Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 36-44)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ } الجمهور على " أوحِيَ " مبنياً للمفعول ، والقائمُ مقام الفاعل { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ } أي : أوحِيَ إليه عدمُ إيمان بعض القوم . وقرأ أبو البرهسم " أوْحَى " مبنياً للفاعل وهو الله - سبحانه وتعالى - ، " إنَّهُ " بكسر الهمزة وفيها وجهان : أحدهما : - وهو أصلٌ للبصريين - أنَّهُ على إضمار القول . والثاني : - وهو أصلُ للكوفيين - أنَّهُ على إجراء الإيحاء مُجْرَى القول . قوله " فَلاَ تَبْتَئِسْ " هو تفتعل من البُؤسِ ، ومعناه الحزنُ في استكانة ، ويقال : ابتأسَ فلانٌ ، أي : بلغه ما يكرهه ؛ قال : [ البسيط ] @ 2968 - مَا يَقْسِمِ اللهُ أقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ مِنْهُ وأقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ البَالِ @@ وقال آخر : [ البسيط ] @ 2969 - وكَمْ مِنْ خَليلٍ أوْ حَميمٍ رُزِئْتُهُ فَلَمْ نَبْتَئِسْ والرُّزْءُ فِيهِ جَلِيلِ @@ فصل دلَّت هذه الآية على صحة القول بالقضاءِ والقدرِ ؛ لأنَّه تعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون بعد ذلك ، فلو حصل إيمانهم ؛ لكان إمَّا مع بقاءِ هذا الخبر صدقاً ، ومع بقاء هذا العلم علماً ، أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلابِ هذا العلم جهلاً . والأولُ باطلٌ ؛ لأنَّ وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدمِ الإيمانِ صدقاً ، ومع كون العلم بعد الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمعٌ بين النَّقيضين . والثاني أيضاً باطلٌ ؛ لأنَّ انقلاب علم الله - تعالى - جهلاً وخبره كذباً محال ، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بدَّ وأن يكون على أحد هذين القسمين ، وثبت أنَّ كلَّ واحدٍ منهما محالٌ كان صدور الإيمان منهم محالاً ، مع أنَّهم كانوا مأمورين به ، وأيضاً : فالقومُ كانُوا مأمورين بالإيمان ، ومن الإيمان تصديق الله تعالى - في كُلِّ ما أخبر عنه ، وقد أخبر أنَّهُ { … لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } فينبغي أن يقال : إنَّهم كانُوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنَّهم لا يؤمنون ألبتة ، وذلك تكليفٌ بالجمع بين النَّقيضين . قوله تعالى : { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } . " بأعْينِنَا " حالٌ من فاعل " اصْنَع " أي : محفُوظاً بأعيننا ، وهو مجازٌ عن كلاء الله له بالحفظ . وقيل : المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيون النَّاس ، أي : الذين يتفقَّدُونَ الأخبارَ ، والجمع حينئذٍ حقيقةٌ . وقرأ طلحةُ بنُ مصرف " بأعْيُنَّا " مدغمة . فصل قوله تعالى : { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ } الظَّاهر أنه أمر إيجاب ؛ لأنَّه لا سبيل إلى صون روح نفسه ، وأرواح غيره من الهلاكِ إلا بهذا الطريق ، وصون النَّفْسِ من الهلاك واجب ، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجبٌ ، ويحتملُ أن يكون أمر إباحةٍ ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسانُ لنفسه داراً يسكنها ، أو يكون ذلك تعليماً له ولمن بعده كيفية عمل السفينة ، ولا يكونُ ذلك من باب ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به ، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - خلَّص موسى وقومه من الطُّوفان من غير سفينةٍ ، وكان ذلك معجزة له . وأما قوله : " بأعْيُنِنَا " فلا يمكنُ إجراؤه على ظاهره لوجوهٍ : أحدها : أنه يقتضي أن يكون لله أعين كثيرة ، وهذا يناقض قوله تعالى : { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [ طه : 39 ] . وثانيها : أنَّهُ يقتضي أن يصنع الفلك بتلك الأعين ، كقولك : قطعت بالسكين ، وكتبت بالقلم ، ومعلوم أن ذلك باطل . وثالثها : أنَّه - تعالى - مُنَزَّه عن الأعضاء ، والأبعاض ؛ فوجب المصيرُ إلى التأويل ، وهو من وجوه : الأول : معنى " بِأعْيُنِنَا " أي : بنزول الملك ؛ فيعرفه بخبر السفينة ، يقال : فلان عين فلان أي : ناظر عليه . والثاني : أنَّ من كان عظيمَ العنايةِ بالشيء فإنه يضع عينه عليه ؛ فلمَّا كان وضع العين على الشَّيء سبباً لمبالغة الحفظ جعل العين كناية عن الاحتفاظ ، فلهذا قال المفسِّرون : معناه : بحفظنا إيَّاك حفظ من يراك ، ويملك دفع السُّوء عنك . وحاصل الكلام أن عمل السَّفينة مشروط بأمرين : أحدهما : أن لا يمنعه أعداؤه من ذلك العمل . والثاني : أن يكون عالماً بكيفيَّة تأليف السَّفينة وتركيبها . وقوله : " وَوَحْيِنَا " إشارة إلى أنَّه تعالى يوحي إليه كيفية عمل السَّفينة . وقوله : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } فقيل : لا تطلب منِّي تأخير العذاب عنهم ، فإنِّي قد حكمتُ عليهم بهذا الحكم ، فلمَّا علمَ نوحٌ ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] . وقيل : " لا تُخَاطِبْنِي " في تعجيلِ العذابِ فإنِّي لمَّا قضيتُ عليهم إنزال العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً . وقيل : المرادُ بـ " الذينَ ظلمُوا " ابنه وامرأته . قوله : { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ } قيل : هذا حكايةُ حال ماضيه أي : في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك . وقيل : التقديرُ : وأقبل يصنع الفلك ، فاقتصر على قوله : " يَصْنَع " . قيل : إن جبريل أتى نُوحاً عليه السَّلام فقال : إنَّ ربَّك يأمُركُ أن تَصْنَعَ الفلك ، فقال : كيف أصنع ولست بنجَّارٍ ؟ فقال : إنَّ ربَّك يقولُ : اصْنَعْ فإنَّكَ بعَيْنِي ، فأخذ القدوم ، وجعل يصنعُ ولا يخطئ . وقيل : أوحى الله إليه يجعلها مثل جُؤجُؤ الطَّائر . روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - لمَّا دَعَا على قومهِ وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] استجاب الله دعاءه وأمره أن يَغْرِسَ شجرة ليعمل منها السفينة ؛ فغرسها وانتظرها مائة سنة ، ثم نجَّرها في مائة سنة أخرى . وقيل : في أربعين سنة ، وكانت من خشب الساج . وفي التوراة أنها من الصنوبر . قال البغويُّ - رحمه الله - أمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً ، وعرضها خمسين ذراعاً ، وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقارِ وقال قتادة : كان طولها ثلثمائة ذراع [ وعرضها خمسين ذراعاً . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان طولها ألفاً ومائتي ذراع في عرض ستمائة ذراع ] . وقيل : ألف ذراعٍ في عرض مائة ذراعٍ . واتفقوا كلهم على أنَّ ارتفاعها ثلاثون ذراعاً ، وكانت ثلاث طبقات كلُّ واحدة عشرة أذرع ، فالسفلى للدَّواب والوحوش ، والوسطى للنَّاس ، والعليا للطيور ، ولها غطاء من فوق يطبق عليها . قال ابنُ الخطيب - رحمه الله - والذي نعلمه أنَّ السَّفينة كانت سعتها بحيث تسعُ المؤمنين من قومه ، ولما يحتاجون إليه ، ولحصول زوجين لكلّ حيوان ؛ لأنَّ هذا القدر مذكور في القرآن ، فأما تعيينُ ذلك القدر فغير معلوم . قوله : " وَكُلَّمَا مَرَّ " العاملُ في " كُلَّمَا " " سَخِر " ، و " قَالَ " مستأنف ، إذ هو جوابٌ لسؤال سائل . وقيل : بل العامل في " كُلَّما " " قال " ، و " سَخِرُوا " على هذا إمَّا صفة لـ " مَلأ " ، وإمَّا بدلٌ مِنْ " مرَّ " ، وهو بعيدٌ جدّاً ، إذ ليس " سَخِرَ " نوعاً من المرور ، ولا هو هو فكيف يبدل منه ؟ والجملةُ من قوله " كُلَّما " إلى آخره في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي : يصنع الفلك والحالُ أنَّه كُلَّما مرَّ . فصل اختلفوا فيما كانوا لأجله يسخرون ، فقيل : إنهم كانوا يقولون له : كنت تدَّعي الرسالة ، فصرت نجَّاراً . وقيل : كانوا يقولون : لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق . وقيل : إنَّهم كانُوا ما رَأوا السَّفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها ، فكانوا يتعجَّبُون منه ويسخرُون - وقيل : إنَّ تلك السَّفينة كانت كبيرة ، وكان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدّاً ، وكانوا يقولون له : ليس ههنا ماء ، ولا يمكنك نقلها لماءِ البحار ، فكانوا يُعدُّون ذلك من باب السخرية . وقيل : إنَّه لمَّا طال مكثه فيهم ، وكان ينذرهم بالغرقِ ، وما شاهدُوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كذبه في ذلك النقل ، فلمَّا اشتغل بعمل السفينة ، سخرُوا منه ، وكل هذه الوجوه محتملة . ثم إنَّه تعالى حكى عنه أنه كان يقول : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } أي : مثل سخريتكُمْ إذا غرقتم في الدنيا ووقعتم في العذاب يوم القيامة . وقيل : إن حكمتم علينا بالجَهْلِ فيما نصنع فإنَّا نحكم عليكم بالجهلِ فيما أنتم عليه من الكفر ، والتَّعرض لسخطِ الله وعذابه ، فأنتم أولى بالسُّخرية مِنَّا . فإن قيل : كيف تجُوزُ السخرية من النبي ؟ . فالجوابُ : هذا ازدواج للكلام يعنى : إن تَسْتجْهلوني فإنِّي أستجهلكم إذا نزل بكم العذاب . وقيل : معناه : إن تَسْخَرُوا منَّا فسترون عاقبة سخريتكم . وقيل : سمى المقابلة سخرية كقوله { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . قوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } . في " مَنْ " وجهان : أحدهما : أن تكون موصولة . والثاني : أن تكون استفهاميَّة ، وعلى كلا التقديرين فـ " تَعْلَمُونَ " إمَّا من باب اليقينِ ، فتتعدَّى لاثنين ، وإمَّا من بابِ العرفان فتتعدَّى لواحد . فإذا كانت هذه عرفانية و " مَنْ " استفهامية كانت " مَنْ " ، وما بعدها سادَّة مسدَّ مفعول واحد ، وإن كانت متعديةً لاثنين كانت سادَّة مسدَّ المفعولين وإذا كانت " تَعْلَمُونَ " متعديةً لاثنين ، و " مَنْ " موصولة كانت في موضع المفعول الأوَّلِ ، والثاني محذوفٌ قال ابن عطيَّة : " وجائزٌ أن تكون المتعدية إلى مفعولين ، واقتصر على الواحدِ " . وهذه العبارةُ ليست جيِّدة ؛ لأنَّ الاقتصار في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز ، لما تقرَّر من أنَّهما مبتدأ وخبر في الأصل ، وأمَّا حذف الاختصار ، فهو ممتنعٌ أيضاً ، إذ لا دليل على ذلك . وإن كانت متعدِّية لواحدٍ و " مَنْ " موصولةٌ فأمرها واضحٌ . قوله : " وَيَحِلُّ عليْهِ " أي : يجبُ عليه ، وينزل به " عذابٌ مقيمٌ " دائم . وحكى الزهراويُّ - رضي الله عنه - : " ويَحُلُّ " بضمِّ الحاءِ ، بمعنى يجبُ أيضاً . قوله : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } عذابنا ، أو وقته ، أو قولنا " كن " . { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } اختلفوا في التَّنور : قال عكرمةُ والزهري : هو وجه الأرض ، أي نبعث الأرض من سائر أرجائها حتى نبعث التنانير التي هي محال النار وذلك أنَّه قيل لنوح : إذ رأيت الماء قدْ فَارَ على وجه الأرض ، فاركب السَّفينة أنت وأصحابك . وروي عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال : التنور طلوع الفجر ، ونور الصَّباح وقيل : التَّنُّور أشرف مكان في الأرض وأعلاه . وقيل : " فَارَ التَّنُّورُ " يحتمل أن يكون معناه : اشتدَّ الحر كما يقالُ : حمي الوطيسُ . ومعنى الآية : إذا رأيتَ الأمر يشتد والماء يكثر فانْجُ بنفسك ومن معك إلى السفينة . وقال الحسنُ ومجاهدٌ والشعبيُّ : إنه التنور الذي يخبز فيه . وهو قول أكثر المفسِّرين ، ورواه عطيَّة عن ابن عبَّاس . قال الحسنُ : كان تَنُّوراً من حجارةٍ ، كانت حواء تخبزُ فيه ، فصار إلى نُوح - عليه الصلاة والسلام - واختلفوا في موضعه فقال مجاهدٌ والشعبيُّ : إنَّه بناحية الكوفة وعن علي أنَّهُ في مسجد الكوفة . وقال مقاتلٌ بموضع يقال له : عين وَرْدة بالشَّام وقيل : عين بالهند . قال الزمخشريُّ : " حتَّى " هي التي يُبْتَدَأ بعدها الكلام ، دخلت على الجملة من الشَّرطِ والجزاء ، ووقعت غاية لقوله { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ } أي : وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد والألف واللاَّم في " التَّنُّور " قيل : للعهدِ . وقيل : للجنس . ووزن " تَنُّور " قيل : " تَفْعُول " من لفظ النور فقلبت الواوُ الأولى همزة لانضمامها . ثم حذفت تخفيفاً ، ثم شدَّدُوا النون كالعوضِ عن المحذوف ، ويعزى هذا لثعلب . وقيل : وزنه " فَعُّول " ويعزى لأبي علي الفارسيِّ . وقيل : هو أعجميٌّ ، وعلى هذا فلا اشتقاقَ له . والمشهورُ أنَّه ممَّا اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصَّابون . ومعنى " فَارَ " أي : غلا قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النَّار ، ولا شبهة في أنَّ نفس التَّنور لا يفورُ ، فالمرادُ : فار الماءُ في التَّنور . قال اللَّيْثُ - رحمه الله - : " التَّنُّور عمَّت بكل لسان وصاحبه تنَّار قال الأزهريُّ : وهذا يدلُّ على أن الاسم يكون أعْجَميّاً فتعربه العرب ، فيصير عربيّاً ، والدليلُ على ذلك أنَّ الأصل " تَنَرَ " ، ولا يعرفُ في كلام العرب " تنر " وهو نظير ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الدِّيباج والدِّينار ، والسُّندس ، والإستبرق ، فإنَّ العرب تكلَّمُوا بها ؛ فصارت عربيةً " . قيل : إنَّ امرأته كانت تخبز في ذلك التنور ، فأخبرته بخروج الماءِ من ذلك التنور فاشتغل في الحالِ بوضع هذه الأشياء في السفينة . قوله : { قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } قرأ العامَّة بإضافة " كُل " لـ " زَوْجَيْنِ " . وقرأ حفص بتنوين " كُل " ، فأمَّا العامة فقيل : إنَّ مفعول " احْمِلْ " " اثْنَيْن " ، و " مِنْ " كُلِّ زَوْجَيْنِ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعول ؛ لأنه كان صفة للنَّكرة ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً وقيل : بل " مِنْ " زائدة ، و " كُل " مفعول به ، و " اثْنَيْن " نعت لـ " زَوْجَيْن " على التَّأكيدِ ، وهذا إنَّما يتمُّ على قول من يرى زيادة " مِنْ " مطلقاً ، أو في كلامٍ موجب . وقيل : قوله : " زَوْجَيْن " بمعنى العُمومِ أي : من كُل ما له ازدواجٌ ، هذا معنى قوله : { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ } وهو قولُ الفارسيِّ وغيره . قال ابنُ عطيَّة : ولو كان المعنى : احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين ، لوجب أن يحمل من كُلِّ نوع أربعة ، والزوج في مشهور كلامهم للواحد ممَّا له ازدواجٌ . قال - سبحانه وتعالى - : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] ، ويقال للمرأة زوجٌ ، قال تعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] يعني المرأة ، وهو زوجها ، وقال : { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [ النجم : 45 ] فالواحدُ يقال له : زوجٌ ، قال تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] ، { وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ } [ الأنعام : 144 ] . فالزَّوجان : عبارة عن كل اثنين لا يَسْتغني أحدهما عن الآخر ، يقال لكُلِّ واحدٍ منهما زوج ، يقال زوج خفٍّ ، وزوج نَعْلِ ، والمراد بالزَّوجين ههنا : الذَّكر والأنثى . وأمَّا قراءة حفص فمعناها : من كلِّ حيوان أو من كلِّ صنف ، و " زَوْجَيْن " مفعولٌ به ، و " اثْنَيْنِ " نعتٌ على التأكيد ، كقوله { لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ } [ النحل : 51 ] ، و " مِنْ كُلّ " على هذه القراءة يجوز أن يتعلق بـ " احْمِلْ " وهو الظَّاهرُ ، وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من " زَوْجَيْنِ " وهذا الخلاف والتخريج جاريان أيضاً في سورة " قَدْ أفْلَحَ " . فصل اختلفوا في أنه هل دخل في قوله : " زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ " غير الحيوانِ أم لا ؟ فنقول فالحيوانُ مرادٌ ولا بد ، وأما النَّباتُ فاللفظ لا يدل عليه ، إلا أنه بقرينة الحال لا يبعد دخوله لأنَّ الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه . قال ابنُ الخطيب : " وروي عن ابن مسعودٍ أنه قال : لم يستطع نوحٌ أن يحمل الأسد حتَّى ألقيت عليه الحمى ، وذلك أنَّ نُوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : يا ربِّ فمن أين أطعم الأسد ، إذا حملته ؟ قال الله - تعالى - : " فسوف أشغله عن الطعام فسلَّط الله عليه الحمى " وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها ، فإنَّ حاجة الفيل إلى الطَّعام أكثر ، وليست به حُمَّى " . " وروى زيد بن أسلم عن أبيه مرسلاً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لمَّا حمل نوح في السفينة من كُلٍّ زوجين اثنين ، قال أصحابه : وكيف يطمئن ، أو تطمئن المواشي ، ومعنا الأسد ، فسلَّط الله عليه الحمى ، فكانت أوَّلُ حمى نزلت الأرض ، ثم شكوا الفأرة فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا ، فأوحى الله إلى الأسدِ ، فعطس الأسد فخرجت الهرة ؛ فتخبأت الفأرة منها . " قوله : " وأهْلَك " نسقٌ على " اثْنَيْنِ " في قراءة من أضاف " كُل " لـ " زَوْجَيْنِ " ، وعلى " زَوْجَيْنِ " في قراءة من نوَّن " كُل " وقوله : " إلاَّ من سبقَ " استثناءٌ متصل في موجب ، فهو واجب النَّصْب على المشهُور . وقوله : " وَمَنْ آمَنَ " مفعول به نسقاً على مفعول " احْمِلْ " . فصل روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة السلام - قال يا رب : كيف أحملُ من كلِّ زوجين اثنين ؟ فحشر الله - تعالى - إليه السباع والطير ، فجعل يضربُ بيده في كل جنس فيقع الذَّكرُ في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى ، فيجعلهما في السفينة . والمراد بأهله : ولده وعياله { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } بالهلاك يعني : امرأته واعلة وابنه كنعان . " ومَنْ آمَنَ " يعنى : واحمل من آمن بك ، قال تعالى : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } . قال قتادةُ وابن جريجٍ ومحمدُ بنُ كعبٍ القرظيُّ : لم يكن في السفينة إلا ثمانية نفر نوح وامرأته وثلاثة بنين سام وحام ويافث ونساؤهم . وقال الأعمشُ : كانوا سبعة : نوحٌ وثلاثة بنين له وثلاثُ كنائن وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم ، نوح وبنوه : سام وحام ويافث ، وستة أناس ممن كان به ، وأزواجهم جميعاً . وقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً ، وبنيه الثلاث ونساءهُم . فجميعهم ثمانية وسبعون ، نصفهم رجال ، ونصف نساء . وعن ابن عباسٍ : كان في سفينة نوح عليه السلام ثمانون رجلاً ، أحدهم جرهم ، يقال : إنَّ في ناحية " المَوْصِل " قريةً ، يقال لها : قريةُ الثَّمانين ، سمِّيت بذلك ؛ لأنَّهم لما خرجوا من السَّفينة بنوها ، فسُمِّيت بهم . قال مقاتلٌ : حمل نوحٌ معه جسد آدم ، فجعله معترضاً بين الرِّجال والنِّساء . وقال الحسنُ : لم يحمل نوحٌ في السفينة إلاَّ ما يلد ويبيض فأما ما يتولَّد من الطين ؛ فالحشرات ، والبقِّ ، والبعوض ؛ فلم يحمل منه . ثم قال تعالى { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } يعني : حكم الله عليه بالهلاك ، وهو ابنه ، وزوجته ، وكانا كافرين ، فأما ابنه فهو يام ، وتسميه أهل الكتاب : كنعان ، فهو الذي انعزل عنه ، أما امرأةُ نوحٍ ، فهي أمُّ أولاده كلهم : حام ، وسام ، ويافث ، وهو أدرك ؛ انعزل ، وغرق ، وعابر ، وقد مات قبل الطوفان ، فقيل مع من غرق وكانت خمس سبق عليها القول بكفرها ، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها ماتت بعد ذلك . فإن قيل : الإنسان أشرف من سائر الحيواناتِ ، فما الفائدة من ذكر الحيوانات ؟ فالجوابُ : أنَّ الإنسانَ عاقلٌ وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاكِ عن نفسه ، فلا حاجة إلى المبالغة في التَّرغيب فيه ، بخلاف السَّعْي في تخليص سائر الحيوانات ؛ فلهذا وقع الابتداء به . فإن قيل : الذين دخلوا السَّفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله : { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [ الشعراء : 54 ] ؟ فالجواب : كلا اللفظين جائز ، والتقدير - ههنا - : وما آمن معه إلا نفر قليل . فصل احتجوا بقوله { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } في إثبات الفضاءِ السَّابق والقدر الواجب ، لأنَّ قوله { سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ } يدلُّ على أنَّ من سبق عليه القول ومن آمَنَ لا يغيَّرُ عن حاله ، فهو كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه " . قال تعالى : { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا } . يجُوزُ أن يكون فاعلُ " قَالَ " ضمير نوح - عليه الصلاة والسلام - ، ويجوزُ أن يكون ضمير الباري - تعالى جل ذكره - أي : وقال الله لنوح ومنه معهُ . و " فِيهَا " متعلقٌ بـ " ارْكَبُوا " وعُدِّي بـ " في " لتضَمُّنه معنى " ادخلوا فيها راكبينَ " أو سيروا فيها . وقيل : تقديره : اركبوا الماء فيها . وقيل : " في " زائدة للتَّوكيد . والركوب : العلو على ظهر الشيءِ ، ومنه ركوب الدَّابة ، وركوب السَّفينة ، وركوب البحر ، وكل شيء علا شيئاً ، فقد ركبه ، ويقال : ركبه الدَّين . قال الليثُ - رحمه الله - : وتسمي العربُ من يركبُ السَّفينة : رُكَّابَ السَّفينة ، وأمَّا الركبانُ ، والأركُوبُ ، والرَّكْبُ : فركَّابُ الدَّوابِّ . قال الواحدي : ولفظة " فِي " في قوله " ارْكَبُوا فيهَا " لا يجوز أن تكون من صلة الركوب ؛ لأنَّه يقال : ركبت السفينة ولا يقال : ركبت في السَّفينة ، بل الوجهُ أن يقول مفعول " ارْكَبُوا " محذوف والتقدير : " اركبوا الماء في السَّفينة " . وأيضاً يجوز أن تكون فائدة هذه الزيادة ، أنَّه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال : اركبوها ، لتوهَّمُوا أنَّه أمرهم أن يكونوا على ظهر السَّفينة . قال قتادةُ : ركبُوا السَّفينة يوم العاشر من شهر رجب ؛ فسارُوا مائةً وخمسين يوماً ، واستقرَّتْ على الجُودي شهراً ، وكان خروجهم من السفينة يوم عاشوراء من المحرَّمِ . قوله : { بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } . يجوز أن يكون هذا الجار والمجرور حالاً من فاعل " اركبوا " أو من " ها " في " فيها " ويكونُ " مجراها " ، و " مرساها " فاعلين بالاستقرار الذي تضمَّنهُ الجارُّ لوقوعه حالاً . ويجوز أن يكون " بِسْمِ اللهِ " خبراً مقدَّماً ، و " مَجْراها " مبتدأ مؤخراً ، والجملة أيضاً حالٌ ممَّا تقدَّم ، وهي على كلا التقديرين حالٌ مقدرةٌ كذا أعربه أبو البقاء ، وغيره . إلاَّ أنَّ مكيّاً منع ذلك لخلو الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أعربنا الجملة أو الجارَّ حالاً من فاعل " ارْكبُوا " قال : ولا يَحْسُنُ أن تكون هذه الجملة حالاً من فاعل " اركبُوا " ؛ لأنَّه لا عائد في الجملةِ يعودُ على الضمير في " اركبُوا " لأن المضمر في " بِسْمِ اللهِ " إنْ جعلته خبراً لـ " مَجْراهَا " فإنَّما يعودُ على المبتدأ ، وهو مجراها ، وإن رفعت " مَجْرَاهَا " بالظَّرفِ لم يكن فيه ضمير الهاءِ في " مَجْراهَا " وإنما تعودُ على الضمير في " فِيهَا " . وإذا نصبت " مَجْرَاهَا " على الظرف عمل فيه " بِسْمِ الله " وكانت الجملةُ حالاً من فعل " ارْكَبُوا " . وقيل : " بِسْمِ اللهِ " حال من فاعل " ارْكَبُوا " و " مَجْراهَا ومُرْسَاهَا " في موضع الظرف المكاني ، أو الزماني . والتقدير : اركبوا فيها مُسَمِّين موضع جريانها ، ورُسُوِّها ، أو وقت جريانها ورسوِّها . والعامل في هذين الظرفين حينئذٍ ما تضمَّنه " بِسْمِ اللهِ " من الاستقرار ، والتقدير : اركبوا فيها مُتبرِّكين باسم الله في هذين المكانين ، أو الوقتين . قال مكي : ولا يجوز أن يكون العاملُ فيهما " ارْكَبُوا " ؛ لأنه لم يُرِدْ : اركبُوا فيها في وقتِ الجَرْي ، والرسُوِّ ، إنَّما المعنى : سمُّوُا اسم الله في وقت الجَرْيِ والرُّسُوِّ . ويجُوزُ أيضاً أن يكون " مَجْرَاهَا ومُرْسَاها " مصدرين ، و " بِسْمِ الله " حالٌ كما تقدَّم ، رافعاً لهذين المصدرين على الفاعليَّة أي : استقرَّ بسم الله إجراؤها ، وإرساؤها ، ولا يكونُ الجارُّ حينئذٍ إلاَّ حالاً من " هَا " في " فيها " لوجود الرابط ، ولا يكونُ حالاً من فاعل " اركبُوا " لعدم الرَّابط . وعلى هذه الأعاريب يكونُ الكلامُ جملةً واحدةً . ويجوز أن يكون { بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بالأولى من حيث الإعراب ، ويكون قد أمرهم في الجملة الأولى بالرُّكُوب ، وأخبر أنَّ مجراها ومرساها باسم الله . فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله . قال بعضُ المفسِّرين : كان نوح عليه الصلاة والسلام إذا أراد إجراء السفينة قال : " بِسْمِ اللهِ مجرَاها " فتجري ، وإذا أراد أن ترسُو قال : " بِسْمِ الله مرْساهَا " فترسو ، فالجملتان محكيتان بـ " قَالَ " . وقرأ الأخوان وحفص " مَجْرَاها " بفتح الميم ، والباقون بضمها . واتَّفق السَّبعة على ضمِّ ميم " مُرْسَاها " . وقرأ ابن مسعود ، وعيسى الثقفي وزيد بن علي ، والأعمش " مَرْسَاها " بفتح الميم أيضاً . فالضمُّ فيهما ، لأنهما من " أجْرَى وأرْسَى " ، والفتح لأنَّهُما من " جَرَتْ ورَسَتْ " وهما : إمَّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران على ما سبق من التقادير . وقرأ الضحاك ، والنخعي ، وابن وثابٍ ، ومجاهدٌ ، وأبو رجاء ، والكلبي ، والجحدري ، وابن جندب مجريها ومرسيها بكسر الراء ، والسين بعدهما ياء صريحة ، وهما اسما فاعلين من " أجرى وأرسى " ، وتخريجهما على أنهما بدلان من اسم الله . قال ابنُ عطيَّة وأبو البقاء ، ومكي : إنَّهما نعتان للهِ - تعالى - ، وهذا الذي ذكروه إنَّما يتمُّ على تقدير كونهما معرفتين بتمحض الإضافة ، وقال الخليلُ : " إنَّ كُلَّ إضافةٍ غيرُ محضةٍ قد تُجعل محضة إلاَّ إضافة الصفةِ المشبهة ، فلا تتمحَّض " . وقال مكي : " ولو جعلت " مَجْراهَا " ، و " مُرْسَاها " في موضع اسم الفاعل لكانت حالاً مقدرة ، ولجاز ذلك وكانت في موضع نصبٍ على الحال من اسم الله تعالى " . والرُّسوُّ : الثَّبات ، والاستقرار ، يقال : رَسَا يَرْسُو وأرْسَيْتُهُ أنَا ؛ قال : [ الكامل ] @ 2970 - فَصَبرْتُ نفْساً عند ذلكَ حُرَّةً تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّع @@ أي : تَثْبُتُ وتَسْتَقِرُّ عندما تضطربُ وتتحرك نفسُ الجبان . قوله : { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيه سؤال ، وهو إن كان ذلك وقت إظهارِ الضر ، فكيف يليق به هذا الذكر ؟ . والجوابُ : لعل القوم الذين ركبوا السَّفينة اعتقدُوا في أنفسهم أنَّا إنَّما نجونا ببركةِ علمنا فالله تعالى نبَّههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب ، فإنَّ الإنسان لا ينفكُّ من أنواع الزلاتِ وظلمات الشبهات ، وفي جميع الأحوال ، فهو محتاجٌ إلى إعانةِ الله ، وفضله ، وإحسانه ، وأن يكون غفوراً لذنوبه رحيماً لعقوبته . قوله : " وهِيَ تَجْرِي " في هذه الجملةِ ، ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّها مستأنفةٌ ، أخبر الله تعالى عن السفينة بذلك . والثاني : أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من الضَّمير المستتر في " بِسْمِ اللهِ " أي : جريانها استقرَّ بسم الله حال كونها جارية . الثالث : أنَّها حالٌ من شيءٍ محذوفٍ تضَمَّنته جملةٌ دلَّ عليها سياقُ الكلامِ . قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم اتَّصل قوله : " وهِيَ تَجْرِي بهِمْ " ؟ قلت : بمحذُوفٍ دلَّ عليه قوله : " اركبُوا فيها بسْمِ الله " كأنَّهُ قيل : فركبوا فيها يقولون : " بسم الله وهي تجري بهم " . وقوله " بِهِمْ " يجوزُ فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلَّق بـ " تَجْرِي " . والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ أي : تجري ملتبسةً بهم ، ولذلك فسَّرهُ الزمخشريُّ بقوله : " أي : تجْرِي وهُمْ فيها " . وقوله : " كالْجِبَالِ " صفة لـ " مَوْجٍ " . فصل قال ابن جريرٍ ، وغيره : إنَّ الطُّوفان كان في ثالث عشر شهر آب في عادة القبطِ ، وإنَّ الماء ارتفع على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً ، وهو الذي عند أهل الكتاب ، وقيل : ثمانين ذراعاً وعمَّ جميع الأرض طولاً وعرْضاً . والمَوْجُ جمع " مَوْجة " والموج : ما ارتفع من الماءِ إذا اشتدَّ عليه الريح . وهذا يدلُّ على أنَّهُ حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة . فإن قيل : الجريانُ في الموج يوجب الغرقَ . فالجوابُ : أنَّ الأمواجَ لمَّا أحاطت بالسَّفينة من جوانبها أشبهت تلك السَّفينة كأنَّها جرت في داخل الأمواج . قوله تعالى : { وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ } الجمهور على كسْرِ تنوين " نوح " لالتقاء الساكنين . وقرأ وكيع بضمِّه إتباعاً لحركةِ الإعراب ، واسترذلَ أبو حاتمٍ هذه القراءة ، وقال : " هي لغةُ سوءٍ لا تُعْرَفُ " . وقرأ العامَّةُ : " ابنهُ " بوصل هاء الكناية بواو ، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية . وقرأ ابنُ عباس بسكون الهاء . قال بعضهم : هذا مخصُوصٌ بالضَّرُورة ؛ وأنشد : [ البسيط ] @ 2971 - وأشْرَبُ الماء ما بِي نحوهُ عطشٌ إلاَّ لأنَّ عُيُونه سَيْلُ وَادِيهَا @@ وبعضهم لا يخُصُّه بها ، وقال ابن عطية : إنَّا لغةٌ لأزْد السَّراة ؛ ومنه قوله : [ الطويل ] @ 2972 - … ومِطْوايَ مُشْتاقَانِ لَهْ أرِقَانِ @@ وقال بعضهم : " هي لغة عُقَيْل ، وبني كلاب " . وقرأ السدي : " ابْنَاهُ " بألف وهاء السكت ، قال ابنُ جنِّي : " وهو على النّداء " . وقال أبو البقاء : " ابناه " على الترثِّي وليس بندبة ؛ لأنَّ النُّدبة لا تكونُ بالهمزة . وهو كلامٌ مشكلٌ في نفسه ، وأين الهمزةُ هنا ؟ إن عنى همزة النِّداء ، فلا نُسَلِّم أنَّ المقدَّر من حروفِ النِّداءِ هو الهمزةُ ؛ لأنَّ النُّحاة نصُّوا على أنَّه لا يضمر من حروف النِّداءِ إلاَّ " يَا " لأنَّها أم الباب . وقوله : " الترثِّي " هو قريبٌ في المعنى من الندبة . وقد نصوا على أنَّه لا يجوزُ حذف [ حرف ] النداء من المندوب ، وهذا شبيهٌ به . وقرأ عليٌّ - كرم الله وجهه - : " ابنها " إضافة إلى امرأته كأنه اعتبر قوله : " ليْسَ من أهلكَ " ، وقوله : " ابْنِي " و { مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] لا يدل له لاحتمالِ أن يكون ذلك لأجل الحنوّ ، وهو قول الحسن ، وجماعة . وقرأ محمد بن عليّ ، وعروة بن الزبير : " ابْنَهَ " بهاء مفتوحة دون ألف ، وهي كالقراءةِ قبلها ، إلاَّ أنه حذف ألف " ها " مجتزئاً عنها بالفتحةِ ، كما تحذف الياءُ مُجْتَزأ عنها بالكسرة ، قال ابن عطيَّة : " هي لغةٌ " ؛ وأنشد : [ البسيط ] @ 2973 - إمَّا تقُودُ بِهَا شَاةً فتأكُلُهَا أو أن تَبِيعهَ في بَعْضِ الأرَاكِيبِ @@ يريد : تَبِيعهَا " فاجتزأ بالفتحةِ عن الألفِ ، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله : - وأنشده ابن الأعرابي على ذلك - : [ الوافر ] @ 2974 - فَلَسْتُ براجعٍ ما فَاتَ مِنِّي بِلَهْفَ ، ولا بِلَيْتَ ، ولا لَوَ انِّي @@ يريد : " يَا لَهْفَا " فحذف ، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة ، ويمنع في السَّعة : " يا غُلامَ " في : يا غُلامَا . وسيأتي في نحو { يٰأَبتِ } [ يوسف : 4 ] بالفتح : هل ثمَّ ألفٌ محذوفة أم لا ؟ وتقدَّم خلاف في نحو : يا ابن أمَّ ، ويا ابن عمَّ : هل ثمَّ أَلفٌ محذوفة مجتزأٌ عنها بالفتحةِ أم لا ؟ فهذا أيضاً كذلك ، ولكن الظَّاهر عدم اقتياسه ، وقد خطَّأ النَّحَّاسُ أبا حاتم في حذف هذه الألف ، وفيه نظر . قوله : { وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } جملةٌ في موضع نصب على الحالِ ، وصاحبها هو " ابْنَهُ " والحالُ تأتي من المنادى لأنَّه مفعولٌ به . والمَعْزِل - بكسر الزاي - اسم مكن العزلة ، وكذلك اسم الزمان أيضاً ، وبالفتح هو المصدر . قال أبو البقاء : " ولمْ أعلم أحداً قرأ بالفتح " . قال شهابُ الدِّين : لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفه ؛ فكيف يقرأ به إلاَّ بمجازٍ بعيد ؟ . وأصله : من العَزْل ، وهو التَّنحية ، والإبعاد تقول : كنت بمعزلٍ عن كذا ، أي : بموضع قد عُزِل منه ، قيل : كان بمعزلٍ عن السفينة ، لأنه كان يظنُّ أنَّ الجبل يمنعه من الغرقِ . وقيل : كان بمعزل عن أبيه وإخوته وقومه ، وقيل : كان في معزل من الكفار كأنَّه انفرد عنهم فظنَّ نوحٌ أنَّ ذلك محبة لمفارقتهم . فصل اختلفوا في أنه هل كان ابناً له ؟ فقيل : كان ابنه حقيقة لنصِّ القرآن ، وصرفُ هذا اللفظ إلى أنَّهُ رباه ، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السَّبب ، صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة ، والمخالفُ لهذا الظَّاهر إنَّما خالفهُ استبعاداً لأن يكون ولد الرسول كافراً ، وهذا ليس ببعيد ؛ فإنَّه قد ثبت بنصِّ القرآن أنَّ والد الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان كافراً ، فكذلك ههنا . فإن قيل : لمَّا دَعَا وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] فكيف نادى ابنه مع كفره ؟ . فالجواب من وجوه : الأول : أنَّهُ كان ينافقُ أباه ؛ فظنَّ نوحٌ أنَّهُ مؤمنٌ ؛ فلذلك ناداه ، ولولا ذلك لما أحب نجاته . الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يعلمُ أنه كافرٌ لكن ظنَّ أنه لمَّا شاهد الغرق ، والأهوال العظيمة فإنَّهُ يقبل الإيمان ، فكان قوله : { يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا } كالدَّلائلِ على أنَّهُ طالبٌ منه الإيمان ، وتأكد هذا بقوله : { وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ } أي : تابعهم في الكفر ، واركب مع المؤمنين . الثالث : أنَّ شفقة الأبوة لعلَّها حملته على ذلك النداء ، والذي تقدَّم من قوله : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } [ هود : 40 ] كان كالمجمل ، فلعلَّه جوَّز ألاَّ يكون هو داخلاً فيه . وقيل : كان ابن امرأته ، ويدلُّ عليه ما تقدَّم من القراءة . وقال قتادة : سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه فقلت : إنَّ الله - تعالى - حكى عنه أنه قال : { إِنَّ ٱبُنِي مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] وأنت تقولُ : ما كان ابناً له ، فقال : لَمْ يقل : إنَّ ابني منِّي ، وإنَّما قال : من أهلي ، وهذا يدلُّ على قولي . وقيل : ولد على فراشه ، قالوا : لقوله تعالى في امرأة نوح ، وامرأة لوط { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] . قال ابن الخطيب : وهذا قول خبيثٌ يجب صون منصب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عن هذه الفضيحةِ لا سيما وهو على خلاف نصِّ القرآن . وأمَّا قوله تعالى : { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] فليس فيه أنَّ تلك الخيانة كانت بالسَّبب الذي ذكروه . قيل لابن عباس - رضي الله عنه - : كيف كانت تلك الخيانةُ ، فقال : كانت امرأة نوح تقول : زَوْجي مجنونٌ ، وامرأة لوط تدلُّ الناس على ضيفه ، إذا نزلُوا به ، ويدلُّ على فسادِ هذا القول قوله تعالى : { ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ } [ النور : 26 ] وقوله : { وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 3 ] . قوله : { يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا } قرأ البزيُّ ، وقالون ، وخلاَّد بإظهار باء " ارْكَب " قبل ميم " مَعَنَا " والباقون بإدغامها في الميم ، وقرأ عاصم هنا " يَا بُنَيَّ " بفتح الياء . وأمَّا في غير هذه السُّورة فإنَّ حفصاً عنه فعل ذلك . والباقون : بكسر الياء في جميع القرآن إلا ابن كثير ؛ فإنَّهُ في الأول من لقمان ، وهو قوله : { يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ } [ لقمان : 13 ] فإنَّه سكَّنهُ وصْلاً ووقْفاً ، وفي الثاني كغيره أنَّهُ يكسر ياءه ، وحفص على أصله من فتحه . وفي الثالث وهو قوله : { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } [ لقمان : 17 ] اختلف عنه فروى البزي كحفصٍ ، وروى عنه قنبل السُّكون كالأول . هذا ضبط القراءة . وأمَّا تخريجها فمن فتح فقيل : أصلها : " يَا بُنَيَّا " بالألف فحذفت الألفُ تخفيفاً ، اجتزأ عنها بالفتحةِ كما تقدَّم . وقيل : بل حذفت لالتقاءِ الساكنين ؛ لأنَّهما وقع بعدها راءُ " ارْكَبْ " وهذا تعليلٌ فاسدٌ جدّاً ، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضع حيث لا ساكنان . وكأنَّ هذا المُعلِّل لم يعلمْ بقراءةِ عاصم في غير هذه السورة ، ولا بقراءة البزِّي في " لقمان " ، وقد نقل ذلك أبو البقاءِ ولمْ ينكرهُ . وكذلك قال الزمخشريُّ أيضاً . وأمَّا من كسر فحذفت الياءُ أيضاً : إمَّا تخفيفاً وهو الصحيحُ ، وإما لالتقاء الساكنين ، وقد تقدَّم فسادهُ . وأمَّا من سكَّن فلما رأى من الثِّقلِ مع مطلق الحركةِ ، ولا شكَّ أنَّ السُّكونَ من أخفِّ الحركاتِ ، ولا يقالُ : فلمَ وافق ابنُ كثير غير حفص في ثاني لقمان ، ووافق حفصاً في الأخيرة في رواية البزي عنه ، وسكَّن الأول ؟ لأنَّ ذلك جمع بين اللغات ، والمفرِّق آتٍ بمحالٍ . وأصلُ هذه اللفظة بثلاث ياءات : الأولى للتَّصغير ، والثانيةُ لامُ الكلمة ، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالةِ أو مبدلةٌ من واوٍ ؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أول الكتاب في لام " ابن " ما هي ؟ والثالثة ياءُ المتكلِّم مضافٌ إليها ، وهي التي طرأ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالها . فصل لمَّا حكى عن نوح أنَّه دعا ابنه إلى رُكوبِ السَّفينة حكى عن ابنه أنَّهُ قال : { سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ } سأصير وألتَجِىءُ إلى جبل { يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ } يمنعني من الغرقِ ، وهذا يدل على أنَّ الابنَ كان مُصِرّاً على الكفر ، فعند هذا قال نوحٌ : { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي : من عذابِ الله { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } . وههنا سؤال : وهو أن الذي رحمه الله معصومٌ ، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم ؟ والجواب من وجوه : الأول : أنَّهُ استثناءٌ منقطع ، وذلك أن تجعل " عَاصماً " على حقيقته ، و " مَنْ رَحِمَ " هو المعصوم ، وفي " رَحِمَ " ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على الله تعالى ، ومفعولهُ ضميرُ الموصولِ وهو " مَنْ " حذف لاستكمالِ الشروطِ ، والتقديرُ : لا عاصم اليوم ألبتة من أمر الله ، لكن من رحمه الله فهو معصوم . الثاني : أن يكون المراد بـ " مَنْ رَحِمَ " هو الباري تعالى كأنه قيل : لا عاصم اليومَ إلاَّ الرَّاحمَ . الثالث : أنَّ عاصماً بمعنى معصُوم ، وفاعل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو : { مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] أي : مَدْفُوق ؛ وأنشدوا : [ المتقارب ] @ 2975 - بَطِيءُ القيامِ رَخِيمُ الكَلاَ مِ أمْسَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا @@ أي : مَفْتُوناً ، و " مَنْ " مرادٌ بها المعصومُ ، والتقدير : لا معصوم اليوم من أمْرِ الله إلاَّ من رحمه الله فإنَّه يُعْصَمُ . الرابع : أن يكون " عاصم " هنا بمعنى النَّسب ، أي : ذا عِصْمَة نحو : لابن وتامر ، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم ، والمراد به هنا المعصوم . وهو على هذه التَّقادير استثناءٌ متصلٌ ، وقد جعله الزمخشريُّ متصلآً لمدرك آخر ، وهو حذفُ مضافٍ تقديره : لا يعصمك اليوم مُعْتَصمٌ قط من جبلٍ ونحوه سوى مُعْتَصمٍ واحدٍ ، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم ، يعني في السفينة . وأمَّا خبرُ " لا " فالأحسنُ أن يجعل محذوفاً ، وذلك لأنَّهُ إذا دلَّ عليه دليلٌ ؛ وجب حذفه عند تميم ، وكثر عند الحجاز ، والتقدير : لا عاصم موجودٌ . وجوَّز الحوفيُّ وابنُ عطيَّة أن يكون خبرها هو الظرف وهو اليوم . قال الحوفيُّ : ويجوز أن يكون " اليَوْمَ " خبراً فيتعلَّق بالاستقرار ، وبه يتعلق " منْ أمْرِ اللهِ " . وقد ردَّ أبو البقاءِ ذلك فقال : فأمَّا خبرُ " لا " فلا يجوزُ أن يكون " اليَوْمَ " ؛ لأنَّ ظرف الزَّمان لا يكون خبراً عن الجُثَّة ، بل الخبرُ " مِنْ أمْرِ الله " و " اليَوْمَ " معمولُ " مِنْ أمْرِ اللهِ " . وأمَّا اليَوْمَ " و " مِنْ أمْرِ الله " فقد تقدَّم أنَّ بعضهم جعل أحدهما خبراً ، فيتعلقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمَّنه الواقعُ خبراً ، ويجوزُ في " اليَوْمَ " أن يتعلق بنفس " مِنْ أمْرِ الله " لكونه بمعنى الفعل . وجوَّز الحوفيُّ أن يكون " اليَوْمَ " نعتاً لـ " عَاصِمَ " وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعه خبراً عن الجُثَّة . وقرىء " إلاَّ مَنْ رُحِمَ " مبنيّاً للمفعول ، وهي مقوِّيةٌ لقول من يدعي أنَّ " مَنْ رَحمَ " في قراءةِ العامَّة المرادُ به المرحوم لا الرَّاحم ، كما تقدَّم تأويلهُ . ولا يجوزُ أن يكون " اليوْمَ " ولا " مِنْ أمْرِ الله " متعلقين بـ " عَاصم " وكذلك الواحد منهما ؛ لأنَّه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً ، ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب ، ومتى أعرب نُوِّن ، ولا عبرة بخلاف الزجاج حيثُ زعم أنَّ اسم " لا " معربٌ حذف تنوينه تخفيفاً . ثم قال سبحانه وتعالى : { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ } فصار { مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } . روي أنَّ الماءَ علا على رؤوس الجبالِ قدر أربعين ذراعاً ، وقيل : خمسة عشر ذراعاً . قوله تعالى : { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ } قيل : هذا مجاز ، لأنَّها موات . وقيل : جعل فيها ما تُمَيِّز به . والذي قال إنَّه مجازٌ قال : لو فُتِّشَ كلام العرب والعجم ما وُجِدَ فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها ، وبلاغة وصفها ، واشتمال المعاني فيها . والبلعُ معروفٌ . والفعل منه مكسُورُ العين ومفتوحها : بَلِعَ وبَلَعَ حكاهما الكسائي والفراء . قيل : والفصيحُ " بَلِعَ " بكسر اللام " يَبْلَع " بفتحها . والإقلاعُ : الإمساك ، ومنه " أقْلَعَت الحُمَّى " . وقيل : أقلع عن الشيء ، أي : تركه وهو قريبٌ من الأول . والغَيْضُ : النقصان ، يقال : غاض الماءُ يغيضُ غَيَْضاً ، ومغاضاً إذا نقص ، وغضته أنا . وهذا من باب فَعَلَ الشيءُ وفعلتهُ أنا . ومثله فغر الفَمُ وفغرته ، ودلع اللسانُ ودلعتُه ، ونَقَصَ الشَّيء ونقَصْتُه ، وفعله لازم ومتعد ، فمن اللازم قوله تعالى : { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ } [ الرعد : 8 ] ، أي : تَنْقُص . وقيل : بل هو هنا مُتعدٍّ وسيأتي ، ومن المتعدِّي هذه الآيةُ ؛ لأنَّه لا يُبْنَى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلاَّ المتعدِّي بنفسه . والجُودِيُّ : جبلٌ بعينه بالموصل ، وقيل : بل كلُّ جبلٍ يقال له جُوديٌّ ، منه قول عمرو بن نفيل : [ البسيط ] @ 2976 - سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ وقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ @@ قال شهابُ الدين : ولا أدري ما في ذلك من الدَّلالةِ على أنَّهُ عامٌّ في كلِّ جبلٍ . وقرأ الأعمش وابنُ أبي عبلة بتخفيف ياء " الجُودِيْ " . قال ابنُ عطيَّة : وهما لغتان : والصَّوابُ أن يقال : خُفِّفَتْ ياءُ النَّسَب ، وإن كان يجوزُ ذلك في كلامهم الفَاشِي . قوله " بُعْداً " منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر ، أي : وقيل : ابعدُوا بُعْداً ، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو : جَدْعاً ، يقال : بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك ، قال : [ الطويل ] @ 2977 - يَقُولُونَ لا تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُوارِي الصَّفَائِحُ @@ واللاَّمُ إمَّا أن تتعلق بفعلٍ محذوفٍ ، ويكونُ على سبيل البيانِ كما تقدَّم في نحو " سَقْياً لَكَ وَرَعْياً " ، وإمَّا أن تتعلق بـ " قيل " ، أي : لأجلهم هذا القول . قال الزمخشري : ومجيءُ إخباره على الفعل المبني للمفعول للدَّلالة على الجلال والكبرياء ، وأنَّ تلك الأمُور العظام لا تكونُ إلاَّ بفعل فاعلٍ قادرٍ ، وتكوين مكوِّنٍ قاهرٍ ، وأنَّ فاعل هذه الأفعال واحد لا يشاركُ في أفعاله ، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره : يا أرضُ ابلعي ماءك ، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل إلاَّ هو ، ولا أن تستوي السفينة على الجُوديِّ ، وتستقر عليه إلاَّ بتسويته وإقرارهِ ، ولما ذكرنا من المعانِي والنُّكَث استفصَح عُلماءُ البيانِ هذه الآية ، ورقصُوا لها رُءوسَهُم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله : " ابلَعِي وأقلعي " ، وذلك وإن كان الكلامُ لا يخول مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ . فصل في هذه الآية ألفاظٌ كل واحد منها دال على عظمةِ الله - تعالى - . فأولها : قوله : " وقِيلَ " وهذا يدلُّ على أنَّهُ سبحانه في الجلال والعظمة بحيثُ أنَّهُ متى قيل لم ينصرف الفعل إلاَّ إليه ، ولم يتوجَّه الفكرُ إلاَّ إلى ذلك الأمر ؛ فدلَّ هذا الوجهُ على أنَّهُ تقرر في العقول أنَّهُ لا حاكمَ في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والسفلي إلاَّ هُوَ . وثانيها : قوله : { يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي } فإنَّ الحسَّ يدلُّ على عظمة هذه الأجسامِ ، والحقُّ - تعالى - مستولٍ عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد ، فصار ذلك سبباً لوقوف القوَّة العقليَّة على كمالِ جلالِ الله - تعالى - وعلوّ قدره وقدرته وهيبته . وثالثها : أَنَّ السَّماء والأرض من الجمادات ، فقوله : " يَا أرضُ وَيَا سَمَاءُ " مشعرٌ بحسب الظَّاهر على أنَّ أمره وتكليفه نافِذٌ في الجمادات ، وإذا كان كذلك حكم الوهم بأنَّ نفوذ أمره على العقلاء أولى ، وليس المرادُ منه أَنَّهُ تعالى يأمرُ الجمادات فإنَّ ذلك باطل ، بل المراد أنَّ توجيه صيغة الأمر بحسب الظَّاهر على هذه الجمادات القويَّة الشديدة يقرّر في الوهم قدر عظمته وجلاله تقريراً كاملاً . ورابعها : قوله : { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } ومعناه : أنَّ الَّذي قضى به وقدَّره في الأزل قضاء جزماً فقد وقع ، ذلك يدلُّ على أنَّ ما قضى اللهُ - تعالى - به فهو واقعٌ في وقته وأنه لا دافع لقضائه ، ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه . فإن قيل : كيف يليق بحكمة الله - تعالى - أن يغرق الأطفال بسبب جُرم الكبار ؟ . فالجواب من وجهين : الأول : قال أكثر المفسِّرين : إنَّ الله - تعالى - أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة ، فلمْ يغرق إلاَّ من بلغ سِنُّهُ أربعين سنة . ولقائل أن يقول : لو كان ذلك لكان آية عجيبة قاهرة ظاهرة ، ويبعدُ مع ظهورها استمرارهم على الكفر ، وأيضاً فهبْ أنَّ الأمر كما ذكرتم فما قولكم في إهلاكِ الطَّيْرِ والوحش مع أنَّه لا تكليف عليها ألبتَّة . الجوابُ الثاني : أنه لا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] وأجاب المعتزلةُ بأنَّ الإغراقَ في الحيوانات والأطفال كإذنه في ذبْحِ هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة . وقوله : { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } أي : فرغ منه ، وهو هلاك القوم . وقوله : { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ } أي : استوت السَّفينة على جبلٍ بأرضِ الجزيرةِ بقرب الموصل يقال له الجُودي . قيل : استوت يَوْمَ عاشوراء . { وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } قيل : هذا من كلام اللهِ - تعالى - قال لهم ذلك على سبيل اللَّعْنِ والطَّرْدِ . وقيل : من كلام نوح وأصحابه ؛ لأنَّ الغالب ممَّن سلم من الأمر الهائل بسبب اجتماعهم مع الظلمةِ فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام . قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : لمَّا عرف نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - أنَّ الماءَ قد نضب هبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين بعدد من كان معه من المؤمنين ؛ فأصبحوا ذات يومٍ ، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها لغة العربِ ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض ، فكان نُوح - عليه الصلاة والسلام - يعبر عنهم .