Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 65-67)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ } الآية : المتاعُ : ما يصلح لأن يُستمتع به ، وهو عامًّ في كلِّ ما يُسْتَمْتعُ به ، والمراد به ههنا : الطعامُ الذي حملوه ، ويجوز أن يرادُ به أوعيةُ الطعام ، { وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ } ، ثمن البضاعة . { رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } ؛ قرأ الأكثرون بضمِّ الراء ، وقرأ علقمة ويحيى ، والأعمش : " رِدَّتْ " بكسر الرَّاءِ ، على نقل حركة الدَّال المدغمةِ إلى الراء بعد توهُّم خلوها من حركتها ، وهي لغةُ بني ضبَّة . على أنَّ قطرُباً حكى عن العرب : نقل حركةِ العين إلى الفاء في الصحيح ؛ فيقولون : ضِرْبُ زَيْد ، بمعنى : ضُرِبَ زيد ، و قد تقدم ذلك في قوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ } [ الأنعام : 28 ] في الأنعام . قوله : " مَا نَبْغِي " في " مَا " هذه وجهان : أظهرهما : أنها استفهاميةٌ ، فهي مفعولٌ مقدمٌ ، واجبُ التقديم ؛ لأن لها صدر الكلام ، أي : أيَّ شيء نبغِي ، أعطانا الطعام على أحسنِ الوجوه ، فأي شيء نبغي وراء ذلك . والثاني : أن تكون نافية ولها معنيان : أحدهما : قال الزجاج رحمه الله ـ : ما بقي لنا ما نطلبُ ، أي : بلغَ الإكرامُ إلى غايةٍ ، ما نَبْغِي وراءها شيئاً آخر . وقيل : المعنى أنَّه ردَّ بضاعتنا إلينا ، فنحن لا نَبْغِي عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى ، فإنَّ هذه التي معنا كافية لنا . والثاني : ما نَبْغِي ، من البَغْيِ ، أي : ما أفْتريْنا ، ولا كذبنا على هذا الملك في إكرامهِ وإحسانه . قال الزمخشريُّ : " ما نَبْغِي في القولِ ، وما نتزيَّد فيما وصفنا لك من إحسانِ الملكِ " . وأثبت القراء هذه الياء في " نَبْغِي " وصلاً ووقفاً ، ولم يجعلوها من الزَّوائد ، بخلاف التي في الكهفِ ، في قوله عزَّ وجلَّ ـ : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } [ الكهف : 64 ] ، والفرقُ أنَّ " ما " هناك موصولةٌ ، فحذف عائدها ، والحذف يؤنس بالحذف . وهذه عبارةٌ مستفيضة عند أهلِ هذه الصناعة ؛ يقولون : التغييرُ يُؤنسُ بالتغيير ، بخلافها هنا ، فإنها : إما إستفهاميةٌ ، وإما نافيةٌ ، ولا حذف على القولين حتى يؤنس بالحذفِ . وقرأ عبدالله ، وأبو حيوة ، وروتها عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما تَبْغِي " بالخطاب و " مَا " تحتملُ الوجهين أيضاً في هذه القراءةِ ، والجملة من قوله : " هَذِه بِضَاعَتُنَا " يحتملُ أن تكون مفسرةً لقولهم " مَا نَبْغِي " وأن تكون مستأنفة . قوله " ونميرُ " معطوفةٌ على الجملة الاسميةِ ، وإذا كانت " مَا " نافية جاز أن تعطف على " نَبْغِي " فيكون عطف جملة فعلية على مثلها . وقرأت عائشة ، وأبو عبد الرحمن رضي الله عنهما " ونُمِيرُ " من أمارهُ إذا جعل لَهُ المِيرَة ، يقال : مَارَهُ يَمِيرهُ ، وأمَارَهُ يُمِيرُه ، والمِيرَةُ : جَلْبُ الخَيْرِ ؛ قال : [ الوافر ] @ 3118ـ بَعَثْتُكَ مَائِراً فَمَكثْتَ حَوْلاً مَتَى يَأتِي غِيَاثُكَ مَنْ تُغِيثُ @@ والبعير لغة يقع على الذكر خاصة ، وأطلقه بعضهم على الناقةِ أيضاً وجعلهُ نظير " إنْسَانٍ " ويجوز كسر بائه إتباعاً لعينه ، ويجمع في القلَّة على أبعرة ، وفي الكثرة على بعران . والمعنى : ونزدادُ كيل بعيرٍ بسبب حُضُور أخينا ؛ لأنه كان يكيلُ لكل رجلٍ حمل بعير . ثم قال : { ذٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } قال مقاتل رحمه الله ـ : ذلك كيلٌ يسير على هذا الرجل المحسن ، وحرصه على البذل ، وهو اختيار الزجاج . وقيل : { ذٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } ، أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحَبْسِ والتَّأخير . وقيل : ذلك الذي يدفع إلينا بدُون أخينا شيئاً يسيراً قليلاً ، لا يكفينا وأهلنا ؛ فابعثْ أخانا معنا ؛ لكي يكثر ما نأخذه . وقال مجاهدٌ : البعِيرُ ههنا الحمارُ ، " كَيْلُ بعيرٍ " أي : حِمْلُ حمار ، وهي لغة ، يقال للحَمير بَعِير ، وهم كانوا أصحاب حُمُر ، والأول أصحُّ ؛ بأنه البعيرُ المعروف . قوله تعالى : { قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ } الآية . الموْثِق : مصدر بمعنى الثقةِ ، ومعناه : العَهْدُ الذي يُوثق به ، فهو مصدرٌ بمعنى المفعول ، يقول : لن أرسله معكم حتى تعطوني عهداً يوثقُ به . وقوله " مِنَ اللهِ " أي : عهداً موثوقاً به ؛ بسبب تأكد الشهادة من الله ، أو بسببِ القسمِ بالله عليه . والمَوْثِقُ : العهدُ المؤكَّد بالقسم ، وقيل : المؤكَّد بإشهادِ الله على نفسه . قوله : { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ } هذا جوابٌ للقسم المضمر في قوله " مَوْثِقاً " ؛ لأنَّ معناه حتى تحلفوا لي لتأتنني به . قوله { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } في هذا الإستثناء أوجه : أحدها : أنه منقطع ، قاله أبو البقاء . يعني فيكون تقدير الكلام : لكن إذا أحيط بكم خرجتم من عتبي ، وغضبي عليكم إن لم تَأتُوني به ؛ لوضوحِ عُذْركُم . والثاني : أنه متصلٌ ، وهو استثناء من المفعول له العام . قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : أخبرني عن حقيقة هذا الاستثناءِ ، ففيه إشكالٌ ؟ قلتُ : " أنْ يُحاطَ بِكُمْ " معفولٌ له ، والكلام المثبت ، الذي هو قوله " لتَأتُنَّنِي بهِ " في معنى النَّفي ، معناه : لا تَمْتنِعُون من الإتيان به ؛ إلا للإحاطة بكم ، أو لا تمتنعون منه لعلةٍ واحدة وهي { أَن يُحَاطَ بِكُمْ } فهو استثناءُ من أعمِّ العامِّ في المفعول له ، والاستثناءُ من أعم العام لا يكونُ إلا في النفي وحده ؛ فلا بُدَّ من تأويله بالنَّفي ، ونظيره في الإثبات المتأول بالنفي بمعنى النفي قولهم : أقْسَمْتُ باللهِ لما فعَلتَ وإلاَّ فعلتَ بزَيْدٍ يريد ما أطلب منك إلاَّ الفعل " . ولوضوح هذا الوجه لم يذكره غيرهُ . الثالث : أنه مستثنى من أعمِّ العام من الأحوال . قال أبُو البقاء : تقديره : لتَأتُنَّنِي به على كلِّ حالٍ ، إلا في حالٍ ، إلا في حالِ الإحاطةِ بكم . قال شهابُ الدِّين : " قد نصُّوا على أنَّ أنْ الناصبة للفعلِ ، لا تقعُ موقع الحال وإن كانت مُؤولةً بمصدرٍ ، يجوز أن تقع موقع الحالِ ؛ لأنهم لم يَغتَفِرُوا في المؤولِ ما يَغْتفرونه في الصَّريح ، فيجيزون : جِئْتُك رَكْضاً ، ولا يجيزون : جِئْتُكَ أن أرْكُض وإنْ كانا في تأويله " . الرابع : أنُّه مستثنى من أعمِّ العامِّ في الأزمان ، والتقدير : لتَأتُنَّنِي به في كل وقتٍ إلا في وقت الإحاطة بكم ، وقد تقدم [ البقرة : 258 ] الخلافُ في هذه المسألة ، وأنَّ أبا الفتح أجاز ذلك كما يجوزه في المصدر الصريح ، فكما تقول : " آتيك صِيَاحَ الدِّيك " يجوز أن تقول : آتيك أنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ، وجعل من ذلك قول تأبَّط شرًّا : [ الطويل ] @ 3119ـ وقَالُوا لهَا : لا تَنْكِحِيهِ فإنَّهُ لأوَّلِ نَصْلٍ أنْ يُلاقِيَ مَجْمَعَا @@ وقول أبِي ذُؤيبٍ الهُذليِّ : [ الطويل ] @ 3120ـ وتَاللهِ مَا إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واحدٍ بأوْجَدَ مِنِّي أنْ يُهانَ صَغِيرُهَا @@ قال : تقديره : وقت ملاقاته الجمع ، ووقت إهانة صغيرها . قال أبو حيَّان : " فعلى ما قاله يجوز تخريج الآية ، ويبقى { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ } على ظاهره من الإثبات " . قال شهابُ الدِّين رحمه الله ـ : " الظَّاهرُ من هذا أنه استثناء مفرغ ، ومتى كان مُفرغاً وجب تأويله بالنفي " . ومنع ابن الأنباري ذلك في " أنْ " وفي " مَا " أيضاً ، قال : " فيجوزُ أن تقول : خُروجُنَا صِيَاح الدِّيك ، ولا يجوز : خُرُوجنَا أن يَصِيحَ الدِّيكُ ، أوْ مَا يَصِيح الديك . فاغتفر في الصريح ما لم يغتفر في المؤوَّل ، وهذا قياسُ ما تقدم في منع وقوع أن وما في حيِّزها موقع الحالِ ، ولك أن تفرق بينهما بأنَّ الحال تلزم التنكير ، و " أنْ " وما في حيزها نصُّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف ، وذلك يغني عن وُقُوعِهَا موقع الحال ، بخلاف الظَّرف ، فإنه لا يشترط تنكيره ، فلا يمتنع وقوعُ " أنْ " وما في حيزها موقعه " . فصل قال الواحديُّ : للمفسرين في الإحاطةِ قولان : الأول : معناه الهلاكُ . قال مجاهد : إلاَّ أن تموتوا كلكم فيكون ذلك عذراً عندي ، والعرب تقول : أحيط بفلانٍ إذا قرب هلاكه . قال الزمخشري : قال تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] أي أصابه ما أهلكه ، وقال تعالى : { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } [ يونس : 22 ] ، وأصله ؛ أنَّ من أحاط به العدوُّ ، وانسدت عليه مسالكُ النجاةِ ، ودنا هلاكه ؛ فقد أحيط به , والثاني : قال قتادة : ومعناه إلاَّ أن تَصِيرُوا مَغلُوبِين مَقْهُورين ، لا تقدرون على الرجوع . { فلما ءاتوه موثقهم } ، أي : أعطوه عهدهم . قال يعقوب صلوات الله وسلامه عليه { ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي : شهيدٌ بمعنى شاهدٍ . وقيل : حافظاً ، أي : أنه موكلٌ إليه هذا العهد فإن وفيتم به ، جازاكم خير الجزاءِ ، وإن غدرتم به ، كافأكم بأعظم العقوبات . قوله تعالى : { وَقَالَ يٰبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } الآية ، وذلك أنه كان يخافُ عليهم العين ؛ لأنَّهم كانوا أعطوا جمالاً ، وقوة ، وامتداد قامة ، وكانوا ولد رجلٍ واحد ، فأمرهم أن يتفرَّقُوا في دخولها ؛ لئلا يصابوا بالعين ، فإن العين حقٌّ ، ويدل عليه وجوه : الأول : رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يعوِّذُ الحسن فيقول : " أعُوذُ بِكلمَاتِ اللهِ التَّامةِ من كُلِّ شيْطَانٍ وهَامَّةٍ ، و من كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ " . ويقول : هكذا يُعوذُ إبراهيم إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . " ورُوِيَ عن عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه قال : دَخَلْتُ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في أوَّلِ النَّهارِ فَرَأيْتهُ شَديدَ الوَجع ، ثُمَّ عدت إليْهِ آخِرَ النَّهارِ فوَجَدتهُ مُعَافى ، فقال : " إنَّ جِبْريلَ عليه الصلاة والسلام أتَانِي فرقَانِي ، فقال : بسمِ اللهِ أرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤذِيكَ ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ وحَاسدٍ اللهُ يَشْفِيكَ ، قال صلواتُ اللهِ وسلامُه عليْهِ فأفَقْتُ " . وأتِيَ بابْنَي جَعْفَرٍ رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا غلماناً بيضاً ، فقيل : يا رسول الله " إنَّ العيْنَ تسرعُ إليْهِمَا ، أفأسْتَرقِي لهُمَا مِنَ العيْنِ ، فقال صلوات الله وسلامه عليه ـ : نَعَم " . ودخل رسول الله بيت أم سلمة رضي الله عنها وعندها صَبِيٌّ يَشْتَكِي فقَالُوا يَا رَسُول اللهِ : أصَابَتْهُ العَيْنُ ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ألا تَسْتَرقُونَ لَهُ مِنَ العَيْنِ " " . وقال صلى الله عليه وسلم : " العَيْنُ حقٌّ ولوْ كَانَ شَيءٌ يَسْبِقُ القَدرَ لسَبقَتِ العيْنُ القدرَ " . وجاء في الأثرِ : " إن العين تُدخِلُ الرَّجُلَ القبر والجَمَل القِدْرَ " . وقالت عائشة رضي الله عنها ـ : " كَانَ يَأمرُ العَائِنَ أنْ يَتوضَّأ ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ المَعِينُ الذي أصيبَ بالعَيْنِ " . والذين أثبتُوا العين قالوا : إنه يبدو من العَيْنِ أجزاءُ ، فتتصل بالشيء المستحسن ؛ فتُؤثِّر ، وتسري فيه ، كما يؤثر السُّم النار ، والنصوصُ النبويةُ نطقت به ، والتجاربُ من الزمن القديم ساعدت عليه . وروى الزمخشري في كتاب " ربيع الأبْرارِ " ، قال الجاحظُ : علماءُ الفرس ، والهندِ ، وأطباءُ اليونانيين ، ودهاةُ العرب ، وأهل التجربة من نازلة الأمصار ، وحذَّاق المتكلمين ، يكرهُون الأكل بين يدي السِّباع ؛ يَخافُونَ عُيُونها ؛ لِمَا فيها من النَّهم ، والشَّره ، ولما ينحلُّ عند ذلك من أجوافها من البخار الرَّديءِ ، وينفصل من عيونها إذا خالط الإنسان نقصه وأفسده ، وكانوا يكرهون قيام الخدم بالباب والأشربة على رُءُوسهِم مخافة العين ، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا ، وكانوا يقولون في الكلب والسِّنورِ : إمَّا أن يطرد ، وإمَّا أن يشغل بما يطرح له ، قال : ونظيره : أن الرجل يضربُ الحية بعصاً ؛ فيموتُ الضاربُ ؛ لأنَّ السُّمَّ فصل من الحيةِ ، فسرى فيه حتى داخله ، ويديم الإنسانُ النظر إلى العين المحمرة ؛ فيعتري عينه حمرة . وعن الأصمعيِّ رحمه الله ـ : أنَّ عَيُوناً كان يقول : إذا رأيت الشَّيء يعجبني ، وجدتُ حرارة تخرج من عيني . وعنه : كان عندنا عيَّانان ، فمرَّ أحدهما بحوض من حجارةٍ ، فقال : بالله ، ما رأيت كاليوم مثله ، فانصدع فلقتين ، فصُبَّ ، فمرَّ عليه فقال : رأيتك تقل ما خزرت أهْلَكَ فيكَ ، فتَطَايَرَ أرْبعاً . وسمع آخرُ صوت بولٍ من وراء جدار فقال : إنَّك تراني كثير الشَّخب جيِّد البول ، قالوا : هذا آتيك ، قال : وانقطاع ظهراهُ ، فقيل : لا بأس فقال : لا يبولُ بعدها أبداً ، فما بال حتَّى مات . وسمع صوت شخب بقرة فأعجبه ، فقال : أيتهُنَّ هذه ، فواروا بأخرى عنها ؛ فهلكتا جميعاً ، المُورَى بها ، والمُورَى عنها . والمنقولاتُ في هذا كثيرة ؛ فثبت أنَّ الإصابة بالعين حقٌّ ، لا يمكن إنكارهُ . قال القرطبيُّ : وإذا كان هذا معنى الآيةِ ؛ فكيون فيها دليلٌ على التَّحرُّزِ من العين ، وواجب على كل مسلم إذا أعجبه شيء أن يبرك ، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة ، ألا ترى لقوله صلوات الله وسلامه عليه ـ : " ألاَ برَّكْتَ " فدلَّ على أنَّ العين لا تضرُّ ، ولا تعدوا إذا برَّك العَائِنُ ، وأنها إنَّما تعدو ؛ إذا لم يبرك ، والتَّبْرِيكُ أن يقول : " تَبارَك اللهُ أحْسَنُ الخَالقينَ ، اللَّهُمَّ بَارِك فِيهِ " وإذا أصاب العائن بعينه ؛ فإنَّه يُؤمَرُ بالاغتِسَالِ ، ويجبرُ على ذلك إن أبى ؛ لأنَّ الأمر للوجوب ، ولا سيِّما هنا ، فإنَّه يخاف على المعين الهلاك ، ولا ينبغي لأحدٍ أن يمنع أخاهُ ما ينتفع به ، ولا يضرهُ هو ، ولا سيما إذا كان بسببه ، كان الجاني عليه . قال القرطبيُّ : " مَنْ عُرِفَ بالإصاَبَةِ بالعيْنِ مُنِعَ مِنْ مُداخَلةِ النَّاس دفعاً للضَّرُورةِ " . وقال بعضُ العلماءِ : يأَمره الإمامُ بلزوم بيته ، وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم بهِ ، ويكفّ أذاهُ عن الناس . وقيل : يُنفَى . والَّذي ورد في الحديث أنَّهُ لم ينفِ العَائن ، ولا أمره بِلزُومِ بيته ولا حبسه ، بل قالوا : يكونُ الرَّجُل الصَّالحُ عائناً ، وأنه لا يقدحُ فيه ، ولا يفسَّقُ به ومن قال : يحبس ، ويؤمر بلزوم بيته ؛ فذلك للاحتياط ، ودفع ضرره . قال الجبائيُّ : إنَّ أبناء يعقوب اشتهروا ، وتحدَّث النَّاسُ بهم ، وبحسنهم ، وكمالهم فقال : " لا تَدْخُلُوا " تلك المدينة " مِنْ بابِ واحدٍ " على ما أنتم عليه من العددِ ، والهيئة ، ولم يأمن عليهم حسد النَّاس ، أو قال : لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك على ملكه ، فحيبسهم . وهذا وجهٌ محتملٌ لا إنكار فيه إلاَّ أنَّ القول الأوَّل أولى ؛ لأنَّه لا امتناع فيه بحسب العقلِ ، والعرف كما بيَّنا ، والمتقدِّمُون من المفسرين أطبقوا عليه ، فوجب المصيرُ إليه . ونقل عن الحسنِ أنه قال : خاف عليهم العين ، فقال : { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } ثُمَّ رجع إلى علمه ، فقال : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } ، وعرف أن العين ليست بشيء . وكان قتادةُ يفسِّر الآية بإصابة العين ، ويقول : ليس في قوله : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } إبطال له ؛ لأن العين ، وإن صحّ فاللهُ قادر على دفع أثره . وقال النَّخعيُّ : كان عالماً بأنَّ مالك مصر هو ولده يوسف إلاَّ أنَّ الله تبارك وتعالى ما أذن لهُ في إظهار ذلك ، فلمَّا بعث أولاده إليه ، وقال : { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } ، وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة ، وقوله : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } فالإنسان مأمورٌ بأن يراعي الأسباب المُعتبرة في هذا العالم ، ومأمورٌ بأن يجزم بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله تعالى وأنَّ الحذر لا يُنْجِي من القدرِ ، فإنَّ الإنسان مأمور بالحَذرِ عن الأشياءِ المُهلكةِ ، والأغذيةِ الضَّارةِ ، وبالسَّعي في تحصيل المنافع ، ودفع المضار بقدر الإمكان ، ثمَّ مع ذلك ينبغي أن يكون جازماً بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلاَّ ما أراد اللهُ ، فقوله عليه الصلاة والسلام { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم ، وقوله { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى الالتفات إلى التَّوحيدِ المحض ، والبراءة عن كُلِّ شيءٍ سوى الله تعالى . فإن قيل : كيف السَّبيلُ إلى الجمعِ بين هذه القولين ؟ . فالجوابُ : أنَّ هذا السُّؤال غير مختصٍّ به ، فإنه لا نزاع في أنَّه لا بدَّ من إقامة الطَّاعات والاحْترازِ من السَّيئاتِ ، مع أنَّا نعتقدُ أنَّ السَّعيدَ من سعد في بطن أمه ، والشَّقي من شَقِيَ في بطن أمِّه ، فكذ هاهنا . وأيضاً : نأكلُ ، ونشربُ ، ونحترزُ عن السموم ، وعن الدُّخولِ في النَّار ، مع أنَّ الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى ـ ، فكذا ههنا ، فظهر أنَّ السؤال ليس مختصًّا بهذا المقام ، بل هو بحثٌ عن سرِّ مسألة الخيرِ ، والشرِّ . والحقُّ أن العبد يجبُ عليه أن يسعى بأقصى الجهد ، والقدرة ، وبعد السَّعي البليغ ، يعلم أنَّ كل ما يدخل في الوجود لا بُدَّ وأن يكن بمشيئة الله عزَّ وجلَّ وسابق حكمه ، وحكمته . ثم إنَّهُ تعالى أكَّد هذا المعنى ، فقال : { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } ، وهذا من أدلِّ الدَّلائل على صحَّةِ القول بالقضاءِ ، والقدر ؛ لأنَّ الحكم عبارة عن الإلزام والمنع ومنه سميت حكمة الدَّابَّة بهذا الاسم ؛ لأنَّها تمنع الدَّابَّة من الحركاتِ الفاسدةِ والحكم إنَّما يمسى حكماً ؛ لأنه يرجح أحد طرفي الممكنِ على الآخر ، بحيثُ يصيرُ الطَّرفُ " الآخر " ممتنع الحصولِ ، فبيَّن تعالى أنَّ الحكم ليس إلاَّ لله ، وذلك يدلُّ على أنَّ جميع الممكنات ترجع إلى قضائه ، وقدرته ، ومشيئته ، وحكمه إمَّا بواسطةٍ ، أو بغير واسطةٍ ، ولذلك فوَّض يعقوب أمرهُ إلى الله تعالى ـ . ثم قال : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } اعتمدت : { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ } ، والمعنى : أنَّهُ لمَّا ثبت أنَّ الكُلَّ من الله تعالى ثبت أنَّهُ لا يتوكل إلاَّ على اللهِ سبحانه وتعالى .