Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 9-14)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } الآية . لما ذكر أنَّ عذاب الكُفَّار وإن تأخَّر لا بد أن يحيق بهم ، ذكر بعدهُ ما يدلُّ على كفرهم ، وعلى كونهم مستحقين لهذا العذاب ، فقال : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ } . وقيل : المراد منه مطلق الإنسان ؛ لأنَّه استثنى { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } ؛ ولأنه موافق لقوله تعالى : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ العصر : 2 ، 3 ] { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } [ المعارج : 19 ] ولأنَّ مزاج الإنسان مجبولٌ على الضَّعف والعجز . قال ابنُ جريج في تفسير هذه الآية : يا ابنَ آدم إذا نزلت بك نعمةٌ من الله ، فأنت كفورٌ ، وإذا نزعت منك فيئوسٌ قنوط . وقيل : المرادُ به الكافر ؛ لأنَّ الأصل في المفرد المعرف بالألف واللاَّم أن يعود على المعهود السَّابق إلاَّ أن يمنع مانع منه ، وههنا لا مانع ؛ فوجب حمله على المعهود السابق ، وهو الكافر المذكور في الآية المتقدمة . وأيضاً فالصِّفاتُ المذكورة في الإنسان هنا لا تليقُ إلاَّ بالكافر ؛ لأنَّهُ وصفهُ بكونه كفوراً ، وهو تصريح بالكفر ، ووصفه عند وجدان الراحة بقوله : { ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ } وذلك جراءة على الله تعالى ، ووصفه بكونه فرحاً { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } [ القصص : 76 ] وصفه بكونه فخوراً ، وذلك ليس من صفات أهل الدِّين . وإذا كان كذلك ؛ وجب حمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع . واعلم أنَّ لفظ " الإذَاقة والذَّوق " يفيدُ أقل ما يوجدُ من الطَّعم ، فكان المراد أنَّ الإنسان بوجدان أقل القليل من الخير في العاجلة يقعُ في الكفر والطُّغيان وبإدراك أقل القليل من البلاءِ يقع في اليأس والقنوط ، قال تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } نعمة وسعة { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } سلبناها منه { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } في الشِّدة كفور بالنعمة . { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ } قال الوَاحديُّ : النَّعْمَاء إنعام يظهر أثرهُ على صاحبه ، والضَّرَّاءُ مضرَّةٌ يظهر أثرها على صاحبها ؛ لأنَّها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو : حمراء وسوداء ، وهذا هو الفرق بين النِّعمةِ والنَّعماء ، والمضرة والضَّراء . والمعنى : إذا أذقناه نعمة بعد بلاء أصابه : " ليقُولنَّ ذهبَ السيِّئاتَ عنِّي " زالت الشَّدائدُ عنِّي ، إنَّهُ لفرحٌ فخورٌ أشر بطر ، والفرح : لذَّة في القلب بنيل المشتهى . والفخرُ : هو التطاول على الناس بتعديد المناقب ، وذلك منهيٌّ عنه . فصل اعلم أنَّ أحوال الدنيا أبداً في التَّغير والزَّوال ، والتحوُّل والانتقال ، فإمَّا أن يتحوَّل الإنسانُ من النِّعمة إلى المِحْنةِ أو العكس . فأمَّا الأوَّلُ : فهو المراد بقوله عز وجل : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [ هود : 9 ] أي أنه حال زوال تلك النعمة يصير يَئُوساً ؛ لأنَّ الكافر يعتقدُ أنَّ السبب في حصول تلك النِّعمة سببٌ اتفاقي ، ثُمَّ إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى ، فلا جرم يستبعد تلك النعمة فيقع في اليأسِ . وأمَّا المسلمُ ، فيعتقد أنَّ تلك النِّعمة إنَّما حصلت من فضل الله وإحسانه ، فلا ييأس ، بل يقول لعلَّه يؤخِّرها إلى ما هو أحسن ، وأكمل ممَّا كانت ، وأمَّا الإنسان يكونُ كفوراً حال تلك النعمة ، فإنَّ الكافر لمَّا اعتقد أنَّ حصولها كان على سبيل الاتفاق ، أو أنَّهُ حصلها بجدِّه واجتهاده ، فحينئذٍ لا يشتغل بشكرِ الله على تلك النِّعمة والمسلم يشكر الله تعالى . والحاصلُ أنَّ الكافر يكون عند زوال النِّعمة يئوساً وعند حصولها كفوراً . وأمَّا انتقال الإنسان من المحنة إلى النِّعمة ، فالكافرُ يكون فرحاً فخوراً ؛ لأنَّ منتهى طبع الكافر هو الفوزُ بهذه السَّعادات الدُّنيوية ، وهو منكرٌ للسعادات الأخرويَّة . قوله : " لفرحٌ " قرأ الجمهو بكسر الرَّاءِ ، وهو قياسُ اسم الفاعل من " فَعِلَ " اللاَّزم بكسر العين نحو : أشِرَ فهو أشِرٌ ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ ، وقرئ شاذاً " لَفَرُحٌ " بضمِّ الرَّاء نحو : يَقِظٌ ويَقُظٌ ، وندِس وندُس . قوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل ، إذا المرادُ به جنس الإنسان لا واحدٌ بعينه . والثاني : أنَّهُ منقطعٌ ، إذ المراد بالإنسان شخصٌ معينٌ ، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحلِّ . والثالث : أنه مبتدأ ، والخبر الجملة من قوله : { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } وهو منقطعٌ أيضاً . والمعنى : أنَّ هؤلاء لا يكُونُون عند البلاء من الصَّابرين وعند الرَّاحةِ والخير من الشَّاكرين . قال الفراء : هو استثناءٌ منقطع معناه : لكن الذين صبروا وعملوا الصَّالحات ؛ فإنَّهم إن يأتهم شدة صبروا ، وإن نالوا نعمة شكروا . ثم قال : { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } يجوزُ أن يكون " مَغْفِرةٌ " مبتدأ ، و " لهُم " الخبرُ ، والجملة خبر " أولئكَ " ، ويجوز أن يكون " لَهُم " خبر " أولئكَ " و " مَغْفِرَةٌ " فاعلٌ بالاستقرار . فجمع لهم بين شيئين : أحدهما : زوال العقاب بقوله : " لَهُم مَغْفرةٌ " والثاني : الفوز بالثَّواب بقوله " وأجْرٌ كبيرٌ " . قوله : " فَلَعَلَّكَ " الأحسنُ أن تكون على بابها من التَّرجِّي بالنسبة إلى المخاطب . وقيل : هي للاستفهام كقوله - صلوات الله وسلامه عليه - " لعلَّنا أعْجلنَاكَ " . فإن قيل : " فَلعَلَّك " كلمة شك فما فائدتها ؟ . فالجوابُ : أنَّ المراد منها الزَّجرُ ، والعرب تقول للرجلُ إذا أرادوا إبعاده عن أمر : لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنَّهُ لا شك فيه ، ويقول لولده : لعلك تقصر فيما أمرتك ، ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك . وقوله : " وضَائِقٌ " نسقٌ على " تَاركٌ " ، وعدل عن " ضيِّق " وإن كان أكثر من " ضائق " . قال الزمخشريُّ : ليدُلَّ على أنَّهُ ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابتٍ ، ومثله سيدِّ وجواد - تريد السِّيادة والجود الثَّابتين المستقرين - فإذا أردت الحدوث قلت : سائِدٌ وجائدٌ . قال أبُو حيَّان : وليس هذا الحكمُ مختصّاً بهذه الألفاظ ؛ بل كلُّ ما بني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول : حَاسِن وثَاقِل وسامِن في : " حَسُن وثقُلَ وسمُن " ؛ وأنشد قول الشاعر : [ الطويل ] @ 2946 - بمَنْزِلَةٍ أمَّا اللَّئِيمُ فسَامِنٌ بهَا وكرامُ النَّاسِ بادٍ شُحُوبُهَا @@ وقيل : إنَّما عدل عن " ضيِّق " إلى " ضَائِقٌ " ليناسب وزن " تَارِكٌ " . والهاءُ في " به " تعود على " بعض " . وقيل : على " ما " . وقيل : على التَّكذيب و " صَدْرُكَ " مبتدأ مؤخَّرٌ ، والجملةُ خبرٌ عن الكاف في " لعَلَّكَ " ؛ فيكون قد أخبر بخبرين : أحدهما : مفرد ، والثاني : جملة عطفت على مفردٍ ، إذ هي بمعناه ، فهو نظير : " إنَّ زيداً قائمٌ ، وأبوه منطلقٌ " . قوله : " أن يقُولُوا " في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في " أنَّ " بعد حذف حرف الجرِّ أو المضاف ، تقديره : كراهة أو مخافة أن يقولوا ، أو لئلاَّ يقولوا ، أو بأن يقولوا . وقال أبو البقاء : لأن يقُولُوا أي : لأن قالوا ، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه ، وكيف يُدَّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٌّ في الاستقبال وهو الناصب ؟ . و " لَوْلاَ " تحضيضيةٌ ، وجملة التَّحضيض منصوبةٌ بالقول . فصل المعنى : فلعلَّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ، فلا تبلغة إيَّاهم ، وذلك أن كفار مكة قالوا : ائتِ بقرآن غير هذا ، ليس فيه سب آلهتنا ، فهمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم - أن يدع آلهتهم ظاهراً ؛ فأنزل الله تعالى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ } يعنى سب الآلهة : { وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } أي : ولعلَّ يضيق صدرك { أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ } يصدِّقه ، قاله عبد الله بنُ أميَّة المخزُومي . وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ رؤساء مكَّة قالوا : يا محمد : اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً ، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك ، فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية . وأجمع المسلمون على أنَّهُ لا يجوزُ على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يخُون في الوَحْي والتبليغ ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه ؛ لأنَّ تجويزه يُؤدِّي إلى الشَّك في كل الشرائع وذلك يقدحُ في النبوةِ ، وأيضاً فالمقصودُ من الرِّسالة تبليغ التكاليف ، والأحكام ، فإنه لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها . وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المرادُ من قوله : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ } شيئاً آخر سوى أنه فعل ذلك . وذكروا فيها وجوهاً أخر ، قيل : إنَّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به ، فكان يضيق صدر الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فأهله الله لأداء الرِّسالة ، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة ، وترك الالتفات إلى استهزائهم ، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدَّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم ، وإن لم يُؤد ذلك وقع في ترك وحي الله - تعالى - وفي إيقاع الخيانةِ ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضَّررين ؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وَحْي الله ، والغرض من ذكر هذا الكلام : التنبيهُ على هذه الدقيقة ؛ لأنَّ الإنسان إذا علم أنَّ كلَّ واحدٍ من طرفي الفعل والترك مشتملٌ على ضررٍ عظيم ، على أنَّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف . فإن قيل : الكنز كيف ينزل ؟ فالجواب : أنَّ المراد ما يكنز ، وجرت العادة على أنَّ المال الكثير يسمَّى كنزاً ، فقال القومُ : إن كنت صادقاً في أنَّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلِّ شيء وأنك عزيزٌ عنده فهلاَّ أنزل عليك ما تستغني به في مهماتك وتعين أنصارك ، وإن كنت صادقاً فهلاَّ أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك ، ويعينك على تحصيل مقصودك وتزول الشبهة في أمرك ، فلمَّا لم يفعل لك ذلك فأنت غير صادقٍ ، فبيَّن الله تعالى أنَّهُ رسول ينذر بالعقاب ويبشر بالثَّواب وليس له قدرة على إيجاد هذه المطلوبات ، والذي أرسله هو القادرُ على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، ولا اعتراض لأحدٍ عليه . ومعنى " وكيلٌ " : حفيظ أي : يحفظُ عليهم أعمالهم ، حتى يجازيهم بها ، ونظير هذه الآية ، قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ] . قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] . لمَّا طلبوا منه المعجز قال : معجزتي هذا القرآن ، فلمَّا حصل المعجز الواحد كان طلب الزِّيادة بغياً وجهلاً . و في " أمْ " هذه وجهان : أحدهما : أنها منقطعةٌ فتقدَّر بـ " بَلْ " والهمزة ، فالتقدير : بل أتقولون افتراه . والضمير في " افتراهُ " لما يوحى . والثاني : أنَّها متصلة ، فقدَّروها بمعنى : أيكفرون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنَّهُ ليس من عند الله ؟ قوله " مِثْلِهِ " نعت لـ " سُورٍ " و " مثل " وإن كانت بلفظ الإفراد فإنه يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث ، كقوله تعالى : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } [ المؤمنون : 74 ] ويجوز المطابقة . قال تعالى : { وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ } [ الواقعة : 22 ، 23 ] وقال تعالى : { ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] . قال ابن الخطيب : " مِثلِهِ " بمعنى " مثاله " حملاً على كُلِّ واحدة من تلك السور ، ولا يبعد أيضاً أن يكون المرادُ المجموع ؛ لأنَّ مجموع السور العشرة شيء واحد . والهاء في " مِثْلِهِ " تعود لما يوحى أيضاً ، و " مُفْترياتٍ " صفة لـ " سُورٍ " جمع " مُفْتراة " كـ " مُصْطفيَات " في " مُصْطَفاة " فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية . فصل قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - هذه السور التي وقع بها التَّحدي سور معينة ، هي سورة البقرة وآل عمران والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس وهود ، فقوله عز وجل : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } الإشارة إلى هذه السور وهذا فيه إشكال ، لأنَّ هذه السُّورة مكية ، وبعض السُّور المتقدمة مدنية ، فكيف يمكنُ أن يكون المراد هذه العشر عند نزول هذا الكلام ؟ فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور . فإن قيل : قد قال في سورة يونس { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] وقد عجزوا عنهُ . فكيف قال { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ } فهو كرجل يقول لآخر : أعطني درهماً ؛ فيعجز ، فيقول : أعطني عشرة ؟ . فالجوابُ : قد قيل : نزلت سورة هودٍ أولاً ، وأنكر المبردُ هذا وقال : بل سورة يونس أولاً ، وقال : ومعنى قوله في سورة يونس : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] أي : مثله في الإخبار عن الغيب ، والأحكام ، والوعد والوعيد ، فعجزوا ، فقال لهم في سورة هودٍ : إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الإخبار ، والأحكام ، والوعد ، والوعيد ( فأتوا بعشر سور مثله ) من غير وعْدٍ ووعيدٍ ، وإنما هي مجرد بلاغة . فصل اختلفوا في الوجه الذي كان القرآن لأجله معجزاً ، فقيل : هو الفصاحةُ وقيل : الأسلوب ، وقيل : عدم التناقض ، وقيل : اشتمالهُ على الإخبار عن الغيوبِ ، والمختار عند الأكثرين أن القرآن معجز من جهة الفصاحة ، واستدلُّوا بهذه الآية ، لأنَّهُ لو كان إعجازه هو كثرة العلوم ، أو الإخبار عن الغيوب ، أو عدم التناقض لم يكن لقوله : " مفترياتٍ " معنى ، أمَّا إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صحَّ ذلك ؛ لأنَّ فصاحة الفصيح تظهر بالكلام ، سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً ، ثم إنه لمَّا قرر وجه التحدِّي قال : { وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ } واستعينوا بمن استطعتم " من دُون الله إن كنتم صادقينَ فإن لمْ يستجيبُوا لكُم " يا أصحاب محمد ، وقيل : لفظه جمع والمراد به الرسول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه وحده - والمرادُ بقوله : { فَإِن لمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } أي : الكفار ، يحتمل أنَّ من يدعونه من دون الله لمْ يَسْتَجِيبُوا . قوله : { فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أُنزِلِ } " ما " يجوز أن تكون كافة مهيئة ، وفي " أنزِلَ " ضميرٌ يعودُ على { مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ } [ هود : 12 ] ، و " بعلْم " حال أي : ملتبساً بعلمه ، ويجوز أن تكون موصولة اسمية أو حرفية اسماً لـ " أنّ " والخبرُ الجارُّ تقديره : فاعلموا أن تنزيله ، أو أن الذي أنزل ملتبسٌ بعلمٍ . وقرأ زيد بن علي " نزَّل " بفتح النون والزاي المشددة ، وفاعل " نزَّل " ضميرُ الله تعالى ، و { وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } نسقٌ على " أنَّ " قبلها ، ولكن هذه مخففةٌ فاسمها محذوفٌ ، وجملة النَّفي خبرها . فصل إن قلنا هذا خطاب للمؤمنين ، فالمعنى : ابقوا على العلم الذي أنتم عليه ؛ لتزدادوا يقيناً وثبات قدمٍ ، على أنه منزَّل من عند الله . وقوله : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } أي : مخلصون ، وقيل : فيه إضمار ، أي : فقولوا أيُّها المسلمون للكفار : اعلموا أنَّما أنزل بعلم الله ، يعني القرآن . وقيل : أنزله ، وفيه علمه ، وإن قيل : إن هذا الخطاب مع الكفار ، فالمعنى : إن الذين تدعونهم من دون الله ، إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة ، فاعلموا أيها الكفار ؛ أن هذا القرآن ، إنما أنزل بعلمه ، فهل أنتم مسلمون ، فقد وقعت الحجة عليكم ، وأن لا إله إلا هو ، فاعلموا أنَّهُ لا إله إلا هُو . { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } لفظهُ استفهام ، ومعناه أمر ، أي : أسلموا . قال بعض المفسِّرين : وهذا القول أولى ؛ لأن القول الأول يحتاج فيه إلى إضمار القول ، وهذا لا يحتاج إلى إضمار ، وأيضاً : فعود الضمير إلى أقرب مذكور أولى ، وأيضاً : فالخطابُ الأول كان مع الكفار بقوله : { مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ } ، وأيضاً فالأول أمر بالثبات . فإن قيل : أين يعلَّق الشرط المذكور في هذه الآية ، وأين ما فيها من الجزاء ؟ فالجواب : أن القوم ادعوا كون القرآن مفترًى على الله تعالى ، فقال : لو كان مفترًى على الله تعالى ، لوجب أن يقدر الخلقُ على مثله ، ولما لم يقدروا عليه ، ثبت أنَّهُ من الله ، فقوله ( إنما أنزل بعلم الله ) : كنايةٌ عن كونه من عند الله ، ومن قبله ؛ كما يقول الحاكم : هذا الحكم جدير بعلمي . فإن قيل : أي تعلُّق لقوله : { وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } بعجزهم عن المعارضة ؟ . فالجواب من وجهين : أحدهما : أنه تعالى لمَّا أمر محمداً - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - بأن يطلب من الكفار ان يستعينوا بالأصنامِ في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنَّها لا تنفعُ ولا تضرُّ في شيءٍ من المطالب ألبتة ، ومن كان كذلك ، فقد بطلت إلهيته ، فصار عجزُ القوم عن المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام ، ودليلاً على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم ، فكان قوله : { وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } إشارة إلى ظهور فسادِ إلاهيَّة الأصنام . وثانيها : أنَّهُ ثبت في علم الأصول أنَّ القول بنفي الشَّريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباتها بقول الرَّسُول - صلوات الله وسلامه عليه - فكأنَّهُ قيل : لمَّا ثبت عجزُ الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً ، وثبت كون قول محمد صدقاً في دعوى الرِّسالةِ . وإذا ثبت ذلك فأعلمهم يا محمد أن لا إله إلا هو ، واتركُوا الإصرار على الكفر ، واقبلوا الإسلام . ونظيره قوله تعالى - في سورة البقرة عند ذكر آية التحدِّي - { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 24 ] .