Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 45-49)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ } الآية . قوله : " فَقَالَ " عطفٌ على " نَادَى " . قال الزمخشريُّ : فإن قلت : وإن كان النداءُ هو قوله " رَبّ " فكيف عطف " فقال رَبّ " على " نَادَى " بالفاء ؟ قلت : أريد بالنداء إرادةُ النداء ، ولو أريد النداء نفسه لجاء - كما جاء في قوله { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] - { قَالَ رَبِّ } [ مريم : 4 ] بغير فاء . فصل تقدَّم الكلامُ في أنَّهُ هل كان ابناً له أم لا ؟ فقوله : { رَبِّ إِنَّ ٱبُنِي مِنْ أَهْلِي } وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي { وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ } لا خلف فيه { وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } حكمت على قوم بالنَّجاةِ وعلى قوم بالكُفْر والهلاك ؛ قال الله : { يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } واعلم أنَّه لمَّا ثبت بالدليل ، أنه كان ابناً له ، وجب أن يكون المراد : ليس من أهل دينك . وقيل : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك . قوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } : قرأ الكسائيُّ " عَمِلَ " فعلاً ماضياً ، و " غيرَ " نَصْباً . والباقون : " عَمَلٌ " بفتح الميمِ وتنوينه على أنه اسمٌ ، و " غَيْرُ " بالرَّفع . فقراءةُ الكسائي : الضميرُ فيها يتعيَّنُ عودهُ على ابنِ نوحٍ ، وفاعل " عَمِلَ " ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً ، و " غَيْرَ " مفعولٌ به . ويجوزُ أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، تقديره : عمل عملاً غير صالح كقوله { وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً } [ المؤمنون : 51 ] . وقيل : إنه ذو عمل باطل فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه . وأمَّا قراءةُ الباقين ، ففي الضَّمير أربعة أوجهٍ : أظهرها : أنَّه عائدٌ على ابن نوحٍ ، ويكونُ في الإخبار عنه بالمصدر المذاهب الثلاثة في " رجل عدل " ، و " زيْدٌ كرمٌ وجُودٌ " . والثاني : أنه يعودُ على النداء المفهوم من قوله : " ونَادَى " أي : نداؤك وسؤالك . وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكيٌّ والزمخشريُّ . وهذا فيه خطرٌ عظيمٌ ، كيف يقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياءِ ، فضلاً عن أول رسول أرسل إلى أهل الأرض بعد آدم - عليهما الصلاة والسلام - ؟ ولمَّا حكاه الزمخشريُّ قال : " ليسَ بذاك " ولقد أصاب . واستدلَّ من قال بذلك أنَّ في حرف عبد الله بن مسعود إنَّه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما لَيْسَ لك به علمٌ وهذا مخالفٌ للسَّواد . الثالث : أنَّهُ يعودُ على ركوب ابن نوح المدلول عليه بقوله : " اركب مَعَنَا " . الرابع : أنَّهُ يعودُ على تركه الرُّكُوب ، وكونه مع المؤمنين ، أي : إنَّ تركه الركوبَ مع المؤمنين وكونه مع الكافرين عملٌ غير صالح ، وعلى الأوجه لا يحتاج في الإخبار بالمصدر إلى تأويلٍ ؛ لأنَّ كليهما معنى من المعاني ، وعلى الوجه الرابع يكون من كلام نوح - عليه الصلاة والسلام - ، أي : إنَّ نوحاً قال : إنَّ كونك مع الكافرين وتركك الركوبَ معنا عمل غيرُ صالحٍ ، بخلاف ما تقدَّم فإنَّه من قول الله تعالى فقط ، هكذا قال مكيٌّ وفيه نظرٌ ، بل الظَّاهرُ أنَّ الكلَّ من كلام الله تعالى . وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : هلاَّ قيل : إنَّه عملٌ فاسدٌ . قلت : لما نفاه عن أهله نفى عنه صفتهم بلفظ النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي ، وآذن بذلك أنَّه إنَّما أنْجَى من أنْجَى لصلاحهم لا لأنَّهم أهلك . قوله : { فَلاَ تَسْأَلْنِـي } قرأ نافع وابن عامرٍ " فلا تَسْألنِّ " بتشديدِ النون مكسورة من غير ياء . وابن كثير بتشديدها مع الفتح ، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ مكسورةٍ خفيفة ، وياءٍ وصلاً لأبي عمرو ، ودون ياء في الحالين للكوفيين . وفي الكهف { فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ } [ الكهف : 70 ] قرأه أبو عمرو والكوفيون كقراءتهم هنا ، وافقهم ابنُ كثير في الكهف ، وأما نافعٌ وابنُ عامر فكقراءتهما هنا ولابن ذكوان خلافٌ في ثبوتِ الياءِ وحذفها ، وإنَّما قرأ ابن كثير التي في هود بالفتح دون التي في الكهفِ ؛ لأنَّ الياء في هود ساقطة في الرسم ؛ فكانت قراءته بفتح النون محتملةً بخلاف الكهف فإنَّ الياء ثابتةٌ في الرَّسْمِ ، فلا يوافق فيها فتحها . وقد تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوت الياء في الكهفِ . فمن خفَّف النون ، فهي نونُ الوقاية وحدها ، ومن شدَّدها فهي نون التوكيد . وابنُ كثير لم يجعل في هود الفعل متصلاً بياء المُتكلم ، والباقون جعلوه . فلزمهم الكسرُ . وقد تقدَّم أنَّ " سَأَلَ " يتعدَّى لاثنين أوَّلهما ياء المتكلم ، والثاني { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } . قوله : " أن تكون " على حذف حرف الجر ، أي : مِنْ أن تكون أو لأجْلِ أن ، وقوله : { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } يجوزُ في " بِهِ " أن يتعلَّق بـ " عِلْم " . قال الفارسيُّ : ويكون مثل قوله : [ الرجز ] @ 2978 - كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أجْلَدَا @@ ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به " لَكَ " ، والباء بمعنى " في " ، أي ما ليس لك به علمٌ . وفيه نظرٌ . ثم قال : { إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } يعني أن تدعو بهلاك الكفار ، ثم تسأل نجاة كافر { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } وهذا إخبار بما في المستقبل وهو العزم على الترك . قوله : { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي } لم تمنع " لا " من عمل الجازم كما لم تمنعْ من عمل الجارِّ في نحو : " جِئْتُ بلا زادٍ " قال أبو البقاء : " لأنَّها كالجزء من الفعل وهي غيرُ عاملةٍ في النَّفْي ، وهي تنفي ما في المستقبل ، وليس كذلك " مَا " فإنَّها تنفي ما في الحالِ ؛ فلذلك لمْ يَجُزْ أن تدخُل " إنْ " عليها " . قوله : { قِيلَ يٰنُوحُ } الخلافُ المتقدم في قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ } [ البقرة : 13 ] وشبهه عائدٌ هنا ، أي : في كونِ القائم مقام الفاعلِ الجملة المحكيةَ أو ضمير مصدرِ الفعل . قوله : " بِسَلاَمٍ " حالٌ من فاعل " اهْبِطْ " أي : مُلْتَبساً بسلامٍ . و " مِنا " صفةٌ لـ : " سَلام " فيتعلق بمحذوفٍ أو هو متعلقٌ بنفس " سلام " ، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ ، وكذلك " عَلَيْكَ " يجوز أن يكون صفة لـ " بَركات " أو متعلقاً بها . ومعنى " اهْبِطْ " انزل من السفينة ، وعدهُ عند الخروج بالسَّلامة أولاً ، ثم بالبركةِ ثانياً . والبركة : ثبوت الخير ومنه بروك البعير ، ومنه البركةُ لثبوت الماء فيها ، ومنه { تَبَارَكَ ٱللَّهُ } [ الأعراف : 54 ] أي : ثبت تعظيمه وقيل : البركةُ ههنا هي أنَّ الله - تعالى - جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة ، ثم لمَّا بشَّرهُ بالسَّلامة والبركةِ شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال : { وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } قيل : المرادُ الذين معه ، وذرياتهم ، وقيل : ذرّية من معهُ . قوله { مِّمَّن مَّعَكَ } يجوز في " مَنْ " أن تكون لابتداء الغاية ، أي : ناشئة من الذين معك ، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدَّهْر ، ويجوز أن تكون " مِنْ " لبيان الجنس ، فيراد الأمم الذين كانُوا معه في السفينة ؛ لأنَّهم كانوا جماعاتٍ . وقُرِىء " اهْبُط " بضمِّ الباءِ ، وقد تقدَّم أول البقرة ، وقرأ الكسائيُّ - فيما نُقِل عنه - " وبركة " بالتوحيد . قوله : " وأمم " يجوزُ أن يكون مبتدأ ، و " سَنُمَتِّعُهُمْ " خبره ، وفي مسوغ الابتداء وجهان : أحدهما : الوصفُ التقديري ، إذ التقديرُ : وأممٌ منهم ، أي : ممَّن معك كقولهم : " السَّمْن منوان بدرهم " فـ " مَنَوان " مبتدأٌ وصفَ بـ " منه " تقديراً . والثاني : أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو : " النَّاسُ رجلان : رجلٌ أهَنْتُ ، وآخرُ أكْرَمْتُ " ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ] @ 2979 - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفهَا انحَرفَتْ لهُ بِشِقٍّ وشِقٌّ عندنَا لَمْ يُحَوَّلِ @@ ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضَّمير المستتر في " اهْبِطْ " وأغنى الفصل عن التأكيد بالضَّمير المنفصل ، قاله أبو البقاء . قال أبو حيَّان : وهذا التقديرُ والمعنى لا يصلحان ، لأنَّ الذين كانُوا مع نوح في السَّفينةِ إنَّما كانُوا مُؤمنين ؛ لقوله : { وَمَنْ آمَنَ } ولم يكُونُوا كُفَّاراً ومؤمنين ، فيكون الكفار مأمورين بالهبوطِ ، إلاَّ إنْ قُدِّرَ أنَّ من المؤمنين من يكفر بعد الهبوطِ ، وأخبر عنهم بالحال التي يؤولُون إليها فيمكن على بُعْدٍ . وقد تقدَّم أنَّ مثل ذلك لا يجُوزُ ، في قوله { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [ البقرة : 35 ] لأمرٍ صناعي ، و " سَنُمَتِّعُهُمْ " على هذا صفةٌ لـ " أمم " ، والواوُ يجوز أن تكون للحال قال الأخفشُ : كما تقولُ : كلَّمْتُ زيداً وعمرٌو جالس " ويجُوزُ أن تكون لمجرَّدِ النَّسَق . واعلم أنَّهُ سبحانه أخبر بأنَّ الأمم النَّاشئة الذين كانوا مع نوحٍ لا بدَّ وأن ينقسمُوا إلى مؤمنٍ وكافرٍ . ثم قال : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ } وقد تقدَّم الكلامُ فيها عند قوله { ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ } [ آل عمران : 44 ] في آل عمران . و " تلك " في محلِّ رفع على الابتداء ، و { مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ } الخبر ، و " نُوحِيهَا إليْكَ " خبر ثان . قوله : { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ } يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكون حالاً من الكاف في " إليك " وأن تكون حالاً من المفعول في " نُوحيهَا " وأن تكون خبراً بعد خبر . والمعنى : ما كنت تعلمُها أنت يا محمدُ ولا قومك ، أي : إنَّك ما كنت تعرفُ هذه القصة وقومك أيضاً ما كانوا يعرفونها ، كقول الإنسان لآخر : لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك . فإن قيل : أليس قد كانت قصة الطوفان مشهورة عند أهل العلم ؟ . فالجواب : أنها كانت مشهورة بحسب الإجمال ، أمَّا التَّفاصيلُ المذكورة فما كانت معلومة . ثم قال تعالى : " فاصْبِرْ " يا محمد أنت وقومك على أولئك الكفار " إنَّ العاقِبَةَ " آخر الأمر والنّصر والظّفر " لِلْمُتَّقين " . فإن قيل : إنَّه ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم أعادها ، فما فائدة هذا التكرار ؟ . فالجوابُ : أنَّ القصة الواحدة قد ينتفعُ بها من وجوه ، ففي السورةِ الأولى كان الكفار يستعجلُون نزول العذاب ، فذكر - تعالى - قصة نوح وبيَّن أنَّ قومه كانُوا يكذبُونه بسبب أنَّ العذابَ ما كان يظهر ثُمَّ في العاقبةِ ظهر ، فكذا في واقعة محمد - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - ، وفي هذه السورة ذكر القصة لبيان أنَّ إقدامَ الكُفَّار على الإيذاء ، والإيحاش كان حاصلاً في زمن نُوح ، فلمَّا صبر نال الفتح والظفر ، فكن ، يا مُحمَّدُ ، كذلك لتنال المقصود ، فلمَّا كان الانتفاعُ بالقصة في كُلِّ سُورة من وجهٍ لم يكن تكريرها خالياً عن الفائدةِ .