من هو ؟ وما هو إلا هو وحده لا مشاركة فيه لغيره . و " حتَّى " غايةٌ للإكراه . قوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ } كقوله : { أَنْ تَمُوتَ } [ آل عمران : 145 ] وقد تقدم في آل عمران [ 145 ] . والمعنى : ما ينبغي لنفس . وقيل : ما كانت لتؤمن إلاَّ بإذنِ الله . قال ابن عبَّاسٍ : بأمر الله . وقال عطاءٌ : بمشيئة الله . وقيل : بعلم الله . " ويَجْعَلُ " قرأ أبو بكر عن عاصم بنون العظمة . والباقون : بياء الغيبةِ وهو الله تعالى . وقرأ الأعمش " ويجعلُ الرجز " بالزاي دون السين ، وقد تقدَّم هل هما بمعنى ، أو بينهما فرقٌ ؟ [ الأعراف : 134 ] ثم قال : { عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أي : من الله أمره ونهيه . فصل احتجُّوا بقوله : { وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } على أنَّ خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى ، وتقريره : أنَّ الرِّجْسَ قد يراد به : العملُ القبيحُ ، قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِـيراً } [ الأحزاب : 33 ] والمراد من الرِّجْسِ هنا : العملُ القبيحُ سواء كان كفراً أو معصية ، وبالتَّطهير : نقل العبد من رجس الكفر ، والمعصية إلى طهارة الإيمان ، والطَّاعة ، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أنَّ الإيمان إنَّما يحصلُ بمشيئة الله وتخليقه ، ذكر بعد أنَّ الرِّجْسَ لا يحصلُ إلاَّ بتخليقه . والرِّجْسُ الذي يقابلُ الإيمان ليس إلاَّ الكفر . وأجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال : الرِّجْسُ ، يحتمل وجهين آخرين . أحدهما : أن يكون المراد منه العذاب ، فيكون المعنى : يلحق العذاب بالذين لا يعقلون ، كقوله { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ } [ الفتح : 6 ] . الثاني : أنَّه تعالى حكم عليهم بأنَّهم نجس ، كما قال : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] أي : أنَّ الطَّهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم . وأجابُوا : أنَّ حمل الرجس على العذاب باطلٌ ؛ لأنَّ الرِّجْسَ عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره فحمل هذا اللفظ على كفرهم وجهلهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقّاً صِدْقاً صواباً . وأمَّا حمل الرِّجْسِ على حكم الله برجاستهم ، فهو في غاية البعد ؛ لأنَّ حكم الله تعالى بذلك صفته ، فكيف يجوز أن يقال : إنَّ صفة الله رجسٌ ، فثبت أنَّ دلالة الآية على الكفر ظاهرةٌ .