Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 7-14)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ } الآية . قال الزمخشري : " أسماء إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام يهوذا ورُوبيل ، وشمعُون ، ولاوي ، وزبالون ، ويشجر ، وأمهم : ليا بنت ليان ، وهي ابنة خال يعقوب ، وولد له من سريتين تسمى إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة أولاد : دان ، ونفتالي ، وجاد وآشر ، فلما توفيت " ليا " تزوج يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين " . قوله تعالى { آيَاتٌ } قرأ ابن كثير " آية " بالإفراد ، والمراد بها : الجِنْس ، والباقون الجمع تصريحاً بالمراد ؛ لأنها كانت علامات كثيرة ، وزعم بعضهم : أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً ، تقديره : للسَّائلين ولغيرهم ، ولا حاجة إليه ، و " للسَّائلِينَ " : متعلقٌ بمحذوفٍ نعتاً لـ " آياتٌ " . فصل معنى : { آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } أنه عبرة للمعتبرين ؛ فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف ، وما آل إليه أمرهم من الحسد ، وتشتمل على صبر يوسف عن قضاء الشُّهُود ، وعلى الرقِّ والسِّجن ، ما آل إليه أمرهُ من الوُصول إلى المراد ، وغير ذلك . وقيل : { آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } ، أي دلالة على نُبُوَّة الرسول صلوات الله وسلام عليه ـ . وقال ابن عباس رضي الله عنهما " دخل حبر من اليهُود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع منه [ قراءة ] سورة يوسف ، فعاد إلى اليهودِ ، فأعلمهم أنَّه سمع كما في التَّوراة ، فانطلق نفرٌ منهم ، فسَمِعُوا كما سَمِع ؛ فقالوا له : من علَّمك هذه القصَّة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام ـ : " اللَّه عَلَّمَنِي " فنزلت : { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } . قال ابن الخطيب : " وهذا الوجه عندي بعيد ؛ لأن المفهوم من الآية : أن في واقعة يُوسف عليه الصلاة والسلام آياتٌ للسَّائلينَ ، وعلى ما قلناه : ما كانت الآيات في قصَّة يُوسف ، بل كانت في إخبار محمَّد صلى الله عليه وسلم عنها ، من تعلُّم ولا مطالعة . الثاني : أن أكثر أهل مكَّة كانُوا أقارب الرَّسُول عليه الصلاة والسلام ـ ، وكانُوا يُنْكِرُون نُبوَّته ، ويظهرُون العداوة الشَّديدة معهُ بسبب الحسد ، فذكر الله تعالى هذه القصَّة ، وبيَّن أنَّ إخوة يُوسُف بالغُوا في إيذائه لأجل الحسد ، وبالآخرة إن الله نصره ، وقواه ، وجعلهم تحت يده ، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل ، كانت زاجرة له عن الإقدام على الحسد . الثالث : أن يعقُوب عليه الصلاة والسلام لما عبر رُؤيا يُوسُف ، وقع ذلك التَّعبير ، ودخل في الوُجُود بعد ثمانين سنة ، فكذلك أن الله تعالى كما وعد مُحمَّداً صلى الله عليه وسلم بالنَّصر والظفر ، كان الأمر كما قدَّره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء في إبطال أمره " . قوله : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا } اللام في " ليُوسفُ " : لام الابتداء أفادت توكيداً لمضمون الجملة ، وأرادُوا أنَّ زيادة محبَّته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه " وأخُوهُ " : هو بنيامين ، وإنَّما قالوا : " وأخُوهُ " وهُمْ جَمِيعاً إخوة ؛ لأن أمُّهُمَا كانت واحدة ، و " أحَبُّ " أفعل تفضيل ، وهو مبنيٌّ من " حُبَّ " المبنيِّ للمفعُول ، وهو شاذٌّ ، وإذا بنيت أفعل التَّفضيل ، من مادَّة الحُبِّ والبغضِ ، تعدَّى إلى الفاعل المعنوي بـ " إلى " وإلى المفعول المعنوي بـ " اللام " ، أو بـ " في " فإذا قلتَ : زيدٌ أحبُّ إِليَّ من بكرٍ ، تعني : أنك تحبُّ زيداً أكثر من بكر ، فالمُتكلِّم هو الفاعل ، وكذلك : " هو أبغضُ إليَّ منْهُ " أنت المبغض ، وإذا قلت : زيدٌ أحبُّ إليَّ من عمرو ، أو أحَبُّ فيَّ مِنهُ ، أي : إنَّ زيداً يُحِبُّني أكثر من عمْرِو ؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 3050ـ لعَمْرِي لَسعْدٌ حَيْثُ حُلَّتْ دِيَارهُ أحَبُّ إليْنَا مِنْكَ فافرَسٍ حَمِرْ @@ وعلى هذا جاءت الآية الكريمة ؛ فإن الأب هو فاعل المحبَّة . و " أحَبُّ " : خير المبتدأ ، وإنَّما لم يطابق ؛ لما عرفت من حكم أفعل التَّفضيل . وقيل : اللاَّم في : " ليُوسُفُ " : جواب القسم ، تقديره : والله ليُوسف وأخُوه ، والواوُ في : " ونَحْنُ عُصْبَةٌ " : للحال ، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال ، والعامة على رفع " عُصْبةٌ " خبراً لـ " نَحْن " . وقرأ أمير المؤمنين رضي الله عنه بنصبها على أنَّ الخبر محذوف ، والتقدير : ونحن نرى أو نجتمع ، فتكون " عُصْبَةٌ " حالاً ، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا ؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة ، نحو : ضربي زيداً قَائِماً ، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً . قال ابن الأنباري : " هذا كما تقُولُ العربُ : إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ ، أي : يتعمم عِمَّته " . قال أبو حيَّان : " وليس مثله ؛ لأن " عُصْبَةٌ " ليس بمصدر ولا هيئة ، فالأجود أن يكون من باب : حُكمُكَ مُسمَّطاً " . قال شهاب الدِّين : " ليس مراد ابن الأنباري إلاَّ التشبيه ؛ من حيث إنه حذف الخبر ، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلك ، ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره " . وقال المبرد : هو من باب : " حُكمُك مُسمًّطاً " أي : لك حكمك مسمَّطاً ، قال الفرزدقُ : @ 3051ـ يا لهْذَمُ حُكْمُكَ مُسَمَّطاً @@ أراد لك حكمك مُسمَّطاً . قال : واستعمل هذا فكثُر حتى حذفَ استخفافاً ؛ لعلم ما يريد القائل ؛ كقولك : الهلال والله ، أي : هذا الهلال ، والمُسَمَّط : المرسل غير المردُودِ وقدره غير المبرِّد : حكمُك ثبت مُسمَّطاً ، وفي هذا المثال نظر ؛ لأن النَّحويِّين يجعلُون من شرط سدِّ الحالِ مسدّ الخير : أن لا يصلُح جعل الحالِ خبراً لذلك المبتدأ ، نحو : ضَرْبِي زيداً قائماً ، بخلاف : " ضَرْبِي زيْداً شديدٌ " فإنَّها ترفع على الخبريَّة ، وتخرُج المسألة من ذلك ، وهذه الحال ، أعني : " مُسَمَّطاً " يصلح جعلها خبراً للمبتدأ ، إذ التقدير : حكم مرسل لا مردودٌ ، فيكون هذا المثل على ما تقرَّر من كلامهم شاذًّا . والعُصْبَة : ما زاد على العشرة ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ـ ؛ وعنه : مابين العشرة إلى الأربعين . وقيل : الثلاثة نفر ، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة ؛ فهو رهطٌ ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً ، فعُصْبَة . وقيل : مابين الواحد إلى العشرة . وقيل : من عشرة إلى خمسة عشر . وقيل : ستة . وقيل : سَبْعَة . والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة ؛ لإحاطتها بالرَّأس . فصل بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف : وهو أن يعقُوب عليه الصلاة والسلام كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ ، فتأذَّوا منه لوجوه : أحدها : كانوا أكبر منه سنًّا . وثانيها : أنَّهم كانوا أكثر قوَّة ، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما . وثالثها : أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات ، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات ، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا : { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } . قال ابن الخطيب : " وها هنا سؤالات : السؤال الأول : أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض ، يُورِث الحقد والحسد ، وهما يورثان الآفات ، فلما كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام عالماً بذلك ، فلم أقدم على التفضيل ؟ وأيضاً : فالأسنُّ ، والأعلم ، والأنفع مقدَّم ، فلم قلب هذه القضية ؟ . فالجواب : أنَّه عليه الصلاة والسلام ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة ، والمحبَّة ليست في وسع البشر ، فكان معذُوراً فيه ، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ ، قال عليه الصلاة والسلام ـ : " اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك " حين كان يحبُّ عائشة رضي الله عنها ـ . السؤال الثاني : أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله ، فكَيْفَ اعتَرضُوا ؟ وكيْفَ زَيَّفُوا طريقتهُ وطعنُوا في فعلِهِ ؟ وإن كانُوا مُكذِّبينِ بنُبوته ، غير مقرِّين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله ، فهذا مُوجِبُ تكفيرهم ؟ . والجواب : أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم ، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله ، إلاَّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم ، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد ؛ وذلك لأنَّهم كانوا يقولون : هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ ، والعقل ، الكفاية ، والمنفعة ، وكثرة الخدمة ، والقيام بالمهمات ، فإصراره على تقديم يوسف علينا ، يخالف هذا الدَّليل ، وأما يعقُوب عليه الصلاة والسلام فلعله كان يقُول : زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة ، فليس لله عليَّ فيه تكليفٌ ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ ، فيحتمل أنه كان لوجوه : أحدها : أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار . وثانيهما : أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد ، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد ، والحاصل : أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة ، وكانت بميْل النَّفس ، وموجبات الفطرة ، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ ، أو في عرضه . السؤال الثالث : أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين ، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن ، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر ، لا سيَّما إذا كان الطَّاعن ابناً ؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعْظِيم . والجواب : المُراد من الضلال : غير رعاية مصالحِ الدِّين ، لا البعد عن طريق الرُّشد ، والصواب . السؤال الرابع : أن قولهم : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا } محضُ الحسد ، والحسد من أمهات الكبائر ، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح ، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة ، وتبعيده عن الأب المشفقِ ، وألقوا أباهم في الحُزن الدائم ، والأسف العظيم ، وأقدموا على الكذب ، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة . والجواب : أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حُصول النُّبوَّة ، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب " . { ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً } الآية . في نصب " أرْضاً " ثلاثة أوجه : أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً ، أي : في أرض ؛ كقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] ، وقول الشاعر : [ الكامل ] @ 3052ـ لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتنُهُ فِيهِ كَمَا عَسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ @@ وإليه ذهب ابن عطيَّة . قال النَّحاس : " إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً ؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين ، أحدهما بالحرف ، فإذا حذفت الحرف ، تعدَّى الفعل إليه " . والثاني : النصب على الظرفيَّة . قال الزمخشريُّ : " أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران ، وهو معنى تنكيرها ، وأخلائها من النَّاسِ ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه ، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة " . وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال : " وذلك خطأ ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً ، وهذه ليست كذلك ، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ ، أو قاصية أو نحو ذلك ، فزال بذلك إبهامُهَا ، ومعلُوم أن يُوسف لم يَخْل من الكون في أرض ، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة ، غير التي هو فيها قريبة من أبيه " . واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد ، وقال : " وهذا الردُّ صحيحٌ ، لو قلت : " جَلستُ داراً بعيدة ، أوْ مكاناً بعيداً " لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها ، إلا في ضرورة شعرٍ ، أو مع " دخلْت " على الخلاف في " دَخلت " أهي لازمة أم متعدِّية " . وفي الكلامين نظر ؛ إذ الظَّرف المُبْهَم : عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصره ، ولا أقطار تحويه ، و " أرضاً " في الآية الكريمة من هذا القبيل . الثالث : أنها مفعول ثان ، وذلك أن معنى : " اطْرحُوهُ " أنزلوه ، و " أنزلوه " يتعدى لاثنين ، قال تعالى ـ : { أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } [ المؤمنين : 29 ] وتقول : أنزلت زيداً الدَّارَ . والطَّرح : الرَّميُ ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف ؛ قال عروة بن الوردِ : [ الطويل ] @ 3053ـ ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ @@ والمعنى : اطرحُوه إلى أرض تبعُد من أبيه ، وقي : في أرض تأكله السِّباعُ . و " يَخْلُ لكُمْ " جوابٌ الأمر ، وفيه الإظهار والإدغام ، وتقدَّم تحقيقها عند قوله { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً } [ آل عمران : 85 ] . قوله : { وَتَكُونُواْ } يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله ، أو منصوباً بإضمار " أن " بعد الواو في جواب الأمر . فصل اعلم : أنَّه لما قوي الحسد ، وبلغ النِّهاية ، قالوا : لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه ، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين : القتل ، أو التَّغريب ، ثم ذكروا العلَّة فيه ، وهي قوله : { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } أي : أنَّ يوسف شغله عنَّا ، وصرف وجهه إليه ، فإذا فقده ، أقبل علينا بالميل والمحبَّة ، { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد قتل يوسف ، { قَوْماً صَالِحِينَ } : أي : نتُوب بعد قتلهِ . وقيل : يصلُح شأنكم ، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم ، واختلفُوا في قائل هذا القول . فقيل : شَاورُوا أجْنَبياً ؛ فأشار عليهم بقتله ، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته . وقيل : القائل بعض إخوته ، واختلفوا فيه . فقال وهب : شمعون ، وقال كعب : دان ، وقال مقاتل : رُوبيل . فإن قيل : كيف يليق هذا بهم ، وهم أنبياء ؟ فأجاب بعضهم : بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا ، وهذا ضعيفٌ ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح . وأيضا : فإنَّهُم قالوا : { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } وهذا يدلُّ على أنَّهُم قبل النبوَّة لا يكونوا صالحين ، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان ، وأيضاً : قولهم : { يٰأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [ يوسف : 97 ] والصغير لا ذنب له . فأجاب بعضهم : بأنَّ هذا من باب الصَّغائر ، وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم ، والكيد معهُ ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير ، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر ، بل الجواب الصحيح : أنَّهم ما كانُوا أنبياء ، وإن كانوا أنبياء ، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة . ثم إنَّ قائلاً منهم قال : { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } . قيل : إنه رُوبيل ، وكان ابن خالة يُوسُف ، وكان أحسنُهم رأياً فيه ؛ فمنعهم من قتله . وقيل : يهُوذا ، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ ، والسِّنِّ ، وهو الصحيح . قوله : " فِي غَيابَةِ " قرأ نافع : " غَيابَات " بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة ، جعل ذلك المكان أجزاء ، وسمَّى لك جزءٍ غيابة ؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي ، فيكون فيها غيابات ، والباقون : بالإفراد ؛ لأن المقصُود : موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف ، وابن هُرْمز كنافع ، إلا أنَّه شدَّد الياء ، والأظهر في هذه القراءة : أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة ، فهو وصف في الأصل ، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال ، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني : " ووجدت من ذلك : الفخَّار : للخَزَف " . وقال صاحب اللَّوامح : " يجوز أن يكو على " فعَّالات " كحمَّامات ، ويجوز أن يكون على " فيْعَالات " ، كشَيْطَانَات ، جمع شَيْطَانَه ، وكلٌّ للمبالغة " . وقرأ الحسن : " في غَيَبةِ " بفتح الياء ، وفيه احتمالان : أحدهما : أن يكون في الأصل مصدراً ؛ كالغلبة . والثاني : أن يكون جمع غائب ، نحو : صَانِع وصنَعَة . قال أبو حيَّان : " وفي حرف أبيٍّ : " في غيْبَةِ " بسكون الياء ، وهي ظلمة الرَّكيَّة " . قال شهاب الدين : " والضبط أمر حادثٌ ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف ، وتقدَّم نحو ذلك ، والغيابة ، قال الهروي : شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون " . وقال الكلبيُّ : " الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ ؛ لأَنَّ أسفله واسعٌ ، ورأسه ضيِّق ، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه " . وقال الزمخشري : " هي غورة ، وما غب منه عن عين النَّاظر ، وأظلم من أسفله " . قال المنخل : [ الطويل ] @ 3054ـ فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ @@ أراد : غيابة حُفرته التي يدفن فيها ، والجبُّ : البئر الذي لم تُطْوَ ، وسمِّي بذلك : إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض ، أي : ما غلظ منها ؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ : القطعُ ، ومنه : الجبُّ في الذَّكر ؛ قال الأعشى : [ الطويل ] @ 3055ـ لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ @@ ويجمع على جُنُبٍ ، وجِبَاب ، وأجْبَاب . فصل والألف واللام في " الجُبِّ " تقتضي المعهُود السَّابق ، واختلفوا فيه : فقال قتادة : هو جُبُّ بئر بيت المقدِس ، وقيل : بأرض الأرْدُن . وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب ، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ ؛ للعلَّة التي ذكروها ، وهي قولهم : " يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ " لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً ، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها ، كان إلى السَّلامة أقْرَب ؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا ، شاهدوا ذلك الإنسان فيه ، فيخرجوه ، ويذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك . قوله " يَلتَقِطْهُ " قرأ العامَّة : " يَلْتَقِطْهُ " بالياء من تحت ، وهو الأصلُ وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة : بالتَّاء من فوق ؛ للتَّأنيثِ المعنويِّ ، والإضافة إلى مؤنَّث ، وقالوا : قُطِعَت بعضُ أصَابعه . قال الشَّاعر : [ الوافر ] @ 3056ـ إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ @@ وتقدَّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [ الأنعام : 160 الأعراف : 56 ] . والإلتِقَاط : تناول الشيء المطروح ، ومنه : اللُّقطَة واللَّقِيط ؛ قال الشاعر : [ الرجز ] @ 3057ـ ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا … @@ قال ابن عرفة : الالتقاط وجود الشيء على غير طلب ، ومنه قوله تعالى { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ } أي : يجده من غير أن يحتسب . فصل اختلفوا في الملقوط فقيل : إن أصله الحرية ؛ لغلبة الأحرار على العبيد ، وروي الحسين بن علي رضي الله عنهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ ، وتلا قوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] وهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويروى عن علي وجماعته ، وقال إبراهيم النخعي : إن نوى رقه فهو مملوك ، وإن نوى الاحتساب فهو حر . فصل والسيَّارة : جمع سيَّار ، وهو مثال مبالغة ، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر ، وقال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ـ : يريد : المارَّة ، ومفعول " فَاعِلينَ " محذُوف ، أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم . وهذا إشارة إلى أن الأولى : أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك ، وأما إن كان ولا بد ، فاقتصروا على هذا القدر ، ونظيره قوله تعالى ـ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] يعني : الأولى ألاَّ تفعلوا ذلك . قوله تعالى : { قَالُواْ يَـأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ } الآية . " تَأمَنَّا " حال وتقدَّم نظيره ، وقرأ العامَّة : تأمنَّا بالإخفاء ، وهو عبارة عن تضعيف الصَّوت بالحركة ، والفصل بين النُّونين ؛ لا لأن النون تسكن رأساً ؛ فيكون ذلك إخفاءً ، لا إدغاماً . قال الدَّاني : " وهو قول عامَّة أئِمَّتنا ، وهو الصواب ؛ لتأكيد دلالته وصحَّته في القياس " . وقرأ بعضهم ذلك : بالإشمام وهو عبارة عن ضمِّ الشفتين ، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصَّريح ، كما يشير إليها الواقف ، وفيه عسر كثير ، قالوا : وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام ، أو قبل كماله ، والإشمام يقع بإزاء معانٍ هذا من جملتها . ومنها : [ إشراب ] الكسرة شيئاً من الضمِّ [ نحو قيل ، { وَغِيضَ } [ هود : 44 ] وبابه ، وقد تقدم في أول البقرة ] . ومنها إشمام أحد الحرفين شيئاً من الآخر ؛ كإشمام الصاد زاياً في { ٱلصّرَاطَ } [ الفاتحة : 6 ] ، { وَمَنْ أَصْدَقُ } [ النساء : 87 ، 122 ] وبابهما ، وقد تقدم في الفاتحة ، والنساء ، فهذا خلط حرف بحرف ، كما أن ماقبلهُ خلطُ حركة بحركةٍ . ومنها : الإشارة إلى الضَّمَّة في الوقف خاصَّة ، وإنما يراه البصير دُون الأعمى ، وقرأ أبو جعفر : الإدغام الصَّريح من غير إشمام ، وقرأ الحسن ذلك : بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل . وللمحافظة على حركة الإعراب ، اتَّفق الجمهُور على الإخفاء ، أو الإشمام ، كما تقدَّم تحقيقه . وقرأ ابن هرمز : " لا تَأمُنَّا " بضم الميم ، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إدغامها ، بعد سلب الميم حركتها ، وخط المصحف بنون واحدة ، ففي قراءة الحسن مخالفة لها . وقرأ أبو رزين ، وابن وثَّابٍ : " لا تِيْمَنَّا " بكسر حرف المضارعة ، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة . قال أبو حيَّان : " ومجيئُه بعد " مَا لَكَ " والمعنى : يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي ، وليس كقولهم : " ما أحْسَنَّا " في التعجُّب ؛ لأنه لو أدغم ، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي " . قال شهاب الدِّين : وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي ، حتى ينُصَّ عليه بقوله : " لالتبس بالنَّفْي الصحيح " . فصل هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يخافُهم على يُوسف ، ولولا ذلك ، لما قالوا هذا القول . واعلم : أنَّهم لما أحكمُوا العزم ، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف ، ونهاية الشفقة عليه ، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعي ، فسألوه إرساله معهم ، وكان يعقُوب عليه والسلام يحب تطييب قلب يوسف ، فاغترَّ بقولهم ، وأرسلهُ معهم حين قالوا له : { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } والنُّصْح هنا : القيام بالمصلحة . وقيل : البرُّ والعطف ، أي : عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته ، نحفظه حتَّى نردهُ إليك . قيل للحسن : أيَحْسُد المُؤمن ؟ قال : ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب ، ولهذا قيل : الأب جلاَّبٌ ، والأخ سَلاَّب ، وعند ذلك أجمعوا على التَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال ، وقالوا ليعقوب عليه الصلاة والسلام { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ } . وقيل : لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلِّم الثاني ، عادوا إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام وقالوا هذا القول ، إذ فيه دليلٌ على أنَّهُم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف ، فأبى . قوله : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } في : " يرْتَعْ ويَلعَبْ " أربع عشرة قراءة : أحدها : قراءة نافع : بالياء من تحت ، وكسر العين . الثانية : قراءة البزِّي ، عن ابن كثيرٍ : " نَرْتَعِ ونلعب " بالنُّون وكسر العين . الثالثة : قراءة قنبل ، وقد اختلف عليه ، فنقل عنه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً ، وحذفها وصلاً ووقفاً ، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه ، فعنه قراءتان . الخامسة : قراءة أبي عمرو ، وابن عامر : " نَرتَعْ ونَلعَبْ " بالنُّون ، وسكون العين ، والباء . السادسة : قراءة الكوفيين : " يَرْتَعْ ويَلعبْ " بالياء من تحت وسكون العين والباءِ . وقرأ جعفر بن محمد : " نَرْتَعْ " بالنُّون ، " ويَلْعَبْ " بالياء ، ورُويت عن ابن كثيرٍ . وقرأ العلاء بن سيابة : " يَرْتَعِ ويَلْعَبُ " بالياء فيهما ، وكسر العين وضمِّ الباء . وقرأ أبو رجاء كذلك ، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما . والنخعي ويعقوب : " نَرْتَع " بالنون ، " ويَلْعَب " بالياء . وقرأ مجاهدٌ ، وقتادةُ ، وابن محيصِن : " يَرْتَعْ ويَلْعَب " بالياء ، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل . وقرأ زيد بن علي : " يُرْتَع ويُلْعَب " بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول . وقرىء : " نَرْتَعِي ونَلْعَبُ " بثبوت الياء ، ورفع الباء . وقرأ ابن أبي عبلة : " نَرْعَى ونَلْعَب " . فهذه أربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ . فمن قرأ بالنُّون ، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف . سُئل أبو عمرو بن العلاء : كيف قالوا : نلعب وهم أنبياء ؟ قال : كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله عزَّ وجلَّ ـ . قال ابن الأعرابي : الرَّتْع : الأكل بشدة ، وقيل : إنه الخَصْبُ . وقيل : المراد من اللَّعب : الإقدام على المُباحات ، وهذا يوصف به الإنسان ، كما " رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابرـ : " هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك " " . وقيل : كان لعبهم الاستباق ، والغرض منه : تعليم المحاربة ، والمقاتلة مع الكُفَّار ، ويدلُّ عليه قولهم : " إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ " وإنما سمَّوه لعباً ؛ لأنه في صُورة اللَّعِب . وأما من قرأ بالياءِ ، فقد أسند الفعل إليه دونهم ، فالمعنى : أنه يبصر رَعْي الإبلِ ؛ لتيدرَّب بذلك ، فمرَّة يرتع ، ومرَّة يلعب ؛ كفعل الصِّبيان . ومن كسر العين ، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة ، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي ؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي ، ومن سكن العين ، اعتقد أنه جزم بحذف الحركة ، وجعلهُ مأخوذاً من : رَتَعَ يَرْتَعُ ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال : @ 3058ـ … وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ @@ ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً ، ومن رفعها ، جعله مرفوعاً على الاستئناف ، أي : وهو يلعبُ ، ومن غاير بين الفعلين ، فقرأ بالياء من تحت في " يَلْعَب " دون " نَرْتَع " ؛ فلأن اللَّعب مُناسبٌ للصِّغار ، ونَرْتَع : افتعال من : رَعيْت ، يقال : رَعَى الماشيةُ الكَلأ ، ترعاها رَعْياً ، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي ، وأضافوه إلى أنفسهم ؛ لأنه السَّبب ، والمعنى : نرتع إبلنا ، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم ؛ لأنهم بالغون . ومن قرأ : " نُرْتع " رُباعياً ، جعل مفعُوله محذوفاً ، أي : يَرْعى مَواشينا ، ومن بناها للمفعول ، فالوجه : أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله ، وهو ضمير الغدِ ، والأصل : نُرْتَع فيه ، ونُلعَبُ فيه ، ثم اتسع فيه ؛ فحذف حرف الجرِّ ، فتعدى إليه الفعل بنفسه ، فصار نُرْتعه ونَلْعَبُه ، فلما بناهُ للمفعول ، قام الضمير المنصُوب مقام فاعله ، فانقلب مرفوعاً فاستتر في رافعه ، فهو في الاتِّساع كقوله : [ الطويل ] @ 3059ـ ويَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سَلِيماً وعَامِراً … @@ ومن رفع الفعلين ، جعلهما حالين ، وتكون مقدَّرة ، وأمَّا إثبات الياء في " نَرْتَعي " مع جزم " يَلْعَب " وهي قراءة قنبل ، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها . وقال ابن عطيَّة : هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر ، وقيل : هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة ، وأنشد : @ 3060ـ ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي … @@ وقد تقدَّمت هذه المسألة . و " نَرْتَع " يحتمل أن يكون وزنه : نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى ؛ كما تقدَّم ، ويكون على حذف مضاف ، أي : نرتع مواشينا ، أو من المراعاة للشيء ؛ قال : [ الخفيف ] @ 3061ـ تَرْتعِي السَّفحَ فالكَثِيبَ فَذا قَا رِ فَروضَ القَطَا فَذاتَ الرِّئالِ @@ ويحتمل أن يكون وزنه " نَفْعَل " من رَتَعَ يَرْتَع : إذا أقام في خصب وسعة ، ومنهُ قول الغضبان بن القبعثرى : " القَيْدُ والرَّتعة وقِلَّة المَنعَة " ؛ وقال الشاعر : [ الوافر ] @ 3062ـ أكُفْراً بَعْدَ ردِّ المَوْتِ عَنِّي وبَعدَ عَطائِكَ المِائة الرِّتاعَا @@ قوله : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } : جملة حالية ، والعاملُ فيها أحد شيئين : إمَّا الأمر ، وإمَّا جوابه . فإن قيل : هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال ؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال ؟ . فالجواب : لا يجُوز ذلك ؛ لأنَّ الإعمال يستلزم الإضمار ، والحالُ لا تضمر ؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً ، أو مؤولةً بها . قوله : { أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } فاعل : " يَحْزُنُنِي " ، أي : يَحْزُننِي ذهابُكم ، وفي هذه الآية دلالة على أنَّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً ، والنُّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال ، ووجه الدلالة : أنَّ " أن تذْهَبُوا " مستقبل ؛ لاقترانه بحرف الاستقبال ، وهي وما في حيِّزها فاعل ، فلو جعلنا " ليَحْزُنُنِي " حالاً ، لزم سبق الفعل لفاعله ، وهو مُحل وأجيبَ عن ذلك بأنَّ الفاعل في الحَقيقَة مقدَّر ، حذف هو وقام المضاف إليه مقامه ، والتقدير : ليَحْزُوننِي توقع ذهابكم ، وقرأ زيد بن علي وابن هرمز ، وابن محيصن : " ليَحْزُنِّي " بالإدغام . وقرأ زيد بن علي : " تُذْهِبُوا بِهِ " بضم التَّاء من " أذْهَبَ " وهو كقوله : { تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [ المؤمنون : 20 ] في قراءة من ضمَّ التَّاء ، فتكون التاء زائدة أو حالية . والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ ، والكسائيُّ ، وورش ، وفي الوقف لا يهمزه حمزة ، قالوا وهو مشتقٌّ من : تَذاءَبتِ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ ؛ لأنه يأتي كذلك ، ويجمع على ذائب ، وذُؤبان ، وأذْؤب ؛ قال : [ الطويل ] @ 3063ـ وأزْوَرَ يَمْشِي في بلادٍ بَعيدَةٍ تَعَاوَى بِهِ ذُؤبَانُهُ وثَعالِبُهْ @@ وأرضٌ مذْأبة : كثيرة الذِّئاب ، وذُؤابةٌ الشَّعر ؛ لتحرُّكها ، وتقلبها من ذلك . وقوله : { وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } : جملة حاليَّة ، العامل فيها : " يَأكلهُ " . فصل لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين : أحدهما : ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحْزنُه ؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً . والثاني : خَوْفه عليه من الذِّئب إذا غفلوا عنه برعيهم ، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به . فقيل : إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره ، فلأجل هذا ذكر ذلك . وقيل : إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم ، فلما قال بعقوب عليه الصلاة والسلام هذا الكلام ، أجابوه بقولهم : { لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } وفائدة اللام في " لَئِنْ " من وجهين : أحدهما : أن كلمة " إنْ " تفيد كون الشَّرط مستلزماً للجزاء ، أي : إن وقعت هذه الواقعة ، فنحن خاسرون ، فهذه اللام دخلت ؛ لتأكيد هذا الاستلزام . والثاني : قال الزمخشري رحمه الله " هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم ، [ تقديره : ] والله لئن أكلهُ الذئب ، لكنَّا خاسرين " . والواوُ في : " ونَحْنُ عُصْبَةٌ " واو الحال ؛ فتكون الجملة من قوله : " وَنحْنُ عُصْبةٌ " : جملة حاليَّة . وقيل : معترضة ، و { إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } جواب القسم ، و " إذاً " : حرف جواب ، وحذف جوابُ الشرط ، وقد تقدَّم الكلام فيه مشبعاً . فصل ونقل أبو البقاء : أنه قرىء " عُصْبَةً " بالنصب ، وقدر ما تقدم في الآية الأولى . في المراد بقولهم : { إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } وجوه : الأول : [ عاجزون ] ضعفاء ، نظيره قوله تعالى ـ : { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [ المؤمنون : 34 ] أي : لعاجزون . الثاني : أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار ، وأن يقال : أخسرهُم الله ، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ : عشرةٌ تعصب بهم الأمُور ، تكفي الخطوب بمثلهم . الثالث : إذا لم نقدر على حفظ أخينا ، فقد هلكت مواشينا ، وخسرنا . الرابع : أنَّهم كانوا قد أتعبوا أنفسهم في خدمة أبيهم ، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته ، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء ، فقالوا : لو قصَّرنا في هذه الخدمة ، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال ، وخسرنا كل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة . فإن قيل : إنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام اعتذر بعذرين : شدة حبِّه ، وأكل الذئب له ، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر ؟ فالجواب : أن حقدهم ، وغيظهم كان بسبب المحبَّة ، فتغافلوا عنه .