Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 16-18)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } الآية في " عِشَاءً " وجهان : أصحهما : ـ وهو الذي لا ينبغي أن [ يقال ] غيره أنه ظرف ، أي : ظرف زمان أي : جاءوا في هذا الوقت . قال أهل المعاني : جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب . و " يَبْكُونَ " جملة حالية ، أي : جاءوه باكين . والثاني : أن يكون " عِشَاءً " جمع عاشٍ ، كقَائِم وقِيَام . قال أبو البقاء : " ويقرأ بضم العين ، والأصل : عُشَاة ، مثل : غازٍ وغزاة فحذفت الهاء وزيدت الألف عوضاً عنها ، ثم قلبت الألف همزة " . وفيه كلام قد تقدم في آل عمران عند قوله { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } [ آل عمران : 156 ] . ويجوز أن يكون جمع فاعل على فعال ، كما جمع فَعِيل على فُعال ، لقرب ما بين الكسر والضم ، ويجوز أن يكون كنؤام ورباب وهو شاذ . وهذه قراءة الحسن ، وهو من العشْوة . والعُشْوَة : هي الظلام . رواه ابن جني " عُشَاءً " بضم العين وقال : عشوا من البكاء . وقرأ الحسن : " عُشاً " على وزن " دُجَى " نحو غازٍ وغُزاة ، ثم حذفت منه تاء التأنيث [ كما حذفوا تاء التأنيث من ] " مَألِكَة " فقالوا : مَألِك ، وعلى هذه الأوجه يكون منصوباً على الحال . وقرأ الحسن أيضاً : " عُشَيًّا " مصغراً . و " نَسْتَبْقُ " نتسابق . والافتِعَال والتَّفاعُل يشتركان نحو قولهم : نَنْتَضِل ونتناضل ونرتمي ونترامى ، و " نَسْتَبِقَ " في محل نصب على الحال و " تَركْنَا " حال من نَسْتَبقُ و " قد " معه مضمرة عند بعضهم . قال الزجاج : " يسابق بعضنا بعضاً في الرمي " ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " لا سَبقَ إلاَّ في نصْلٍ أو خفِّ أو حافرٍ " يعنى بالنصل : الرمي وأصل السبق : الرمي بالسهم ، ثم يوصف المتراميان بذلك ، يقال : استبقا وتسابقا : إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق . ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبد الله : " إنَّا ذَهبْنَا نَنْتضِلُ " وقال السدي ومقاتل : " نَسْتبِقُ " نشتد ونعدو . فإن قيل : كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون ، وهذا من فعل الصبيان فالجواب : أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل ، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو ، وقوله " فأكلهُ الذِّئْبُ " قيل : أكل الذئب يوسف وقيل : عرَّضُوا ، وأرادوا أكل الذئب المتاع ، والأول أصح . ثم قالوا : " ومَا أنْتَ بمُؤمٍن لنَا " ، أي بمصدق لنا . وقولهم " ولوْ كُنَّا صَادقينَ " جملة حالية ، أي : ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له . فإن قيل : كيف قالوا ليعقوب : أنت لا تصدق الصادقين ؟ . قيل : المعنى أنك تتهمنا في هذا الأمر ؛ لأنك خفتنا في الابتداء ، واتهمتنا في حقه . وقيل : المعنى لا تصدقنا ؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى . فصل احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } ، أي بمصدق . روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت ، فقال الشعبي : يا أبا أمية : أما تراها تبكي ؟ قال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق . قوله تعالى : { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } الآية " على قَمِيصهِ " في محل نصب على الحال من الدم . قال ابو البقاء : " لأن التقدير : جاءوا بدم كذب على قيمصه " . يعنى أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة . ورد الزمخشري هذا الوجه . قال : " فإن قلت : هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة ؟ . قلت : لا ، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه " . وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة ، قد صحح جماعة جوازه ؛ وأنشدوا : [ الطويل ] @ 3065ـ … فَلنْ يَذْهَبُوا فِرغاً بِفتْلِ حِبَالِ @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 3066ـ لَئِنْ كَان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صَادِياً ِ إليَّ حَبِيباً إنَّها لَحبِيبُ @@ وقول الآخر : [ الخفيف ] @ 3067ـ غَافِلاً تعْرِضُ المنِيَّةُ لِلمرْ ءِ فيُدْعَى ولاتَ حِينَ إبَاءُ @@ وقال الحوفيُّ : " علَى قَميصِهِ " : متعلقٌّ بـ " جَاءُوا " ، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ مجيئهم لا يصلحُ أن يكُونَ على القَميصِ . وقال الزمخشري : " فإن قلت : " عَلى قَميصِهِ " ما محلهُ ؟ قلتُ : محلُّهُ النَّصب على [ الظَّرفيةِ ] ، كأنَّه قيل : وجاءُوا فوقَ قَميصِه بدمٍ ، كما تقولُ : جَاءُوا على جِمالهِ بأحمال " . قال أبو حيان : ولا يُسَاعدُ المعنى على نَصْبِ " عَلَى " على الظرفية ، بمعنى : فوق لأن العامل فيه إذ ذاك " جَاءُوا " وليس الفرق ظرفاً لهم [ بل يستحيل أن يكُون ظرفاً لهم ] . وهذا الردُّ هو الذي ردَّ به على الحوفيِّ في قوله : إنَّ " عَلَى " متعلقة بـ : " جَاءُوا " . ثمَّ قال أبو حيان رحمه الله ـ : " وأمَّا المثالُ الذي ذكره وهو : [ جاء ] على جماله بإحمالٍ ، فيمكنُ أن يكون ظرفاً للجائي ؛ لأنَّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدُّلهِ من حمل إلى حمل ، ويكُونُ " بأحْمالٍ " في موضع الحالِ ، أي : مصحوباً بأحمالِ " . وقرأ العامَّةُ : " كَذبٍ " بالذَّال المعجمة ، وهو من الوصفِ بالمصادرِ ، فيمكنُ أن يكُون على سبيل المبالغةِ ، نحو : " رَجُلٌ عدْلٌ " . وقال الفراء ، والمبرِّد والزجاج ، وابن الأنباريِّ : " بدمٍ كذبٍ " ، أي : مكذُوبٍ فيه ، إلا أنَّه وصف بالمصدر ، جعل نفس الدَّم كذباً ؛ للمبالغة ، قالوا : والمفعُول ، والفاعل يسميان بالمصدر ، كما يقال : ماءٌ سكبٌ ، أي : مسكوبٌ ، والفاعل كقوله : { إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } [ الملك : 30 ] ، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما ، فقالوا للعقل : المعقول ، وللجلد : المجلُود ، ومنه قوله تعالى : { ٱلْمَفْتُونُ } [ القلم : 6 ] أو على حذف مضاف ، أي : ذي كذبٍ ، ونسب فعل فاعله إليه . وقرأ زيد بن عليٍّ : " كذِباً " بالنصب ، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله ، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ ، وهو قليلٌ ، أعني : مجيء الحال من النكرة ، وقرأت عائشة والحسنُ [ رضي الله عنهما ] ـ : " كَدِبٍ " بالدَّال المهملة . قال صاحب اللَّوامح : " معناهُ : ذي كدب ، أي أثر ؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ ، يخرج في [ أظافير الشبان ] ويؤثر فيها ، فهو كالنقش ، ويسمى ذلك البياض : الفُوف ، فيكون هذا استعارة لتأثيره في القميص ، كتأثير ذلك في الأظافر " . وقيل : هو الدَّمُ الكدرُ ، وقيل : الطَّريُّ ، وقيل : اليابس . فصل قال الشعبيُّ : قصة يوسف كلُّها في قميصه ، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ ، نزعوا قميصه ، ولطَّخوهُ بالدَّم ، وعرضوه على أبيه ، ولمَّا شهد الشَّاهدُ قال : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ يوسف : 27 - 28 ] وقال : { ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا } [ يوسف : 93 ] ولما أتى البشيرُ إلى يعقوب بقميصه ، وألقي على وجهه ، فارتدَّ بصيراً . قال القرطبِيُّ : " هذا مردودٌ ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدَّم ، غير القميص الذي قُدَّ ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ ، وقيل : إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب ، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ " . فصل قال بعض العلماءِ رضي الله عنهم ـ : لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم ؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا ، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف ، وهو لابسٌ القميص ، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب عليه السَّلام القميص لم يجدْ فيه خرقاً ، ولا أثراً ، استدلَّ بذلك على كذبهم ، وقال لهم : تزعُمُون أن الذِّئب أكله ، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه . فصل استدلَّ العلماءُ بهذه [ الآية ] في إعمالِ الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ وغيرها ، كما استدلَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام على كذكبهم بصحَّة القميص ، فيجبُ على النَّاظر أن يلحظ الآيات ، والعلامات إذا تعارضت ، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ ، وهي قُوَّة التُّهمةِ ، [ قال ابن العربي ] ولا خلاف في الحكم بها . فصل قال محمد بن إسحاقَ : اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةِ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ ، وقلَّة الرًَّأفةِ بالصَّغيرِ الذي لا ذنْبَ له ، والغدر بالأمانة ، وترك العهدِ ، والكذب مع أبيهم ، وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمةِ الله تعالى . قال بعضُ العلماءِ : إنَّهم عزموا على قتله ، وعصمهم الله رحمة بهم ، ولو فعلوا لهلكوا . قوله تعالى : { بَلْ سَوَّلَتْ } قبل هذه الجملة جملة محذوفة تقديرها : لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت ، أي : زيَّنتْ وسهّلتْ ، قاله ابنُ عباسٍ رضي الله عنه . والتَّسويلُ : تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه . قال الأزهريُّ : " كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان ، وهو أمنيتُه التي يطلبها ، فتزين لطالبها الباطل وغيره " . وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز . قال الزمخشري : " سوَّلتْ : سهُلتْ من السَّولِ ، وهو الاسْترخَاءُ " . وإذا عرفت هذا فقوله : " بَلْ " ردُّ لقولهم : " أكَلهُ الذِّئبُ " كأنه قال : ليس كما تقولون ، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه ، أي : زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون . واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين ، فقيل : عرف ذلك بسبب أنَّه كان يعرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم ، وقيل : كان عالماً بأنه حيٌّ ، لقوله ليوسف : { وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } [ يوسف : 6 ] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ . وقال سعيدُ بن جبيرٍ رضي الله عنه ـ : لما جاءُوا على قميصه بدم كذب ، وما كان مُخرّقاً ، قال : كذبتم لو أكله الذِّئب لخرق قميصه . وعن السدي أنه قال : إنَّ يعقوب عليه السلام قال : إنَّ هذا الذِّئب كان رَحِيماً ، كيف أكل لحمه ، ولم يخرقْ قميصه ؟ . وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله اللصوصُ ، فقال : كيف قتلوه ، وتركوا قميصه ، وهم إلى القميص أحْوَجُ منه إلى قتله ، فلمَّا اختلفت أقوالهم ؛ عرف بذلك كذبهم . وقال القاضي : " لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم ؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص ، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان ، فلو خرقوه مع لطخهِ بالدَّم ، لكان الإيهامُ أقوى ، فلما شاهد يعقوب عليه الصلاة والسلام القميص صحيحاً ؛ علم كذبهم " . قال عند ذلك : " فصَبْرٌ جميلٌ " يَجُوز أن يكون مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي ، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ ، أي : أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل : الذي أفعله صبر جميل . وقال قطربٌ : معناه فصبري صبرٌ جميلٌ . وهل يجبُ حذف مبتدأ هذا الخبر ، أو خبر هذا المبتدأ ؟ . وضابطه : أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله ، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز ، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع ، ولكنه في صورةِ شعرٍ ، قوله : [ الطويل ] @ 3068ـ فقَالَتْ على اسْمِ اللهِ أمْرُكَ طاعَةٌ وإنْ كُنْتُ قَد كُلِّفتُ ما لَمْ أعَوَّدِ @@ وقول الشاعر : [ الرجز ] @ 3069ـ يَشْكُو إِليَّ جَملِي طُول السُّرى صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى @@ ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبراً كما تقدم . وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر : " فَصْبراً جَمِيلاً " نصباً ، ورويت عن الكسائي وكذلك هي في مصحف أنس بن مالكٍ رضي الله عنه وتخريجها على المصدر الخبري ، أي : أصبر أنا صبراً ، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج ؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده ، إلاَّ في الطَّلب ، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ : أنَّ يعقوب رجع ، وأمر نفسه ، فكأنَّه قال : اصْبرِي يا نفسُ صبراً . وروي البيت أيضاً بالرَّفعِ ، والنَّصب على ما تقدَّم ، والأمرُ فيه ظاهرٌ . فصل روى الحسنُ قال : " سُئل النبيٌّ صلى الله عليه وسلم عن قوله " فَصبْرٌ جميلٌ " فقال عليه الصلاة والسلام ـ : " صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ " ، ويدلُّ على ذلك قوله : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ } [ يوسف : 86 ] وقال مجاهدٌ " فَصبرٌ جَمِيلٌ " ، أي : من غير جزعٍ . وقال الثوريُّ : " من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك ، ولا بمُصيبتكَ " . وقال ابنُ الخطيبِ : " وههُنا بحثٌ ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ ، فغيرُ واجبٍ ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إلى الغير ، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم ، وخيانتهم ، فلم صبر يعقوب على ذلك ؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش ، ولا البحث عنه ، ولا السّعي في تخليص يوسف من البليّة ، والشِّدَّة إن كان حيًّا ، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم " . ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بأنه حي ؛ لأنَّهُ قال له : { وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } [ يوسف : 6 ] . الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي ، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم ؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه . وأيضاً : فإنَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام كان رجلاً عظيم القدر في نفسه ، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه ، ويعتقدون تعظيمه ، فلو بالغ في البحث ، والطلب لظهر ذلك ، واشتهر ، ولزال وجهُ التَّلبيسِ ، فما السَّبب في أنه عليه الصلاة والسلام مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف ، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات ؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً . فالجواب أن نقول : إن الله سبحانه وتعالى منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه ، وتغليطاً للأمر عليه ، وأيضاً : لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء ، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب ، والفحص ، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه ، وأيضاً : لعلَّهن عليه الصلاة والسلام علم أنَّ الله تبارك وتعالى سيصون يوسف عليه الصلاة والسلام عن البلاءِ والمحنةِ ، وأن أمرهُ سيظهرُ بالآخرةِ ولم يرد هتْك ستر أولاده ، وإلقائهم في ألسنةِ النَّاس وذلك لأنَّ أحَد الولدينِ إذا ظلم أخاه ، وقع أبوه في العذابِ الشَّديدِ ؛ لأنه إذا لم ينتقمْ ؛ يحترق قلبه على الولد المظْلُوم ، وإن انتقم ، احترق قلبه على الولدِ المُنتقَم منه ، فلمَّا وقع يعقوب في هذه البلية رأى أنَّ الأصوب الصَّبرُ ، والسُّكونُ ، وتفويضُ الأَمْرِ بالكُليَّةِ إلى اللهِ تعالى ـ . فصل قال ابنُ أبي رفاعة " ينبغي لأهل الرَّأي أن يتَّهِمُوا رأيهم عند ظنّ يعقوب عليه الصلاة والسلام وهو نبيٌّ حين قال له بنوه : { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ } [ يوسف : 17 ] فقال : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } [ يوسف : 18 ] فأصاب هنا ، ثمَّ لما قالوا له : { إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } [ يوسف : 81 ] ، قال : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ } [ يوسف : 83 ] فلم يُصِبْ " . فصل قوله : " فَصْبرٌ جَميلٌ " يدل على أنَّ الصّبر قسمان : أحدهما : جميلٌ ، والآخر : غيرُ جميلٍ ، فالصَّبرٌ الجميلُ هو : أن يعرف أنَّ مُنزِّلَ ذلك البلاء هو الله تعالى ثمَّ يعلم أنَّهُ سبحانه مالكُ المُلكِ ، ولا اعتراض على المالكِ في أنْ يتصرَّف في ملكه ، فيصيرُ استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً من الشِّكايةِ . وأيضاً : يعلمُ أن منزِّل هذا البلاءِ حليمٌ لا يجهلُ ، عالمٌ لا يغفلُ ، وإذَا كان كذلك ، فكان كلُّ ما صدر عنه حكمةً وصواباً ، فعند ذلك يسكتُ ولا يعترضُ . وأمَّا الصَّبرُ غير الجميل : فهو الصَّبرُ لسائر الأغراض ، لا لأجل الرِّضا بقضاءِ الله سبحانه وتعالى والضَّابطُ في جميع الأقوال والأفعال والاعتقادات : أنه لكما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا . ثم قال : { وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } أي : أستعين بالله على الصَّبر على ما تكذبون .