Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 17-23)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } الآية . وتقدير تعلقهما بما قبلها : ( أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها ) . وقوله : { أفمن كان على بينة } فيه وجهان : أحدهما : أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ ، تقديره : أفمن كان على هذه الأشياء كغيره ، كذا قدَّرهُ أبو البقاءِ ، وأحسن منه ( أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها ) وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة كثيرٌ نحو : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ } [ فاطر : 8 ] ، { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } [ الزمر : 9 ] إلى غير ذلك ، وهذا الاستفهام بمعنى التقرير . الثاني : - وإليه نحا الزمخشري - أن هذا معطوفٌ على شيءٍ محذوفٍ قبله ، تقديره : " أمن كان يريد الحياة الدنيا ، وزينتها كمن كان على بينةٍ " ، أي : لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم . يريد : أن بين الفريقين تفاوتاً ، والمراد من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام ، وهذا على قاعدته من تقديره معطوفاً بين همزة الاستفهام ، وحرفِ العطفِ ، وهو مبتدأ أيضاً ، والخبر محذوفٌ كما تقدم تقريره . قوله : " ويَتْلُوهُ " اختلفوا في هذه الضمائر ، أعني في " يَتْلوهُ " ، وفي " مِنْهُ " ، وفي " قَبْلِهِ " : فقيل : الهاء في " يَتْلُوهُ " تعودُ على " مَنْ " ، والمراد به النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الضميران في " مِنْهُ " ، و " قَبلهِ " ، والمراد بالشَّاهد لسانه صلى الله عليه وسلم والتقدير : ويتلو ذلك الذي على بيِّنةٍ ، أي : ويتلو محمَّداً - أي : صِدْقَ محمدٍ - لسانه " ومِنْ قَبْلِهِ " أي : قبل محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : الشَّاهدُ جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - والضميرُ في " مِنْهُ " لله - تعالى - ، وفي قبله للنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : الشَّاهدُ الإنجيلُ ، و " كِتابُ مُوسَى " - عليه الصلاة والسلام - عطف على " شاهدٌ " ، والمعنى : أنَّ التوراة والإنجيل يتلُوان محمداً في التَّصديق ، وقد فصل بين حرف العطف والمعطوف بقوله : " مِنْ قَبْلِهِ " ، والتقدير : شاهدٌ منهُ ، وكتابُ موسى من قبله ، وقد تقدَّم الكلامُ على الفصلِ بين حرفِ العطفِ ، والمعطوفِ مُشْبَعاً في النِّساءِ [ 58 ] . وقيل : الضميرُ في " يتْلوهُ " للقرآن ، وفي " مِنْهُ " لمحمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - . وقيل : لجبريل ، والتقدير : ويتلو القرآن شاهدٌ من محمدٍ ، وهو لسانهُ ، أو من جبريل والهاء في " مِنْ قبلِهِ " أيضاً للقرآن . وقيل الهاءُ في " يَتْلُوهُ " تعودُ على البيانِ المدلولِ عليه بالبيِّنة . وقيل : المرادُ بالشَّاهدِ إعجازُ القرآنِ ، فالضَّمائر الثلاثة للقرآن . وقيل غير ذلك . وقرأ محمد بن السَّائب الكلبي " كِتابَ مُوسَى " بالنَّصْب وفيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ معطوفٌ على الهاءِ في " يَتْلوهُ " ، أي : يتلوه ، ويتلو كتابَ مُوسَى ، وفصل بالجارِّ بين العاطفِ والمعطوف . والثاني : أنَّهُ منصوبٌ بإضمار فعلٍ . قال أبُو البقاء : " وقد تمَّ الكلامُ عند قوله " منهُ " و " كتابُ مُوسَى " ، أي : " ويتلُو كتابَ مُوسَى " فقدَّر فعلاً مثل الملفُوظ به ، وكأَنَّهُ لَمْ يَرَ الفصل بين العاطف والمعطوف ، فلذلك قدَّر فعلاً " . و " إماماً ورحمةً " منصوبان على الحالِ من " كِتابُ مُوسَى " سواءً أقرىء رفعاً أم نَصْباً . و " أولئك " إشارةٌ إلى مَنْ كان على بيِّنة ، جمع على معناها ، وهذا إن أريد بـ " مَنْ كَانَ " النبيُّ وصحابته - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه ، ورضي عن صحابته أجمعين - وإن أريد هو وحدهُ فيجوزُ أن يكون عظَّمَهُ بإشارة الجمع كقوله : [ الطويل ] @ 2952 - فإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ … @@ والهاءُ في " بِهِ " يجوزُ أن تعود على " كِتَابُ مُوسَى " وهو أقربُ مذكورِ . وقيل : بالقرآن ، وقيل : بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الهاء في " بِهِ " الثانية . و " الأحْزَابُ " الجماعةُ التي فيها غلظةٌ ، كأنَّهم لكثرتهم وصفوا بذلك ، وفيه وصفُ حمار الوحش بـ " حَزَابِيَة " لغلظه . والأحزابُ جمع حِزب وهو جماعة النَّاس . فصل قيل : في الآية حذف ، والتقدير : " أفمن كان على بيَّنةٍ من ربِّهِ كمن يريدُ الحياة الدنيا وزينتها " ، أو من كان على بيِّنةٍ من ربه كمن هو في الضَّلالةِ . والمرادُ بالذي هو عليه بيِّنةٍ : النبي - صلوات الله وسلامه عليه - . { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } أي : يتبعه من يشهد له بصدقه . واختلفوا في هذا الشَّاهد : فقال ابنُ عبَّاسٍ ، وعلقمة ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك وأكثرُ المفسِّرين - رضي الله عنهم - : إنَّه جبريل - عليه الصلاة والسلام - وقال الحسنُ وقتادةُ : هو لسانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى ابنُ جريج عن مجاهدٍ قال : هو ملك يحفظه ويسدده . وقال الحسينُ بن ُ الفضلِ : هو القرآن ونظمه . وقيل : هو عليّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال علي : " مَا مِنْ رجُلٍ من قريش إلاَّ ونزلت فيه آية من القرآن " ، فقال له رجلٌ : " أي شيء نزل فيك " ؟ قال : " ويَتْلُوهُ شاهدٌ مِنْهُ " . وقيل : هو الإنجيلُ . و " مِنْ قَبْلِهِ " أي : من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : من قبل نزول القرآن . { كِتَابُ مُوسَىٰ } أي : كان كتاب موسى { إَمَاماً وَرَحْمَةً } لمن اتَّبعهُ ، أي التَّوراة ، وهي مصدقةٌ للقرآن ، شاهدةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : أراد الذين أسْلَمُوا من أهل الكتاب . { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ } أي : بمحمَّد صلى الله عليه وسلم . وقيل بالقرآن " مِنَ الأحزابِ " من الكفَّار وأهْلِ المللِ ، { فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ } اسمُ مكانِ وعده ؛ قال حسَّانُ : [ البسيط ] @ 2953 - أوْرَدْتُمُوهَا حِيَاضَ المَوْتِ ضَاحِيَةً فالنَّارُ مَوْعِدُهَا والمَوْتُ سَاقِيهَا @@ قال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ لا يسمعُ بي أحدٌ من هَذِهِ الأمَّة ، ولا يَهُودِيّ ولا نَصْرانيّ ، ومات ولَمْ يؤمنْ بالَّذِي أرْسِلْتُ به إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحابِ النَّارِ " . { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ } أي : شكٍّ ، و " المِرْيَة " بكسر الميم وضمِّها الشكُّ ، لغتان : أشهرهما الكسرُ ، وهي لغة أهْلِ الحجازِ ، وبها قرأ الجمهور . والضَّمُّ لغةُ وتميم ، وبها قرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السَّدُوسي . والمعنى : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } أي : من صحَّة هذا الدِّين ، ومن كون هذا القرآن نازِلاً من عند الله - تعالى - . وقيل : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ } من أنَّ موعد الكفار النَّارُ . قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } الآية . أورده في معرض المبالغة دليلاً على أنَّ الافتراء على الله - تعالى - أعظمُ أنواع الظُّلْمِ . { أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } [ الأنعام : 21 ] يعنى : القرآن ، " أولَئِكَ " يعنى : الكاذبين والمكذبين . { يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } فيسألهم عن إيمانهم ، وخصَّهم بهذا العرض ، وإن كان العرضُ عاماً في كُلِّ العباد لقوله تعالى : { وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً } [ الكهف : 48 ] ؛ لأنهم يعرضون ، فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم : { هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } فليحقهم من الخزي والنَّكالِ ما لا مزيد عليه . و " الأشهادُ " جمعُ شاهد ، كصاحب وأصحاب ، أو جَمْعُ شهيد كشريف وأشْراف . والمرادُ بـ " الأشهادِ " قال مجاهدٌ هم الملائكة الحفظة . وقال قتادةُ ، ومقاتلٌ : " الأشْهَادُ " النَّاس . وقيل : الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - . فإن قيل : إذا لمْ يجز أن يكون الله - تعالى - في مكان ؛ فكيف قال { يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } فالجوابُ : أنَّهُم يُعْرضُونَ على الأماكنِ المعدَّة للحساب ، والسؤال ، ويجُوزُ أن يعرضوا على من شاء الله من الخلقِ بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين . ثُمَّ لمَّا أخبر عن حالهم في عقاب القيامة أخبر أنَّهُم في الحال ملعونون عند الله - عزَّ وجلَّ - . روى عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الله - تعالى - يُدْنِي المُؤمنَ يَوْمَ القيامةِ فيسْتُرهُ مِنَ النَّاسِ ، فيقُولُ : أي عَبْدِي أتعرفُ ذَنْبَ كذا وكذا ؟ فيقول : نَعَمْ حتّى إذا قرَّرهُ بذُنُوبهِ ، قال : فإنِّي سترتُها عليْكَ في الدنيا ، وقد غفرتها لك اليوم ثُمَّ يُعْطَى كتابَ حسناتهِ ، وأمَّا الكُفَّار والمُنافقُون ، فيقُولُ الأشْهَادُ : هؤلاء الذين كذبُوا على ربِّهمْ ألا لَعْنَةُ الله على الظَّالمينَ " . { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } يمنعون عن دين الله { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي : إنَّهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر ، والضَّلال ، فقد أضافُوا إليه المنع من الدِّين الحق ، وإلقاءِ الشُّبهِ وتعويج الدَّلائلِ المستقيمة ؛ لأنه لا يقال في العاصي : يبغي عوجاً ، وإنما يقالُ ذلك في العالم بكيفية الاستقامة وكيفية العوج بسبب إلقاء الشُّبهاتِ . ثم قال : { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } . قال الزَّجَّاجُ : " كرر كلمة " هُمْ " توكيداً لشأنهم في الكُفْرِ " . { أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ } . قال الواحديُّ : " معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد ، يقال : أعجزني فلانٌ : أي : منعني من مرادي ، ومعنى { مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } أي : لا يمكنهم أن يهربُوا من عذابنا ، فإنَّ هربَ العبدِ من عذابِ الله - تعالى - محالٌ ؛ لأنَّه - تعالى - قادرٌ على جميع الممكنات " . وقال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - " سَابقين " . وقال مقاتلٌ : " فائتين " . { فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } يعني أنْصَاراً يحفظونهم من عذابنا . { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ } أي : يُزادُ في عذابهم . وقيل : تضعيف العذاب عليهم لإضلالهم الغير . وقيل سبب تضعيف عذابهم أنَّهُم كفروا بالبَعْثِ والنشور . قوله : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ } يجوز في " ما " هذه ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أن تكون نافيةً ، نفى عنهم ذلك لمَّا لمْ يَنْتَفعُوا به ، وإن كانُوا ذوي أسماع وأبصار ، أو يكون متعلَّقُ السَّمْعِ والبصر شيئاً خاصاً . والثاني : أن تكون مصدرية ، وفيها حينئذٍ تأويلان : أحدهما : أنَّها قائمةٌ مقام الظرف ، أي : مُدة استطاعتهم ، وتكونُ " مَا " منصوبة بـ " يُضاعَفُ " ، أي : لا يضاعفُ لهم العذابُ مُدة استطاعتهم السَّمْعَ والأبصار . والثاني : أنَّها منصوبة المحلِّ على إسقاطِ حرف الجر كما يحذف من " أنْ " و " أنّ " أختيها ، وإليه ذهب الفرَّاءُ ، وذلك الجَارُّ متعلقٌ أيضاً بـ " يُضَاعَفُ " أي : يضاعفُ لهم بكونهم كانوا يسمعون ، ويبصرون ، ولا ينتفعون . والثالث : أن تكون " ما " بمعنى " الَّذي " ، وتكون على حذف حرف الجر أيضاً ، أي : بالذي كانوا ، وفيه بعدٌ لأنَّ حذف الحرفِ لا يطَّرد . والجملة من قوله : " يُضاعَفُ " مستأنفة . وقيل : إنَّ الضمير في قوله " مَا كَانُوا " يعودُ على " أوْليَاء " وهم آلهتهم ، أي : فما كان لهم في الحقيقةِ من أولياء ، وإن كانُوا يعتقدون أنَّهم أولياء ، فعلى هذا يكون { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ } معترضاً . فصل احتجُّوا بهذه الآية على أنه سبحانه وتعالى قد يخلقُ في المكلف ما يمنعه من الإيمان . روي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّهُ قال : إنَّه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وفي الآخرة . أمَّا في الدنيا ففي قوله { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } . وأمَّا في الآخرة ففي قوله - عز وجل - { وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } [ القلم : 42 ] . ثم قال تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } أي : أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله ، فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران . { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام . قوله : " لا جَرَمَ " في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين ، ويتلخصُ ذلك في خمسة أوجهٍ : أحدها - وهو مذهبُ الخليل وسيبويه وجماهير النَّاس - أنََهُما رُكِّبتا من " لا " النَّافية و " جَرَم " وبُنيتَا على تركيبها تركيب خمسة عشر ، وصار معناهما معنى فعل وهو " حقَّ " فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعليَّة ، فقوله - تعالى - : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ } [ النحل : 62 ] أي : حق وثبت كون النَّار لهم ، أو استقرارها لهم . الوجه الثاني : أنَّ " لا جَرَمَ " بمنزلة " لا رجُل " في كون " لا " نافية للجنس ، و " جَرَمَ " اسمها مبنيٌّ معها على الفتح ، وهي واسمها في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وما بعدها خبر " لا " النافية ، وصار معناها : لا محالة ولا بُدَّ ، قاله الفرَّاءُ . الثالث : - كالذي قبله - إلاَّ أنَّ " أنَّ " وما بعدها في محلِّ نصبٍ ، أو جرٍّ بعد حذف الجار ، إذ التقدير : لا محالةَ أنَّهُم في الآخرة ، أي : في خسرانهم . الرابع : أنَّ " لا " نافيةٌ لكلام متقدم تكلَّم به الكفرةُ ، فردَّ الله ذلك عليهم بقوله : " لا " كما تُرَدُّ " لا " هذه قبل القسم في قوله - عزَّ وجلَّ - { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } [ البلد : 1 ] وقوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 65 ] وقد تقدَّم تحقيقه ، ثم أتى بعدها بجملة فعلية ، وهي " جرم أنَّ لهُم كَذَا " ، و " جرم " فعل ماضٍ معناه " كسب " ، وفاعله مستتر يعودُ على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام ، و " أنَّ " وما في حيِّزها في موضع المفعول به ، لأنَّ " جَرَمَ " يتعدَّى إذْ هو بمعنى " كَسَبَ " ؛ قال الشاعر : [ الوافر ] @ 2954 - نَصَبْنَا رَأْسَهُ فِي جِذْعِ نَخْلٍ بِمَا جَرَمَتْ يَدَاهُ ومَا اعْتَدَيْنَا @@ أي : بما كسبتْ يداهُ ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة [ 6 ] وجريمةُ القوم كاسبهم ؛ قال : [ الوافر ] @ 2955 - جَرِيمةُ نَاهِضٍ فِي رَأسِ نيقٍ تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَلِيبا @@ فتقدير الآية : كَسَبَهُم - فعلهم أو قولهم - خسرانهم ، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج ، وعلى هذا فالوقفُ على قوله " لا " ثم يبتدأ بـ " جَرَمَ " بخلاف ما تقدَّم . الوجه الخامس : أن معناها لا صدَّ ولا منع ، وتكون " جَرَمَ " بمعنى " القطع " تقول : جرمتُ أي : قطعت ، فيكون " جَرَمَ " اسمَ " لا " مبنياً معها على الفتح ؛ كما تقدَّم ، وخبرها " أنَّ " وما في حيِّزها ، أو على حذف حرف الجر ، أي : لا منع من خسرانهم ؛ فيعودُ الخلافُ المشهور وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ : فيقال : لا جِرمَ بكسر الجيم ، ولا جُرم بضمها ، ولا جَرَ بحذف الميم ، ولا ذا جرم ، ولا إنَّ ذا جرم ، ولا عن ذا جرم ، ولا أنْ جرم ، ولا ذُو جرم ، ولا ذا جر والله لا أفعل ذلك . وعن أبي عمروٍ : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ } [ النحل : 62 ] على وزن لا كرم ، يعني بضمِّ الراءِ ، ولا جرَ ، قال : " حذفُوه لكثرةِ الاستعمالِ كما قالوا : " سَو ترى " أي : سوف ترى " . وقوله : { هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } يجوز أن يكون " هُمُ " فصلاً ، وأن يكون توكيداً ، وأن يكون مبتدأ وما بعده خبره ، والجملةُ خبر " أنَّ " . قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } لمَّا ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم ، أتبعهُ بذكر أحوالِ المؤمنين ، والموصولُ اسم " إنَّ " ، والجملةُ من قوله { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ } خبرها . والإخْبَاتُ : الاطمئنان والتذلُّل ، والتَّواضع ، والخضوع ، وأصله من الخَبْتِ وهو المكانُ المطمئنُّ ، أي المنخفضُ من الأرض ، وأخْبَتَ الرَّجلُ : دخل في مكانٍ خبت ، كأنْجَدَ وأتهم إذا دخل في أحد هذين المكانين ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فيه فقيل : خَبَتَ ذكرهُ ، أي : خَمَدَ ، ويقال للشَّيءِ الدَّنيء الخبيث ؛ قال الشاعر : [ الخفيف ] @ 2956 - يَنْفَعُ الطَّيِّبُ القليلُ مِنَ الرِّزْ قِ ولا ينفعُ الكثيرُ الخَبِيتُ @@ هكذا ينشدون هذا البيت في هذه المادة ، الزمخشري وغيره . والظَّاهرُ أن يكون بالثَّاءِ المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطَّيِّب ، ولكن الظَّاهر من عباراتهم أنَّه بالتاء المثناة لأنَّهُم يسوقونهُ في هذه المادة ، ويدل على أنَّ معنى البيت إنما هو على الثَّاء المثلثة قول الزمخشري : " وقيل : التَّاءُ فيه بدل من الثَّاءِ " . ومن مجيء " الخَبْت " بمعنى المكان المطمئن قوله : [ الوافر ] @ 2957 - أفَاطِمُ لَو شَهِدْتِ ببطْنِ خَبْتٍ وقَدْ قَتَلَ الهزَبْرُ أخَاكِ بِشْرَا @@ وفي تركيب البيت قلقٌ ، وحلُّهُ : لو شهدتِ أخاك بشراً وقد قتل الهِزَبْرَ ، ففاعل " قتل " ضمير يعودُ على " أخاك " . و " أخْبَت " يتعدَّى بـ " إلى " كهذه الآية ، وباللاَّم كقوله تعالى : { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } [ الحج : 54 ] ومعنى الآية : قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - خافُوا . وقال قتادةُ : تابُوا وقال مجاهدٌ : اطمأنُّوا . وقيل : خشعُوا إلى ربِّهم . { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } .