Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 16-18)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآية لما بيَّن أنَّ كلَّ من في السَّموات ، والأرض ساجد لله بمعنى كونه خاضعاً له ، عدل إلى الرَّد على عبدة الأصنام فقال : { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ } ولمَّا كان هذا الجواب يقرّ به المسئولُ ويعترف به ، ولا ينكره ، أمره عليه الصلاة والسلام أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهاً على أنهم لا ينكرونه ألبتَّة . قال القشيري : " ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع ، أي : سلهم عن خالق السموات والأرض ؛ فإنه يسهل تقرير الحجة عليهم ويقربُ الأمر من الضرورة ، فإن عجز الجماد ، وعجز كل مخلوق عن خالق السموات ، والأرض معلوم " . ولما بين الله أنَّه هو الرب لكلِّ الكائنات [ قاله له ] : قل لهم على طريق الإلزام للحجة فلم اتخذتم من دونه أولياء ، وهي جمادات ، وهي لا تملكُ لأنفسها نفعاً ، ولا ضرًّا ، ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة [ لأنفسها ، ودفع المضرة عن نفسها ، فلأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة ] لغيرها ، ودفع المضرة عن غيرها بطريق الأولى ، وإذا كانت عاجزة عن ذلك كانت عبادتها محض العبث ، والسَّفه ، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أنَّ الجاهل بمثل هذه الحجة لا يساوي العالم بها . فقال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ } قرأ الأخوان ، وأبو بكر عن عاصم : " يَسْتَوِي " بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق ، والوجهان واضحان باعتبار أن الفاعل مجازي التَّأنيث ، فيجوز في فعله التذكير ، والتأنيث ، كنظائر له مرت . وهذه مثل ضربه اللهُ سبحانه وتعالى للكفَّار ؟ قوله : " أمْ هَلْ " هذه أم المنقطعة ، فتقدر بـ " بل " ، والهمزة عند الجمهور ، وبـ " بل " وحدها عند بعضهم ، وقد تقدَّم تحريره ، وهذه الآية قد يتقوى بها من يرى تقديرها بـ " بَلْ " فقط بوقوع : " هَلْ " بعدها ، فلو قدَّرناها بـ " بَلْ " والهمزة لزم اجتماع حرفي معنى ؛ فتقدرها بـ " بل " وحدها ، " ولا " تقويةٌ له ، فإن الهمزة قد جامعت : " هَلْ " في اللفظ ، كقوله الشاعر : [ البسيط ] @ 3173ـ … أهَلْ رَأوْنَا بِوادِي القُفِّ ذي الأكَمِ @@ فأولى أن يجامعها تقديراً . ولقائل أن يقول : لا نسلم أنَّ : " هَلْ " هذه استفهاميَّة ، بل بمعنى : " قَدْ " ، وإليه ذهب جماعةٌ ، وإن لم تجامعها همزة ، كقوله تعالى : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } [ الإنسان : 1 ] أي : قد أتى ، فههنا أولى ، والسماع قد ورد بوقوع : " هَلْ " بعد : " أم " وبعدمه . فمن الأول هذه الآية ، ومن الثاني : ما بعدها من قوله : " أمْ جَعلُوا " . وقد جمع الشاعر بين الاستعمالين في قوله : [ البسيط ] @ 3175ـ هَلْ مَا عَلمْتَ ومَا اسْتُودعْتَ مكْتومُ أمْ حَبْلُهَا إذ نَأتْكَ اليَوْمَ مَصرُومُ أمْ هَلْ كثيرٌ بَكَى لمْ يَقْضِ عَبرتَهُ إثْرَ الأحِبَّة يَوْمَ البَيْنِ مَشْكُومُ @@ فصل قوله : { هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } كذلك لا يستوي المؤمن ، والكافر : { أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ } أي كما لا تستوي الظلمات والنور ، لا يستوي الكفر ، والإيمان . قوله : { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } الجملة من قوله : " خَلقُوا " صفة لـ : " شُرَكاءَ " ، { فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } ، أي : اشتبه ما خلقوه بما خلقه الله عزَّ وجلَّ فلا يدرون ما خلق الله ، وما خلق آلهتهم . والمعنى : أنَّ هذه الأشياء الَّتي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتَّى يقولوا : إنها تشارك الله في الخالقيَّة ؛ فوجب أن تشاركه في الإلهيَّة بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أنَّ هذه الأصنام لم يصدر عنها فعلٌ ، ولا خلق ، ولا أثر ألبتة ، وإذا كان كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهيَّة محض السَّفه ، والجهل . فصل قال ابن الخطيب : " زعمت المعتزلة أنَّ العبد يخلق حركات ، وسكنات مثل الحركات ، والسكنات التي يخلقها الله ، وعلى هذا التقدير : فقد { جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } والله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الذَّم ، والإنكارِ ؛ فدلت على أنَّ العبد لا يخلق أفعال نفسه " . قال القاضي : " نحن وإن قلنا : إنَّ العبد يخلق إلاَّ أنَّا لا نطلق القول بأنه يخلق كخلق الله ؛ لأن أحداً ما يفعل كقدرة الله ، وإنما يفعل لجلب منفعة ، ودفع مضرة ، والله تعالى منزه عن ذلك ؛ فثبت أنَّ بتقدير كون العبدِ خالقاً إلا أنَّه لا يكون خلقه كخلق الله ، وأيضاً : فهذا الإلزامُ للمجبرة أيضاً ؛ لأنَّهم يقولون عين ما هو خلق الله تعالى فهو كسبٌ للعبد ، وفعلٌ له ، وهذا عين الشرك ؛ لأنَّ الإله ، والعبد في ذلك الكسب كالشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه أيضاً نصيبٌ ، وهو أنه تعالى إنَّما ذكر هذا الكلام عيباً للكفَّار أن يقولوا : إنَّ الله تعالى خلق هذا الكفر فينا ؛ فلم يذمنا ، ولم ينسبنا للجهل ، والتقصير ، مع أنه حصل فينا بغير فعلنا ، ولا باختيارنا " . والجواب عن الأول : هو أنَّ لفظ الخلق عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود ، أو عبارة عن التقديرين ، وعلى الوجهين : فبتقدير أن يكون العبد محدثاً ، فإنه لا بد أن يكون حادثاً ، أما قوله : والعبد وإن كان خالقاً إلاَّ أنه ليس خلقه كخلق الله تعالى ـ . قلنا : الخلق عبارةٌ عن الإيجاد والتكوين والإخراج من العدم إلى الوجود ، ومعلومٌ أنَّ الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلاً للحركة الواقعة بقدرة الله تعالى كان أحد المخلوقين مثلاً للمخلوق الثاني ، وحينئذ يصحُّ أن يقال : إنَّ هذا الذي هو مخلوقٌ للعبد مثل لما هو مخلوق لله تعالى ـ ، ولا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات ، إلاَّ أنَّ حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في المماثلة من هذا الوجه ، وهذا القدر يكفي في الاستدلال . وأما قوله : " هذا لازم على المجبرة حيث قالوا : إنَّ فعل العبد مخلوق لله تعالى " . فنقول : هذا غير لازم ؛ لأنَّ هذه الآية [ دالة ] على أنَّه لا يجوز أن يكون العبد مثلاً كخلق الله تعالى ونحن لا نثبت للعبد خلقاً ألبتَّة ، فكيف يلزمنا ذلك ؟ . وأما قوله : " لو كان فعل العبد خلقاً لله لما حسن ذمُّ الكفَّار على هذا المذهب " . قلنا : حاصلة يرجع إلى أنَّه لما حصل الوجود ، وجب أن يكون العبد مستقلاً بالفعل وهو منقوض ؛ لأنَّه تعالى ذمَّ أبا لهب على كفره مع أنَّه علم منه أنَّه يموت على الكفر ، وخلاف المعلوم محال الوقوع . قوله : { قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوق لله تعالى ـ ؛ لأنَّ فعل العبد شيء ، فوجب أن يكون خالقه هو الله تعالى وأيضاً : فقوله : { وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } لا يقال فيه : إنه تعالى واحد في أي المعاني ، بل الواحد في الخالقية ؛ لأن المذكور السابق هو الخالقية ، فوجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية ، القهار لكل ما سواه . فصل زعم جهم أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء . قال الخطيب : " وهذا الخلاف ليس إلا في اللفظ ، وهو أن اسم الشيء هل يقع عليه أم لا ؟ فزعم قوم أنه لا يقع ، وجوّزه قومٌ " . واحتج المانعون : بأنه لو كان شيئاً لوجب أن يكون خالقاً لنفسه ، لقوله تعالى : { خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] وذلك محالٌ ؛ فثبت أنه لا يقع عليه اسم الشيء ، ولا يقال : إنَّ هذا عام دخله التخصيص ؛ لأنَّ العام المخصوص إنَّما يحسن إذا كان المخصوص أقل من الباقي ، وأحسن منه ، كما يقال : أكلت هذه الرُّمَّانة مع أنَّه سقطت حبات ما أكلها ، وههنا ذات الله أعلى الموجودات ، وأشرفها ، فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصاً في حقِّه . واستدلُُّوا أيضاً بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ٍ والمعنى : ليس مثل مثله شيء ، ومعلوم أن كل حقيقة [ فإنها ] مثل مثل نفسها ، فالباري تعالى مثل مثل نفسه مع أنه تعالى نصَّ على أنَّ مثل مثله ليس بشيء ، فهذا تنصيصٌ على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيءِ . واستدلُّوا أيضاً بقوله تعالى : { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] قالوا : دلَّت على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى ، ولفظ الشيء يتناول أحد الموجودات ، فلا يكون هذا اللفظ مشعراً بمعنى حسن ؛ فوجب ألاَّ يجوز دعاء الله بهذا اللفظ . وتمسك من جوَّز إطلاق هذه التسمية عليه بقوله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 19 ] . وأجاب الأولون : بأنَّ هذا سؤال متروك الجواب ، وقوله : { قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 19 ] مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله . فصل تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّه تعالى عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة ، وقالوا : لأنه لو حصل لله تعالى علم ، وقدرة وحياة لكانت هذه الصفات إمَّا أن تحصل بخلق الله تعالى أو لا تحصل بخلق الله والأول باطل ، وإلا لزم التسلسل ، والثاني باطلٌ ؛ لأنَّ قول الله تعالى : { خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] يتناول الذات ، والصفات حكمنا بدخول التخصيص في ذات الله تعالى ـ ؛ فوجب أن يبقى على عمومه في سائر الأشياء ، والقرآن ليس هو الله ؛ فوجب أن يكون مخلوقاً لدخوله في هذا العموم . والجواب أن يقال : أقصى ما في الباب أنَّ الصِّيغة عامة ؛ لأن تخصيصها في حق صفات الله تعالى بالدلائل العقليَّة . قوله تعالى : { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } الآية لما شبَّه المؤمن والكافر ، والإيمان ، والكفر بالأعمى ، والبصير ، والظلمات ، والنور ، ضرب للإيمان ، والكفر مثلاً آخر فقال : { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } " أنْزلَ " يعني الله : { مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } يعني المطر " فَسَالتْ " من ذلك الماء : { أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } أي : في الصغر ، والكبر { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ } الذي حدث من ذلك الماء : { زَبَداً رَّابِياً } الزّبد : الخبث الذي يظهر على وجه الماء وكذلك على وجه القدر " رَابِياً " أي : عالياً مرتفعاً فوق الماءِ ، فالماءُ الصَّافي الباقي هو الحق ، والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار ، وجوانب الأودية هو الباطل . وقيل : هذا مثل القرآن : { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } وهو القرآن ، والأودية : قلوب العباد ، يريد : ينزل القرآن ، فيحتمل منه القلوب على قدر اليقينِ ، والعقل والشك وكما أنَّ الماء يعلوهُ زيدٌ ، والأجساد يخالطها خبثٌ ، ثمَّ إنَّ ذلك الزبد ، والخبث يذهب ، ويضيع ، ويبقى جوهر الماء ، وجوهر الأجساد السبعة ، كذلك ههنا بيانات القرآن يختلط بها شكوك وشهبات ، ثمَّ إنها تزول بالآخرة وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة في العاقبة كذلك ههنا . قوله : " أوْديَةٌ " جمع وادٍ ، وجمع فاعل على أفعلة ، قال أبو البقاءِ : " شاذٌّ ، ولم نسمعه في غير هذا الحرف . ووجهه : أنَّ فاعلاً قد جاء بمعنى فعيل ، وكما جاء فعيل وأفعلة كَجرِيب وأجْرِبَة كذلك فاعل " . قال شهابُ الدين : " قد سمع فَاعِلَة ، وأفْعِلَة في حرفين آخرين : أحدهما : قولهم جَائِر وِأجْوِرَة . والثاني : نَاجٍ وأنْجِيَة " . وقال الفارسي : " أودية : جع واد ولا نعلم فاعلاً جمع على أفْعِلَة " ، قال : " ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل ، وفعيل على الشيء الواحد ، كعَالِم وعَلِيم ، وشَاهِد وشَهِيد ، ونَاصِر ونَصِير ، ووزن فاعل يجمع على أفعالٍ كصاحب وأصحابٍ ، وطائرٍ وأطيارٍ ، [ ووزن ] فعيلٍ يجمع على أفْعِلَة كجَرِيبٍ ، وأجْرِبَة ، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل ، وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع الفعيل ، فيقال : وادٍ وأودية ، ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال : يَتِيمٌ وأيْتامٌ ، وشَرِيفٌ وأشْرافٌ " . وقال غيره : نظير وادٍ ، وأوْدِيَة : نادٍ ، وأنْديَة للمجالس وسمي وادِياً : لخروجه وسيلانه ، والوادي على هذا اسم للماء السَّائل . وقال أبو علي : " سَالتْ أوْديةٌ " فيه توسع ، أي : يسالُ ماؤها فحذف ، ومعنى " بِقدَرِهَا " أي : بقدر مياهها ؛ لأنَّ الأودية ما سالت بقدرِ نفسها . قوله : " بِقَدِرهَا " فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلقٌ بـ " سَالَتْ " . والثاني : أنَّه متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفةٌ للأودية . وقرأ العامة بفتح الدال ، وزيد بن عليّ ، والأشهب العقيلي ، وأبو عمرو في رواية بسكونها ، وقد تقدَّم في البقرة . قال الواحدي رحمه الله : القَدْرُ والقَدَر : مبلغ الشَّيء ، يقال : كم قَدْر هذه الدَّراهم وقَدَرُهَا ومِقْدَارُها ؟ أي : كم بلغ في القدر وما يكون مساوياً لها في الوزن فهو قَدرُهَا " . والمَعنى : بقدرها ، من الماء فإن صغر الوادي قل الماء ، وإن اتَّسع الوادي كثر الماء . و " احْتَمَلَ " بمعنى حَمَلَ فافتعل بمعنى المجرَّد ، وإنَّما نكَّر الأودية ، وعرف السيل ؛ لأنَّ المطر ينزلُ في البقاع على المناوبة ، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض ، وعرف السيل ؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله ، وهو قوله : " فَسَالَتْ " ، وهو لو نُكِّر لكان نكرة ، فلمَّا أعيد أعيد بلفظ التَّعريف نحو " رَأيْتَ رجُلاً فأكْرَمْتُ الرَّجُلَ " . والزَّبدُ : وضرُ الغليان وخبثه ؛ قال النابغة : [ البسيط ] @ 3176ـ فَمَا الفُرَاتُ إذا هَبَّ الرِّياحُ لَهُ تَرْمِي غَوارِبهُ العِبْرَيْنِ بالزَّبدِ @@ وقيل : هو ما يحمله السَّيل من غثاءٍ ونحوه ، وما يرمى به ضَفَّتاه من الحباب ، وقيل : هو ما يطرحه الوادي إذا [ سال ] ماؤه ، وارتفعت أمواجه ، وهي عباراتٌ متقاربةٌ . والزَّبدُ : المستخرج من اللَّبن . قيل : هو مشتقٌّ من هذه لمشابهته إيَّاه في اللون ، ويقال : زبدته زبداً ، أي : أعطيته مالاً كالزَّبدِ يضرب به المثل في الكثرةِ ، وفي الحديث : " غُفِرتْ ذُنوبُهُ ، ولوْ كَانتْ مِثْلَ زَبدِ البَحْرِ " . وقوله تعالى : " رَابِياً " قال الزجاج : طافياً عالياً فوق الماءِ " . وقال غيره : زائداً بسبب انتفاخه ، يقال : رَبَا يربُو إذا زاد . قوله { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } هذا الجار خبر مقدم ، و " زَبدٌ " مبتدأ ، و " مثْلُهُ " صفة المبتدأ ، والتقدير : ومن الجواهر التي هي كالنُّحاسِ ، والذهب ، والفضة زبد ، أي : خبث مثله ، أي : " مِثْل زبدِ الماءِ " . و " مِنْ " في قوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } تحتمل وجهين : [ أحدهما ] : أن تكون لابتداء الغاية ، أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماءِ . والثاني : أنَّها للتبعيض بمعنى : وبعض زبد ، هذا مثل آخر . فالأول : ضرب المثل بالزَّبد الحاصل من المثال ، ووجه المماثلة : أنَّ كلاَّ منهما ناشىء من الأكدار . وقرأ الأخوان ، وحفص : " يُوقدُون " بالياء من تحت ، أي : النَّاس ، والباقون بالتاء من فوق على الخطاب ، و " عَليْهِ " متعلق بـ : " تُوقِدُونَ " . وأمَّا " فِي النَّار " ففيه وجهان : أحدهما : أنَّه متعلق بـ " تُوقِدُونَ " وهو قول الفارسي ، والحوفي ، وأبي البقاء . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف ، أي : كائناً ، أو ثابتاً ، قاله مكيٌّ ، وغيره ومنعوا تعلُّقه بـ " يُوقِدُونَ " ؛ لأنهم زعموا أنَّه لا يوقد على الشَّيء إلا وهو في النَّار ، وتعليق حرف الجر بـ " تُوقِدُونَ " يقتضي تخصيص حال من حال أخرى ، وهذا غيرُ لازمٍ . قال أبو علي رحمه الله تعالى : وقد يُوقَدُ على الشَّيء ، وِإن لم يكن في النَّار ، كقوله تعالى : { فَأَوْقِدْ لِي يٰهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ } [ القصص : 28 ] فالطينُ لم يكن [ فيها ] ، وإنَّما يصيبه لهبها ، وأيضاً : فقد يكون ذلك على سبيل التَّوكيد ، كقوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] . والمراد بالحيلةِ : الذهب ، والفضة ، والمتاع : كل ما يتمتع به . قوله : " ابْتِغاءَ حِليَةٍ " فيه وجهان : أظهرهما : أنه مفعول من أجله . والثاني : أنه مصدر في موضع الحالِ ، أي : مبتغين حلية ، و " حِليَةٍ " مفعولٌ [ في ] المعنى ، " أوْ مَتاعٍ " نسق على " حِلْيةٍ " . فالحِليَةُ : ما تتزين به . والمتَاعُ : ما يقضون به حوائجهم كالمساحي من الحديد ونحوها . قوله : " جُفَاءً " حالٌ ، والجفاء : قال ابن الأنباري : المتفرق ، يقال : جفأتِ الرِّيح السَّحاب ، أي : قطعته وفرقته ، وقال الفراء : الجفاءُ : الرَّمي ، والاطراحُ . يقال : جَفَا الوادي ، أي : غُثَاءه يجفوهُ : جفاءً ، إذا رماه ، والجفاء اسم للمجتمع منه [ المنضمّ ] بعضه إلى بعض ، ويقال : جفَأتِ القِدرُ بزُبْدِهَا تَجْفَأ ، وحفاءُ السَّيل : زبده ، وأجْفَأ وأجْفَلَ وباللام قرأ رؤبة بن العجاج . قال أبو حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ؛ لأنَّه كان يأكل الفأر ، يعني أنه أعرابي جاف وقد تقدم ثناء الزمخشري عليه أوَّل البقرة ، وذكروا فصاحته ، وقد وجَّهوا قراءته بأنها من أجفأت الرِّيح الغيم ، أي : فرقته قطعاً ، فهي في المعنى كقراءة العامة بالهمزة . وفي همزة " جَفَأ " وجهان : أظهرهما : أنها أصل لثبوتها في تصاريف هذه المادة . والثاني : أنه بدل من واو ، وكأنه مختار أبي البقاء . وفيه نظر ؛ لأن مادة " جَفَا يَجْفُو " لا يليقُ معناها ، والأصل : عدم الاشتراك . فصل المعنى : أنَّ الباقي الصَّافي من هذه الجواهر مثل الحق ، والزَّبد الذي لا ينتفعُ به مثل الباطل ، فأمَّا الزَّبد الذي علا السيل والفلز ، فيذهب جفاء ، أي : ضائعاً باطلاً ، والجفاء ، ما رمى به الوادي من الزَّبد ، والقدر إلى جنباته . والمعنى : أنَّ الباطل ، وإن علا في وقت فإنه يضمحلُّ ، ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشُّبهات . قوله : { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ } الكاف في محل نصب ، أي : مثل ذلك الضَّرب يضربُ . قيل : إنَّما تمَّ الكلام عند قوله : { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } ثم استأنف الكلام بقوله تعالى : { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ } ومحله الرفع بالابتداء ، و " للذين " خبره ، وتقديره : لهم الخصلة الحسنى ، أو الحالة الحسنى . وقيل : متصل بما قبله ، والتقدير : كأنه الذي يبقى ، وهو مثل المستجيب ، والذي يذهب جفاء مثل الذي لا يستجيب ، ثمَّ بين الوجه في كونه مثلاً ، أي : لمن يستجيب " الحُسْنَى " وهي الجنَّة ، ولمن لا يستجيب الحسرة والعقوبة . وفيه وجه آخر : وهو أنَّ التقدير : كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى ، أي : الاستجابة الحسنى . واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أحوال السعداء ، وأحوال الأشقياء ، أما أحوال السعداء ، فهي قوله جل ذكره : { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ } ، أي : أنَّ الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد ، والتزام الشرائع ، فلهم الحسنى . قال ابن عبَّاس : " الحُسْنَى " الجنَّة . وأمَّا أحوال الأشقياء ، فهي قوله عزَّ وجلَّ ـ : { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } ، أي لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداءً من النار . قوله : { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ } فيه وجهان : أحدهما : أنَّه متعلقٌ بـ " يَضْرِبُ " ، وبه بدأ الزمخشري قال : " أي : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا ؛ وللكافرين الذين لم يستجيبوا ، و " الحُسْنَى " صفة لمصدر " اسْتَجابُوا " ، أي : استجابوا الاستجابة الحسنى ، وقوله { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ } كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين " . قال أ بو حيان : " والتفسير الأول أولى " يعني به أن " لِلَّذينَ " خبرٌ مقدمٌ و " الحُسْنَى " مبتدأ مؤخَّر كما سيأتي . إيضاحه قال : " لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين ، والله تعالى قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما ؛ ولأنَّ فيه ذكر ثواب المتسجيبين بخلاف قول الزمخشري ، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ذكر للمستجيبين من الثواب ؛ ولأن تقديره : الاستجابة الحسنى مشعرٌ بتقييد الاستجابةِ ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً ، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى ، والله سبحانه وتعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً ، ولأنه على قوله يكون قوله : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } كلاماً مفلتا ممَّا قبله ، أو كالمفلتِ ، إذ يصير المعنى : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين ، والكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض ، فلو كان التركيب بحذفِ رابط " لو " بما قبلها زال التفلت ، وأيضاً : فتوهم الاشتراك في الضمير ، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً " . قال شهاب الدين : " قوله : " لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيَّد " ليس في قول الزمخشري ما يقتضي التّقييد ، وقوله : لأن فيه ذكر ثواب المستجيبين إلى آخر ما ذكره الزمخشري أيضاً . على أن يؤخذ من فحواه ثوابهم ، وقوله : " والله تعالى نفي الاستجابة مطلقاً " ممنوع ، بل نفى تلك الاستجابة الأولى لا يقال : فثبتت لنا استجابة غير حسنى ؛ لأنَّ هذه الصفة لا مفهوم لها ، إذ الواقع أنَّ الاستجابة لله لا تكون إلا حسنى . وقوله : " يصيرُ مُفْلتاً " كيف يكون مع قولِ الزمخشريِّ مبتدأ في ذكر ما أعدَّ لهم ، وقوله " وأيضاً فيتوهَّم الاشتراك " كيف يتوهّم هذا بوجه من الوجوه ؟ وكيف يقول ذلك مع قوله : وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً ؟ فإذا علم كيف يتوهَّم ؟ " . والوجه الثاني : أن يكون " لِلَّذينَ " خبراً مقدماً ، والمبتدأ " الحُسْنَى " ، و { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } مبتدأ ، و خبره الجملة الامتناعيَّة بعده . وإنَّما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا لانتفاعهم دون غيرهم ومفعول " افتَدَوا " محذوف ، تقديره : لا فتدوا به أنفسهم ، أي : جعلوه فداء أنفسهم من العذاب ، والهاء في " بِهِ " عائدة إلى : " مَا " في قوله : " مَا في الأرضِ " . ثم قال : { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ سُوۤءُ ٱلْحِسَابِ } . [ قال الزجاج : وذلك لأن كفرهم أحبط أعمالهم . وقال إبراهيم النخعي رضي الله عنه ـ : سوء الحساب ] أن يحاسب الرجل بذنبه كله ، ولا يغفر له منه شيء " ومَأوَاهُمْ " في الآخرة : { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } والفراشُ ، أي : بئس ما مهد لهم .