Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 116-120)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ } من الآية . لمَّا بيَّن أنَّ الأمم المتقدمين حلَّ بهم عذاب الاستئصال ، بيَّن أنَّ السبب فيه أمران : الأول : أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض ، فقال : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ } ، " لوْلاَ " تحضيضية دخلها معنى التَّفجُّع عليهم ، وهو قريبٌ من مجاز قوله تعالى : { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } [ يس : 30 ] وما يروى عن الخليل - رحمه الله - أنه قال : كل ما كان في القرآن من " لَوْلاَ " فمعناه " هَلاَّ " إلاَّ التي في الصافات " فلوْلاَ أنَّهُ " ، لا يصحُّ عنه لورودها كذلك في غير الصافات { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ } [ القلم : 49 ] { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } [ الإسراء : 74 ] { وَلَوْلاَ رِجَالٌ } [ الفتح : 25 ] . و " مِنَ القُرونِ " يجوز أن يتعلَّق بـ " كان " ؛ لأنَّها هنا تامَّة ، إذ المعنى : فهلاَّ وُجِد من القُرونِ ، أو حدث ، أو نحو ذلك ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من : " أُولُوا بقيَّةٍ " لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً لهُ ، و " مِن قَبْلِكُم " حالٌ من " القُرُون " و " يَنْهَون " حالٌ من " أولوا بقيَّة " لتخصُّصه بالإضافةِ ، ويجوز أن يكون نعتاً لـ " أُولُوا بقيَّّةٍ " وهو أولى . ويضعفُ أن تكون " كان " هذه ناقصة لبُعْد المعنى من ذلك ، وعلى تقديره يتعيَّن تعلُّق " من القُرونِ " بالمحذُوف على أنَّهُ حالٌ ؛ لأنَّ " كَانَ " النَّاقصة لا تعملُ عند جمهور النُّحاةِ ، ويكون " يَنْهَوْنَ " في محلِّ نصب خبراً لـ " كان " . وقرأ العامَّةُ " بقيَّة " بفتح الباء وتشديد الياءِ ، وفيها وجهان : أحدهما : أنَّها صفةٌ على " فَعِيلة " للمبالغةِ ، بمعنى " فاعل " ؛ وذلك دخلت التَّاءُ فيها ، والمرادُ بها حينئذٍ جُنْد الشيء وخياره ، وإنَّما قيل لجنْدِه وخياره : " بقيَّة " في قولهم : فلان بقيةُ النَّاس ، وبقيةُ الكرام ؛ لأنَّ الرَّجُل يستبقي ممَّا يخرجه أجوده وأفضله والرجل يبقى بعده ذكر جوده وفضله ؛ وعليه حمل بيتُ الحماسِة : [ البسيط ] @ 3040 - إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتينِي بقِيَّتُكُمْ … @@ وفي المثل : " في الزَّوايا خبايا ، وفي الرِّجالِ بَقايَا " . والثاني : أنَّها مصدرٌ بمعنى البقوى قال الزمخشريُّ ويجوزُ أن تكون البقيَّة بمعنى البَقْوَى كالتقيَّة بمعنى التَّقوى ، أي : فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم ، وصيانةٍ لها من سخطِ الله وعقابه . والمعنى : فهلاّ كان منهم أولوا مراقبة وخشية من انتقام الله . وقرأت فرقةٌ " بَقِيَة " بتخفيفِ الياءِ ، وهي اسمُ فاعل من بقي كـ : شَجِيَة من شَجِي ، والتقدير أولُوا طائفةٍ بقيةٍ أي : باقية . وقرأ أبو جعفرٍ وشيبة " بُقْية " بضمِّ الفاء وسكون العين . وقُرِىءَ " بَقْيَة " على المرَّة من المصدر . و " فِي الأرْضِ " متعلقٌ بالفسادِ ، والمصدرُ المقترن بـ " أل " يعمل في المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف ؟ ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذُوفٍ عل أنه حالٌ من " الفَسادِ " . فصل المعنى : فهلاَّ " كان مِنَ القُرونِ " التي أهلكناهم ، " مِن قَبْلِكُمْ " أولُوا تمييز وقيل : أولُوا طاعة وقيل : أولُوا خير ، يقال : فلانٌ على بقيَّةٍ من الخير إذا كان على خصلة محمودة . و " ينْهَوْنَ عن الفسادِ في الأرضِ " أي : يقُومُون بالنَّهْي عن الفسادِ ، ومعناه جحداً ، أي : لم يكن فيهم أولُو بقية . قوله : " إِلاَّ قَلِيلاً " فيه وجهان : أحدهما : أن يكون استثناء منقطعاً ؛ وذلك أن يحمل التحضيض على حقيقته ، وإذا حُمل على حقيقته تعين أن يكون الاستثناءُ منقطعاً لئلاَّ يفسد المعنى . قال الزمخشريُّ : معناه : ولكن قليلاً ممَّن أنْجينَا من القرون نهوا عن الفساد ، وسائرهُم تاركون النَّهي ثم قال : فإن قلت : هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يحملُ عليه ؟ قلتُ : إن جعلتهُ متَّصلاً على ما هو عليه ظاهرُ الكلام كان المعنى فاسِداً ؛ لأنَّهُ يكون تحضيضاً لأولي البقية على النَّهي عن الفساد إلاَّ للقليل من النَّاجين منهم ، كما تقولُ : هلا قرأ قومك القرآن إلاَّ الصلحاء منهم ، تريدُ استثناء الصُّلحاء من المحضَّضينَ على قراءة القرآن . فيَئُول الكلام إلى أنَّ الناجين لم يحضُّوا على النَّهْي عن الفساد ، وهو معنًى فاسدٌ . والثاني : أن يكون متَّصِلاً ، وذلك بأن يؤوَّل التحضيض على قراءة القرآن بمعنى النَّفي ، فيصحَّ ذلك ؛ إلاَّ أنَّهُ يُؤدِّي إلى النصب غير الموجب ، وإن كان غير النصب أولى . قال الزمخشري : فإن قلت : في تحضيضهم على النَّهي عن الفسادِ معنى نفيه عنهم ، فكأنَّهُ قيل : ما كان من القُرُونِ أولُو بقية إلاَّ قليلاً كان استثناءً متصلاً ومعنى صحيحاً ، وكان انتصابهُ على أصل الاستثناء ، وإن كان الأفصحُ أن يرفع على البدل . ويؤيد أنَّ التحضيض هنا في معنى النَّفْي قراءةُ زيد من عليّ " إلاَّ قليلٌ " بالرفع ، لاحظ معنى النَّفي فأبدل على الأفصحِ ، كقوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] . وقال الفراء : المعنى : فلمْ يكن ؛ لأنَّ في الاستفهام ضَرْباً من الجَحْدِ سمَّى التَّحضيض استفهاماً . ونُقل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّن اتصال هذا الاستثناء كأنَّهُ لحظَ النَّفْيَ و " مِنْ " في : " مِمَّنْ أنْجَيْنَا " للتبعيض . ومنع الزمخشريُّ أن تكون للتبعيض بل للبيانِ فقال : حقُّها أن تكون للبيانِ لا للتبعيض ؛ لأنَّ النَّجاة إنَّما هي للنَّاهينَ وحدهم ، بدليل قوله : { أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] . فعلى الأول يتعلق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لـ " : قَلِيلاً " . وعلى الثاني : يتعلق بمحذوف على سبيل البيان ، أي : أعني . قوله : { وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ } هذا السببُ الثاني في نزولِ عذاب الاستئصال . قرأ العامَّةُ : " اتَّبَعَ " بهمزة وصلٍ وتاءِ مشددةٍ ، وياءٍ ، مفتوحتين ، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل وفيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ معطوفٌ على مضمرٍ . والثاني : أنَّ الواو للحالِ لا للعطفِ ، ويتَّضحُ ذلك بقول الزمخشري فإن قلت : علام عطف قوله : { وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } ؟ قلت : إن كان معناه : واتَّبعُوا الشَّّهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ ؛ لأنَّ المعنى : إلاَّ قليلاً ممَّنْ أنجينا منهم نُهُوا عن الفسادِ ، واتَّبع الذين ظلمُوا شهواتهم ، فهو عطفٌ على " نُهُوا " وإنْ كان معناه : واتَّبعُوا جزاءَ الإترافِ ، فالواو للحال ، كأنَّه قيل : أنْجَيْنَا القليل ، وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم . فجوز في قوله : " مَا أتْرِفُوا " وجهين : أحدهما : أنَّه مفعول من غير حذف مضافٍ ، و " مَا " واقعة على الشَّهوات وما بطرُوا بسببه من النِّعم . والثاني : أنَّهُ على حذف مضاف ، أي : جزاء ما أتْرِفُوا ، ورتَّب على هذين الوجهين القول في " واتَّبَعَ " . والإتْراف : إفعالٌ من التَّرف وهو النِّعمة ، يقال : صبيٌّ مترفٌ ، أي : مُنْعَم البدن ، وأتْرِفُوا نَعِمُوا وقيل : التَّرفُّهُ : التوسُّع في النِّعمةِ . وقال مقاتلٌ : " أتْرِفُوا " خُوِّلُوا . وقال الفراء : عُوِّدُوا ، أي : واتَّبع الذين ظلمُوا ما عُوِّدُوا من النَّعيم ، وإيثار اللذات على الآخرة . وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي ، وأبو جعفر " وأتْبعَ " بضم همزة القطع وسكون التَّاءِ وكسر الباء مبنيًّا للمفعول ، ولا بدَّ حينئذٍ من حذف مضاف ، أي : أتبعُوا جزاء ما أترفُوا فيه . و " ما " يجوز أن تكون معنى " الذي ، وهو الظَّاهرُ لعودِ الضمير في " فيه " عليه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : جزاء إترافهم . قوله " وكانُوا مُجْرمينَ " كافرين وفيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها : أن تكون عطفاً على " أُتْرِفُوا " إذا جعلنا " ما " مصدرية ، أي : اتَّبعوا إترافهم وكونهم مجرمين . والثاني : أنه عطفٌ على " اتَّبَعَ " ، أي : اتَّبَعُوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك ، لأنَّ تابعَ الشَّهواتِ مغمورٌ بالآثامِ . الثالث : أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنَّهُم قومٌ مجرمون ذكر ذلك الزمخشريُّ . قال أبو حيَّان : " ولا يُسَمَّى هذا اعتراضاً في اصطلاح النَّحْو ؛ لأنه آخرُ آيةٍ ، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر " . قوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ } الآية . في " لِيُهْلِكَ " الوجهان المشهوران ، وهما : زيادة اللام في خبر : " كان " دلالةً على التَّأكيد - كما هو رأي الكوفيين - أو كونها متعلقة بخبر " كان " المحذوف ، وهو مذهبُ البصريين ، و " بِظُلْمٍ " متعلق بـ " يُهْلِكَ " والباءُ سببيةٌ ، وجوَّز الزمخشريُّ أن تكون حالاً من فاعل " لِيُهْلِكَ " ، وقوله " وأهْلُهَا مُصْلِحُون " جملة حالية . فصل قيل : المرادُ بالظلم هنا : الشرك ، قال تعالى : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] والمعنى : أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم ، ولهذا قال الفقهاءُ : إنَّ حقوق الله مبناها على المسامحةِ ، وحقوق العباد مبناها على التَّضييقِ والشح ، ويقالُ : إنَّ الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظُّلم ، ويدلُّ على هذا التأويل أنَّ قوم هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب إنَّما نزل بهم عذابُ الاستئصال ، لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاءِ النَّاس وظلم الخلق وهذا تأويل أهل السنة وقالت المعتزلة : إنَّهُ تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لكان ظلماً ، ولمَّا كان متعالياً عن الظلم ، لا جرم أنَّهُ إنما يهلكهم لأجل سُوء أفعالهم . وقيل : معنى الآية : أنَّهُ لا يُهلكُهُمْ بظلم منه ، وهم مُصْلِحُونَ في أعمالهم ، ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السَّيئات ، وهذا معنى قول المعتزلة . ثم قال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } كلهم على دينٍ واحدٍ ، { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } على أديان شتَّى ، من يهوديٍّ ، ونصرانيٍّ ، ومجوسيٍّ ، ومشركٍ ، ومسلم ، وقد تقدم الكلام على ذلك . قوله : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } ظاهرهُ أنه متَّصلٌ ، وهو استثناءٌ من فاعل " يَزالُون " ، أو من الضَّمير في " مُختلفينَ " وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً ، أي : لكن من رحمَ ، لم يختلفُوا ، ولا ضرورة تدعُو إلى ذلك . قوله : " ولذلِكَ " في المشار إليه أقوال كثيرة . أظهرها : أنَّهُ الاختلافُ المدلولُ عليه بـ " مُخْتلفينَ " ؛ كقوله : [ الوافر ] . @ 3041 - إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ وخَالفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ @@ رجع الضَّميرُ في " إليه " على السَّفه المدلول عليه بلفظ " السَّفيه " ، ولا بدَّ من حذفِ مضافٍ على هذا ، أي : ولثمرة الاختلاف خلقهم ، واللام في الحقيقةِ للصَّيرورةِ ، أي : خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف . وقيل : المرادُ به الرحمة المدلول عليها بقوله : " رَحِمَ " وإنَّما ذكِّر ذهاباً بها إلى الخيرِ . وقيل : المرادُ به المجموعُ منهما ، وإليه نحا ابنُ عباس - رضي الله عنهما - : كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ } [ البقرة : 68 ] وقيل : إشارةٌ إلى ما بعده من قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، وهو قولٌ مرجوحٌ ؛ لأنَّ الأصل عدمُ ذلك . فصل قال الحسنُ وعطاء : وللاختلاف خلقهم قال أشهب : سألتُ مالكاً - رحمه الله - عن هذه الآية فقال : خلقهم ليكون فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعير . قال أبو عبيد : الذي أختاره قول من قال : خلق فريقاً لرحمته ، وفريقاً لعذابه ، ويُؤيده قوله تعالى : " وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " . وقوله صلى الله عليه وسلم : " خلق الله الجنَّة وخلق لها أهلاً ، وخلق النَّار وخلق لها أهلاً " . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهدٌ ، وقتادة ، والضحاك رضي الله عنهم : وللرَّحمةِ خلقهم ، يعني الذين رحمهم ، وقال الفراء : خلق أهل الرَّحْمةِ للرَّحمةِ ، وأهل الاختلاف للاختلاف ومحصول الآية أنَّ أهل الباطلِ مختلفُون ، وأهل الحقِّ متَّفقُون ، فخلق أهل الحق للاتفاق ، وأهل الباطل للاختلاف . وذهبت المعتزلةُ إلى قولِ ابن عبَّاسٍ ، وهو أنَّهُ خلقهم للرَّحمةِ ، قالوا : ولا يجوز أن يقال : وللاختلاف خلقهم ، لوجوه : الأول : أنَّ عود الضَّمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما : والثاني : لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك لم يجز أن يعذبهم عليه ، إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف . الثالث : أنَّا إذا فسرنا الآية بالرحمةِ مطابقاً لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . فإن قيل : لو كان المراد ، وللرَّحمة خلقهم لقال : ولتلك خلقهم ، ولم يقل : ولذلك خلقهم . قلنا : إن تأنيث الرَّحمةِ لي حقيقيًّا ، فكان محمولاً على الفضل والغفرانِ ، كقوله : { هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } [ الكهف : 98 ] وقوله : { إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف : 56 ] . فصل احتج من قال بأنَّ الهداية والإيمان لا يحصل إلاَّ بخلقِ الله تعالى بهذه الآية ، وذلك لأنَّها تدلُّ على أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين لا يحصلُ إلاَّ لمنْ خصَّهُ الله برحمته ، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإزاحة العذر ، فإن كُلَّ ذلك حاصل للكفار ، فلم يبق إلاَّ أن يقال : تلك الرحمة هو أنَّ الله - تعالى - يخلق فيه تلك الهداية والمعرفة . قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } قال القاضي معناه : إلا من رحم ربُّك بأن يصير من أهل الجنة ، والثواب ، فيرحمه الله بألطافه وتسهيله ، وهذان الجوابان في غاية الضعف . أمَّا الأولُ فلأنَّ قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } بأن يصير من أهل الجنة ، يفيدُ أنَّ ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة ؛ فوجب أن تكون هذه الرَّحمة جارية مجرى السَّّبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف ، والثَّواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف ، فالاختلاف جارٍ مجرى السبب له فحملُ هذه الرَّحمة على الثَّواب لا يجوزُ . وأمَّا الثاني - وهو حملُ هذه الرَّحمة على الألطافِ التي فعلها في حقِّ المؤمن - فهي مفعولة أيضاً في حقِّ الكافر ، وهذه الرحمة أمر اختص به المؤمن ؛ فوجب أن يكون شيئاً زائداً على تلك الألطاف ، وأيضاً فحصول الألطاف هل يوجبُ رجحان وجود الإيمان على عدمه أم لا يوجبه ؟ فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها ، بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان ، فلم يكُ لطفاً منه ، وإذا وجب الرُّجحان فقد ثبت في العقليات أنه متى حصل الرجحان ، فقد وجب حينئذ أن يكون حصول الإيمان من الله ، وما يدل على أنَّ حصول الإيمان لا يكون إلاَّ بخلق الله تعالى ؛ لأنَّهُ ما لم يتميز الإيمان عن الكفر ، والعلم عن الجهلِ امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم ، وهذا الامتياز إنما يحصلُ إذا علم كون احد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد ، وكون الآخر ليس كذلك ، وإنَّما يصح هذا العلم إذا عرف ذلك المعتقد كيف يكون ، وهذا يوجب أنَّهُ لا يصح من العبدِ القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً ، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محالٌ ، فثبت أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين ، وحصولِ العلم والهداية لا يحصل إلاَّ بخلق الله تعالى . ثم قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } وتم حكم ربك { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } فقوله : " أجْمَعِينَ " تأكيد ، والأكثر أن يسبق بـ " كُل " وقد جاء هنا دونها . والجنَّةُ والجِنُّ : قيل : واحد ، والتاء فيه للمبالغة . وقيل : الجنَّةُ جمع جِنّ ، وهو غريبٌ ، فيكون مثل " كَمْءِ " للجمع ، و " كَمْأة " للواحد . قوله تعالى : { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ } الآية . لمَّا ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ، ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة . أحدهما : تثبيت الفؤاد على أداء الرِّسالة ، وعلى الصَّبر واحتمال الأذى ؛ وذلك لأنَّ الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية ، فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه ؛ كما يقال : المصيبة إذا عمت خفت ، فإذا سمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القصص ، وعلم أنَّ حال جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مع أتباعهم هكذا ، سهل عليه تحمل الأذى من قومه ، وأمكنه الصبر عليه . والفائدة الثانية : قوله { وَجَآءَكَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } . قوله تعالى : { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ } في نصبه أوجه : أحدها : أنه مفعولٌ به ، والمضاف إليه محذوفٌ ، عوض منه التنوين ، تقديره : وكلُّ نبأ نقصُّ عليك . و " مِنْ أنباءِ " بيانٌ له أو صفةٌ إذا قُدِّر المضاف إليه نكرة . وقوله : { مَا نُثَبِّتُ بِهِ } يجوز أن يكون بدلاً من : " كُلاًّ " وأن يكون خبر مبتدأ مضمر : أي : هو ما نُثَبِّتُ ، أو منصوبٌ بإضمار أعني . الثاني : أنه منصوبٌ على المصدر ، أي : كلَّ اقتصاصٍ نقصُّ ، و " مِنْ أنباءِ " صفةٌ : أو بيان ، و " ما نُثَبتُ " هو مفعول " نَقُصُّ " . الثالث : كما تقدم ، إلاَّ أنه يجعل " ما " صلة ، والتقدير : وكلاًّ نقصُّ من أبناءِ الرُّسُل نُثَبِّتُ به فؤادك ، كذا أعربه أبو حيان وقال : كَهِي في قوله : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] . الرابع : أن يكون " كُلاًّ " منصوباً على الحال من " ما نُثَبِّتُ " وهي في معنى : " جَمِيعاً " وقيل : بل هي حال من الضمير في " بِهِ " وقيل : بل هي حالٌ من " أنْبَاء " وهذان الوجهان إنما يجوزان عند الأخفشِ ، فإنَّهُ يجيزُ تقديم حال المجرورِ بالحرف عليه ؛ كقوله تعالى : { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] في قراءة من نصب " مَطويَّاتٍ " وقول الآخر : [ الكامل ] @ 3042 - رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبِي أدْراعِهِمْ فِيهِمْ ورهْطُ رَبِيعةَ بْنِ حُذَارِ @@ والمعنى : وكل الذي تحتاجُ إليه من أبناء الرسل ، أي : من أخبارهم ، وأخبار الأمم نقصها عليك ؛ لنثبت به فؤادك ؛ لنزيدك يقيناً ، ونقوي قلبك ، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها كان في ذلك تقوية لقلبه على الصَّبْرِ لأذى قومه . { وَجَآءَكَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَقُّ } قال الحسنُ وقتادةُ : في هذه الدنيا . وقال الأكثرون : في هذه السورة خص هذه السورة تشريفاً ، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور . وقيل : في هذه الآية . والمراد به " الحق " البراهين الدَّالة على التَّوحيدِ والعدلِ والنبوة ، " مَوْعظةٌ " أي : وجاءتك موعظة " وذكْرى للمُؤمنينَ " والمرادُ بـ " الذكرى " الأعمال الباقية الصالحة في الدَّار الآخرة .