Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 3-6)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } الآية . { نَحْنُ نَقُصُّ } : مبتدأ وخبر ، والقاصُّ : الذي يتتبَّعُ الآثار ويأتي بالخبر على وجهه ، قال تعالى : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] ، أي : أتَّبعي أثرهُ ، { فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] ، أي اتِّباعاً ، وسميت الحكايةَ قصصاً ؛ لأنَّ الذي يقصُّ الحديث ، يذكرُ تلك القصَّة شيئاً فشيئاً ، كما يقال : تلا القرآنَ إذا قرأهُ ؛ لأنَّه يتلُو ، أي : يتبعُ ما حَفِظَ مِنهُ آيةً بعد آيةٍ ، والمعنى : نُبين لكَ أخبارَ الأممِ السَّالفةِ ، والقرُونِ الماضية . روى سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه قال : لمَّا أنْ نَزلَ القُرآنُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتَلاهُ عَليْهِمْ زمَاناً ، فقالوا : يَا رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لوْ حَدَّثتنَا فأنْزَل اللهُ عز وجل ذكره { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } [ الزمر : 23 ] فقالوا : يا رسول الله ، لو ذكرتنَا ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } [ الحديد : 16 ] . قوله : { أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } في انتصابه وجهان : أحدهما : أن يكُونَ منصُوباً على المفعول به ، وذلك إذا جعلتَ القصص مصدراً واقعاً موقع المفعول ، كالخلقِ بمعنى : المخلُوقِ ، أو جعلته فعلاً بمعنى : مفعُول ، كالقَبْضِ ، والنَّقْضِ بمعنى : المَقْبُوض ، والمَنْقُوض ، أي : نقصُّ عليك أحسن الأشياءِ المقتصة ، فيكون معنى قوله : { أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } : لِمَا فيه من العبرة ، والنُّكتة ، والحكمةِ ، والعجائب التي ليست في غيرها . فإحدى الفوائد في هذه القصة : أنه لا دافع لقضاءِ الله ، ولا مانع من قدر الله ، وأنَّه تعالى إذا قضى لإنسان بخير ؛ فلو اجتمع العالمُ ، لمْ يقدروا على دفعه . والفائدة الثانية : أنََّها تدلُّ على أنَّ الحسد سببُ الخُذلانِ ، والنُقصَانِ . والفائدة الثالثة : أنَّ الصَّبر مفتاحُ الفرج ، كما في حقِّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام ؛ فإنَّه لما صبر ، نال مقصُوده ، وكذلك يُوسُف صلوات الله وسلامه عليه ـ . والوجه الثاني : أن يكون منصوباً على المصدر المبين ، إذا جعلتَ القصص مصدراً غير مراد به المفعُول ، ويكون المقصُوص على هذا محذوفاً ، أي : نقُصُّ عليك أحسن الاقتصاص . وعلى هذا ؛ فالحسنُ يعُود إلى حسنِ البيان ، لا إلى القصَّة ، والمراد بهذا الحسن : كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حدِّ الإعجاز ، ألا ترى أنَّ هذه القصَّة مذكورةٌ في كتب التَّواريخ ، مع أنَّ شيئاً منها لا يشبه هذه السورة في الفصاحة ، والبلاغة . و " أحْسَنَ " : يجوز أن يكون : أفعل تفضيل على بابها ، وأن يكُون لمُجرَّد الوصف بالحسن ، وتكون من باب إضافة الصِّفة لموصوفها ، أي : القصص الحسن . قال العلماء رضي الله عنهم ـ : ذكر الله أقاصيصَ الأنبياء في القرآن ، وكرَّرها بمعنى واحدٍ ، في وجوهٍ مختلفة ، بألفاظ متباينة على درجاتِ المبالغة ، وقد ذكر قصة يوسف عليه الصلاة والسلام ولم يكرِّرها ؛ فلم يقدر مخالفٌ على معارضة ما تكرر ، ولا على معارضة غير المتكرِّر . فصل قال القرطبيُّ : وذكر العُلماءُ لكَوْنِ هذه القصَّة أحسنَ القصصِ وجوهاً : أحدها : أنه ليست قصَّة في القرآن تتضمنُ من العبر والحكم ، ما تتضمن هذه القصَّة ؛ لقوله تعالى في آخرها { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] . وثانيها : لحُسن مجاوزة يوسف إخوته ، وصبْرِه على أذاهُم ، وعفوه عنهُم بعد التقائهم عن ذكر فعلهم ، وكرمه في العفو عنهُم ، حتَّى قال : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ } [ يوسف : 92 ] . وثالثها : أن فيها ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصَّالحين ، والملائكةِ ، والجنِّ ، والشياطين ، والإنسِ ، والطيرِ ، وسير الملوكِ ، والمماليكِ ، والتُّجارِ ، والعلماءِ ، والجهال ، والرِّجال ، والنِّساء وحيلهنَّ ومكرهنَّ ، وذكر التَّوحيد ، والفقهِ ، والسِّير ، وتعبيرِ الرُّؤيا ، والسِّياسةِ ، والمعاشرةِ ، وتدبير المعاشِ ، وجُمَل الفوائد تصلُح للدِّين والدُّنيا . ورابعها : أنَّ فيها ذكر الحبيب ، والمحبُوب ، وسيرهما . وخامسها : أنَّ " أحْسنَ " هنا بمعنى : أعجب . وسادسها : سُمِّيت أحسن القصص ؛ لأنَّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السَّعادة ، وانظُر إلى يوسف ، وأبيه وإخوته ، وامرأة العزيز ، قيل : والملكُ أيضاً أسلم بيُوسُف ، وحسن إسلامهُ ، ومستعبر الرؤيا ، والسَّاقي ، والشَّاهد فيما يقال ، فما كان أمْر الجَمِيع إلاَّ إلى خير ، والله تعالى أعلم . قوله : { بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } " الباء سببيَّة " ، وهي متعلقةٌ بـ " نَقُصُّ " و " مَا " مصدريَّة ، أي : بسبب إيحائنا . قوله : { هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ } يجوز فيه وجهان : أظهرهما : أن ينتصب على المفعولية بـ " أَوْحَيْنَا " . والثاني : أن تكون المسألة من باب التنازع ، أعني : بَيْن " نَقُصُّ " وبين " أوْحَيْنَا " فإن كلاًّ منهما يطلب " هذا القُرآنَ " وتكون المسألةُ من إعمال الثاني ، وهذا إنما يتأتَّى على جعلنا " أحْسنَ " : منصوباً على المصدر ، ولم يقدَّر لـ " نَقُصُّ " مفعولاً محذوفاً . قوله : { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ } [ يوسف : 3 ] تقدّم إعراب نظيره ، والمعنى : قد كنت من قبله ، أي : من قبل وحينا ، لمن الغافلين ، أي : لمن الساهين عن هذه القصَّة لا تعلمُهَا . وقيل : لمن الغافلين : عن الدِّين والشَّريعة قبل ذلك ، كقوله تعالى ـ : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] . قال بعض المفسرين : سمى قصَّة يُوسف خاصَّة أحسن القصص ؛ لما فيها من العبر ، والحكم ، والنُّكتِ ، والفوائد التي تصلُح للدِّين والدُّنيا ، من سير الملوكِ ، والمماليكِ ، والعلماء ، ومكرِ النِّساء ، والصبْر على أذى الأعداء ، وحسن التَّجاوُزِ عنهم بعد الالتقاء ، وغير ذلك من الفوائد . قال خالد بن معدان : " سورة يوسف ، وسورة مريم يتفكَّه بهما أهل الجنَّة في الجنَّة " . وقال عطاء رحمه الله ـ : " لا يَسْمع سُورةَ يُوسف محْزُونٌ إلا استراح لهَا " . قوله تعالى : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ } الآية . رُوِي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلْوا محمَّداً لم انتقل يعقوب من الشَّام إلى مصر ؟ وعن كيفيَّة قصَّة يوسف ؟ فأنزل الله تعالى هذه السورة . وفي العامل في " إذْ " أوجهٌ : أظهرها : أنه منصُوب بـ " قَالَ يَا بُنَيَّ " أي : قال يعقوب : يا بني وقت قول يُوسف لهُ : كَيْتَ وكَيْتَ ، وهذا أسهل الوجوه ؛ إذ فيه إبقاء " إذْ " كونها ظرفاً ماضياً . وقيل : الناصب له : " الغَالفينَ " قاله مكيٌّ . وقيل : هو منصوبٌ بـ " نَقُصُّ " أي : نقصُّ عليك وقتَ قوله كَيْتَ وكَيْتَ ، وهذا فيه [ إخراج ] " إذْ " عن المضيِّ ، وعن الظرفيَّة ، وإن قدَّرت المفعول محذوفاً ، أي : نقصُّ عليك الحال وقت قوله ، لزم إخراجها عن المضيِّ . وقيل : هو منصوب بمضمر ، أي : اذكُر . وقيل : هو منصُوب على أنَّه بدل من " أحسن القصص " بدل اشتمال . قال الزمخشري : " لأنَّ الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص " و " يُوسفُ " اسم عبرانيٌّ ، ولذلك لا ينصرف ، وقيل : هو عربيٌّ ، فقال الزمخشريُّ : " الصحيحُ أنه اسم عبرانيٌّ ؛ لأنه لو كان عربيًّا ، لانصرف " وسئل أبو الحسن الأقطع عن الأسف فقال : " الأسف في اللغة : الحُزن ، والأسف : العَبْد ، واجتمعا في يوسف ؛ فسُمِّي بهما " . روي ابن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " الكَرِيمُِ ابنُ الكَريمِ ابْنِ الكريمِ ابن الكريم ، يُوسف بنُ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ صَلواتُ اللهِ وسلامه عليهم أجمعين " . قوله : " يَا أبَتِ " قرأ ابن عامر : بفتح التَّاء ، والباقون بكسرها ، وهذه التَّاء عوض عن ياء المتكلم ؛ ولذلك لا يجوز الجمع بينهما . وهذا مختصٌّ بلفظتين : يا أبَتِ ويَا أمَّتِ ، ولا يجُوز في غيرهما من الأسماء ، لو قلت : " يَا صَاحِبتِ " لم يجُز ألبتَّة ؛ كما اختصَّت لفظة الأم والعم بحكم في نحو : " يا ابْنَ أمَّ " ويجوز الجمع بين هذه التَّاء ، وبين كلِّ من الياءِ والألفِ ضرورةً ؛ كقوله : [ الرجز ] @ 3044ـ يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا @@ وقول الآخر : [ المتقارب ] @ 3045ـ أيَا أبَتَا لا تَزلْ عِنْدنَا فإنَّا نَخافُ بأنْ تُخْتَرَمْ @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 3046ـ أيَا أبَتِي لا زلْتَ فينَا فإنَّمَا لنَا أمَلٌ فِي العَيْشِ ما دُمْتَ عَائِشَا @@ وكلامُ الزمخشريِّ يؤذن بأنَّ الجمع بين التَّاء والألفِ ليس ضرورةً ؛ فإنَّه قال : " فإن قلت : فما هَذه الكسْرة ؟ قلتُ : هي الكسْرة الَّتي كَانتْ قبل الياءِ في قولك : " يا أبي " قد زُحلقَتْ إلى التاء ؛ لاقتضاء تاءِ التَّأنيث أن يكُون ما قبْلَها مفتوحاً . فإن قلت : فما بالُ الكسرة لم تَسْقُطْ بالفَتْحَة الَّتي اقْتَضَتْهَا التَّاء ، وتبقَى التَّاءُ ساكنةً ؟ . قلت : امتنع ذلك فيها ؛ لأنَّها اسم ، والأسماءُ حقُّها التحريكُ ؛ لأصالتها في الإعراب ، وإنما جاز تسكينُ الياء ، وأصلها أن تحرَّك تخفيفاً ؛ لأنها حرف لين ، وأما التاء ، فحرفٌ صحيحٌ ، نحو كافِ الضمير ؛ فلزم تحريكها . فإن قلت : يشبه الجمع بين هذه التَّاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوَّض منه ؛ لأنَّها في حكم الياء ، إذا قلت : يا غُلام ، فكَمَا لا يَجُوز : " يا أبتي " لا يجوز " يا أبتِ " قلت : الياءُ والكسرة قبلها شيئان ، والتَّاء عوض من أحد الشيئين ، وهو الياء ، والكسرة متعرَّض لها ؛ فلا يجمع بين العوض والمعوَّض منه ، إلا إذا جُمِعَ بين التَّاء والياء لاغير ؛ ألا ترى إلى قولهم : " يَا أبَتَا " مع كونِ الألف فيه بدلاً من الياءِ ، كيف جاز الجمع بينها وبين التاء ، ولم يعدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوَّض منه ؟ فالكسرة أبعد من ذلك . فإن قلت : قد دلَّت الكسرة في " يا غُلامِ " على الإضافة ؛ لأنَّها قرينة الياءِ ولصيقتها ، فإن دلَّت على مثل ذلك في : " يا أبت " فالتَّاء الَمعوَّضة لغو ، وجودها كعدمها . قلت : [ بل ] حالها مع التَّاء كحالها مع الياءِ إذا قلت : " يا أبِي " . وكذا عبارة أبي حيَّان ، فإنه قال : وهذه التَّاء عوض من ياءِ الإضافةِ فلا تجتمعان ، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء ، كما قال : [ الرجز ] @ 3047ـ يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا @@ وفيه نظر ؛ من حيث إن الألف كالتاء لكونها بدلاً منها ، فينبغي أن لا يجمع بينهما ، وهذا تاء أصلها للتأَنيث . قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : ما هذه التَّاء ؟ قلت : تاءُ التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة ، والدَّليل على أنَّها تاء التَّأنيث : قلبُهَا هاءً في الوقف " . قال شهاب الدِّين : وما ذكرهُ من كونها تقلب هاءً في الوقف ، قرأ به ابنُ كثير ، وابن عامرٍ ، والباقُون وقفوا عليها بالتَّاء ، كأَنَّهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في " بِنْت وأخْت " وممن نصَّ على كونها للتَّأنيث : سيبويه ؛ فإنه قال : " سَألْت الخليل عن التَّاء في : " يَا أبتِ " فقال : هي بِمنزِلَة التَّاء في تاء " يا خالة وعمَّة " يعنى : أنَّها للتَّأنيث " ويدلُّ أيضاً على كونها للتأنيث : كتبُهم إيَّاها هاءً ، وقياس من وقف بالتَّاء : أن يكُبهَا تاء ، كـ " بِنْت وأخْت " . ثم قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاءِ التَّأنيث بالمذكَّر ؟ . قلت : كما جاز نحو قولك : حمامة ذكر ، وشاةٌ ذكر ، ورجل ربعة ، وغلامٌ يفعة قلت : يعني : أنها جيء بهَا لمُجرَّد تأنيث اللفظ ، كما في الأسماء المستشهد بها . ثم قال الزمخشري : " فإن قلت : فلم ساغ تعويض تاءِ التأنيث من ياءِ الإضافةِ ؟ . قلت : لأن التأنيث والإضافة تناسبان ؛ في أنَّ كل واحدةٍ منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره " . قال شهاب الدين : " وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يعمل به عند الحُذاق ، فإنَّه يسمَّى الشَّبه الطَّردِي ، أي : أنه شَبَهٌ في الصُّورة " . وقال الزمخشري : إنه قرىء " يَا أبتِ " بالحركات الثلاث : فأما الفتح والكسر فقد تقدَّم ذكر من قرأ بهما . وأما الضم فغريبٌ جدًّا وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلِّم على الضمِّ ؛ كقراءة من قرأ : { قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } [ الأنبياء : 112 ] بضم الباء ، وسيأتي توجيهها هناك إن شاء الله تعالى ولما قلنا : إنَّه مضافٌ للياءِ ، ولم نجعله مفرداً من غير إضافةٍ . وقد تقدَّم توجيهُ كسر هذه التَّاء بما ذكره الزمخشريُّ من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء وهذا أحدُ المذهبين . والمذهبُ الآخر : أنَّها كسرة أجنبيَّة ، جيء بها لتدُلَّ على الياءِ المعوَّض منها . فأما الفتح ففيه أربعة أوجه ، ذكر الفارسي منها وجهين : أحدهما : أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف المنقلبة عن الياءِ ؛ كما اجتزَأ عنها الآخرُ بقوله : [ الوافر ] @ 3048ـ ولَسْتُ بِراجِعٍ ما فَاتَ منِّي بِلهْفَ ولا بِليْتَ ولا لَوَنِّي @@ وكما اجتزأ بها في : " يَا بْنَ أمَّ " و " يَا بْنَ عَمّ " . والثاني : أنه رخم بحذف التاء ، ثم أقحمت التَّاءُ مفتوحة ؛ كقول النابغة الجعديِّ : [ الطويل ] @ 3049ـ كِلِينِي لِهمِّ يا أمَيْمةَ نَاصبِ وليْلٍ أقَاسيهِ بَطيءِ الكَواكبِ @@ بفتح تاء أميمة . الثالث : ما ذكره الفرَّاء ، وأبو عبيدة ، وأبو حاتم ، وقطرب في أحد قوليه : وهو أن الألف في : " يَا أبَتَا " للنُّدبة ، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة ، وهذا قد ينفع في الجواب بين العوض والمعوض منه ، ورد بعضهم هذا ؛ بأنَّ الموضع ليس موضع نُدبة . الرابع : أن الأصل " يا أبَة " بالتنوين ، فحذف التنوين ، لأنَّ النداء بابُ حذفٍ ، وإلى هذا ذهب قطرُب في القول الثاني . وردَّ هذا : بأن التَّنوين لا يحذف من المنادى المنصُوب نحو : " يَا ضَارِباً رجُلاً " . وقرأ أبو جعفر : " يا أبِي " بالياءِ ولم يعوض منها التَّاء ، وقرأ الحسن ، والحسين ، وطلحة بن سليمان ، رضي الله عنهم " أحَدَ عَشَر " بسُكُون العين ؛ كأنَّهم قصدُوا التنبيه بهذا التَّخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً . قوله { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } يجوز فيه وجهان : أحدهما : أن تكون الواو عاطفة ، وحينئذ : يحتمل أن يكُون من باب ذكر الخاصِّ بعد ذكر العام تفصيلاً له ؛ لأن الشَّمس والقمر دخلا في قوله : { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } فهذا كقوله : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] بعد قوله : " ومَلائِكتهِ " ويحتمل أن لا تكون كذلك ، وتكون الواوُ لعطف المغايرة ؛ فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على الـ " أحَدَ عَشَرَ " ومن جملتها الشمس والقمر ، وهذان الاحتمالان نقلهما الزمخشريُّ . والوجه الثاني : أن تكون الواو بمعنى : " مَعَ " إلا أنَّه مرجوحٌ ؛ لأنَّه متى أمكن العطف من غير ضعفٍ ، ولا أخلال بمعنى ، رُجِّح على المعيَّة ؛ وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله ، بمعنى : أنه رأى الشمس ، والقمر زيادةً على الأحد عشر كوكباً . قوله : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } يحتمل وجهين : أحدهما : أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد ؛ لما طال الفصل بالمفاعيل ، كما كُرِّرت " أنكُم " في قوله تعالى : { أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 35 ] . كذا قالهُ أبو حيَّان ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى ـ . والثاني : أنه ليس [ بتأكيد ] ، وإليه نحا الزمخشريُّ ؛ فإنه قال : " فإن قلت : ما معنى تكرار " رَأيْتهُمْ " ؟ قلتُ : ليس بتكرار ؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤالٍ وقع جواباً له ؛ كأنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام قال لهُ عند قوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } كيف رأيتها ؟ سائلاً عن حال رؤيتها ، فقال : ( رأيتهم لي ساجدين ) وهذا أظهر ؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس ، فحمله على التَّأسيس أولى " . و " سَاجِدينَ " : صفة جُمِعَ جَمْع العقلاء ، فقيل : لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم ، جمعهم جمع العقلاء ، لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر ، إذا شاركه في صفةٍ ما ؛ كما قال في صفة الأصنام : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 198 ] ، وكقوله عز وجل : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] . والرُّؤية هنا : مناميَّة ، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين ؛ كالعلميَّة ؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله : { رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } ، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع ، فلم يبق إلا اختصاراً ، وهو قليلٌ ، أو ممتنع عند بعضهم . وقال بعضهم : إن إحداهما من الرُّؤية ، والأخرى من الرُّؤيا . قال القفَّال : ذكر الرُّؤية الأولى ؛ ليدل على أنَّه شاهد الكواكبِ ، والشَّمس والقمر ، والثانية ؛ ليدل لا على مشاهدة كونها ساجدة لهُ . فصل ذكر المفسرون : أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً ، والشمس والقمر يسجدون لهُ ، كان لهُ أحد عشر من الإخوة يُسْتضَاء بهم ؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم ، ففسَّر الكواكب : بالإخوة ، والشمس والقمر : بالأب والأم ، والسجُود : بتواضعهم له ، ودخولهم تحت أمره ، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام ؛ لأن الكواكب لا تسجُد في الحقيقَة ، ولقول يعقوب عليه الصلاة والسلام ـ : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ } . وقال السديُّ : " القمر : خالته ، والشَّمس : أبُوه ؛ لأن أمَّه راحِيل كانت قد ماتت " . وقال ابن جريج : القَمَر : أبُوه ، والشَّمسُ أمُّه ؛ لأن الشمس مؤنثة ، والقمر مذكَّر . وقال وهب بن مُنبِّه رضي الله عنه ـ : " إن يُوسفُ عليه الصلاة والسلام رأى وهو ابنُ سبع سنين ، إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركُوزة في الأرض كهيئة الدَّائرة ، وإذا عَصاً صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها ، فذكر ذلك لأبيه ؛ فقال : إيَّاك أن تذكر هذا لإخوتِك ، ثمَّ رأى وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، الشَّمس ، والقمر والكواكب ، تسجُد له ؛ فقصَّها على أبيه ؛ فقال : لا تذكرها له فيَكيدُوا لَك كَيْداً " . روى الزمخشريُّ : رحمه الله ـ : " أن يهُودِيًّا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه سولم ، فقال يا محمَّد : أخبرني عن النُّجُوم التي رآهُن يوسف ، فسكت النبي عليه الصلاة والسلام ـ ؛ فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك ؛ فقال عليه الصلاة والسلام لليهوديَّ : إن أخبرتك بذلك هل تسلم ؟ قال : نَعمْ ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم : حرثان ، والطارق والذيال ، وقابس ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والقرع ، والضروح ووثاب ، وذو الكتفين رآها يوسف ، والشمس والقمر [ نَزلْنَ ] من السَّماء ، وسجدن لهُ ، فقال اليهوديُّ : أي والله إنَّها لأسماؤها " . واعلم أن كثيراً من هذه الأسماء غير مذكورة في الكتب المصنفة في صُور الكواكب . فصل زعمت طائفةٌ من العلماء : أنه لم يكن في أولاد يعقُوب نبيٌّ غير يُوسف عليه الصلاة والسلام وباقي إخوته لم يوح إليهم ، واستدلُّوا بظاهر ما ذُكر من أفعالهم ، وأحوالهم في هذه القصَّة ، ومن استدلَّ على نُبوتهم ، استدلَّ بقوله تعالى ـ : { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ } [ البقرة : 136 ] وزعم أنَّ هؤلاء : هم الأسباط ، وهذا استدلال ضعيفٌ ؛ لأن المراد بالأسباط : شُعوب بني إسرائيل ، ما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين نزل عليهم الوحي ، وأيضاً : فإنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام هو المخصُوص من بين إخوته بالنبوة والرسالة ؛ لأنَّه نصَّ على نُبوَّته ، والإيحاء إليه في آيات من القرآن ولم ينصَّ على أحد إخوته سواه ؛ فدلَّ على ما ذكرنا . فصل في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم ، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة ؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته ؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً ، وفيها أيضاً : دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً ، وفيها أيضاً : دليلٌ على معرفة يعقُوب عليه الصلاة والسلام بتأويلِ الرُّؤيا ؛ فإنه علم من تأويلها : أنَّه سيظهر عليْهم . قوله { يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ } قرأ حفص : " يا بُنيَّ " بفتح الياءِ ، والباقون بكسرها ، وقرأ العامة : بفك الصادين ، و هي لغةُ الحجاز ، وقرأ زيد بن علي : بصادٍ واحدة مشددة ، والإدغام لغة تميم ، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة ، عند قوله : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ } [ المائدة : 54 ] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا . وقال الزمخشريٌّ : " الرُّؤيا بمعنى : الرُّؤية ، إلا أنَّها مختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظةِ ، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث ؛ كما قيل : القربة والقربى " . وقرأ العامَّة : " الرُّؤيا " مهموزة من غير إمالةٍ ، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ : وأما ( الرؤيا ) [ يوسف : 100 ] : و " رُؤيَاي " الاثنتان في هذه السورة ، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور ، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ . وقال الزمخشري : وسمع الكسائيُّ : " رُيَّايَ وريَّاكَ " بالادغام ، وضم الرَّاء ، وكسرها ، وهي ضعيفة ؛ لأن الواو في تقدير الهمزة ؛ فلم يقو إدغامها ؛ كما لم يقو إدغام " اتَّزَر " من الإزارِ ، و " اتَّجرَ " من " الأجْر " . يعنى : أن العارض لا يعتدُّ به ، وهذا هو الغالبُ ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله : " رِئْياً " في قوله : { أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] عند حمزة ، و { عَاداً ٱلأُولَىٰ } [ النجم : 50 ] وأما كسر " ريَّاكَ " فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة ، وأما الضمُّ فهو الأصل ، والياء قد استهلكت بالإدغام . قوله " فيَكِيدُوا " : منصُوب في جواب النَّهي ، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله : " إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ " . و " كَيْداً " فيه وجهان : أظهرهما : أنه مصدر مؤكدٌ ، وعلى هذا ففي اللام في قوله : " لَكَ " خمسة أوجه : أحدها : أن يكون " يَكيدُ " ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم ؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه ، وقال : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } [ هود : 55 ] والتقدير : فيحتالوا لك بالكيد . قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه : " فإن قلت : هلا قيل : " فَيَكيدُوكَ " كما قيل : فَكِيدُونِي [ هود : 55 ] ؟ . قلت : ضُمِّن معنى فعلٍ يتعدَّى باللاَّم ؛ ليُفِيد معنى فِعْل الكيد مع إفادةِ معنى الفعل المضمَّن ، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف ، وذلك نحو : فيَحْتالُوا لك ؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر " . الوجه الثاني من أوجه اللاَّم : أن تكون اللاَّم معدية ، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة ، وبنفسه أخرى ؛ كـ " نَصَحَ " و " شَكَرَ " كذا قالهُ أبو حيَّان ، وفيه نظر ؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس ، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة ، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ . والثالث : أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به ؛ كزيادتها في قوله : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، قاله أبو البقاء ؛ وهو ضعيفٌ ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين : تقديم المعمول ، أو كون العامل فرعاً . الرابع : أن تكون اللام للعلَّة ، أي : فيَكِيدوا لأجْلِك ؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً ، أو اختصاراً . الخامس : أن تتعلَّق بمحذُوف ؛ لأنَّها حالٌ من " كَيْداً " إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت . الوجه الثاني من وجهي " كَيْداً " : أن يكون مفعولاً به ، أي : فيصنعُوا لك كيداً ، أي : أمراً يكيدُونك به ، وهو مصدر في موضع الاسم ، ومنه : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } [ طه : 64 ] ، أي : ما تكيدُون به ؛ ذكره أبو البقاء ، وعلى هذا ففِي اللاَّم في : " لَكَ " وجهان فقط : كونُها صفة في الأصل ، ثم صارت حالاً ، أو هي للعلَّة ، وأما الثلاثة الباقية ، فلا تتأتَّى بعد ، فامتناعها واضحٌ . ثمّ قال : { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي : يزيِّن لهم الشيطان ، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة . فصل قال أبو سلمة : كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي ، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول : كنت أرى الرُّؤيا ، فتُمْرضُنِي ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الرُّؤيا الصَّالحة من الله ، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ ، وإذا رَأى ما يكرهُ ، فلا يُحدِّثْ به ، وليتفُل عن يساره ، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم ، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره " وقال صلى الله عليه وسلم : " الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ ، وهيَ على رجل طائرٍ فإذا حدَّث بها وقعتْ " . قال الراوي : وأحسبه قال : " لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً ، أوْ لَبِيباً " . قال الحكماء : الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب ، والرُّؤيا الجيَّدة ، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين ، قالوا : والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر ، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه ، وأمَّا الإعلام بالخير ، فإنه يحصُل متقدِّماً على ظهوره ، بزمانٍ طويلٍ ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً . فصل قال القرطبيُّ : " الرُّؤيا حالةٌ شريفة ، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ ، قال صلى الله عليه وسلم : " لَمْ يَبقَ بعدي من المبشراتِ إلاَّ الرُّؤيا الصَّالحة ، يَراهَا [ الرجل ] الصَّالحُ ، أو ترى له " " وقال صلى الله عليه وسلم : [ أصْدقُكم رُؤيَا ، أصدقكُمْ حَديثاً " وحكم صلى الله عليه وسلم ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي : من سبعين ، وروي : من [ تسعة ] وأرْبعينَ ، وروي : من خَمسِينَ جُزءاً ، وروي : من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ ، وروي : من أرْبعينَ ، والصحيح : حديث السِّت والأربعين ، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين . فإن قيل : إن يوسف عليه الصلاة والسلام كان صغيراً ، والصغير لا حكم لفعله ، فكيف يكون لرُّؤياه حكم ، حتى يقول له أبو : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ } . فالجواب : أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة ، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة ، صدق ؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ ، ورُوِي : أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان ابن اثنتي عشر سنة . فصل في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح ، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها . وروى الترمذيُّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الرُّؤيَا برجْل طائرٍ ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا ، فإذا حدَّث بها ، وقعتْ ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً ، أو مُحبًّا ، أوْ ناصحاً " . قوله { وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } الكاف في موضع نصب ، أو رفع . فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر ، وقد تقدم أنه رأي سيبويه ، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف ، والمعنى : مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك . والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر ، يعني : الأمر كذلك ، وقد تقدم نظيره . قوله : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه ، والتقدير : وهو يعلمك ، والأحاديث : جمع تكسير ، فقيل : لواحد ملفوظٍ به ، وهو " حَدِيث " ولكنَّه شذَّ جمعه على : أحاديث ، وله أخوات في الشُّذُوذ ؛ كأباطيل ، وأقَاطِيع ، وأعَارِيض ، في " بَاطل وقَطيع وعَرُوض " . [ وزعم ] أبو زيد : " أن لهَا واحداً مقدراً ، وهو " أحْدُوثة " ونحوه ، وليس باسم جمع ؛ لأن هذه الصِّيغة مختصًّة بالتكسير ، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه ، نحو : " شَماطِيط " ، و { أَبَابِيلَ } [ الفيل : 3 ] ففي أحاديث أولى " . ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله : " وهي اسمُ جمع للحديث ، وليس بجمع أحدوثة " بما ذكرنا ، ولكن قوله : " ليس بجمع أحدُوثة " صحيح ؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه ، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله : " اسم جمع " . فصل قال الزجاج : الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء : إذا أخلصته لنفسِك ، ومنه : جَبُبت الماء في الحوض ، والمعنى : كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز ، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك ، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة . وقيل : بإعلاء الدَّرجة ( ويعلمك من تأويل الأحاديث ) : يريد تعبير الرُّؤيا ، وسُمِّي تأويلاً ؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه ، والتأويل : ما يئول إليه عاقبة الأمْر ، كان عليه الصلاة والسلام غاية في علم التَّعبير . وقيل : في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى ـ ، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام ـ . وقيل : الأحاديث : جمع " حَدِيث " ، والحديث هو الحَادثُ ، وتأويلُها : مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى ـ ، وتكوينه ، وحكمته ، والمراد من تأويل الأحاديث : كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحكمته ، وجلاله . قوله : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } يجوز أن يتعلق " عَليْكَ " بـ " يُتِمُّ " وأن يتعلق بـ " نِعْمتَهُ " ، وكرَّر " عَلَى في قوله : " وعَلى آلِ " لتمكنِ العطف على الضمير المجرور ، وهذا مذهبُ البصريِّين . وقوله { مِن قَبْلُ } أي : من قبلك : واعلم : أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة ، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة ، وإلا لزم التكرار ، بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا : بسعادات الدنيا والآخرة . أما سعادات الدنيا ؛ فالإكثار من الولدِ ، والخدمِ ، والأتباع ، والتَّوسُّع في المال والجاه ، والجلال في قلوب الخلقِ ، وحسن الثَّناء والحمد ، وَأما سعادات الآخرة ، فالعُلُوم الكثيرة ، والأخلاق الفاضلة . وقيل : المراد من إتمام النِّعمة : خلاصته من المحن ، ويكون وجه التَّشبيه بـ " إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام " وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّار ، وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح . وقيل : إن إتْمَام النَّعمة هو : وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة ؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً ، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة . وقيل : : إتمام النِّعمة على إبراهيم : خُلَّتهُ ، وعلى إسحاق بإخراج يعقُوب والأسباط من صلبه . ومن فسر الاجتباء : بالدَّرجات العالية ؛ فسَّر إتمام النِّعمة : بالنُّبوَّة ؛ لأنَّ الكمال المطلق ، والتَّمام المطلق في حقِّ البشرِ ليْس إلاَّ النُّبوَّة ، يدلُّ عليه قوله تعالى : { وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ } أي : على أولاده ؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء ، وقوله : { كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة ؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة : هو النبوة ، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوب كلهم كانوا أنبياء ؛ كقوله تعالى ـ : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ } . فإن قيل : كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء ، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام ـ ؟ . فالجواب : أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة ، والعصمة ، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة ، لا قبلها . قوله { إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } " يجُوز أن يكونا بدلاً من " أبَويْكَ " أو عطف بيان ، أو على إضمار أعني " ، ثم لما وعد عليه الصلاة والسلام بهذه الدرجات الثلاث ، ختم [ الآية ] بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فقوله " عَلِيمٌ " إشارة إلى قوله : { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، وقوله : " حَكِيمٌ " إشارةٌ إلى أنه مقدَّس عن العبث ، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة . فإن قيل : هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها ، أم لا ؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها ، فكيف حزن على يوسف ؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه ؟ وكيف قال لإخوته : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [ يوسف : 13 ] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه ، ويبعثُه رسولاً ؟ . وإن قلت : إنه عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بهذه الأحوال ، فكيف قطع بها ؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ ؟ . فالجواب قال ابنُ الخطيب : " لا يبعُد أن يكون قوله : { وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } مشروطاً بألا يكيدُوه ؛ لأن ذكر ذلك قد تقدَّم ، وأيضاً : فيبعُد أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام سيصلُ إلى هذه المناصب ، إلا أنه لا يمتنعُ أن يقع في المضايق الشديدة ، ثم يتخلَّص منها ، أو يصل إلى تلك المناصب ، وكان خوفه بهذا السَّبب ، ويكُون معنى قوله : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ } [ يوسف : 13 ] الزَّجز عن التهاون في حقِّه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه " .