Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 12-15)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ } الآية لما خوَّف العباد بإنزال ما لا مرد له ، أتبعه بذكر هذه الآيات المشتملة على قدرة الله تعالى وحكمته ، وهي تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه ، وتشبه العذاب ، والقهر من بعض الوجوه . قوله : " خوفاً وطمعاً " يجوز أن يكونا مصدرين ناصبهما محذوف ، أي : يخافون خوفاً ، ويطمعون طمعاً ، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع نصب على الحالِ ، وفي صاحب الحال حينئذ وجهان : أحدهما : أنه مفعول : " يُرِيكُمْ " الأول ، أي : خائفين طامعين ، أي : تخافون صواعقه وتطمعون في مطره ، كما قال المتنبي : [ الطويل ] @ 3170ـ فَتًى كالسَّحابِ الجُونِ يُخْشَى ويُرْتَجَى يُرجَّى الحَيَا مِنهَا وتُخْشَى الصَّواعِقُ @@ والثاني : أنَّه البرق ، أي : يريكموه حالَ كيف ذا خوفٍ وطمعٍ ، إذ هو في نفسه خوف وطمع على المبالغة ، والمعنى كما تقدَّم . ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله ، ذكره أبو البقاء ، ومنعه الزمخشريُّ لعدم اتِّحادِ الفاعل ، يعني أنَّ " الإرادة " وهو الله تعالى غير فاعل الخوف ، والطمع ، وهو ضمير المخاطبين ، فاخلتف فاعل الفعل المعلل ، وفاعل العلة وهذا يمكن أن يجاب عنه : بأنَّ المفعول في قوَّة الفاعل ، فإن معنى " يُرِيكُم " يجعلكم رائين ، فتخافون ، وتطمعون . ومثله في المعنى قول النابغة الذبياني : [ الطويل ] @ 3171ـ وحَلَّتْ بُيوتِي في يَفاعٍ مُمنَّعٍ تَخالُ بهِ رَاعِي الحَمُولةِ طَائِرَا حِذَاراً على ألاَّ تَنالَ مَقادَتِي ولا نِسْوتِي حتَّى يَمُتْنَ حَرائِرَا @@ فـ " حذارا " مفعول من أجله ، فاعله هو المتكلم ، والفعل المعلل الذي هو : " حَلَّت " فاعله " بُيُوتِي " فقد اختلف الفاعل ، قالوا : لكن لما كان التقدير : وأحللت بيوتي حذاراً صحَّ ذلك . وقد جوَّز الزمخشريُّ ذلك أيضاً على حذف مضاف فقال : " إلاَّ على تقدير حذف مضاف ، أي : إرادة خوفٍ ، وطمع ، وجوَّزه ، أيضاً على أن بعض المصادر ناب عن بعض . يعني أن الأصل : يريكم البرق إخافة ، وإطماعاً " . فإنَّ المرئي ، والمخيف ، والمطمع هو الله تعالى فناب خوف عن إخافة ، وطمع عن إطماع ، نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] على أنه قد ذهب ابن خروف ، وجماعة على أنَّ اتحاد الفعل ليس بشرط . فصل في كون البرق خوفاً وطمعاً وجوه : قيل : يخاف منه نزول الصَّواعق ، وطمع في نزول الغيثِ . وقيل : يخافُ المطر من يتضرر به كالمسافر ، ومن في جرابه التمر والزبيب ، والحب ، ويطمع فيه من له فيه نفعٌ . وقيل : يخاف منه في غير مكانه ، وأمانه ، ويطمع فيه إذا كان في مكانه وأمانه ، ومن البلدان إذا مطروا ، قحطوا ، وإذا لم يمطروا خصبوا . قال ابن الخطيب : " البرقُ جسمٌ مركبٌ من أجزاء رطبة مائية ، ومن أجزاء هوائية ولا شك أنَّ الغالب عليه الأجزاء المائية ، والماء جسمٌ باردٌ رطبٌ ، والنَّار جسم حار يابس فظُهورُ الضدِّ من الضد التام على خلافِ العقل ، فلا بد من صانع مختار يظهر الضدّ من الضدّ " . ثم قال : " ويُنْشِىءُ السَّحاب الثِّقَال " بالمطر ، ويقال : أنشأ الله السحابة ، فنشأت ، أي : أبدأها فبدأت . قال الزمخشري : " السَّحابُ : اسم جنس الواحدة سحابة ، والثقال : جمع ثقيلة ؛ لأنَّك تقول : سحابةٌ ثقيلةٌ وسحابٌ ثِقَال ، كما تقول : امرأةٌ كريمة ، ونساءٌ كِرام " . وقال البغوي : " السَّحاب جمع ، واحدتها : سحابة ، ويقال في الجمع : سُحُبٌ وسَحَائِبُ أيضاً ، قال عليٌّ : السحاب غربال الماءِ " . فصل قال ابن الخطيب : " وهذا من دلائل القدرة والحكمة ، وذلك لأنَّ هذه الأجزاء المائية إمَّا أن يقال : حدثت في جو الهواءِ أو تصاعدت من وجه الأرض ، فإن كان الأوَّل وجب أن يكون [ حدوثها ] بأحداث محدث حكيم قادر ، وهو المطلوب ، وإن كان الثاني هو أن يقال : تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض ، فلمَّا وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت ، فثقلت ، فرجعت إلى الأرض . فنقول : هذا باطلٌ ؛ لأن الأمطار مختلفة ، فتارة تكون القطرات كبيرة ، وتارة تكون صغيرة ، وتارة تكون متقاربة ، وأخرى تكون متباعدة ، وتارة تطول مدة نزول المطر ، وتارة تقصر واختلاف الأمطار في هذه الصِّفات مع أنَّ طبيعة الأرض واحدة ، وطبيعة الشمس واحدة فلا بد وأن يكون تخصيص الفاعل المختار ، وأيضاً فالتَّجربة دلَّت على أنَّ للدعاء ، والتَّضرع في نزول الغيث أثراً عظيماً كما في الاستسقاء ومشروعيته ، فعلمنا أنَّ المؤثر فيه [ قدرة ] الفاعل لا الطبيعة ، والخاصية " . قوله : { وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } قال أكثر المفسرين : الرَّعدُ اسم ملكٍ يسوقُ السَّحاب ، والصوت المسموع تسبيحه . قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه ـ : " مَنْ سَمِعَ صوتَ الرَّعدِ فقال : سُبْحانَ الَّذي يُسبِّحُ الرَّعْدُ بحَمْدهِ والمَلائِكةُ مِنْ خِيفتهِ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قدير ، فإنْ أصَابهُ صَاعِقةٌ فَعَلى دِينه " . وعن ابن عبَّاس : أنَّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرَّعدِ ما هو ؟ . فقال صلى لله عليه وسلم " ملكٌ من الملائكةِ وُكِلَ بالسَّحابِ معهُ مخَارِيق من نَارِ يسُوقُ بِهَا السَّحابَ حيثُ شَاء اللهُ ، قالوا : فَمَا الصَّوتُ الذي نَسْمَع ؟ قال : زَجْرةُ السَّحابِ " . وعن الحسن : أنَّه خلق من خلق الله ليس بملكٍ . قال ابن الخطيب : فعلى هذا القولِ : الرَّعدُ هو الملكُ الموكل بالسحاب ، وذلك الصَّوت يسمّى بالرَّعدِ ، ويؤكد هذا ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه سلم أنه قال : " إنَّ اللهَ يُنشِىءُ السَّحاب ، فتَنْطِقُ أحسنَ النُّطقِ وتَضحَكُ أحسن الضِّحكِ فنُطقه الرَّعدُ وضِحْكهُ برق " . وهذا القول غير مستبعد ؛ لأن عند أهل السنة البنية ليست شرطاً لحصولِ الحياةِ ، فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والنُّطق في أجزاء السَّحاب ، فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له ، وكيف يستبعد ذلك ، ونحن نرى أنَّ السمندل يتولد في النَّار ، والضفادع تتولّد في الماءِ ، والدُّودة العظيمة ربما تولدت في الثلوج القديمة ، وأيضاً : فإذا لم يبعد تسبيحُ الجِبالِ في زمن داود صلوات الله وسلامه عليه ولا تسبيح الحصى في زمن محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يبعدُ تسبيحُ السَّحاب ؟ . وعلى هذا القول ففي هذا المسموع قولان : أحدهما : أنه ليس بملك ؛ لأنَّه عطف عليه الملائكة فقال : { وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } والمعطوف عليه مغايرٌ للمعطوف . والثاني : لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة ، وإنَّما أفرده بالذِّكر تشريفاً كقوله تعالى : { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] وقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] . وقيل : الرعدُ اسم لهذا الصوت المخصوص ، ومع ذلك فإنَّه يسبحُ ، قال تعالى { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] . وقيل : المراد من كون الرَّعد مسبحاً ، أن من يسمع الرَّعد فإنَّه يسبح الله تعالى فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه . قوله : { وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } ، أي : والملائكة يسبحون من خيفة الله ، وخشيته ، وقيل : أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله تعالى له أعواناً ، فهم خائفون خاضعون طائعون . قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما ـ : " خائفون من الله لا كخوف بني آدم ، فإنَّ أحدهم لا يعرف من على يمينه ، ومن على يساره لا يشغله عن عبادة الله طعامٌ ، ولا شراب ولا شيء " . قال ابن الخطيب : " والمحققون من الحكماء يقولون : إنَّ هذه الآثار العلوية إنَّما هي تتمُّ بقوى روحانية فلكيَّة ، فللسَّحاب روح معيَّن في الأرواح الفلكيَّة يدبره ، وكذا الرِّياح ، وسائر الآثار العلوية ، وهذا عين ما قلنا : إنَّ الرعد اسمٌ لملك من الملائكة يسبِّح الله تعالى ـ . فالذي قاله المفسِّرون بهذه العبارة ، هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء ، فكيف يليق بالعاقل الإنكار ؟ " . قوله : { وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } كما أصاب أربد بن ربيعة . " الصَّواعِقَ " جمع صاعقة ، وهي العذاب المهلك ينزل من البرقِ ، فتحرق من تصيبه وتقدَّم الكلام عليه في أوَّل البقرةِ . قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عامر الطُّفيل ، وأربد بن ربيعة أخي أسد بن ربيعة كما قدمنا . واعلم أنَّ أمر الصاعقة عجيبٌ جدًّا ؛ لأنَّها نارٌ تتولَّد في السَّحاب ، وإذا نزلت من السَّحاب فربما غاصت في البحرِ ، وأحرقت الحيتان . قال محمدُ بن عليّ الباقر : " الصَّاعقة تصيبُ المسلم ، وغير المسلمِ ، ولا تصيب الذَّاكر " . قوله : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي ٱللَّهِ } يجوز أن تكون الجملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك ويجوز أن تكون حالاً . وظاهر كلام الزمخشري أنَّها حال من مفعول " تَصِيبُ " فإنَّه قال : " وقيل : الواو للحال ، أي : يصيب بها من يشاء في حال جدالهم " وجعلها غيره : حالاً من مفعول " يَشَاء " . فصل معنى الكلام : أنه تعالى بيَّن دلائل العلم بقوله : { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ } [ الرعد : 8 ] ، ودلائل كمال القدرة في هذه الآية ، ثم قال تعالى : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي ٱللَّهِ } يعنى أنَّ الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله . قيل : المراد بها الرَّد على الكافر يعني أربد بن ربيعة الذي قال : أخبرنا عن ربِّنا ، أهو من نحاسٍ ، أم من حديد ، أم من درٍّ ، أم من ياقوت ، أم من ذهب ؟ فنزلت الصاعقة من السماء ؛ فأحرقته . وقيل : المراد جدالهم في إنكار البعث ، وقيل المراد الرد على جدالهم في طلب سائر المعجزات . وقيل : المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال . " وسئل الحسن عن قوله : { وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ } الآية قال : كان رجلٌ من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يقرّ بدعوته إلى الله ورسوله ، فقال لهم : أخبروني عن رب محمدٍ ، هذا الذي تدعُوني إليه ، مِمَّ هو ؟ من ذهبٍ ، أو فضةٍ ، أو حديدٍ أو نحاس ؟ فاستعظم القوم مقالته ، فانصرفوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : ما رأينا رجُلاً أكفر قلباً ، ولا أعتى على الله منه ، فقال : صلى الله عليه وسلم : " ارجعوا إليه " فرجعوا إليه ؛ فجعل لايزيدهم على مثل مقالته الأولى ، وقال : أجيب محمداً إلى رب لا أراه ، ولا أعرفه ! وانصرفوا ، وقالوا : يا رسول الله : ما زادنا على مقالته الأولى ، وأخبث . فقال صلى الله عليه وسلم : " ارجعوا إليه " ، فرجعوا إليه ، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه ، وهو يقول هذه المقالة ، إذا ارتفعت سحابة ، فكانت فوق رءوسهم ، فرعدت ، وبرقت ورمت بصاعقة ؛ فأحرقت الكافر ، وهم جلوسٌ ، فجاءوا يسعون ؛ ليخبروا رسول الله صلى الله عليه سلم ؛ فاستقبلهم قومٌ من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم فقالوا : " احْترَقَ صَاحبُكُم " فقالوا : من أين علمتم ؟ فقالوا : أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم { وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ } " . قوله : { وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ } هذه الجملة حال من الجلالة الكريمة ، ويضعف استنافها . وقرأ العامة : بكسر الميم وهو القوَّة والإهلاكُ . قال عبدالمطلب : [ الكامل ] @ 3172ـ لا يَغْلبَنَّ صَلِيبُهُمْ ومِحَالُهُمْ عَدواً مِحَالَك @@ وقل الأعشى : [ الخفيف ] @ 3173ـ فَرْغُ نَبْغٍ يَهتزٌّ في غُصُنِ المَجْـ ـدِ عَظيمُ النَّدى شديدُ المحالِ @@ والمحال أيضاً : أشدُّ المكايدة ، والمماكرة ، يقال : ما حله ، ومنه تمحَّل فلان بكذا أي : تكلَّف له استعمال الحيلة . وقال أبو زيدٍ : هو النِّقمةُ . وقال ابن عرفة : هو الجدالُ ، وفيه على هذا مقابلة معنوية كأنه قيل : وهم يجادلون في الله ، وهو شديد المحالِ . وقال عليٌّ رضي الله عنه ـ : شديد الأخذ . وقال ابن عباسٍ رضي الله عنه شديد المحول . وقال الحسن : شديد الحقدِ . قالوا : وهذا لا يصلح للحقد ؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى إلاَّ أنَّه تقدم أنَّ أمثال هذه الكلمات إذا وردت في حقِّ الله تعالى فإنَّها تحمل على نهايات الأغراض لا على مبادي الأعراض ، فيكون المراد بالحقد ههنا : هو أنه تعالى يريد إيصال الشَّر إليه ، مع أنه أخفى عنه تلك الإرادة . وقال مجاهدٌ : شديد القوَّة . وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة . وقيل : شديد المكرِ ، والمحال ، والمماحلة ، والمماكرة ، والمغالبة . واختلفوا في ميمه : فالجمهور على أنَّها أصلية من المحل ، وهو المكر ، والكيد ، وزنها فعال : كمِهَاد . وقال القتبيُّ : إنَّه من الحيلةِ ، وميمه مزيدة ، كـ " مكان " من الكون ، ثم يقال : تمكنت ، وقد غلَّطه الأزهريُّ ، وقال : لو كان : " مِفْعَلاً " من الحيلة لظهرت الواو ، مثل : مرودٍ ، ومحولٍ ، ومحودٍ . وقرأ الأعرج والضحاك بفتحها والظاهر أنه لغة في المكسورة ، وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنه فإنه فسره بالحول كما تقدم ، وفسره غيره : بالحيلة . وقال الزمخشري : " وقرأ الأعرج بفتح الميم على أنه مفعل من : من حال يحول محالاً إذا احتال ، ومنه : " أحْوَل مِنْ ذئْبٍ " أي : أشد حيلة ، ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار ، ويكون مثلاً في القوة ، والقدرة كما جاء : فساعد الله أشد ، وموساه أحد ؛ لأن الحيوان إذا اشتد محاله كان منعوتاً بشدة القوَّة ، والإضطلاع بما يعجز عنه غيره ألا ترى إلى قولهم : فقَرَتْهُ الفَواقِر ، وذلك أنَّ الفقار عمود الظَّهر ، وقوامه " . قوله : { لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ } من باب إضافة الموصوف إلى الصفة ، والأصل له الدعوة الحق ، كقوله { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ } [ يوسف : 109 ] على أحد الوجهين . وقال الزمخشري فيه وجهان : أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيضُ الباطل ، كما يضاف الكلمة إليه في قوله : " كَلمةُ الحَقِّ " . الثاني : أن تضاف إلى " الحقِّ " الذي هو " الله " على معنى : دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب . قال أبو حيَّان : " وهذا الوجه الثاني لا يظهر ؛ لأنه مآله إلى تقدير : لله دعوة الله ، كما تقول : " لزيد دعوة زيد " ، وهذا التركيب لا يصحُّ " . قال شهاب الدين : " وأين هذا ممَّا قاله الزمخشريُّ حتى يرد عليه به " ؟ . فصل معنى قوله : " دَعْوةُ الحقِّ " ، أي لله دعوة الصدق . قال عليُّ : دَعْوةُ الحقِّ : التَّوحيد . وقال ابن عباس رضي الله عنه شهادة أن لا إله إلا الله . وقيل : الدُّعاء بالإخلاص عند الخوف ، فإنَّه لا يدعى فيه إلا أياه ، كما قال : { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] . قال الماورديُّ : وهو أشبه لسياق الآية ؛ لأنه قال : { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } يعنى الأصنام : { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } ، أي لا يجيبون لهم دعاء ، ولا يسمعون لهم نداء . { إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } . ضرب الله عزَّ وجلَّ الماء مثلاً لما يأتيهم من الإجابة لدعائهم . قوله : { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ } يجوز أن يراد بـ " الَّذينَ " المشركون ، فالواو في : " يَدعُونَ " عائدة ، ومفعوله محذوف ، وهو الأصنام ، والواو في " لا يستجيبون " عائدة على مفعول " تَدْعَونَ " المحذوف ، وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتهم إيّاه معاملتهم ، والتقدير : والمشركون الذي يدعون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنام وإلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي : كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد ، ولا يشعر ببسط كفيه ، ولا بعطشه ، ولا يقدر أن يجيبه ، ويبلغ فاه ، قال معناه الزمخشريُّ . وما ذكره أبو البقاء قريب من هذا ، وقدر التقدير المذكور ، قال : " والمصدر في هذا التقدير مضاف إلى المفعول ، كقوله : { لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ } [ فصلت : 49 ] وفاعل هذا المصدر مضمر ، وهو ضمير الماءِ أي : لا يجيبونهم إلا كما يجيب الماء باسط كفيه إليه ، والإجابة هنا كناية عن الانقياد " . وقيل : ينزلون في قلَّة فائدة دعائهم لآلهتهم منزلة من أراد أن يغرف الماء بيده ؛ ليشرب ، فيبسطها ناشراً أصابعه ، ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء ، ولم يبلغ مطلوبه من شربه . قال الفراء : المراد بالماء هاهنا : البئر ؛ لأنَّها معدن الماءِ ، ويجوز أن يراد بـ " الَّذينَ " الأصنام أي : والآلهة ، والذين يدعونهم من دون الله لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابة ، والتقدير : كما تقدَّم في الوجه قبله . وإنَّما جمعهم جمع العقلاء ؛ إمَّا للاختلاط ، لأنَّ آلهتهم عقلاء وجماد ، وإمَّا لمعاملتهم إيَّاها معاملة العقلاء في زعمهم ، قالوا : الواو في " يَدعُونَ " للمشركين والعائد المحذوف للأصنام ، وكذا واو : " يَسْتَجِيبون " . وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمرو : " تَدْعُونَ " بالخطاب : " كبَاسِطٍ كَفَّيْهِ " بالتنوين وهي مقوية للوجه الثاني ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره . قوله : " ليَبْلُغَ " اللام متعلقة بـ " بَاسط " ، وفاعل : " يَبلُغَ " ضمير الماء . قوله : { وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } في " هُوَ " ثلاثة أوجه : أحدها : أنه ضمير الماءِ ، والهاء في : " بِبَالغِه " للفم ، أي : وما الماء ببالغ فيه . الثاني : أنه ضمير الفم ، والهاء في " بِبالغِهِ " للماء ، أي : وما الفم ببالغ الماء إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالِ ، فنسبةُ الفعلِ إلى كل واحد وعدمه صحيحان . الثالث : أن يكون ضمير الباسط ، والهاء في : " بِبالغِهِ " للماء ، أي : وما باسط كفيه إلى الماء ببالغ الماء . ولا يجوز أن يكون " هُوَ " ضمير " البَاسط " ، وفاعل " بِبَالغهِ " مضمراً والهاء في " بِبَالغهِ " للماء ؛ لأنَّه حينئذٍ يكون من باب جريان الصِّفة على غير من هي له ، ومتى كان كذلك لزم إبراز الفاعل ، فكان التركيب هكذا : وما هو ببالغ الماء ، فإن جعلنا الضمير في " ببَالغهِ " للماء ؛ جاز أن يكون : " هُوَ " ضمير الباسط كما تقدَّم تقريره . والكاف في " كباسط " إما نعت لمصدر محذوف ، وإما حال من ذلك المصدر ، كما تقدم تقريره . وقال أبو البقاء : " والكاف في " كَباسطِ " إن جعلتها حرفاً كان فيها ضمير يعودُ على الموصوف المحذوف ، وإن جعلتها اسماً لم يكن فيها ضمير " . قال شهابُ الدِّين : " وكون الكاف اسماً في الكلام ، لم يقل به الجمهور ، بل الأخفش . ويعني بالموصوف ذلك المصدر ، والذي قدره فيما تقدَّم " . ثم قال : { وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } أصنامهم : { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } يضلّ عنهم إذا احتاجوا إليه ، كقوله تعالى : { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ } [ فصلت : 48 ] . وعن ابن عباس رضي الله عنه ـ : { وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } ربهم : { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } ؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله عزَّ وجلَّ . وقيل : { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } ؛ في ضياع لا منفعة فيه ؛ لأنَّ الله لم يجبهم ، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم . قوله : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآية في المراد بهذا السجود قولان : أحدهما : السجود بوضع الجبهة على الأرض ، وعلى هذا القول ، ففيه وجهان : أحدهما : أنَّ اللفظ ، وإن كان عامًّا إلا أنَّ المراد المؤمنون ، فبعضهم يسجدُ لله طوعاً بنشاط ، وبعضهم يسجد لله كرهاً لصعوبة ذلك عليه ، ويتحمل مشقَّة العبادة . وقيل : المراد بقوله : " طَوْعاً " الملائكة ، والمؤمنون ، و " كَرْهاً " المنافقون ، والكافرون الذين أكرهوا على السجود بالسَّيف . والثاني : أنَّ اللفظ عام . فإن قيل : ليس المراد : { مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } يسجد لله ؛ لأن الكفَّار لا يسجدون . فالجواب من وجهين : الأول : أن المعنى أنه يجب على كلٍّ من في السموات ، والأرض أن يعترف بعبودية الله ، كما قال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ الزمر : 38 ] . والقول الثاني : أنَّ السُّجود عبارة عن الانقياد ، والخضوع ، وترك الامتناع ، وكلُّ من في السموات ، والأرض ساجد لله بهذا المعنى ؛ لأنَّ قدرته ، ومشيئته نافذة في الكُل . قوله : { طَوْعاً وَكَرْهاً } إمَّا مفعول من أجله ، وإمَّا حال ، أي : طائعين ، وكارهين وإمَّا منصوب على المصدر المؤكد بفعل مضمر . قوله : { وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } قرأ أبو مجلز : والإيصال ، بالياء قبل الصَّاد وخرَّجها ابن جني على أنه مصدر " آصل " ، كضارب ، أي : دخل في الأصيل ، كأصبح أي : دخل في الصَّباح ، و " ظِلالُهمْ " عطف على " من " ، و " بِالغُدوِّ " متعلق بـ " يَسْجدُ " والباء بمعنى " فِي " ، أي : في هذين الوقتين . قال المفسرون : كل شخص سواء كان مؤمناً ، أو كافراً فإنَّ ظله يسجد للَّه . قال مجاهد : ظل المؤمن يسجد لله طوعاً ، وهو طائع ، وظل الكافر يسجد لله كرهاً وهو كاره . وقال الزجاج : " جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغيرِ الله ، وظله يسجد لله " . وعند هذا قال ابن الأنباري : لا يبعد أن يخلق تعالى للظلال عقولاً ، وأفهاماً تسجد بها ، وتخشع كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيح الله وظهر اسم التجلي فيها ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً } [ الأعراف : 143 ] . قال القشيري رحمه الله ـ : " وفي نظر ؛ لأن الجبل عين ، فيمكنُ أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة ، وأمَّا الظلال ، فآثار وأعراض ، ولا يتصور تقدير الحياة لها " . وقيل : المراد من سجود الظلال [ ميلانها ] من جانب إلى جانب ، وطولها بسبب انحطاطِ الشمس ، وقصرها بسبب ارتفاع الشمس ، وهي منقادة [ مستسلمة ] في طولها ، وقصرها وميلها من جانب إلى جانب ، وإنَّما خص الغدو ، والآصال بالذِّكر ؛ لأنَّ الظلال إنما تعظم ، وتكثر في هذين الوقتين . و " الآصَال " جمع الأُصُل ، والأُصل : جمع الأصيل ، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس . وقيل : " ظِلالُهمْ " ، أي : أشخاصهم بالغدو ، والآصال بالبكر والعشايا .