Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 69-76)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُـشْرَىٰ } القصة . قال النحويون : دخلت كلمة " قَدْ " هاهنا لأنَّ السَّامع لقصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يتوقع قصة بعد قصة ، و " قَدْ " للتوقع ، ودخلت اللاَّم في " لَقَدْ " تأكيداً للخبر . فصل لفظ " رُسُلُنَا " جمع وأقله ثلاثة ، فهذا يدلُّ على أنهم كانوا ثلاثة ، والزَّائِدُ على هذا العددِ لا يثبتُ إلاَّ بدليل آخر ، وأجمعُوا على أنَّ الأصلَ فيهم كان جبريلُ - عليه السَّلامُ - . قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : " كانوا ثلاثة جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وهم المذكورون في الذَّاريات { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [ الذاريات : 24 ] وفي الحجر { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [ الحجر : 51 ] . وقال الضحَّاكُ : " كانوا تسعة " . وقال محمد بن كعب - رضي الله عنه - " كان جبريل ومعه سبعة " وقال السُّديُّ : " أحد عشر ملكاً " وقال مقاتل : " كانوا اثني عشر ملكاً على صور الغلمان الوضاء وجوههم " . " بِٱلْبُـشْرَىٰ " بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل : بسلامة لوطٍ ، وإهلاك قومه . قوله : { قَالُواْ سَلاَماً } : في نصبه وجهان : أحدهما : أنَّه مفعولٌ به ، ثم هو محتملٌ لأمرينِ : أحدهما : أن يراد قالوا هذه اللفظ بعينه ، وجاز ذلك لأنَّه يتضمَّن معنى الكلام . الثاني : أنَّهُ أراد قالوا معنى هذا اللفظ ، وقد تقدَّم نحو ذلك في قوله تعالى : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ البقرة : 58 ] . وثاني الوجهين : أن يكون منصوباً على المصدر بفعل محذوفٍ ، وذلك الفعلُ في محلِّ نصب بالقول ، تقديره : قالوا : سَلَّمْنَا سلاماً ، وهو من باب ما ناب فيه المصدرُ عن العامل فيه ، وهو واجب الإضمار . قوله : " سَلاَمٌ " في رفعه وجهان : أحدهما : أنَّهُ مبتدأ وخبره محذوفٌ ، أي : سلامٌ عليكم . والثاني : أنَّه خبر مبتدأ محذوف أي : أمْرِي أو قَوْلِي سلام . وقد تقدَّم أنَّ الرفع أدلُّ على الثُّبوتِ من النَّصْبِ [ الفاتحة : 2 ] ، والجملة بأسرها - وإن كان أحد جزأيها محذوفاً - في محلِّ نصب بالقول ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2985 - إذَا ذَقْتُ فَاهَا قُلْتُ : طَعْمُ مُدَامَةٍ … @@ وقرأ الأخوان : " قَالَ سِلْم " هنا وفي سورة الذَّاريات بكسر السين وسكون اللاَّم . ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف ، قال الفرَّاءُ : " هُما لغتان كحِرْم وحَرَامٍ وحِلٍّ وحلالٍ " ؛ وأنشد [ الطويل ] @ 2986 - مَرَرْنَا فَقُلْنَا : إيهِ سِلْمٌ فَسلَّمَتْ كَمَا اكْتَلَّ بالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوَائِحُ @@ يريد : سلامٌ ؛ بدليل : فسلَّمَتْ . وقال الفارسي : " السِّلْم " بالكسر ضد الحربِ ، وناسبَ ذلك لأنَّهم لمَّا امتنعوا من تناول ما قدَّمهُ إليهم ، أنكرهم ، وأوجس منهم خيفة ، فقال : أنا سِلْم ، أي : مُسَالمكم غيرُ محارب لكم ، فلم تمتنعوا من تناول طعامي ؟ قال ابنُ الخطيب - رحمه الله - : وهذا بعيدٌ ؛ لأنَّ على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلُّم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بهذا اللفظ بعد إحضار الطَّعام ، والقرآن يدل على أنَّ هذا الكلام قبل إحضار الطَّعام ؛ لأنَّه تعالى قال : { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } والفاءُ للتَّعقيب ، فدلَّ على أنَّ مجيئَهُ بالعجل الحنيذِ بعد السَّلام . فصل أكثر ما يستعمل " سلامٌ عليكم " منكّراً ؛ لأنَّهُ في معنى الدُّعاءِ كقولهم : خير بين يديك . فإن قيل : كيف جاز الابتداء بالنَّكرةِ ؟ . فالجوابُ : إذا وصفت جاز ، فإذا قلت : " سلامٌ عليكم " فالتَّنكير هُنا يدلُّ على الكمال والتَّمام ، فكأنه سلام كامل تام عليك ، ونظيره قوله تعالى : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ } [ مريم : 47 ] وقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] وقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ، 24 ] . وأما قوله : { وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ } [ طه : 47 ] فالمراد منه الماهية والحقيقة . قال ابنُ الخطيب : قوله : " سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ " أكملُ من قوله : " السَّلامُ عليْكُم " ؛ لأنَّ التَّنْكيرَ يُفيدُ المبالغة والتَّمام ، والتعريف لا يفيدُ إلاَّ الماهية . قوله : " فَمَا لَبِثَ " يجُوزُ في " ما " هذه ثلاثة أوجه : أظهرها : أنَّها نافيةٌ ، وفي فاعل " لَبِثَ " حينئذٍ وجهان : أحدهما : أنَّه ضميرُ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أي : فَمَا لَبِثَ إبراهيم ، وإن جاء على إسقاطِ الخافض ، فقدَّرُوه بالباء و بـ " عَنْ " وبـ " في " ، أي : فمَا تأخَّر في أنْ ، أو بأن ، أو عن أن . والثاني : أنَّ الفاعل قوله : " أنْ جَاءَ " ، والتقدير : فَما لبثَ ، أي : ما أبْطَأ ولا تأخَّر مجيئُه بعجل سمين . وثاني الأوجه : أنَّها مصدريةٌ . وثالثها : أنَّها بمعنى الذي . وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ ، وإن جاء خبرهُ على حذفِ مضاف تقديره : فلُبْثُه - أو الذي لبثه - قَدْرَ مجيئه . قال القرطبيُّ : قوله : " أنْ جَاءَ " معناه : حتَّى جَاءَ . والحَنِيذُ : المَشْويُّ بالرَّضْفِ في أخدود كفعل أهل البادية يشوون في حفرةٍ من الأرض بالحجارة المُحَمَّاة ، يقال : حَنَذْتُ الشَّاة أحْنِذُهَا حَنْذاً فهي حَنِيذ ، أي : مَحْنُوذة . وقيل : حَنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم : حَنَذْتُ الفرس ، أي : سُقْتُه شَوْطاً أو شَوْطَيْن وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليعرق . ثم قال : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ } أي : إلى العِجْلِ . وقال الفرَّاءُ : إلى الطَّعامِ وهو العجل . قوله : " نَكِرَهُمْ " أي : أنكرهم ، فهما بمعنى واحد ؛ وأنشدوا : [ البسيط ] @ 2987 - وأنكَرَتْنِي ومَا كَانَ الذي نَكِرَتْ مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا @@ وفرَّق بعضهم بينهما فقال : الثلاثي فيما يُرَى بالبصرِ ، والرباعي فيما لا يُرَى من المعاني ، وجعل البيت من ذلك ، فإنَّها أنكرتْ مودَّتهُ وهي من المعاني التي لا تُرَى ، ونكِرَتْ شَيْبَتَهُ وصلعهُ ، وهما يُبْصرانِ ؛ ومنه قول أبي ذؤيبٍ : [ الكامل ] @ 2988 - فَنَكِرْتَهُ فَنَفَرْتُ وامْتَرَسَتْ بِهِ هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وهَادٍ جُرْشَعُ @@ والإيجاس : حديث النَّفس ، وأصله من الدُّخُول كأنَّ الخوف داخلهُ . وقال الأخفش : " خَامَر قلبه " . وقال الفرَّاء : " اسْتَشْعَرَ وأحسَّ " . والوَجَسُ : ما يَعْتَرِي النفس أوائل الفزع ، ووجس في نفسه كذا أي : خطر بها ، يَجِسُ وَجْساً ووُجُوساً ووَجِيساً ، ويَوْجَسُ ويَجِسُ بمعنى يسمعُ ؛ وأنشدوا على ذلك قوله : [ الطويل ] @ 2989 - وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوجُّسِ للسُّرَى لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ @@ و " خيفة " مفعول به أي : أحس خيفة أو أضمر خيفة . فصل اعلم أنَّ الأضياف إنَّما امتنعوا عن الطَّعام ؛ لأنهم ملائكةٌ ، والملائكةُ لا يأكلون ، ولا يشربون ، وإنَّما أتوهُ في صورة الأضياف ، ليَكونوا على صفة يحبها ؛ لأنه كان يحب الضيافة ، وأمَّا إبراهيم ، فإما أن يقال : إنه ما كان يعلم أنهم ملائكة بل كان يعتقدُ أنهم من البشر ، أو يقال : إنَّه كان عالماً بأنهم ملائكة ، فعلى الأول فسببُ خوفه أمران : أحدهما : أنَّهُ كان ينزل في طرف من الأرض بعيداً عن النَّاس ، فلما امتنعوا عن الأكل ، خاف أن يريدوا به مكروهاً . والثاني : أنَّ من لا يعرفه إذا حَضَر ، وقدَّم إليه طعاماً ، فإن أكل حصل الأمن ، وإن لم يأكل ، حصل الخوفُ . وإن كان عارفاً بأنَّهم ملائكة ، فسبب خوفه أمران : أحدهما : أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه . والثاني : أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه . والأول أقرب ؛ لأنَّهُ سارع إلى إحضار الطعام ، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك ، ولما استدلَّ بترك الأكل على حصول الشَّرِّ ، وأيضاً : فإنَّهُ رآهم في صورة البشر ، قالوا : لا تخف يا إبراهيم ، إنَّا ملائكة الله ، أرسلنا إلى قوم لوط . فصل في هذه القصَّة دليل على تعجيل قرى الضيف ، وعلى تقديم ما يتيسَّر من الموجود في الحال ، ثم يُتبِعُهُ بغيره ، إن كان له جدةٌ ، ولا يتكلَّف ما يَضُرُّ به ، والضيافة من مكارم الأخلاق ، وإبراهيم أوَّل من أضاف ، وليست الضيافةُ بواجبة عند عامة أهل العلم ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ، فلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ " . وإكرام الجار ليس بواجب ، فكذلك الضَيْفُ ، " وفي الضيافة الواجبة يقولُ - عليه الصلاة والسلام - : لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ . " وقال ابن العربيِّ : وقد قال قَوْمٌ : إنَّ الضيافة كانَتْ واجبةً في صدْر الإسلام ، ثم نُسِخَتْ . فصل اختلفوا في المخاطب بالضِّيافة ، فذهب الشافعيُّ ، ومحمد بنُ عبد الحكم إلى أنَّ المخاطب بها أهل الحضر والبادية . وقال مالكٌ : ليس على أهل الحضر ضيافة . قال سُحْنُون : إنَّما الضِّيافةُ على أهْلِ القُرى ، وأمَّا أهل الحضر ، فالفُنْدُق ينزل فيه المسافرُ ؛ لما روى ابنُ عمر قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " الضِّيافةُ عَلَى أهْلِ الوَبَرِ ، ولَيْسَتْ عَلَى أَهْلِ المَدَرِ " . قال القرطبيُّ : " قال أبوعمر بن عبد البرِّ : وهذا حديثٌ لا يصحُّ " قال ابنُ العربي : " الضيافة حقيقة فرض على الكفاية " . فصل ومن أدب الضيافة أن يبادرَ المضيف بالأكل ؛ لأنَّ كرامةَ الضَّيْفِ التعجيل بتقديم الضِّيافة ، كما فعل إبراهيمُ - عليه الصلاة والسلام - ولما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم فإذا أكل المضيف ، طاب نفس الضَّيف للأكل . قوله : { وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ } في محلِّ نصب على الحالِ من مرفوع : " أرْسِلْنَا " . وقال أبو البقاءِ : من ضمير الفاعل في " أرْسِلْنَا " . وهي عبارةٌ غيرُ مشهورة ، إذ مفعول مَا لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ لا يطلقُ عليه فاعلٌ على المَشْهُورِ ، وعلى الجملةِ فجعلها حالاً غير واضح بل هي استئناف إخبار ، ويجوزُ جعلها حالاً من فاعل " قالُوا " أي : قالوا ذلك في حال قيام امرأته ، وهي ابنة عم إبراهيم . وقوله : " وَهِي قَائمةٌ " أي تخدمُ الأضياف ؛ وإبراهيم جالس معهم ، يؤكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود : " وامرأته قائمةٌ وهو قاعِدٌ " . قوله : " فَضَحِكَتْ " العامَّةُ على كسر الحاء وقرأ محمد بن زياد الأعرابي - رجل من مكة - بفتحها وهي لغتان ، يقال : ضَحِكَ وضَحَكَ ، وقال المهدويُّ : " الفتح غير معروف " ، والجمهورُ على أنَّ الضَّحكَ على بابِهِ . واختلف المفسِّرون في سببه فقال القاضي : إنَّ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما خاف قالت الملائكة { لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } فعظم سرورها بسبب سرورهِ ، وفي مثل هذه الحالة قد يضحك الإنسان ، فكان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم " لا تَخَفْ " فكان كالبشارة فقيل لها : نجعل هذه البشارة أيضاً بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أوَّلِ العُمر إلى هذا الزَّمان ، وقيل : لمَّا كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لكفرهم وعملهم الخبيث ، فلما أخبروا أنهم جاءوا لإهلاكهم ، لحقها السُّرور ، فضحكت . وقيل : بشَّرُوها بحصول مطلق الولد فضَحِكَتْ إمَّا تعَجُّباً فإنَّهُ يقالُ : إنَّها كانت في ذلك الوقت بنت تسع وتسعين سنة وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ابن مائة سنة ، وإمَّا على سبيل السُّرور ، ثم لمَّا ضحكت بشَّرها الله - تعالى - بأنَّ ذلك الولد هو إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب . وقيل : إنَّها ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر حال ما كان معه حشمه وخدمه . وقيل : هذا على التقديم والتأخير تقديره : وامرأته قائمة فبشَّرناها بإسحاق ، فضحكت سروراً بتلك البشارة ، فقدَّم الضَّحكَ ، ومعناه التَّأخير ، يقالُ ضحكت الأرنب ، بمعنى : حَاضَتْ . وقال مجاهدٌ وعكرمة : " ضَحِكَتْ " بمعنى : حَاضَتْ . وأنكره أبو عبيدة ، وأبو عبيد ، والفرَّاء . قال ابنُ الأنباري : " هذه اللُّغة إن لم يَعْرِفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم ، حكى اللُّيثُ - رحمه الله - في هذه الآية " فَضَحِكَتْ " طمثت ، وحكى الأزهريُّ - عن بعضهم - أنَّ أصلهُ : من ضحاك الطَّلعةِ ، يقال : ضَحِكَت الطلعة إذا انشقت ، وأنشدوا : [ المتقارب ] @ 2990 - وضِحْكُ الأرَانبِ فَوْقَ الصَّفَا كَمِثْلِ دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 2991 - وعَهْدِي بِسَلْمَى ضَاحِكاً في لُبانةٍ ولَمْ يَعْدُ حقّاً ثَدْيُهَا أن تُحَلَّمَا @@ أي : حَائِضاً . وضَحِكت الكافُورَةُ : تَشَقَّقَتْ . وضَحِكَت الشَّجَرةُ : سَالَ صَمْغُهَا ، وضَحِكَ الحَوْضُ : امتلأ وفاض وظاهرُ كلام أبي البقاءِ أن " ضَحَكَ " بالفتح مختصٌّ بالحيْضِ فإنَّه قال : " بِمَعْنَى حَاضَتْ يقال : ضَحَكَت الأرنب بفتح الحَاءِ " . قوله : { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } قرأ ابنُ عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء ، والباقون برفعها . فأمَّا القراءةُ الأولى فاختلفوا فيها ، هل الفتحةُ علامةُ نصبٍ أو علامة جرٍّ ؟ والقائلون بأنَّها علامةُ نصب اختلفوا ، فقيل : هو منصوبٌ عطفاً على قوله : " إسْحَاق " . قال الزمخشريُّ : كأنَّهُ قيل : وَوَهَبْنَا لهُ إسحاقَ ، ومنْ وراءِ إسْحَاق يعقوب على طريقة قوله : [ الطويل ] @ 2992 - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً ولا نَاعبٍ … @@ يعنى أنَّهُ عطف على التَّوهم فنصب ، كما عطف الشَّاعرُ على توهُّم وجود الباء في خبر " ليس " فجرَّ ، ولكنه لا ينقاس . وقيل : منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، أي : وَوَهَبْنَا يعقوب وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة ورجَّحه الفارسي . وقيل : هو منصوبٌ عطفاً على محلِّ " بإسحاقَ " ؛ لأنَّ موضعهُ نصب كقوله : " وَأَرْجُلَكُمْ " بالنصب عطفاً على { بِرُؤُوسِكُمْ } [ المائدة : 6 ] . والفرقُ بين هذا والوجه الأول : أنَّ الأول ضمَّن الفعل معنى : " وَهَبْنَا " توهُّماً ، وهنا باقٍ على مدلوله من غير توهُّم . ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على " بإسحاقَ " والمعنى : أنَّها بُشِّرت بهما . وفي هذا الوجه والذي قبله بحثٌ : وهو الفَضْلُ بالظَّرْفِ بين حرف العطف ، والمعطوف ، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في النِّساءِ . ونسب مكي الخفض للكسائي ثم قال : " وهو ضعيفٌ إلاَّ بإعادة الخافض ؛ لأنَّك فصلت بين الجار والمجرور بالظَّرف " . قوله : " بإعادة الخافض " ليس ذلك لازماً ، إذ لو قدِّم ولم يفصلْ لم يلتَزِم الإتيان به . وأمَّا قراءةُ الرَّفْع ففيها أوجه : أحدها : أنَّه مبتدأ وخبره الظَّرف السَّابق فقدره الزمخشريُّ " موجود أو مولود " وقدَّره غيره بـ : كائن ولمَّا حكى النَّحاسُ هذا قال : " الجملةُ حالٌ داخلةٌ في البشارة أي : فبشَّرناها بإسحاق مُتَّصلاً به يعقُوبُ " . والثاني : أنَّه مرفوعٌ على الفاعلية بالجارِّ قبله ، وهذا يجيء على رأي الأخفش . والثالث : أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ أي : ويحدث من وراء إسحاق يعقوب ، ولا مدخل له في البشارة . والرابع : أنه مرفوعٌ على القَطْع يَعْنُونَ الاستئناف ، وهو راجعٌ لأحَدِ ما تقدَّم من كونه مبتدأ وخبراً ، أو فاعلاً بالجارِّ بعدهُ ، أو بفعل مقدر . وفي لفظ " وَرَاء " قولان : أظهرهما : وهو قولُ الأكثرين أنَّ معناه " بَعْد " أي : بعد إسحاق يعقوب ولا مدخل له في البشارة . والثاني : أنَّ الوراء : ولد الولد . فصل ذكر المفسِّرون أنَّ " إسحاق " ولدَ ولأبيه مائة سنة بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة وكان عمر أمه سارة حين بُشِّرَتْ به تسعين سنة . وذكر أهلُ الكتاب أنَّ إسحاق لمَّا تزوج ربقة بنت شاويل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة ، وأنَّها كانت عَاقِراً فدعا الله لها فحملتْ فولدت غلامين تَوْءَمَيْنِ ؛ أولهما سمَّوهُ عيصو ، وتسمية العرب " العِيصَ " وهو والدُ الرُّوم الثانية ، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسمَّوهُ يعقوب ، وهو إسرائيل الذي ينسبُ إليه بنو إسرائيل . قوله : { قَالَتْ يٰوَيْلَتَا } الظَّاهرُ كون الألف بدلاً من ياءِ المتكلم ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في روايةٍ ، وبها قرأ الحسن " يَا وَيْلَتي " بصريح الياء . وقيل : هي ألف الندبة ، ويوقفُ عليها بهاء السَّكْتِ . وكذلك الألف في " يَا وَيْلَتَا " و " يَا عَجَبَا " . قال القفال - رحمه الله - : أصلُ الوَيْل هو الخِزْيُ ، ويقال : وَيلٌ لفلان ، أي الخزي والهلاك . [ قال سيبويه : " وَيْح " زجر لمنْ أشرف على الهلاكِ ، و " وَيْل " ] لمن وقع فيه . قال الخليلُ : ولَمْ أسْمَعْ على مثاله إلاَّ " وَيْح " ، و " وَيْد " ، و " وَيْه " ، وهذه كلمات متقاربة في المعنى . قوله : " أَأَلِدُ " قرأ ابنُ كثير ونافع وأبو عمرو " آلد " بهمزة ومدة ، والباقون : بهمزتين بلا مدٍّ وقوله : { وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً } الجملتان في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل " ألِدُ " أي : كيف تقعُ الولادة في هاتينِ الحالتين المنافيتين لها ؟ . والجمهورُ على نصب " شَيْخاً " وفيه وجهان : المشهورُ أنَّهُ حالٌ ، والعاملُ فيه : إمَّا التَّنْبيهُ وإما الإشارةُ . وإمَّا كلاهما . والثاني : أنه منصوبٌ على خبر التَّقريب عند الكوفيين ، وهذه الحالُ لازمةٌ عند من لا يَجْهَل الخبر ، وأمَّا من جهله فهي غير لازمة . وقرأ ابنُ مسعُود والأعمش وكذلك في مصحف ابن مسعود " شَيْخٌ " بالرَّفْع ، وذكروا فيه أوجهاً : إمَّا خبرٌ بعد خبر ، أو خبران في معنى خبر واحد نحو : هذا حلو حامض ، أو خبر " هَذَا " و " بَعْلِي " بيانٌ ، أو بدلٌ ، أو " شيخٌ " بدلٌ من " بَعْلي " ، أو " بَعْلِي " مبتدأ و " شَيْخٌ " خبره ، والجملة خبر الأول ، أو " شَيْخٌ " خبر مبتدأ مضمر أي : هو شيخٌ . والشَّيْخُ يقابله عجوزٌ ، ويقال : شَيْخَة قليلاً ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2993 - وتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشمِيَّةٌ … @@ وله جموعٌ كثيرة ، فالصَّريحُ منها : أشياخ وشُيُوخ وشِيخان ، وشِيخَة عند من يرى أنَّ فعلة جمعٌ لا اسم جمع كغِلْمَة وفِتْيَة . ومن أسماءِ جمعه : مَشِيخَة وشِيَخَة ومَشْيُوخاً . وبَعْلُهَا : زوجها ، سُمِّي بذلك لأنَّهُ قيِّمُ أمرها . قال الواحدي : وهذا من لَطِيفِ النَّحو وغامضه فإنَّ كلمة " هذا " للإشارة ، فكان قوله { وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً } قائمٌ مقام أن يقال : أشير إلى بَعْلِي حال كونه شَيْخاً . والمقصُودُ : تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشَّيْخُوخة . ثم قال : { إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } . فإن قيل : كيف تعجَّبَتْ من قُدْرَةِ الله - تعالى - والتَّعجُّبُ من قدرةِ الله يدلُّ على الجهْلِ بقُدْرةِ الله تعالى ؛ وذلك يوجبُ الكُفْرَ ؟ . فالجواب : أنَّها إنَّما تعجبت بحسب العُرْفِ والعادة لا بحسب القدرة ، فإنَّ الرَّجُلَ المسلم لو أخبره رجلٌ آخرُ صادقٌ بأنَّ الله - تعالى - يقلبُ هذا الجبل إبْرِيزاً ، فلا شكَّ أنه يتعجب نظراً إلى العادةِ لا استنكاراً للقدرةِ . ثم قالت الملائكةُ : { أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي : لا تعجبي مِنْ أمْرِ الله ، فإنَّ الله إذا أراد شيئاً كان . قوله : { رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } أي : بيت إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - والمعنى : رحمةُ الله عليكم متكاثرة ، وبركاته عندكم متواليةٌ متعاقبة ، وهي النبوة ، والمعجزات القاهرةُ ، فإذا خرق الله العادةَ في تخصيصكُم بهذه الكراماتِ العاليةِ الرَّفيعةِ ، فلا تعجبي من ذلك . وقيل : هذا على معنى الدُّعاءِ من الملائكة . وقيل : على معنى الخَيْرِ والرَّحْمَةِ والنعمة . و " البركاتُ " جمع البركة وهي ثبوت الخَيْرِ . فإن قيل : ما الحكمةُ في إفرادِ الرَّحمةِ وجمع البركات ، وكذلك إفراد السَّلام في التشهد وجمع البركات ؟ . فالجواب : قد تقدَّم في سورة البقرة عند قوله : { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] . وقال ابن القيِّم - هنا - إنَّ السلام إمَّا مصدرٌ محضٌ ، فهو شيءٌ واحدٌ ، فلا معنى لجَمْعِهِ ، وإمَّا اسمٌ من أسماء الله - تعالى - فيستحيل أيضاً جمعه ، وعلى التقديرين لا سبيل لجمعه . وأمَّا الرَّحمةُ فمصدرٌ كما تقدَّم ، وأمَّا البركةُ : فإنها لمَّا كانت تتجدَّدُ شيئاً بعد شيءٍ كان لفظ الجمع أولى بها ؛ لدلالتها على المعنى المقصود بها ، ولهذا جاءت في القرآن كهذه الآية ، وكذلك السَّلام في التشهُّدِ ، وهو قوله : السَّلام عليكم أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته . وقوله : " عَلَيْكُم " حكى سيبويه " عَلَيْكم " بكسر الكافِ لمجاورتها الياء نقله القرطبي وفيه دليل على أنَّ الأزواجَ من أهلِ البيتِ . قوله : " أهْلَ البيتِ " في نصبه وجهان : أحدهما : أنه مُنَادَى . والثاني : أنه منصوبٌ على المدح . وقيل : على الاختصاص ، وبين النَّصبين فرقٌ : وهو أنَّ المنصوب على المدح لفظٌ والمنصوبُ على الاختصاصِ لا يكونُ إلا لمدحٍ ، أو ذمٍّ ، لكن لفظه لا يتضمَّنُ بوضعه المدحَ ، ولا الذَّم ؛ كقوله : [ الرجز ] @ 2994 - بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ @@ كذا قاله أبو حيَّان ، واستند إلى أنَّ سيبويه جعلهما في بابين ، وفيه نظرٌ . ثم قال : إنه حميدٌ مجيدٌ ، فالحميد : المحمود ، والمجيدُ : فعيل ، مثال مبالغة من مَجَد يَمْجُد مَجْداً ومَجَادَة ، ويقال : مَجُد كـ : شَرُف وأصله : الرِّفْعَة . وقيل : من مَجَدتِ الإبلُ تَمْجُدُ مَجَادَةً ومَجْداً ، أي : شَبِعَتْ ؛ وأنشدوا لأبي حيَّة النَّمَيْرِي : [ الوافر ] @ 2995 - تَزيدُ على صواحبها وليْسَتْ بِمَاجِدةِ الطَّعامِ ولا الشَّرابِ @@ [ أي ] : ليست بكثيرة الطَّعام ولا الشَّرابِ . وقيل : مَجَد الشَّيءُ : أي : حَسُنَتْ أوصافُهُ . وقال الليثُ - رحمه الله - : " أمْجَدَ فلانٌ عطاءهُ ومجَّدهُ أي : كثَّرَهُ " . والمجيدُ : المَاجدُ ، وهو ذُو الشَّرفِ والكرمِ . قوله : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ٱلرَّوْعُ } ، أي : الفزعُ ؛ قال الشَّاعرُ : [ الطويل ] @ 2996 - إِذَا أخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ أمْسَكَتْ بِمَنْكِبِ مِقدامٍ على الهَوْلِ أرْوَعَا @@ يقال : رَاعَهُ يَرُوعُه ، أي : أفزعهُ ؛ قال عنترةُ : [ الكامل ] @ 2997 - ما رَاعَنِي إِلاَّ حَمُولةُ أهْلِهَا وسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حبَّ الخِمْخِمِ @@ وارتاع : افتعل منه ؛ قال النابغة : [ البسيط ] @ 2998 - فارْتَاعَ مِنْ صَوْتِ كلاَّبٍ فَبَاتَ لَهُ طَوْعَ الشَّوامِتِ مِنْ خَوْفٍ ومِنْ صَرَدِ @@ وأمَّا الرُّوعُ - بالضمِّ - فهي النَّفْسُ لأنَّها محلُّ الرَّوْعِ . ففرَّقُوا بين الحالِّ والمَحَلِّ ؛ وفي الحديث : " إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي " . قوله : { وَجَآءَتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ } عطف على " ذَهَبَ " ، وجوابُ " لمَّا " على هذا محذوفٌ أي : فلمَّا كان كيت وكيت اجترأ على خطابهم ، أو فطن لمجادلتهم ، وقوله : " يَجَادِلُنَا " على هذا جملةٌ مستأنفةٌ ، وهي الدَّالَّةُ على ذلك الجواب المحذوف . وقيل : تقديرُ الجواب : أقبل يُجَادلنا ، أو أخذ يُجَادلُنَا ، فـ " يُجَادِلُنَا " على هذا حالٌ من فاعل " أقبل " . وقيل : جوابها قوله : " يُجَادلُنَا " وأوقع المضارع موقع الماضي . وقيل : الجوابُ قوله : { وَجَآءَتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ } والواوُ زائدةٌ . وقيل : " يُجَادِلُنَا " حال من " إبراهيم " ، وكذلك قوله : { وَجَآءَتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ } و " قَدْ " مقدرةٌ . ويجُوزُ أن يكون " يُجَادِلُنَا " حالاً من ضمير المفعول في " جَاءَتْهُ " . و " فِي قَوْمِ لُوطٍ " أي : في شأنهم . قوله : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ٱلرَّوْعُ } . هذا أوَّلُ قصة قوم لوط ، والمعنى : أنَّهُ لمَّا زال الخوف وحصل السُّرورُ بسبب مجيء البُشْرَى بحصول الولد ، أخذ يُجَادلنا أي : رسلنا ، بمعنى : يكلمنا ؛ لأنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لا يجادل ربه ، إنَّما يسأله ويطلب إليه بدليل مدحه عقيب الآية بقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } ولو كان جدلاً مذموماً لما مدحه بهذا المَدْح العظيم ، وكانت مجادلته أن قال للملائكة : أرأيتم لو كان في مدائنِ لوطٍ خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها قالوا : لا . قال : أو أربعون . قالوا : لا . قال : أو ثلاثون . قالوا لا . حتَّى بلغ العشرة . قالوا : لا . قال : أرأيتم لو كان فيها رجلٌ مسلم أتهلكونها ؟ قالوا : لا . فعند ذلك { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ } [ العنكبوت : 32 ] . ثم قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } . والحليم : الذي لا يتعجَّلُ بمكافأة من يؤذيه ، ومن كان كذلك فإنَّه يتأوَّهُ إذا شاهد وصول الشَّدائد إلى الغير فلمَّا رأي مجيء الملائكة لإهلاك قومِ لُوط عظم حزنهُ ، وأخذ يتأوَّهُ فوصفه ، الله - تعالى - بأنَّهُ مُنِيبٌ ؛ لأنَّ من ظهرت منه هذه الشفقة العظيمةُ على الخلق فإنَّهُ يتُوبُ ويرجع إلى الله - تعالى عزَّ وجلَّ - في إزالة ذلك العذابِ ، أو يقال : من كان لا يَرْضَى بوقوع غيره في الشَّدائد ، فبأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها أولى ، ولا طريق لتخليصِ النَّفْسِ من عذاب الله والوقوع فيه إلا بالتوبةِ والإنابةِ ، فقالت الرُّسُلُ عند ذلك لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - : { يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ } أي : أعرض عن هذا المقال ، فـ { إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } ، أي : عذابُ ربِّك وحُكم ربِّك { إِنَّهُمْ آتِيهِمْ } : نازلٌ بهم { عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } ، أي : غير مصروف عنهم . قوله : { آتِيهِمْ عَذَابٌ } يجوز أن يكون جملة من مبتدأ وخبر في محلِّ رفع خبراً لـ " إنَّهُمْ " ، ويجوز أن يكون " آتِيهِمْ " الخبر " عَذابٌ " المبتدأ ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوصفِ ، ولتنكير " آتِيهِمْ " ؛ لأنَّ إضافته غيرُ محصنةٍ . ويجُوزُ أن يكون " آتِيهِمْ " خبر " إنَّ " ، و " عذابٌ " فاعلٌ به ، ويدلُّ على ذلك قراءةُ عمرو بن هرم " وإنَّهُمْ أتاهُمْ " بلفظ الفعل الماضي .