Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 8-11)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ } الآية في النَّظم وجوهٌ : أحدها : أنَّ الكفار لما طلبوا آيات أخر غير ما أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام بين أنَّه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فلو علم من حالهم أنهم إنما طلبوا الآية الآخرى للاسترشاد ، وطلب البيان أظهرها ، وما منعهم ، لكنه تعالى عالم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لمحض العناد ؛ فلذلك منعهم ، ونظيره قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ للَّهِ } [ يونس : 20 ] ، وقوله : { إِنَّمَا ٱلآيَاتُ عِندَ ٱللَّهِ } [ العنكبوت : 50 ] . وثانيها : أنه تعالى لما قال : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } [ الرعد : 5 ] في إنكار البعث بسبب أنَّ أجزاء أبدان الحيوانات تتفرَّق ، وتختلط بعضها ببعض ، ولا يتميَّز ، فبين الله تعالى أنه إنما لم يتميز في حق من لا يكون عالماً بجميع المعلومات فأمَّا من : { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } كيف لا يميزها ؟ . وثالثها : أنَّه متصلٌ بقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ } [ الرعد : 6 ] . والمعنى : أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فهو إنَّما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة فيه . قوله : { ٱللَّهُ يَعْلَمُ } يجوز في الجلالة وجهان : أحدهما : أنَّها خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو الله ، وهذا على قول من فسَّر " هادٍ " بأنه هو الله [ تعالى ، فكان هذه الجملة تفسير له ، وهذا [ ما ] عنى الزمخشري بقوله : وأن يكون المعنى : هو الله ] تفسيراً لـ " هادٍ " على الوجه الأخير ، ثم ابتدأ فقال : " يَعْلمُ " . والثاني : أنَّ الجلالة مبتدأ " ويَعْلمُ " خبرها ، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ . قال أبو حيَّان ، " و " يَعْلمُ " هاهنا متعدية إلى واحدٍ ؛ لأنَّه لا يراد هنا النسبة إنَّما المراد تعلق العلم بالمفردات " . قال شهاب الدين رحمه الله ـ : " وإذا كانت كذلك ، كانت غير فائتة " وقد تقدَّم أنه لا ينبغي أنه يجوز نسبة هذا إلى الله عزَّ وجلَّ وتقدم تحقيقه في الأنفال فالتفت إليه . قوله : " مَا تَحْمِلُ " " مَا " تحتمل ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أن تكون موصولة اسمية ، والعائد محذوف ، أي : ما تحمله . والثاني : أن تكون مصدرية ، فلا عائد . والثالث : أن تكون استفهامية ، وفي محلها وجهان : أحدهما : أنها في محلِّ رفع بالابتداء ، و " تَحْمِلُ " خبره ، والجملة معلقة للعلم . والثاني : أنها في محلِّ نصب بـ " تَحْمِلُ " قاله أبو البقاء . وهو أولى ؛ لأنَّه لا يحتاج إلى حذف عائد لا سيَّما عند البصريين ؛ فإنهم لا يجيزون زيداً ضَرَبتُ . ولم يذكر أبو حيان غير هذا ، ولم يتعرض لهذا الاعتراض . و " مَا " في قوله : { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } محتملة للأوجه المتقدِّمة و " غاض ، وزاد " سمع تعدِّيهما ، ولزومهما ، ولك أن تدَّعي حذف العائد على القول بتعديهما ، وأن تجعلها مصدريّة على القول بمصدريتها . فصل إذا كانت " مَا " موصولة فالمعنى : أنه تعالى يعلم ما تحمل كل أنثى من الولد أهو ذكرٌ ، أم أنثى ، وتامٌّ ، أم ناقصٌ ، وحسنٌ ، أم قبيحٌ ، وطويلٌ ، أم قصيرٌ أو غير ذلك من الأحوال . وقوله سبحانه : { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ } الغيضُ : النقصان سواء كان لازماً ، أو متعدياً فيقال : غاض الماء وغضته أنا ، ومنه قوله تعالى : { وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } [ هود : 44 ] والمعنى : ما تغيضه الأرحام إلاَّ أنه حذف الرَّافع . و " مَا تَزْدادُ " ، أي تأخذه زيادة ، تقول : أخذت منه حقي ، وازددت منه كذا ، ومنه قوله تعالى : { وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } [ الكهف : 25 ] . ثم اختلفوا فيما تفيضه الرحم ، وما تزداده على وجوهٍ : الأول : عدد الولد فإنَّ الرَّحم قد يشتمل على واحدٍ ، وعلى اثنين ، وثلاثة ، وأربعة . يروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه . الثاني : عند الولادة قد تكون زائدة ، وقد تكون ناقصة . الثالث : [ مدة ولادته ] قد تكون تسعة أشهر [ فأزيد ] إلى سنتين عند أبي حنيفة رحمه الله وإلى أربع عند الشافعي رضي الله عنه ـ ، وإلى خمس عند مالكٍ رضي الله عنه ـ . قيل : إنَّ الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان بقي في بطن أمِّه أربع سنين ، ولذلك سمي هرماً . الرابع : الدم ؛ فإنه تارة يقلُّ ، وتارة يكثرُ . الخامس : ما ينقصُ بالسَّقط من غير أن يتم ، وما يزداد بالتَّمامِ . السادس : ما ينقصُ بظهور دم الحيض ؛ لأنَّه إذا سال الدَّم في وقت الحمل ضعف الولد ، ونقص بمقدار ذلك النقصان ، وتزداد أيام الحمل ، لتصير هذه الزيادة جابرة لذلك النُّقصان . قال ابن عبَّاس رضي الله عنه ـ : " كلَّما سال الحيضُ في وقت الحمل يوماً ، زاد في مدَّة الحمل يوماً ، ليحصل الجبرُ ، ويعتدلُ الأمر " . وهذا يدلُّ على أنَّ الحامل تحيضُ ، وهو مذهب مالكٍ ، وأحد قولي الشَّافعي لقول ابن عباس في تأويل هذه الآية : إنَّه حيض الحبالى ، وهو قول عائشة رضي الله عنها وأنها كانت تفتي النِّساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصَّلاة . وقال المخالف : لو كانت الحاملُ تحيض مكان ما تراه المرأة من الدَّم حيضاً ، لما صحَّ استراءُ الأمة بحيضة ، وهذا بالإجماع . السابع : أن دم الحيض فضلة تجتمع في [ بطن ] المرأة ، فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات ؛ فاضت ، وخرجت ، وسالت من دواخل تلك العروق ، ثم إذا سالت تلك المواد ، امتلأت تلك العروق مرَّة أخرى . هذا كلُّه إذا قلنا : إن " ما " موصولة . فإذا قلنا : إنَّها مصدرية : فالمعنى أنَّه تعالى يعلمُ حمل كلَّ شيءٍ ، ويعلم غيض الأرحام ، وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك ، ولا أوقاته ، وأحواله . ثم قال : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } يحتمل أن يكون المراد بالعنديَّة : العلم ومعناه : أنَّه تعالى يعلم كمية كل شيء ، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات ، ويحتمل أن يكون المراد من العنديَّة أنه تعالى خصَّص كل حادث بوقت معين ، وحال معينة بمشيئته الأزليَّة وإرادته السرمدية . وعند حكماء الإسلام : أنه تعالى وضع أشياء كلّيّة ، وأودع فيها قوى ، وخواصَّ ، وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية متعينة ومناسبات مخصوصة [ مقدرة ] ، ويدخل في هذه الآية أفعالُ العبادِ ، وأحوالهم ، وخواطرهم ، وهي من أدلِّ الدَّلائلِ على بطلان قول المعتزلةِ . قوله : " عِنْدَهُ " يجوز أن يكون مجرور المحل صفة لـ " شَيْءٍ " ، أو مرفوعه صفة لـ " كُلُّ " ، أو منصوبة ظرفاً لقوله : " بِمقْدارٍ " ، أو ظرفاً للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبراً . قوله : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ } يجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره : " الكَبيرُ المتعَالِ " ، وأن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : هو عالمٌ . وقرأ زيد بن علي " عَالِمَ " نصباً على المدحِ . ووقف ابنُ كثير ، وأبو عمرو في رواية على ياءِ " المُتعَالِ " وصلاً ووقفاً ، وهذا هو الأشهر في لسانهم ، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً لحذفها في الرَّسم . واستسهل سيبويه حذفها في الفواصل ، والقوافي ، ولأنَّ " ألْ " تعاقب التنوين ، فحذفت معها إجراء لها مجراها . فصل قال ابن عباس رضي الله عنه ـ : يريد علم ما غاب عن خلقه وما شاهدوه . قال الواحديُّ : " فعلى هذا " الغَيْب " مصدر يرادُ به الغائب ، والشهادة أراد بها الشَّاهد " . واختلفوا في المراد بالغائب ، والشَّاهد ؛ فقيل : المراد بالغائب : [ المعدوم ] ، وبالشَّاهد : الموجود . وقيل : الغائب مالا يعرفه الخلق . واعلم أنَّ المعلومات قسمان : المعدومات ، والموجودات . والمعدومات منها معدوماتٌ يمتنع وجودها ، ومعدومات لا يمتنع وجودها . والموجودات قسمان : موجودات يمتنع عدمها ، وموجودات لا يمتنع عدمها ، وكل واحدٍ من هذه الأقسام الأربعة له أحكام ، وخواص ، والكل معلوم لله تعالى ـ . قال إمامُ الحرمين : لله تعالى معلوماتٌ لا نهاية لها وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها ؛ لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ، وموصوف بأوصاف لا نهاية لها على البدل ، وهو تعالى عالمٌ بكلِّ الأحوال على التفصيل وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } . ثم قال : " الكَبِيرُ المُتعَالِ " وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثَّة والمقدار ؛ فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة الإلهيَّة ، و " المُتعَالِ " المتنزه عن كلِّ ما لا يجوز عليه في ذاته ، وصفاته . قوله تعالى : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } . في " سَواءٌ " وجهان : أحدهما : أنه خبرٌ مقدمٌ ، و : " مَنْ أسرَّ " ، و " مَنْ جَهرَ " هو المبتدأ ، وإنما لم يثن الخبر ؛ لأنَّه في الأصل مصدر ، وهو ههنا بمعنى مستوٍ ، و " مِنْكُمْ " على هذا حالٌ من الضمير المستتر في " سَواءٌ " ؛ لأنه بمعنى مستوٍ . قال أبو البقاء : " ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في " أسرَّ " ، و " جَهَرَ " لوجهين : أحدهما : تقديم ما في الصلة على الموصول ، أو الصِّفة على الموصوف . والثاني : تقديم الخبر على " مِنْكُم " وحقُّه أن يقع بعده " . قال شهابُ الدِّين رحمه الله ـ : " وحقُّه أن يقع بعده يعني : بعدهُ ، وبعد المبتدأ ، ولا يصير كلامه لا معنى له " . والثاني : أنه مبتدأ ، وجاز الابتداء به لوصفه بقوله : " مِنْكُم " . وأعرب سيبويه : " سواءٌ " عليه الجهر والسِّر كذلك ، وقول بن عطيَّة : إنَّ سيبويه ضعَّف ذلك بأنه ابتداء بنكرة غلط عليه . قال ابنُ الخطيب : لفظ " سواء " يطلب اثنين ، تقول : " سواء زيد ، وعمرو " ، ثم فيه وجهان : الأول : أنَّ " سواءٌ " مصدر ، والمعنى : ذو سواء ، كما تقول : عدل زيد وعمرو ، أي : ذو عدلٍ . الثاني : أن يكون " سواءٌ " بمعنى مستوٍ ، وعلى هذا التقدير ، فلا حاجة إلى الإضمار ، إلا أنَّ سيبويه يستقبحُ أن يقال : مستو زيد وعمرو ؛ لأنَّ اسماء الفاعل إذا كانت نكرة لا يبتدأ بها . ولقائلٍ أن يقول : بل هذا الوجه أولى ؛ لأنَّ حمل الكلام عليه يغني عن التزامِ الإضمار الذي هو خلاف الأصل . قوله : { وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون معطوفاً على " مُسْتَخْفٍ " ، ويراد بـ " مَنْ " حينئذ اثنان ، وحمل المبتدأ الذي هو لفظ " هُوَ " على لفظها ، فأفرده ، والخبر على معناها فثناه . والوجه الثاني : أن يكون عطفاً على " من هُوَ " في " ومَنْ هُو مُسْتخْفٍ " لا على : " مُستَخفٍ " وحده . ويوضح هذين الوجهين ما قاله الزمخشريُّ قال : " فإن قلت : كان حق العبارةِ أن يقال : ومن هو مستخف باللَّيل ، ومن هو ساربٌ بالنَّهار حتَّى يتناول معنى الاستواء المستخفي ، والسارب ، وإلا فقد تناول واحد هو مستخف وسارب . قلت : فيه وجهان : أحدهما : أن قوله : " سَارِبٌ " عطف على : " مَنْ هُو مُسْتَخْفٍ " [ لا على : " مُسْتَخْفٍ " . والثاني : أنَّه عطف على : " مُسْتَخْفٍ " ] إلا أنَّ : " مَنْ " في معنى الاثنين ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 3166ـ … نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطحِبَانِ @@ كأنه قيل : سواء منكم اثنان مستخف بالليل ، وسارب بالنَّهار " . قال شهابُ الدِّين : وفي عبارته بقوله : كان حق العبارة كذا سوء أدب ، وقوله كقوله : " نَكُنْ مِثلَ مَنْ يا ذئب " يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضهم مع ذئبٍ يخاطبه : [ الطويل ] @ 3167ـ تَعَشَّ فإنْ عَاهَدْتَنِي لا تَخُونُنِي نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئبُ يَصْطحِبَانِ @@ وليس في البيت حملٌ على اللفظ والمعنى ، وإنَّما فيه حملٌ على المعنى فقط ، وهو مقصوده . وقوله : " وإلا فقد تناول واحدٌ هو مستخف وسارب " لو قال بهذا قائل لأصاب الصَّواب وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد ذهبا إلى أن المستخفي والسَّارب شخص واحد يستخفي بالليل ، ويسرب بالنَّهار ، ليري تصرفه في النَّاس . الثالث : أن يكون على حذف " مَنْ " الموصولة ، أي : ومن هو سارب ، وهذا إنَّما يتمشى عند الكوفيين ، فإنهم يجيزون حذف الموصول ، وقد تقدَّم استدلالهم على ذلك . والسَّاربُ : اسم فاعل من " سَرَبَ ، يَسْرُبُ " ، أي : تصرف كيف يشاء ؛ قال : [ الكامل ] @ 3168ـ أنَّى سَربْتِ وكُنْتِ غَيرَ سَرُوبِ وتُقرَّبُ الأحلامُ غَيْرَ قَريبِ @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 3169ـ وكُلُّ أنَاسٍ قَاربُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ونَحْنُ خَلعْنَا قَيْدهُ فهو سَارِبُ @@ أي : متصرف كيف توجَّه ، ولا يدفعه أحدٌ عن مرعى قومه بالمنعة ، والقوة . فصل معنى الكلام : أي : يستوي في علم الله المسر في القول ، والجاهر به . وفي المستخفي ، والسَّارب وجهان : الأول : يقال : أخفيت الشيء أخفيه إخفاء فخفي ، واستخفى فلان من فلان ، أي : توارى واستتر منه . والسَّارب : قال الفراء والزجاج : أي : ظاهر بالنهار في سربه ، أي : طريقه يقال : خلا له سربه ، أي : طريقه ، والسَّرب بفتح السِّين ، وسكون الراء الطريق . وقال الأزهري : " تقول العرب : سَربتِ الإبلُ تسرب سَرَباً ، أي : مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت " . فمعنى الآية : سواء كان الإنسان مستخفياً في الظُّلماتِ ، وكان ظاهراً في الطرقاتِ فعلم الله تعالى محيطٌ بالكلِّ . قال ابن عباس : " سواء ما أضمرته القلوب ، أو أظهرته الألسنة " . وقال مجاهد : سواء من أقدم على القبائح في ظلمات الليل ، ومن أتى بها في النهار الظاهر على سبيل التَّوالي . وقال ابن عباس أيضاً : " هو صاحب ريبة مستخف بالليل ، وإذا خرج بالنهار أرى النَّاس أنه بريء من الإثم " . والقول الثاني : نقل الواحدي عن الأخفش ، وقطرب قال : المستخفي : الظاهر والسارب : المتواري ، ومنه يقال : خفيت الشيء ، أي : أظهرته ، وأخفيت الشيء أي : استخرجته ، ويسمى النَّبَّاش : المستخفي ، والسَّارب : المتواري ، أي : الداخل سرباً ، وانسرب الوحش : إذا دخل في السِّرب ، أي : في كناسه . قال الواحديُّ : " وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أنَّ الأول هو المختارُ لإطباق أكثر المفسرين عليه ، وأيضاً : فالليل يدلُّ على الاستتار ، والنهار على الظهور " . قوله : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } الضمير فيه أربعة أوجه : أحدها : أنه عائد على " مِنْ " المكررة ، أي : لمن أسرّ القول ، ولمن جهر به ولمن استخفى : " مُعَقباتٌ " ، أي : جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضاً . الثاني : أنه يعود على " مِنْ " الأخيرة ، وهو قول ابن عبَّاسٍ . قال ابن عطية : والمعقبات على هذا : حرسُ الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه ، قالوا : والآية على هذا في الرؤساء الكفار ، واختاره الطبريُّ وآخرون إلاَّ أنَّ الماوردي ذكر على هذا التأويل : أنَّ الكلام نفي ، والتقدير : لا يحفظونه ، وهذا ينبغي ألاّ يسمع ألبتة ، كيف يبرز كلام موجب ، ويراد به نفي ، وحذف " لا " إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعاً في جواب قسم ، نحو { تَالله تَفْتَأُ } [ يوسف : 85 ] وقد تقدَّم تحريره وإنَّما معنى الكلام كما قال المهدويُّ : يحفظونه من أمر الله في ظنه ، وزعمه . الثالث : أن الضمير في " لهُ " يعود على الله تعالى وفي " يَحْفظُونَهُ " للعبد أي : للهِ ملائكة يحفظون العبد من الآفات ، ويحفظون عليه أعماله قاله الحسن رضي الله عنه ـ . الرابع : عود الضميرين على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قريب ، ولتقدُّم ما يشعر به في قوله : " لوْلاَ أنْزِلَ عليْهِ " . و " مُعقِّباتٌ " جمع معقب بزنة مفعل ، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر ؛ لأن بعضهم يعقبُ بعضاً ، أو لأنَّهم يعقبون ما يتكلَّم به . وقال الزمخشري : " والأصل : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، كقوله : { وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ } [ التوبة : 90 ] ، أي : المعتذِّرون ، ويجوز " مُعقِّبات " بكسر العين ولم يقرأ به " . وقال أبو حيَّان : " وهذا وهمٌ فاحش ، لا تدغم التَّاء في القافِ ، ولا القاف في التَّاء لا من كلمة ، ولا من كلمتين ، وقد نصَّ التصريفيُّون على أنَّ القاف ، والكاف كلُّ منهما تدغمُ في الأخرى ، ولا يدغمان في غيرهما ، ولا يدغم غيرهما فيهما ، وأمَّا تشبيهه بقوله : { وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ } [ التوبة : 90 ] فلا يتعيَّن أن يكون أصله " المُتعذِّرُون " وقد تقدَّم توجيهه ، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه . وأما قوله : ويجوز " مُعقِّبات " بكسر العين ، فهذا لا يجوز ؛ لأنه بناه على أن أصله : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، وقد بيَّنا أن ذلك وهم فاحشٌ وفي " مُعَقِّباتٌ " احتمالان : أحدهما : أن يكون معقبة بمعنى معقب ، والتَّاء للمبالغة ، كعلاَّمة ، ونسَّابة . أي : ملك معقب ، ثم جمع هذا كعلامات ، ونسَّابات . والثاني : أن يكون معقبة صفة لجماعة ، ثم جمع هذا الوصف ، وذكر ابنُ جريرٍ : أن معقبة جمع معقب ، وشبه ذلك بـ " رَجُلٍ ، ورجالٍ ، ورِجَالاتٍ " . قال أبو حيَّان : وليس كما ذكر ، إنما ذلك كـ " جَمَلٍ ، وجِمَالٍ ، وجمالاتٍ " ومعقب ، ومعقبات إنَّما هو كضارب ، وضاربات . ويمكن أن يجاب عنه : بأنه يمكن أن يريد بذلك أنَّه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب ، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث " معقب " ، فصار مثل : " الواردة " للجماعة الذين يريدون ، وإن كان أصله للمؤنثة من جهة أنَّ جموع التَّكسير في العقلاء تعامل معاملة المؤنثة في الإخبار ، وعود الضَّمير ، ومنه قولهم : الرِّجالُ وأعضادها ، والعلماء ذاهبةٌ إلى كذا ، وتشبيهه ذلك برجل ، ورجالات من حيثُ المعنى لا الصناعة " . وقرأ أبي ، وإبراهيم ، وعبيد الله بن زيادٍ : له معاقيب . قال الزمخشريُّ : " جمع معقب ، أو معقبة ، والياء عوضٌ من حذف إحدى القافين في التكسير " . ويوضح هذا ما قاله ابنُ جنِّي ؛ فإنه قال : " مَعَاقِيب " تكسير مَعْقِب بسكون العين ، وكسر القاف ، كـ " مُطْعِم ، ومطاعم " و " مَقْدِم ، ومَقَادِيم " ، فكأن " مُعْقباً " جمع على معاقبة ، ثم جعلت الياء في " معاقيب " عوضاً من الهاء المحذوفة في " مُعَاقبةٍ " . فصل قال : المعقب من كلِّ شيء ما خلف يعقب ما قبله ، ويجوز أن يكون عقبه ، إذا جاء على عقب ، والمعنى في كلا الوجهين واحد . والتَّعقيب : العود بعد البدءِ ، وإنَّما ذكر بلفظ التَّأنيث ؛ لأن واحدها معقب وجمعه معقبة ، ثم جمع المعقبة معقبات ، كقولك : رجالات مكسر ، وقد تقدَّم . وفي المراد بـ " المعقبات " قولان : أشهرهما : أن المراد الحفظة ، وإنَّما وصفوا بالمعقبات ، إما لأجل أن ملائكة اللَّيل تعقب ملائكة النَّهار ، وبالعكس ، وإما لأجل أنهم يعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ ، والكتابة ، وكل من عمل عملاً ثم معاد إليه ؛ فقد عقَّبهُ . فعلى هذا المراد من المعقبات : ملائكة الليل ، والنَّهار ، قال تعالى جلَّ ذكره { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } [ الانفطار : 10 ، 11 ، 12 ، 13 ] . قوله : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة لـ " مُعقِّباتٌ " ويجوز أن يتعلق بـ " مُعقِّباتٌ " ، و " مِنْ " لابتداء الغاية ، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير الذي هو الظرف الواقع خبراً والكلام على هذه الأوجه تام عند قوله : { وَمِنْ خَلْفِهِ } . وقد عبَّر ِأبو البقاء رحمه الله عن هذه الأوجه بعبارة مشكلة ، وهي قوله : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يجوز أن يكون صفة لـ " مُعقِّباتٌ " ، وأن يكون ظرفاً ، وأن يكون حالاً من الضمير الذي فيه ، فعلى هذا يتمُّ الكلام عنده " انتهى " . ويجوز أن يتعلق بـ " يَحْفَظُونَه " أي : يحفظونه من بين يديه ، ومن خلفه . فإن قيل : كيف يتعلَّق حرفان متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحدٍ ، وهما " مِنْ " الداخلة على " بَيْنِ " و " مِنْ " الداخلة على : " أمْرِ اللهِ " ؟ . فالجواب : أنَّ " مِنْ " الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما ستعرفه . قوله : " يَحْفَظُونهُ " يجوز أن يكون صفة لـ " مُعقِّباتٌ " ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجار الواقع [ خبراً ] ، و " مِنْ أمْرِ اللهِ " متعلق به ، و " مِنْ " إمَّا للسَّببِ أي : بسبب أمر الله . ويدل له على قراءة عليِّ بن أبي طالبٍ ، وابن عبَّاسٍ ، وزيد بن عليّ ، وعكرمة رضي الله عنهم ـ : بأمر الله . وقيل : المعنى على هذا يحفظون عمله بإذن الله ، فحذف المضاف . قال ابن الأنباري : كلمة " مِنْ " معناها الباء ، وتقديره : يحفظونه بأمر الله وإعانته ، والدَّليل عليه : أنه لا بد من المصير إليه ؛ لأنَّه لا قدرة للملائكة ، ولا لأحد من الخلقِ على أن يحفظوا أحداً من أمر الله ، وممَّا قضاه الله عليه ؛ وإمَّا أن تكون على بابها . قال أبُو البقاء : " مِنْ أمْرِ اللهِ " من الجنِّ ، والإنس ، فتكون " مِنْ " على بابها . " يعني : أن يراد بأمر الله : نفس ما يحفظ منه كمردة الإنس ، والجن ، فتكون " مِنْ " لابتداء الغاية " . ويجوز أن تكون بمعنى " عَنْ " ، وليس عليه معنى يليق بالآية الكريمة ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة لـ : " مُعقِّباتٍ " أيضاً فيجيء الوصف بثلاثة أشياء في بعض الأوجه المتقدمة بكونها { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } وبكونها " يَحفظه " ، وبكونها " مِنْ أمْرِ اللهِ " ولكن يتقدَّم الوصف بالجملة على الوصف بالجار ، وهو جائزٌ فصيحٌ ، وقد ذكر الفراء فيه وجهين : الأول : أنه على التَّقديم ، والتأخير ، والتقدير : له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه . قال شهاب الدِّين رحمه الله ـ : " والأصل عدم ذلك مع الاستغناء عنه " . والثاني : أن فيه إضماراً ، أي : ذلك الحفظ من أمر الله ، أي : ممَّا أمر الله به ، فحذف الاسم ، وأبقى خبره ، كما يكتب على الكيس : ألفان ، والمراد الذي فيه ألفان . فصل ذكر المفسرون : أن للهِ ملائكة يتعاقبون بالليل ، والنهار ؛ فإذا صعدت ملائكة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار ، وإذا صعدت ملائكة النَّهار ، جاء في عقبها ملائكة الليل ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ باللَّيلِ ومَلائكِةٌ بالنَّهارِ يَجْتمِعُونَ عِنْدَ صلاةِ الفَجْرِ وصلاةِ العَصْرِ ، ثُمَّ يَعْرجُ الَّذينَ باتُوا فيكُم ؛ فيَسْألهُم وعو أعلمُ بِهِم : كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادي ؟ فَيقُولُون : تَركْنَاهُم ، وهُمْ يُصَلُّونَ ، وأتَيْنَاهُمْ ، وهُمْ يُصَلُّون " . وقوله : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } يعنى من قدام ، هذا استخفى باللَّيل والسَّارب بالنَّهار ، ومن وراء ظهره يحفظونه من أمر الله يعني بإذنِ الله ما لم يجىء القدر ، فإذا جاء القدر خلوا عنه . وقيل : يحفظونه ممَّا أمر الله به من الحفظ عنه . قال مجاهدٌ : ما من عبدٍ إلا وله ملك موكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنِّ والإنس ، والهوام . وقيل : المراد بالآية الملكين القاعدين على اليمين ، وعلى الشمال يكتبان الحسنات والسيئات " يحفظونه " أي يحفظون عليه ، " من أمر الله " يعني الحسنات والسيئات قال الله تعالى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق . 18 ] . وقال عبدالرحمن بن زيد : نزلت هذه الآية في عامر بن الطُّفيل وأربد بن ربيعة ، وكانت قصَّتهما على ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : " أقبل عامر بن الطُّفيل ، وأربد بن ربيعة ، وهما عامريان يريدان رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد في نفرٍ من أصحابه ، فدخلا المسجد ، فاسْتشْرَفَ الناسُ لجمالِ عامرٍ ، وكان أعورَ ، وكان من أجمل النَّاس ، فقال رجل : يا رسول الله هذا عامر بن الطُّفيل قد أقبل نحوك فقال : دعه ؛ فإن يرد الله به خيراً يهده ، فأقبل حتى قام عليه ، فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : لك ما للمسلمين ، وعليك ما على المسلمين ، قال : تجعل لي الأمر بعدك ؛ قال : ليس ذلك إليَّ ، إنما ذلك إلى الله عز وجل يجعله حيث يشاءُ ، فقال : تجعلني على الوبر وأنت على المدرِ ، قال : لا ، قال : فما تجعل لي ؟ قال أجعل لك أعنَّة الخيل تغزُو عليها قال : أوليس ذلك لي اليوم ، قم معي أكلمك ، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة : إذا رأيتني أكلمه فدُرْ من خلفه ، فاضربه بالسيف ، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه ، فدار أربدُ من خلف النبي ليضربه ، فاخترط من سيفه شبراً ، ثمَّ حبسه الله عزَّ وجلَّ عنده ، فلم يقدر على سلّه ، وجعل عامرُ يومىء إليه ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه ، فقال : " اللَّهُمَّ أكْفِنِيهما بِمَا شِئْتَ " فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحوٍ صائفٍ ، فأحرقته ، وولّى عامر بنُ الطفيل هارباً ، وقال : يا محمد ! دعوت ربك فقتل أربد ، والله لأملأنَّها عليك خيلاً جرداً ، وفتياناً مرداً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يَمْنَعُكَ اللهُ مِنْ هذا ، وأبْناءُ قيْلة " يريد الأوس ، والخزرج ؛ فنزل عامرٌ بيت امرأة سلوليّة فلما أصبح ، ضم عليه سلاحه ، وقد تغير لونه ، فخرج يركض في الصحراء ويقول : ابرز يا ملك الموت ، ويقول الشِّعر ، ويقول : واللات لئن أصبح لي محمدٌ وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي ؛ فأرسل الله تبارك وتعالى ملكاً فلطمه بجناحه ، فأذراه في التراب ، وخرجت على ركبته في الوقت غدة عظيمة ، فعاد إلى بيت السلولية ، وهو يقول : " غُدَّةٌ كغُدةِ البَعيرِ ، ومَوْتٌ في بَيْتِ سَلُوليَّة " ، ثم دعا بفرسه ، فركبه ، ثمَّ أجراه حتَّى مات على ظهره ، فأجاب الله دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُتلَ عامرٌ بالطعن ، وأربد بالصَّاعقة " ، وأنزل الله في هذه القصَّة : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلْلَّيْلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } يعنى للرسول صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله ، يعني : تلك المعقبات من أمر الله ، وفيه تقديم وتأخير . ونقل عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما واختاره أبو مسلم الأصفهاني رحمه الله أن المراد يستوي في علم الله السرُّ ، والجهر ، والمستخفي في ظلمة اللَّيل والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين ، والأنصار ، وهم الملوك ، والأمراء فمن لجأ إلى الله فلن يفوِّت الله سبحانه وتعالى أمره ، ومن سار نهاراً بالمعقبات ، وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه حراسه من الله تعالى والمعقب هو العون ؛ لأنه إذا نصر هذا ذاك ؛ فلا بد وأن ينصر ذاك هذا ؛ فنصر كل واحد منهما معاقبة لنصرة الآخر ؛ فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ، وقدره ، وهم وإن ظنُّوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ، ومن قضائه ؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتَّة . والمقصود من الكلام : بعث السلاطين ، والأمراء ، والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره من الله ، ويعولوا على حفظه وعصمته ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار ؛ ولذلك قال تعالى جل ذكره بعده : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } . قال القرطبي : " قيل : إن في الكلام نفياً محذوفاً تقديره : لا يحفظونه من أمر الله تعالى ذكره الماورديُّ . قال المهدوي : ومن جعل المعقِّبات : الحرس ، فالمعنى : يحفظونه من أمر الله على ظنه ، وزعمه . وقيل : سواء من أسر القول ، ومن جهر ، فله حراس ، وأعوان يتعاقبون عليه ، فيحملونه على المعاصي ، و " يَحْفظُونَهُ " من أن ينجع فيه وعظٌ . قال القشيريُّ : وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب ، وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار ، فيصير ذلك سبباً للعقوبة ، فكأنه الذي يحل العقوبة " . وقال عبد الرحمن بن زيد : " المعقِّبات : ما تعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده " . قال الماورديُّ : " ومن قال بهذا القول ، ففي تأويل قوله : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } وجهان : أحدهما : يحفظونه من الموت ما لم يأت أجله ، قاله الضحاك . الثاني : يحفظونه من الجنِّ ، والهوام المؤذية ، ما لم يأت قدرٌ ، قاله أبو أمامة ، وكعب الأحبارـ رضي الله عنهما فإذا جاء القدر خلوا عنه " . قوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } : من العافية والنعمة { حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } من [ الحالة الجميلة ] فيعصون ربَّهم . قال الجبائي ، والقاضي : هذه الآية تدلُّ على مسألتين : الأولى : أنَّه سبحانه لا يعاقبُ أطفال المشركين بذنوب آبائهم ؛ لأنَّهم لم يغيِّروا ما بأنفسهم من نعمه ، فيغير الله حالهم من النِّعمة إلى العذاب . الثانية : قالوا : الآية تدلُّ على بطلان قول المجبرة : إنَّه تعالى ابتدأ العبد بالضَّلال ، والخذلان أوَّل ما يبلغ ؛ لأنَّ ذلك أبلغ في العقاب ، مع أنَّه ما كان منه تغيير . قال ابن الخطيب : " والجواب أن ظاهر الآية يدل على أن فعل الله تعالى في التغيير يترتب على فعل العبد ، وقوله { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ التكوير : 29 ] يدلُّ على أن فعله مقدم على فعل العبد ، فوقع التَّعارض . وقوله تعالى : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } يدلُّ على أنَّ العبد غير مستقل بالفعل ، فلو كان العبد مستقلاً بتحصيل الإيمان ، لكان قادراً على ردّ ما أراد الله تعالى من كفره ، وحينئذٍ يبطل قوله : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } ؛ فثبت أنَّ الآية السابقة ، وإن أشعرت بمذهبهم إلا أن هذا من أقوى الدلائل على مذهبنا . روى الضحاك عن ابن عبَّاس رضي الله عنه ـ : لم تغن المعقبات شيئاً وقال عطاء عنه : لا رادّ لعذابي ، و لا ناقض لحكمي : { وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } ، أي : ليس لهم من دون الله من يتولاهم ، ويمنع قضاء الله عنهم ، أي : ما لهم والٍ يتولَّى أمرهم ، ويمنع العذاب عنهم . قوله : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ } " العامل في " إذَا " محذوف لدلالة جوابها عليه تقديره : لم يرد أو وقع ، أو نحوهما ، ولا يعمل فيها جوابها ؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعملُ فيما قبلها .