Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 15-16)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } الآية . قيل : إنَّها مختصةٌ بالكُفَّار لقوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ هود : 16 ] وهذا ليس إلاَّ للكفار ، فيكون التقدير : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط ، أي : تكون إرادته مقصورةٌ على حُبِّ الدنيا وزينتها ، ومن طلب السعادات الأخرويَّة كان حكمه كذا وكذا . واختلف القائلون بهذا القول فقال الأصم : المرادُ مُنْكِرُو البعث فإنَّهم ينكرون الآخرة ويرغبون في سعادات الدُّنيا . وقيل : المراد المنافقون ، كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول - عليه الصلاة والسلام - الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة . وقال أنس - رضي الله عنه - : المرادُ اليهود والنَّصارى . وقال القاضي : المراد من كان يريدُ بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها . وعمل الخير قسمان : العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوان كالبر ، وصلة الرَّحمِ ، والصَّدقة ، وبناء القناطر ، وتسوية الطرق ، ودفع الشر ، وإجراء الأنهار ، فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافرُ لأجل الثناء في الدُّنيا ، فإنَّ بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين ، وهي من أعمال الخير ، فقد تصدرُ من المسلم والكافر . وأمَّا العباداتُ فإمَّا أن تكون طاعات بنيَّاتٍ مخصوصة ، فإذا لمْ يؤتَ بتلك النِّية ، وإنَّما أتى فاعلها بها طلباً لزينة الدنيا ، وتحصيل الرِّياء والسمعةِ ؛ فلا تكونُ طاعةً ووجودها كعدمها بل هو شر منها . وعلى هذا فالمرادُ منه الطَّاعات التي يصحُّ صدورها من الكفار . وقيل : الآية على ظاهرها في العموم ؛ فيندرج فيه المؤمنُ الذي يأتِي بالطَّاعات رياءً وسمعةً ويندرج فيه الكافرُ الذي هذا صفته . ويشكلُ على هذا قوله في آخر الآية { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ } إلاَّ إذا قلنا : إنَّ المراد : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار بسبب الأعمال الفاسدة ، والأفعال الباطلة . والقائلون بهذا القول أكَّدُوا قولهم بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " تعوَّذُوا بالله من جُبِّ الحُزْنِ " قيل : وما جُبُّ الحُزنِ ؟ قال : " وادٍ في جَهَنَّمَ يُلْقَى فيه القُرَّاء المُراءُونَ " . وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : " أشدُّ النَّاسِ عذاباً يوْمَ القيامةِ مَنْ يَرَى النَّاسُ فيه خَيْراً ولا خَيْرَ فِيهِ " . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كَانَ يَوْمَ القيامةِ يُؤتى برجُلٍ جَمَعَ القرآنَ فيقالُ : ما عَمِلْتَ فيه ؟ فيقولُ : يا رب قُمْتُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ ، والنَّهَارِ ، فيقُول الله - تبارك وتعالى - كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقالَ : فلانٌ قارىءٌ ، وقدْ قِيل ذلِكَ ، ويُؤتى بصاحبِ المَالِ فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ ألَمْ أوسِّعْ عليكَ ؟ فماذا عَمِلْتَ فيما آتَيْتُكَ ؟ فيقُولُ : وصَلْتُ الرَّحِمَ وتصدَّقْتُ ، فيقُولُ : كذَبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال فلانٌ جوادٌ ، وقد قِيلَ ذلك ، ويُؤتى بمن قُتِلَ في سبيل الله فيقول : قاتَلْتُ في سَبِيل اللهِ حتَّى قُتِلْتُ ، فيقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال : فلانٌ فارسٌ " . ثم ضربَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي وقال : " يا أبا هريرة أولئك الثَّلاثةُ أوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْم القِيامَةِ " . وقد روي أن أبا هريرة - رضي الله عنه - ذكر هذا الحديث عند معاوية - رضي الله عنه - . قال الراوي : فبكى حتَّى ظننا أنَّهُ هالك ثمَّ أفاق وقال : صدق الله ورسوله { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ هود : 15 ] . فصل نقل القرطبيُّ عن بعض العلماء : أنَّ معنى هذه الآية : هو قوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّما الأعمالُ بالنِّياتِ " ، وهذا يدلُّ على من صام في رمضان لا عن رضمان لا يقعُ عن رمضان ، وتدلُّ على أن من توضَّأ للتبرد والتنظف لا يقعُ عن جهة الصَّلاةِ ، وكذلك كل من كان في معناه . قوله : " نُوَفِّ " . الجمهور على " نُوفِّ " بنون العظمة وتشديد الفاء من " وفَّى يُوفِّي " . وطلحة وميمون بياءِ الغيبةِ ، وزيد بن علي كذلك ، إلاَّ أنَّه خفَّف الفاء من " أوْفَى يُوفِي " ، والفاعلُ في هاتين القراءتين ضميرُ الله تعالى . وقرئ " تُوفَّ " بضم التاء ، وفتح الفاء مشددة من " وُفِّيَ يُوَفَّى " مبنياً للمفعول . " أعْمَالهم " بالرَّفع قائماً مقام الفاعل . وانجزم " نُوَفِّ " على هذه القراءاتِ لكونه جواباً للشَّرطِ ، كما في قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] . وزعم الفرَّاء أنَّ " كان " هذه زائدة ، ولذلك جزم جوابه ، ولعلَّ هذا لا يصحُّ ، إذ لو كانت زائدة لكان " يُرِيدُ " هو الشَّرط ، ولو كان الشَّرط ، لانجزم ، فكان يقال : " مَنْ كَان يُرِدْ " وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بفعل الشَّرط ماضياً ، والجزاء مضارعاً إلاَّ مع " كان " خاصة ، ولهذا لم يجىء في القرآن إلا كذلك ، وهذا ليس بصحيح لوروده في غير " كان " ؛ قال زهير : [ الطويل ] @ 2947 - ومَنْ هَابَ أسْبابَ المنَايَا يَنَلْنَهُ ولو رَامَ أسبابَ السَّمَاءِ بسُلَّمِ @@ وأمَّا القرآنُ فجاء من باب الاتفاق لذلك . وقرأ الحسنُ " نُوفِي " بتخفيف الفاء وثبوتِ الياء من " أوْفَى " ، ثمَّ هذه القراءةُ محتملةٌ : لأن يكون الفعل مجزوماً ، وقُدِّر جزمه بحذفِ الحركةِ المقدرة ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 2948 - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيادِ @@ على أنَّ ذلك يأتي في السَّعةِ نحو : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } [ يوسف : 90 ] وسيأتي مُحَرَّراً في سورته ، ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً لوقوع الشَّرط ماضياً ؛ كقوله : [ الطويل ] . @ 2949 - وإنْ شُلَّ ريْعَانُ الجَميعِ مَخَافَةً نَقُولُ جِهَاراً : ويْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا @@ وكقول زهير : [ البسيط ] @ 2950 - وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ يقُولُ لا غَائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ @@ وهل يجوزُ الرفع ؛ لأنه على نيَّة التقديم ، وهو مذهب سيبويه ، أو على نيَّة الفاءِ ، كما هو مذهب المبرد ؛ خلافٌ مشهورٌ . ومعنى { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أي : نُوفِّ إليهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعةِ الرزق ودفع المكاره وما أشبهها . { وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } أي : في الدنيا لا ينقص حظهم . " روى أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف ومجد وكرم وبجل وعظم قال : " إنَّ الله لا يَظْلِمُ المؤمنَ حَسَنَةً يُثاب عليْهَا الرزقَ في الدُّنيا ، ويُجْزَى عليها فِي الآخِرةِ ، وأمَّا الكَافِرُ فيُطْعَمُ بِحسنَاتِهِ في الدُّنْيَا حتَّى إذا أفْضَى إلى الآخرةِ لمْ تَكُنْ لهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بها خَيْراً " . قوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } في الدنيا { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } هذه الآية إشارة إلى التَّخليد في النَّار ، والمؤمن لا يخلدُ ، لقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] . قوله : { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } يجوز أن يتعلَّق " فِيهَا " بـ " حَبِطَ " والضميرُ على هذا يعودُ على الآخرة ، أي وظهر حبوطُ ما صنعوا في الآخرة ، ويجوزُ أن يتعلَّق بـ " صَنَعُوا " فالضَّميرُ يعودُ على الحياةِ الدُّنيا كما عاد عليها في قوله : { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ هود : 15 ] . و " ما " في " مَا صَنَعُوا " يجوز أن تكون بمعنى الذي ، فالعائدُ محذوفٌ ، أي : الذي صنعوه ، وأن تكون مصدرية ، أي : وحبط صنعهم . قوله : { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قرأ الجمهورُ برفع الباطل ، وفيه ثلاثةُ أوجه : أحدها : أن يكون " بَاطِلٌ " خبراً مقدماً ، و " مَا كانُوا يَعْمَلُون " مبتدأ مؤخَّر ، و " ما " تحتملُ أن تكون مصدرية ، أي : وباطلٌ كونهم عاملين ، وأن تكون بمعنى " الذي " والعائدُ محذوفٌ ، أي : يعملونه ، وهذا على أنَّ الكلام من عطف الجملِ ، عطف هذه الجملة على ما قبلها . الثاني : أن يكون " باطلٌ " مبتدأ ، و " مَا كانُوا يَعْمَلُون " خبرهُ ، قال مكي ، ولم يذكر غيره ، وفيه نظر . الثالث : أن يكون " بَاطِلٌ " عطفاً على الأخبار قبله ، أي : أولئك باطلٌ ما كانوا يعملون و " ما كانُوا يَعْمَلُونَ " فاعلٌ بـ " بَاطِلٌ " ، ويرجح هذا ما قرأ به زيد بن علي " وبَطَلَ ما كانُوا يَعملُونَ " جعله فعلاً ماضياً معطوفاً على " حَبطَ " . وقرأ أبيّ وابن مسعود : " وبَاطلاً " . قال مكيّ : " وهي في مصحفهما كذلك " . ونقلها الزمخشري عن عاصم " وبَاطِلاً " نصباً ، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها : أنَّه منصوبٌ بـ " يَعْمَلُون " و " ما " مزيدة ، وإلى هذا ذهب مكي ، وأبو البقاءِ وصاحب اللوامح ، وفيه تقديمُ معمولِ خبر " كان " على " كان " وهي مسألةُ خلافٍ ، والصحيحُ جوازها ، كقوله تعالى { أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] ، فالظاهرُ أنَّ " إيَّاكُمْ " منصوب بـ " يَعْبُدُون " . والثاني : أن تكون " ما " إبهامية ، وتنتصب بـ " يَعْمَلُون " ومعناه : " باطلاً أي باطلٍ كانُوا يَعْمَلُون " . والثالث : أن يكون " بَاطِلاً " بمعنى المصدر على بطل بُطلاناً ما كانوا يعملون ، ذكر هذين الوجهين الزمخشري ، ومعنى قوله " ما " إبهامية أنها هنا صفةٌ للنَّكرة قبلها ، ولذلك قدَّرها بـ " باطلاً أيَّ باطلٍ " فهو كقوله : [ المديد ] @ 2951 - … وحَديثٌ ما عَلَى قِصَرِهْ @@ و " لأمرٍ ما جدعَ قصيرٌ أنفهُ " ، وقد قدَّم هو ذلك في قوله تعالى : { مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } [ البقرة : 26 ] .