Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 25-35)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } الآية . اعلم أنَّه جرت عادته - تعالى - في القرآن بأنَّهُ إذا أورد على الكافر الدَّلائل أتبعها بالقصص ليُؤكِّد تلك الدَّلائل ، وقد بدأ بذكر هذه القصَّة في سورة يونس ، وأعادها ههنا لما فيها من زوائد الفوائد . قوله { إِنَّي لَكُمْ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح همزة " إني " ، والباقون بكسرها . فأمَّا الفتحُ فعلى إضمارِ حرفِ الجرِّ ، أي : " بأنِّي لَكُمْ " . قال الفارسيُّ : في قراءةِ الفتح خروجٌ من الغيبةِ إلى المخاطبةِ . قال ابن عطية : وفي هذا نظر ، وإنَّما هي حكايةُ مخاطبته لقومه ، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبةٍ إلى مخاطبة ، ولو كان الكلامُ أن أنذرهم ونحوه لصحَّ ذلك . وقد قال بهذه المقالة - أعني الالتفات - مكي - فإنَّهُ قال : الأصل : بأنِّي ، والجارُّ والمجرور في موضع المفعول الثاني ، وكان الأصلُ : أنَّهُ ، لكنَّهُ جاء على طريق الالتفات . ولكن هذا الالتفات غيرُ الذي ذكره أبو علي ، فإنَّ ذلك من غيبة إلى خطابٍ ، وهذا من غيبةٍ إلى تكلم وكلاهما غير محتاج إليه ، وإن كان قولُ مكي أقربَ . وقال الزمخشري : الجارُّ والمجرور صلةٌ لحالٍ محذوفة ، والمعنى : أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام ، وهو قوله : { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } بالكسر ، فلمَّا اتصل بها الجارُّ فُتِح كما فتح " كأنَّ " والمعنى على الكسر في قولك " إنَّ زيداً كالأسد " ، وأمَّا الكسرُ ، فعلى إضمار القول ، أي : فقال ، وكثيراً ما يُضْمر ، وهو غني عن الشَّواهد . و " النذيرُ " قيل : المرادُ به كونه مهدداً للعصاة بالعقاب ، ومن المبين كونه مبيناً ما أعد الله للمطيعين من الثواب ، وأنه يبين ذلك الإنذار على أكمل طرقه ، ثم بيَّن تعالى أنَّ ذلك الإنذار إنما هو بنهيهم عن عبادة غير الله ، والأمر بعبادته - جل ذكره - ؛ لأنَّ قوله { أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ } استثناء من النَّهْي ، فهو يوجب نفي غير المستثنى ، وإيجاب المستثنى . قوله : { أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ } كقوله : { أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ } في أول السورة ، ونزيد هنا شيئاً آخر ، وهو أنَّها على قراءةِ من فتح " أني " تحتملُ وجهين : أحدهما : أن تكون بدلاً من قوله : " أنِّي لَكُم " ، أي أرْسلناهُ بأن لا تَعْبُدُوا . والثاني : أن تكون مفسِّرة ، والمفسَّر بها : إمَّا " أرْسَلناهُ " وإما " نَذِيرٌ " . وأمَّا على قراءة من كسر فيجوزُ أن تكون المصدرية وهي معمولةٌ لـ " أرسلنا " ويجوزُ أن تكون المفسرة بحاليها . قوله : " أليم " إسناد الألم إلى اليوم مجازٌ لوقوعه فيه لا بِهِ . وقال الزمخشريُّ : فإذا وُصِفَ به العذابُ قلت : مجازٌ مثله ؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو المعذِّب ، ونظيرها قولك نهارُكَ صائمٌ . قال أبُو حيَّان : " وهذا على أن يكون " ألِيم " صفةُ مبالغةٍ من " ألِمَ " وهو من كثر ألمه ، وإن كان " ألِيم " بمعنى : " مُؤلم " فنسبته لليوم مجازٌ وللعذاب حقيقة " . فصل قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - بعث نوح بعد أربعين سنة ، ولبث يَدعو قومه تسع مائة وخمسين سنة ، وعاش بعد الطُّوفانِ ستين سنة ، فكان عمره ألفاً وخمسين سنة . وقال مقاتلٌ : بعث وهو ابن مائة سنة . وقيل : بعث وهو ابن خمسين سنة . وقيل : ابن مائتين وخمسين سنة ، ومكث يدعو قومه تسعمائة سنة ، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة ، فكان عمره ألفاً وأربع مائة سنة . قوله : { فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } . " المَلأُ " هم الأشراف والرُّؤساء . " مَا نَراكَ " يجوزُ أن تكون هذه الرُّؤيا قلبيةً ، وأن تكون بصريةً . فعلى الأول تكون الجملةُ من قولك : " اتَّبَعَكَ " في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً ، وعلى الثَّاني في محل نصب على الحال ، و " قَدْ " مقدرةٌ عند من يشترط ذلك . و " الأراذِلُ " فيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ جمع الجمع . والثاني : جَمْعٌ فقط . والقائلون بالأول اختلفوا فقيل : جمع لـ " أرْذُلٍِ " ، و " أرْذُل " جمع لـ " رَذْلٍ " نحو : كَلْب وأكْلُب وأكالب . وقيل : بل جمع لـ " أرْذَال " ، و " أرْذَال " جمع لـ " رَذْل " أيضاً . والقائلون بأنه ليس جمع جمع ، بل جمعٌ فقط قالوا : هو جمعٌ لـ " أرْذل " ، وإنَّما جاز أن يكون جَمْعاً لأرذل لجريانه مَجْرَى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفه كالأبْطَح والأبرق . وقال بعضهم : هو جمع " أرْذَل " الذي للتفضيل ، وجاء جمعاً كما جاء { أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا } [ الأنعام : 123 ] و " أحاسنكم أخلاقاً " . ويقال : رجل رَذْل ورُذَال ، كـ " رَخْل " و " رُخَال " وهو المرغوبُ عنه لِردَاءتِهِ . قال الواحديُّ : هُمُ الدُّونُ من كُلِّ شيءٍ في منظره وحالاته . والأصلُ فيه أن يقال هو أرْذَلُ من كذا فكثُرَ حتى قالوا : هو الأرْذَلُ ، فصارت الألف واللاَّم عوضاً عن الإضافة . قوله : " بَادِيَ الرَّأي " قرأ أبو عمرو وعيسى الثَّقفيُّ " بَادِىءَ " بالهمز ، والباقون بياءٍ صريحة مكان الهمزة . فأما الهمزُ فمعناه : أول الرَّأي ، أي : أنَّه صادرٌ عن غير رويَّةٍ وتأمُّل ، بل من أولِ وهلةٍ . وأمَّا مَنْ لَمْ يهمز ؛ فيحتمل أن يكون أصلُه كما تقدَّم ، ويحتملُ أن يكون من بدا يبدُو أي ظَهَر ، والمعنى : ظاهر الرَّأي دون باطنه ، أي : لوْ تُؤمِّل لعُرِفَ باطنه ، وهو في المعنى كالأولِ . وفي انتصابه على كلتا القراءتين سبعةُ أوجهٍ : أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ وفي العامل فيه على هذا ثلاثة أوجه : أحدها : " نَرَاكَ " ، أي : وما نَراكَ في أول رأينا ، على قراءة أبي عمرو ، أو فيما يظْهَر لنا من الرأي في قراءة الباقين . والثاني - من الأوجه الثلاثة - : أن يكون منصوباً بـ " اتَّبَعَكَ " ، أي : ما نَرَاكَ اتَّبعَكَ أول رأيهم ، أو ظاهر رأيهم ، وهذا يحتمل معنيين : أحدهما : أن يريدوا اتبعوك في ظاهر أمرهم ، وبواطنهم ليست معك . والثاني : أنَّهُم اتَّبعُوكَ بأول نظرٍ ، وبالرَّأي البَادِي دُونَ تَثَبُّت ، ولو تثبتُوا لما اتَّبَعُوك . الثالث - من الأوجه الثلاثة - أنَّ العامل فيه " أرَاذِلُنَا " والمعنى : أراذِلُنَا بأولِ نظرٍ منهم أو بظاهر الرَّأي نعلم ذلك ، أي : إنَّ رذالتهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحاب حرفٍ دنيَّة . والرَّأي على هذا من رأي العين لا من رأي القلب ، ويتأكَّدُ هذا بما نُقل عن مجاهد أنَّهُ قرأ " إلاَّ الذينَ هُمْ أرَاذِلُنَا بادِيَ رَأي العَيْنِ " . ثم القائل بكون " بَادِيَ " ظرفاً يحتاج إلى اعتذار ، فإنَّهُ اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصلِ ، قال مكيّ : وإنَّما جاز أن يكون فاعل ظرفاً كما جاز ذلك في " فَعِيل " نحو : قَرِيب ومليء ، و " فاعل وفعيل " متعاقبان كـ : رَاحِم ورَحِيم ، وعَالِم وعَلِيم ، وحسُن ذلك في " فَاعِل " لإضافته إلى الرأي ، والرأي يضاف إليه المصدر ، وينتصبُ المصدرُ معه على الظَّرْفِ نحو : " أمَّا جَهْدُ رأي فإنَّك منطلقٌ " أي : " في جَهْد " . قال الزمخشريُّ : وانتصابه على الظَّرف ، أصله : وقْتَ حُدُوثِ أوَّلِ أمرهم ، أو وقتَ حدوثِ ظاهرِ رأيهم ، فحذفَ ذلك وأقيم المضافُ إليه مقامه . الوجه الثاني - من السَّبعة - : أن ينتصب على المفعول به ، حذف معه حرفُ الجر مثل : { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] . وفيه نظرٌ من حيث إنَّه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدِّي إلى اثنين ، إلى ثانيهما بإسقاط الخافضِ . الثالث من السَّبعة : أن ينتصب على المصدر ومجيء المصدر على فاعل أيضاً ليس بالقياس ، والعامل في هذا المصدر كالعامل في الظَّرف كما تقدَّم ، ويكون من باب ما جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه ، تقديره : رُؤية بدءٍ : أو ظهور ، أو اتباع بدءٍ أو ظهور ، أو رذالة بدءٍ . الرابع من السبعة : أن يكون نعتاً لـ " بَشَر " ، أي : ما نَراكَ إلاَّ بشراً مثلنا بادِيَ الرأي ، أي : ظاهرهُ ، أو مبتدئاً فيه . وفيه بعدٌ للفصل بين النَّعْتِ والمَنْعُوتِ بالجملة المعطوفة . الخامس : أنَّهُ حالٌ من مفعول " اتَّبَعَكَ " ، أي : وأنت مكشوفُ الرَّأي ظاهرهُ لا قُوةَ فيه ، ولا حصانة لك . السادس : أنه منادى والمراد به نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - ، كأنَّهُم قالوا : يا بَادِي الرَّأي ، أي : ما في نفسك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاءِ به ، والاستقلال له . السابع : أنَّ العامل فيه مضمر ، تقديره : أتقُولُ ذلك بادي الرَّأي ، ذكره أبُو البقاءِ ، والأصلُ عدم الإضمار مع الاستغناء عنه ، وعلى هذه الأوجه الأربعة الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويلٍ ، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنَّهُ ظرفٌ أو مصدرٌ . واعلم أنَّك إذا نصبت " بَادِيَ " على الظرف أو المصدر بما قبل " إلاَّ " احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال ، وهو أنَّ ما بعد " إلاَّ " لا يكون معمولاً لما قبلها ، إلاَّ إن كان مستثنى منه نحو : مَا قَامَ إلاَّ زيداً القومُ ، أو مستثنى نحو : قَامَ القومُ إلاَّ زيداً ، أو تابعاً للمستثنى منه نحو : ما جاءني أحَدٌ إلاَّ زيدٌ أخيرُ من عمرو و " بَادِي الرَّأي " ليس شيئاً من ذلك . قال مكي : لو قلت في الكلام : ما أعْطَيْت أحَداً إلا زَيْداً درهماً ؛ فأوقعت اسمين مفعولين بعد " إلاَّ " لم يَجُزْ ؛ لأنَّ الفعل لا يصلُ بـ " إلاَّ " إلى مفعولين ، إنَّما يصل إلى اسم واحدٍ كسائر الحروفِ ، ألا ترى أنَّك لو قلت : مررتُ بزيدٍ عمرو فأوصلت الفعل إليهما بحرفٍ واحدٍ لم يَجز ، ولذلك لو قلت : استوى الماءُ والخشبة الحائط فتنصب اسمين بواو " مع " لمْ يَجُزْ إلاَّ أن تأتيَ في جميع ذلك بواو العطف ، فيجوز وصولُ الفعل . والجوابُ الذي ذكرهُ هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرها ، وهذا جماعُ القولِ في هذه المسألة باختصارٍ . والرَّأيُ : يجوزُ أن يكون من رُؤيةِ العيْنِ أو من الفكرة والتَّأمُّل . فصل اعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - حكى عن قوم نُوحٍ - عليه الصلاة والسلام - شُبُهَاتٍ : الأولى : أنَّهُم قالوا : إنَّه بشرٌ مثلهم ، وأنَّ التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطَّاعة لجميع العاملين . الثانية : كونه ما اتبعه إلاَّ الأراذل من القوم كالحياكةِ ، وأصحاب الصنائع الخسيسة ؛ فلو كنت صادقاً لاتبعك الأشراف والرؤساء ، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] . الثالثة : قولهم : { وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } لا في العَقْلِ ولا في رعايةِ المصالحِ العاجلة ولا في قوَّةِ الجدلِ فإذا لم نشاهد فضلك في شيءٍ من هذه الأحوال الظاهرة ؛ فكيف نعترف بفضلك في أشرف الدرجات . واعلم أنَّ الشُّبْهَة الأولى لا تليقُ إلاَّ بالبراهمةِ الذين ينكرون نبوَّة البشر على الإطلاقِ ، وتقدَّم الكلامُ على " الملأ " وتقدم الكلام على الشبهة الأولى في الأنعام في الأعراف [ 66 ] . واعلم أنَّه لو بُعِثَ إلى البشر ملكاً رسولاً لكانت الشبهةُ أقوى في الطَّعْنِ عليه في رسالته ؛ لأنَّهُ يخطر بالبال أنَّ هذه المعجزة التي ظهرت على يدِ هذا الملك أتى بها من عند نفسه ؛ لأنَّ قوَّتهُ أكمل ؛ فلهذا ما بعث الله إلى البشر رسُولاً إلاَّ من البشر . وأمَّا قولهم { مَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } فهذا أيضاً جهلٌ ؛ لأنَّ الرِّفعة في الدِّين لا تكون بالحسبِ ولا بالمالِ ، ولا بالمناصبِ العاليةِ ، بل الفقر أهونُ على الدِّين من الغنى ، والأنبياء ما بعثُوا إلا لترْكِ الدُّنيا والإقبالِ على الآخرةِ ، فكيف يجعل الفقرُ في الدُّنيا طَعْناً في النبوةِ والرسالة . وأمَّا قولهم : { وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } فهو أيضاً جهلٌ ؛ لأنَّ الفضيلة المعتبرة عند الله - تعالى - ليست إلاَّ بالعلم والعمل ، فكيف اطَّلَعُوا على بواطن الخَلْق حتَّى عرفوا نفي هذه الفضيلة . ثم قالوا لنُوح وأتباعه { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } وهذا خطاب مع نوحٍ وقومه ، والمرادُ منه تكذيب نوح في دَعْوَى الرِّسالة . وقيل : خطاب مع الأرَاذِلِ ، أي كذَّبُوهم في إيمانهم . قوله تعالى : { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } . وهذا جوابٌ عن شبهتهم الأولى ، والمعنى : أنَّ حصول المساواةِ في البشريَّةِ لا يمنع من حصولِ المفارقةِ في صفةِ النبوة والرسالةِ ، وذكر الطَّريق الدَّال على إمكانه ، وهو كونهُ على بيِّنةٍ من معرفةِ الله وصفاته - سبحانه - وما يجبُ وما يمتنعُ وما يجوزُ { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } وهي إمَّا النبوة ، وإمَّا المعجزة الدَّالة على النبوَّة { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : صارت مظنة خفيت ، والتبست عليكم . قوله : " مِّن رَّبِّيۤ " نعتٌ لـ " بَيِّنَة " ، أي : بَيِّنَةٌ من بيِّنات ربِّي . قوله : " رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ " يجُوزُ في الجارِّ أيضاً أن يكون نعتاً لـ " رَحْمَةً " وأن يكون متعلقاً بـ " آتَانِي " . قوله : " فَعُمِّيَتْ " قرأ الأخوان وحفص بضمِّ العين وتشديد الميم ، والباقون بالفتح ، والتخفيف . فأمَّا القراءة الأولى فأصلها : عماهَا اللهُ عليكم ، أي : أبْهمها عقوبة لكم ، ثُمَّ بُنِيَ الفعل لما لَمْ يُسَمَّ فاعله ، فحذف فاعله للعلم به وهو الله تعالى ، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرَّحْمَة مقامه ويدل على ذلك قراءةُ أبَيّ بهذا الأصل " فَعمَاهَا اللهُ عَليْكُم " . ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلمي " فَعَمَاهَا " من غير ذكرِ فاعلٍ لفظي . وروى عن الأعمش وابن وثاب " وعُمِّيَتْ " بالواو دون الفاء . وأمَّا القراءة الثانية فإنَّه أسْنَدَ الفعل إليها مجازاً . قال الزمخشريُّ : فإذا قلتَ ما حقيقته ؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جُعِلتْ بصيرةً ومُبْصرة ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } [ النمل : 13 ] جعلت عمياء ، قال تعالى : { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } الآية ؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتَدي ولا يَهْدِي غيرهُ ، فمعنى فَعَمِيتْ عليكم البيِّنةُ : فَلمْ تَهْدِكُم كما لو عَمِيَ على القوم دليلهم في المفازَةِ بَقُوا بِغَيْر هادٍ . وقيل : هذا من باب القلبِ ، وأصلها فعَميتم أنتم عنها كما تقول : أدخلتُ القلنسوة في رَأسِي ، وأدخلت الخاتم في إصبعي ، وهو كثيرٌ ، وقد تقدَّم الخلافُ فيه ، وأنشدوا على ذلك : [ الطويل ] @ 2962 - تَرَى النَّوْرَ فيها مُدْخلَ الظِّلِّ رَأسَه … @@ قال أبُو علي : وهذا ممَّا يُقْلَبُ ، إذ ليس فيه إشكال ، وفي القرآن { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } [ إبراهيم : 47 ] . وبعضهم يخرِّجُ البيت على الاتِّساع في الظَّرْفِ . وأمَّا الآيةُ فـ " أخْلَفَ " يتعدَّى لاثنين ، فأنت بالخيار : أن تُضيفَ إلى أيِّهما شئتَ فليس من باب القَلْبِ . وقد ردَّ بعضهم كون هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى بـ " عَنْ " دُونَ " عَلَى " ، ألا ترى أنك تقول : " عَمِيتُ عن كذَا " لا " عَلَى كَذَا " . واختلف في الضَّمير في " عُمِّيَتْ " هل هو عائدٌ على " البَيِّنة " ، أو على " الرَّحْمَة " ، أو عليهما معاً ؟ . وجاز ذلك - وإن كان بلفظ الإفراد - لأنَّ المراد بهما شيءٌ واحد ، وإذا قيل بأنه عائدٌ على " البيِّنة " فيكون قوله { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } جملة معترضة بين المتعاطفين ، إذ حقُّهُ ، " على بيِّنة مِن ربِّي فعُمِّيتْ " . وإن قيل : بأنَّه عائدٌ على الرَّحْمةِ فيكون قد حذف من الأوَّل لدلالة الثاني عليه ، والأصلُ : " على بيِّنة مِن ربِّي وآتَانِي رَحْمَةً فعُمِّيتْ " . قال الزمخشريُّ : وآتَانِي رحْمَةً بإتيان البيِّنة ، على أنَّ البيِّنة في نفسها هي الرَّحمة ، ويجوزُ أن يُرَادَ بالبيِّنةِ المعجزة ، وبالرَّحمة النبوَّة . فإن قلت : فقوله " فعُمِّيَتْ " ظاهر على الوجهِ الأوَّلِ فما وجهه على الوجه الثاني ، وحقُّه أن يقال : فَعَمِيتَا ؟ قلت : الوجهُ أن يُقدَّرَ : فعُمِّيَتْ بعد البيِّنة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة . انتهى وقد تقدَّم الكلامُ على " أرأيْتُمْ " هذه في الأنعام ، وتلخيصهُ هنا أنَّ " أرأيتُم " يطلب " البيِّنة " منصوبةً وفعل الشَّرط يطلبها مجرورةً بـ " عَلَى " فأعمل الثَّاني وأضمر في الأول ، والتقدير : أرأيْتُم البيِّنة من ربِّي إن كنتُ عليها أنلزِمُكمُوهَا ، فحذف المفعولُ الأوَّل ، والجملةُ الاستفهاميَّة هي في محلِّ الثاني ، وجواب الشرط محذوفٌ للدَّلالةِ عليه . قوله : " أنُلْزمُكُمُوهَا " أتى هنا بالضَّميرين متصلين ، وتقدَّم ضميرُ الخطاب ؛ لأنَّهُ أخص ، ولو جِيءَ بالغائب أولاً لانفصل الضَّميرُ وجوباً . وقد أجاز بعضهم الاتِّصال واستشهد بقول عثمان " أراهُمُني الباطل شَيْطَاناً " . وقال الزمخشريُّ : يجوزُ أن يكون الثاني منفصلاً كقوله : " أنُلْزِمكم إيَّاهَا " ونحوه { فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 137 ] ويجوز " فَسَيكفيك إيَّاهُمْ " ، وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضهم منعهُ . وإشباعُ الميم في مثل التركيب واجبٌ ، ويضعف سكونها ، وعليه " أرَاهُمْني البَاطِل " . وقال أبُو البقاءِ : وقرىء بإسكان الميم فراراً من توالي الحركات فقوله هذ يحتمل أن يكون أراد سكون ميم الجمع ؛ لأنَّه قد ذكر ذلك بعدما قال : " ودخلتِ الواوُ هُنَا تتمَّةً للميم ، وهو الأصلُ في ميم الجمع ، وقرىء بإسكان الميم " انتهى . وهذا إن ثبت قراءةً فهو مذهبٌ ليونس : يُجوِّزُ الدِّرهمَ أعطيتكه ، وغيره يأباه . ويحتملُ أن يريد سكون ميم الفعل ، ويدلُّ عليه ما قال الزجاج . أجمع النَّحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإعراب إلاَّ في ضرورة الشعر ، فأمَّا ما رُوي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء ، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركة ويختلسُها ، وهذا هو الحقُّ وإنما يجُوزُ الإسكانُ في الشعر نحو قول امرىء القيس : [ السريع ] @ 2963 - فاليَوْمَ أشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ … @@ وكذا قال الزمخشري أيضاً . وحكى عن أبي عمرو إسكانُ الميم ، ووجهه أنَّ الحركة لم تكن إلاَّ خلسةً خفيفةً ، فظنَّها الرَّاوي سُكُوناً ، والإسكانُ الصَّريحُ لحنٌ عند الخليل ، وسيبويه ، وحُذَّاقِ البصريين ؛ لأنَّ الحركة الإعرابية لا يُسَوَّغ طرحها إلاَّ في ضرورة الشِّعْرِ . قال شهابُ الدِّين : وقد حكى الكسائيُّ والفرَّاءُ : " أنُلُزِمْكُمُوهَا " بسكون هذه الميم ، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة البقرة [ 54 ] ، أعني تسكين حركةِ الإعرابِ فكيف تجعلونه لحْناً ؟ . و " ألزم " يتعدَّى لاثنين ، أولهما ضمير الخطاب ، والثاني ضمير الغيبة . و { أَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } جملة حالية ، يجوز أن تكون للفاعل ، أو لأحدِ المفعولين . وقدَّم الجارَّ لأجْل الفواصل ، وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالفةٌ للسَّواد أضْرَبْتُ عنها لذلك . والمعنى : " أنلزمكم البينة ، وأنتم لها كَارهُون لا تُريدُونهَا " . قال قتادةُ : " لو قدر الأنبياء أن يُلزموا قومهُم لألزموا ، ولكن لم يقدروا " . قوله تعالى : { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً } . الضَّمير في " عَلَيْهِ " يجوزُ أن يعود على الإنذار والمفهوم من " نَذِيرٌ " ، وأن يعودَ على الدِّين الذي هو الملَّة ، وأن يعود على التَّبليغ . وهذا جوابٌ على الشُّبهةِ الثانية ، وهي قولهم : اتَّبَعَك الأرَاذل ، فقال : أنا لا أطلبُ على تبليغِ الرِّسالةِ مالاً حتَّى يتفاوت الحالُ بسبب كون المستجيب فقيراً ، أو غنياً ، وإنما أجري علَى هذه الطاعة على رب العالمين ، وإذا كان كذلك فسواء كان غنياً أو فقيراً ، لم يتفاوت الحال في ذلك . ويحتمل أنَّه قال لهم : إنكم لمَّا نظرتم إلى هذه الأمور وجدتُمُوني فقيراً ، وظننتم أنِّي إنما أتيت بهذه الأمور لأتوسَّل بها إلى أخذ أموالكم ، وهذا الظَّن منكم خطأ ، وإنِّي لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجْراً ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 109 ] فلا تَحْرِمُوا أنفسكم من سعادةِ الدِّين بهذا الظن الفاسد . قوله : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ } قرىء " بطَاردٍ الذينَ " بتنوين " طارد " . قال الزمخشري : على الأصل يعنى أنَّ أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العملُ وهو ظاهرُ قول سيبويه . قال أبُو حيَّان : يُمكن أن يقال : ألأصل الإضافةُ لا العَمَلُ ، لأنَّهُ قد اعتورهُ شَبَهَان : أحدهما : الشبه بالمضارع وهو شبهٌ بغير جنسه . والآخر : شبههُ بالأسماءِ إذا كانت فيه الإضافةُ ؛ فكان إلحاقه بجنسه أولى . وقوله : { إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } استئنافٌ يفيدُ التَّعليل ، وقوله : " تَجْهَلُون " صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفته لا يفيدُ ، وأتى بها فعلاً ليدلَّ على التَّجدُّد كلَّ وقتٍ . فصل قوله : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } كالدَّليل على أنَّ القوم سألوه لئلاَّ يشاركوا الفقراءَ ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ومَا أنَا بطارِدِ الذين آمنُوا " ، وأيضاً قولهم { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } كالدَّليل على أنَّهم طلبوا منه طردهم ؛ فكأنَّهم يقولون لو اتَّبَعَك الأشراف لوافقناهم . ثمَّ ذكر ما يوجب الامتناع من طردهم ، وهو أنَّهم ملاقُو ربِّهم ، وهذا الكلامُ يحتملُ وجوهاً : منها : أنَّهُم قالوا إنَّهم منافقون فيما أظهروا فلا تغترّ بهم ؛ فأجاب بأنَّ هذا الأمر ينكشفُ عند لقاءِ ربِّهم في الآخرة . ومنها : أنَّهُ جعله علَّة في الامتناع من الطَّرْدِ ، وأراد أنهم ملاقو ربِّهم ما وعدهم ، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة . ومنها : أنَّهُ نَبَّه بذلك على أنَّا نجتمع في الآخرة ؛ فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني . ثم بيَّن أنَّهم يَبْنُون أمرهُم على الجَهْلِ بالعواقب والاغترارِ بالظَّواهرِ فقال : { وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } . ثم قال : { وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ } [ هود : 30 ] من يمنعني من عذاب الله { إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } تتَّعِظُونَ . والمعنى : على أنَّ العقل والشرع تطابقا على تعظيم المؤمن التَّقي ، وإهانةِ الفَاجرِ ، فلو عظَّمْتُ الكافر وطردتُ المؤمن وأهنتهُ كنت على ضِدّ دين الله ؛ فأسْتوْجبُ حينئذٍ العقابَ العظيمَ ، فمن الذي ينصُرُني من الله ، ومن الذي يُخَلِّصُني من عذابِ الله . واحتجَّ قوم بهذه الآية على صُدُورِ الذَّنب من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقالوا دلَّت الآيةُ على أنَّ طردَ المؤمنين لطلب مرضاة الكفار معصية ، ثم إن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله - عزَّ وجلَّ - في قوله : { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } [ الأنعام : 52 ] . والجوابُ : يحمل الطَّرد المذكور في هذه الآية على الطَّرد المطلق المؤبَّدِ ، والطَّرد المذكور في واقعة محمدٍ - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - على المُقيَّدِ في أوقاتٍ معينةٍ رعاية للمصلحة . ثُمَّ أكَّدَ هذا البيان فقال : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ } فآتي منها ما تطلبون ، { وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } فأخبركم بما تُريدُونَ . وقيل : إنَّهم لمَّا قالوا لنوح : إنَّ الذين آمنُوا بك إنَّما اتَّبَعُوكَ في ظاهر ما ترى منهم ، فأجابهم نوح - عليه الصلاة والسلام - فقال : لا أقول لكم : عِنْدِي خزائن غيوب الله التي يعلم منها ما يضمره الناس ، ولا أعلم علم الغيب فأعلم ما يسرونه في نفوسهم ، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم ، { وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } هذا جواب لقولهم : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } [ هود : 27 ] وقيل معناه : لا أقولُ إنِّي ملكٌ حتَّى أتعظَّمَ بذلك عليكم ، بل طريقي الخضوع والتَّواضع ، ومن كان طريقه كذلك فإنَّهُ لا يستنكفُ عن مخالطةِ الفقراءِ والمساكين . واحتجَّ قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكةِ على الأنبياء قالوا : لأنَّ الإنسان إذا قال : لا أدَّعي كذا وكذا ، إنما يحسنُ إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل . ثم أكَّدَ هذا البيان بطريق آخر فقال : { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً } وهذا كالدلالة على أنهم يعيبون أتباعهم ، ويحتقرونهم ، فقال : لا أقولُ للذين يحتقرونهم : لن يؤتيهم الله خَيْراً ، أي : توفيقاً وإيماناً وأجراً { ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ } لأنَّ ذلك من باب الغَيْبِ لا يعلمه إلا الله ، فربَّما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله خير مُلكٍ في الآخرة ؛ فأكون كاذباً فيما أخبرتُ به ، فإن فعلتُ ذلك كنتُ من الظَّالمينَ لنفسي . قوله : { وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة لا محلَّ لها عطفاً على قوله : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ } كأنَّه أخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث . وقد تقدَّم في الأنعام أنَّ هذا هو المختار ، وأنَّ الزمخشري قال : " إنَّ قوله تعالى : { وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } معطوفٌ على { عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ } أي : لا أقول : عندي خزائنُ الله ، ولا أقولُ : أنَا أعلمُ الغَيْبَ " . قوله : " تَزْدَرِي " تفتعل من زَرَى يَزْرِي ، أي : حَقَرَ ، فأبدلت تاءُ الافتعال دَالاً بعد الزَّاي وهو مطرد ، ويقال : " زَرَيْتُ عَليْهِ " إذا عبته ، و " أزْرَيْتُ بِهِ " أي : قصَّرت به . وعائدُ الموصول محذوفٌ ، أي تَزْدَرِيهم أعينكم ، أي : تحتقرهم وتُقَصِّر بهم ؛ قال الشاعر : [ الوافر ] @ 2964 - تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فتزْدَرِيهِ وفِي أثْوابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ @@ وقال الشاعر أيضاً : [ الوافر ] @ 2965 - يُبَاعدهُ وتزْدَريهِ حَليلتُهُ وينْهَرهُ الصَّغِير @@ واللاَّمُ في " للَّذينَ " للتَّعليل ، أي : لأجْلِ الذين ، ولا يجُوزُ أن تكون التي للتَّبليغ إذ لو كانت لكان القياس " لن يُؤتيكُم " بالخطاب . قوله تعالى : { قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } . قرأ ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - " جَدَلنا " كقوله : { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } [ الكهف : 54 ] . ونقل أبو البقاء أنه قرىء " جَدَلْتنا فأكْثَرْتَ جدلنا " بغير ألفٍ فيهما ، وقال : " هو بمعنى غلبتنا بالجَدلِ " . وقوله : " بِمَا تَعِدُنَا " يجوزُ أن يكون " ما " بمعنى " الذي " ، فالعائدُ محذوفٌ ، أي : تَعدناه . ويجوزُ أن تكون مصدرية ، أي : بوعدك إيَّانا . وقوله : " إن كنت " جوابه محذوفٌ أو متقدِّمٌ وهو " فَأتِنَا " . فصل دلَّت هذه الآية على أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدالُ كان في بيان التَّوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، وهذا يدلُّ على أنَّ المجادلة في تقرير الدَّلائل وفي إزالةِ الشُّبُهاتِ حرفةُ الأنبياءِ ، وأنَّ التقليدَ والجَهْلَ والإصرار حرفةُ الكفَّار ، ودلَّت على أنَّهم استعجلوا العذاب الذي كان يعدهم به ، فقالوا : { فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } ثُمَّ إنه - عليه الصلاة والسلام - أجابهم بقوله : { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ } [ هود : 33 ] أي : أنَّ إنزال العذاب ليس إليَّ ، وإنما هو خلق الله فيفعله إن شاء ، وإذا أراد إنزال العذاب فإنَّ أحداً لا يعجزه ، أي : لا يمنعه . ثم قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ } إن أردتُ أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ، أي : يضلكم ، قوله : { إن أردت أن أنصح لكم ، إن كان } قد تقدَّم حكم توالي الشرطين ، وأن ثانيهما قيد في الأوَّل ، وأنه لا بد من سبقه للأوَّل ، وقال الزمخشريُّ هنا : " إنْ كانَ اللهُ " جزاؤه ما دل عليه قوله : " لا يَنْفعُكم نُصْحِي " . وهذا الدليل في حكم ما دلَّ عليه ؛ فوصل بشرطٍ ، كما وصل الجزاء بالشَّرط في قوله : " إنْ أحْسَنْتَ إليَّ أحْسَنْتُ إنْ أمكنني " . وقال أبو البقاء : حكمُ الشَّرطِ إذا دخل على الشَّرْطِ أن يكون الشَّرطُ الثَّاني والجواب جواباً للشَّرط الأول نحو : " إنْ أتَيْتَنِي إنْ كلَّمتَني أكْرَمْتُكَ " فقولك : " إنْ كَلَّمْتَني أكْرَمْتك " جوابُ " إنْ أتَيْتَني " جميعُ ما بعده ، وإذا كان كذلك كان الشَّرطُ الأول في الذِّكر مؤخَّراً في المعنى ، حتَّى إن أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإكرام ، ولكن إن كلَّمه ثمَّ أتاهُ وجب الإكرام ، وعلَّةُ ذلك أنَّ الجواب صار معوَّقاً بالشَّرطِ الثاني ، وقد جاء في القرآن منه { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ } [ الأحزاب : 50 ] . قال شهابُ الدِّين : أما قوله : " إنْ وهبَتْ … إنْ أرادَ " فظاهرُهُ - وظاهرُ القصة المرويَّة - يدلُّ على عدم اشتراطِ تقدُّم الشَّرط الثاني على الأوَّلِ ، وذلك أنَّ إرادته - صلوات الله وسلامه عليه - للنكاح إنما هو مُرتَّبٌ على هبة المرأةِ نفسها له وكذا الواقعُ في القصَّة ، لمَّا وهبت أراد نكاحها ، ولمْ يُرْوَ أنه أراد نكاحها ، فوهبت ، وهو يحتاجُ إلى جوابٍ ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في موضعه . وقال ابنُ عطيَّة هنا وليس نُصْحِي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخيرَ لكم مغنيةً إن أراد اللهُ - تعالى - بكم الإغواء ، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإرادتين ، وأنَّ إرادة البشر غيرُ مُغْنِيةٍ ، وتعلُّقُ هذا الشرط هو بـ " نُصْحِي " وتعلُّقُ الآخر بـ " لا يَنْفَعُ " . وتلخص من ذلك أنَّ الشرط مدلولٌ على جوابه بقوله : " ولا يَنْفَعُكُمْ " لأنَّهُ عقبهُ ، وجواب الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول وكأنَّ التقدير : وإنْ أردت أنْ أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعُكمْ نُصحِي . وهو من حيث المعنى كالشَّرط إذا كان بالفاءِ نحو : إنْ كان الله يريدُ أن يُغويكُم فإن أردتُ أن أنصح لكم ، فلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي . وقرأ الجمهور : " نُصْحي " بضم النونِ ، وهو يحتملُ وجهين : أحدهما : المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر والثاني : أنه اسمٌ لا مصدرٌ . وقرأ عيسى بن عمر " نَصْحي " بفتح النُّون ، وهو مصدرٌ فقط . وفي غضون كلام الزمخشري : " إذا عرف اللهُ " وهذا لا يجوزُ ؛ لأنَّ الله تعالى لا يسندُ إليه هذا الفعل ولا يوصف بمعناه ، وقد تقدَّم علةُ ذلك في غضون كلام أبي حيَّان وللمعتزليِّ أن يقول : لا يتعيَّن أن تكون " إنْ " شرطيةً بل هي نافيةٌ ، والمعنى : " ما كان اللهُ يريد أن يُغويكُمْ " . قال شهابُ الدِّين : لا أظن أحداً يرضى بهذه المقالة . فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ ، فإذا أرادَ الله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه ؛ لأنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } . قالت المعتزلةُ : ظاهرُ الآية يدلُّ على أن الله تعالى إذا أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا مسلمٌ ، فإنا نعلم أنَّ الله - تعالى - لو أراد إغواء عبدٍ فإنَّه لا ينفعهُ نصح النَّاصحين ، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء ، والنزاع ما وقع إلا فيه ؟ بل نقول إنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - إنَّما ذكر هذا الكلام ليدل على أنَّهُ تعالى ما أغواهُم ، بل فوَّضَ الاختيار إليهم ، وبيانه من وجهين : الأول : أنه تعالى لو أراد إغواءهم لما بقي في النصح فائدة ، ولو لمْ يكنُ فيه فائدة لما أمره بنصح الكفار ، وأجمع المسلمون على أنه مأمورٌ بدعوة الكفار ونصيحتهم ، فعلمنا أنَّ هذا النُّصح لا يخلُو من الفائدة ، وإن لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنَّهُ تعالى ما أغواهم . الثاني : لو ثبت الحكم عليهم بأنَّ الله تعالى أغواهم ؛ لصار هذا عذراً لهم في عدم الإتيان بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم ؛ لأنَّهم يقولون له : إنَّك سلمت أنَّ الله تعالى إذا أغوانا فإنَّه لا يبقى في نصحك ، ولا في اجتهادك فائدةٌ ؛ فإذا ادَّعَيْتَ أنَّ الله تعالى أغوانا ؛ فقد جعلتنا مغلُوبين ، فلمْ يَلْزَمْنَا قبول هذه الدعوة ؛ فثبت أنَّ الأمر لو كان كما قالهُ الخصمُ ؛ لصار هذا حجة للكافر على نُوح - عليه الصلاة والسلام - ؛ فثبت بما ذكرنا أنَّ هذه الآية لا تدلُّ على قول المجبرة ، ثم إنَّهم ذكروا تأويلات : الأول : أنَّ أولئك الكُفَّار مجبرة ، وكانوا يقولون إنَّ كفرهم بإرادة الله ؛ فعند هذا قال نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - إن نصيحَتي لا تنفعُكُم إن كان الأمرُ كما تقولون . ومثاله : أن يعاقب الرَّجلُ ولدهُ على ذنبه ، فيقول الولد : لا أقدرُ على غير ما أنا عليه ؛ فيقول الوالدُ : فلن ينفعك إذنْ نُصْحِي ، وليس المرادُ أنَّهُ يصدِّقهُ على ما ذكره ، بل على وجه الإنكار لذلك . الثاني : قال الحسنُ : معنى " يُغْويكُم " أي : يُعَذِّبكم والمعنى : لا ينفعكم نُصْحِي اليوم إذا نزل بكُم العذابُ ؛ فأمنتم في ذلك الوقت ؛ لأنَّ الإيمان عند نُزُول العقابِ لا يقبلُ وإنَّما ينفعُكم نصحي إذا آمنتم قبل مُشاهدةِ العذابِ . الثالث : قال الجُبائي : الغوايةُ هي الخيبة من الطَّلب بدليل قوله : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] ، أي : خيبة من خير الآخرة ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 2966 - … ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ عَلى الغَيِّ لائِمَا @@ الرابع : أنه إذا أصرَّ على الكُفْرِ ، وتمادى فيه ، منعه الله الألطاف ، وفوَّضه إلى نفسه ؛ فهذا شبيه بما إذا أراد إغواءهُ ؛ فلهذا السَّبب حسن أن يقال : إنَّ الله أغواه ، هذا جملة كلامِ المعتزلةِ في هذا البابِ ، وتقدَّم الجوابُ عن أمثال هذه الكلمات ، فلا فائدة في الإعادة ، ثَم قال : { هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم ، وهذا نهاية الوعيد والتهديد . قوله : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } اختلقه ، وافتعله ، يعني نوحاً - عليه الصلاة السلام - قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - . [ وقال مقاتلٌ - رضي الله عنه - : يعني محمَّداً صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه ] والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم . { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } أي : إثْمِي ووبال جرمي ، والإجرامُ : كسب الذَّنب ، وهذا من باب حذف المضاف ؛ لأنَّ المعنى : فعليَّ عقاب إجْرامي ، وفي الآية محذوفٌ آخر ، وهو أنَّ المعنى : إن كنتُ افتريتُه فعليَّ عقاب جرمي ، وإن كنتُ صادقاً وكذَّبْتُمونِي فعليكم عقاب ذلك التكذيب ، إلاَّ أنَّه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه . قوله : " فَعَلَيَّ إجْرَامِي " : مبتدأٌ وخبرٌ ، أو فعلٌ وفاعلٌ . والجمهورُ على كسر همزة " إجْرَامِي " ، وهو مصدر أجْرَمَ ، وأجْرمَ هو الفاشي ، ويجوزُ " جَرَمَ " ثلاثياً وأنشدوا : [ الوافر ] @ 2967 - طَرِيدُ عَشيرةٍ ورَهِينُ ذَنْبٍ بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وجَنَى لِسَانِي @@ وقرىء في الشاذّ " أجْرَامِي " بفتحها ، حكاهُ النَّحَّاس ، وخرَّجه على أنَّه جمعُ " جُرْم " كقفل وأقْفَال ، واعلم أنَّ قوله { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } لا يدلُّ على أنَّهُ كان شاكّاً ، إلاَّ أنَّهُ قولٌ يقال على وجهِ الإنكارِ عند اليأس من القبولِ .