Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 18-20)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } الآية لما ذكر أنواع عذابهم بين بعده أن سائر أعمالهم تصير ضائعة باطلة ، وذلك هو الخسران الشديد . وفي ارتفاع : " مَثَلُ " أوجه : أحدها : وهو مذهب سيبويه أنَّه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ربهم ، وتكون الجملة من قوله : { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } مستأنفة جواباً لسؤالٍ مقدر ، كأنه قيل : كيف مثلهم ؟ فقيل : كَيْتَ وكَيْتَ " والمثل : مستعار للصفة التي فيها غرابة ، كقوله : صِفةٌ زيدٍ عِرْضهُ مصُونٍ ، ومالهُ مَبْذولٍ " . الثاني : أن يكون " مثل " مبتدأ ، و " أعمالهم " مبتدأ ثان ، و " كَرمَادٍ " خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر المبتدأ الأوَّل . قال ابن عطيَّة : " وهذا عندي أرجحُ الأقوال ، وكأنك قلت : المتحصل في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملة المذكورة " وإليه نحا الحوفي . قال أبو حيان : " وهو لا يجوز ؛ لأن الجملة التي وقعت خبراً للمبتدأ لا رابط فيها يربطها بالمبتدأ ، وليست نفس المبتدأ فيستغنى عن رابط " . قال شهابُ الدِّين رحمه الله ـ : " بل الجملة نفس المبتدأ ، فإن نفس مثلهم هو " أعْمَالهُمْ كَرمَادٍ " في أنَّ كلاًّ منهما لا يفيد شيئاً ، ولا يبقى له أثر ، فهو نظير قولك : " هِجِّيرى أبي بكرٍ لا إلهَ إلاَّ اللهُ " وإلى هذا الوجه ذهب الزمخشري أيضاً ؛ فإنه قال : " أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد ، كقولك : " صفةٌ زيْدٍ عرضهُ مصُون ومالهُ مَبذُول " فنفس عرضه مصون هو نفس صفة زيد " . الثالث : أنَّ " مَثَلُ " زائدة ، قاله الكسائي والفراء ، أي : الذين كفروا أعمالهم كرماد ، فـ " الَّذينَ " مبتدأ ، و " أعْمالهُمْ " مبتدأ ثان و " كَرَمادٍ " خبره ، وزيادة الأسماء ممنوعة . الرابع : أن يكون " مثلُ " مبتدأ ، و " أعْمَالهُم " بدل منه على تقدير : مثل أعمالهم و " كَرمَادٍ " الخبر ، قاله الزمخشري . وعلى هذا فهو بدل كلِّ من كلِّ على حذف مضاف كما تقدم . الخامس : أنه يكون " مثل " مبتدأ ، و " أعمالهم " بدلٌ منه بدل اشتمال و " كرماد " الخبر . كقول الزباءِ : [ الرجز ] @ 3204ـ مَا لِلْجمَالِ مَشْيهَا وَئيدَا أجَنْدَلاً يَحْملنَ أمْ حَديدَا @@ السادس : أن يكون التقدير : مثل أعمال الذين كفروا ، أو هذه الجملة خبراً لمبتدأ ، قال الزمخشريُّ . السابع : أن يكون " مَثَلُ " مبتدأ ، و " أعْمَالهُم " خبره ، أي : مثل أعمالهم فحذف المضاف ، و " كَرمَادٍ " على هذا خبر مبتدأ محذوف . وقال أبو البقاءِ حين ذكر وجه البدل : " ولو كان في غير القرآن لجاز إبدال " أعْمالهُمْ " من : " الَّذينَ " ، وهو بدل اشتمال " . يعنى أنَّه كان يقرأ " أعْمَالهُمْ " مجرورة لكنَّه لم يقرأ به . " والرَّمادُ معروف وهو ما سحقته النار من الأجرام ، وجمعه في الكثرة على رمُدٍ وفي القلة على أرْمِدةٍ ، كجَمادٍ وجُمُد وأجْمِدَة ، وجمعه على أرْمِدَاء شاذ " . والرَّمادُ : الشبه المحكم ، يقال : أرْمدَ الماءُ ، أي : صار بلونِ الرَّمادِ . والأرْمَدُ : مَا كَانَ على لَونِ الرَّمادِ ، وقيل للبعوض : رمدٌ لذلك ، ويقال : رمادٌ رَمْددٌ ، أي : صار هباء . قوله تعالى : { ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ } في محل جر صفة لـ " رَمَادٍ " ، و " فِي يَوْمٍ " متعلق بـ " اشْتَدَّتْ " وفي " عَاصِفٍ " أوجه : أحدها : أنه على تقرير : عاصف ريحه ، أو عاصف الريح ، ثم حذف الريح وجعلت الصفة لـ " يَوْم " مجازاً ، كقولهم : يَومٌ ماطرٌ ، وليْلٌ قَائمٌ . قال الهرويُّ : فحذفت لقتدم ذكرها ، كما قال : [ الطويل ] @ 3205ـ إذَا جَاءَ يَومٌ مُظلِمُ الشَّمسِ كَاسفٌ … @@ أي : كاسف الشمس . الثاني : أنه عائد على النِّسب ، أي : ذي عصوف ، كلابن وتامر . الثالث : أنه خفض على الجوار ، أي : كان الأصل أن يتبع العاصف الريح في الإعراب ، فيقال : اشتدت به الريحُ العاصفة في يومٍ ، فلمَّا وقع بعد اليوم أعرب بإعرابه ، كقولهم : " جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ " . وفي جعل هذا من باب الخفض على الجوار نظر ؛ لأنَّ من شرطه أني يكون بحيث لو جعل صفة لما قطع عن إعرابه ليصحَّ كالمثال المذكور ، وهنا لو جعلت صفة للريح لم يصحَّ لتخالفها تعريفاً ، وتنكيراً في هذا [ التركيب ] الخاص . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : [ " يَوْمٍ عَاصفٍ " ] وهني على حذف الموصوف ، أي : في يوم ريح عاصف ، فحذف لفهم المعنى الدال على ذلك . ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته عند من يرى ذلك نحو : " البَقْلةُ الحَمْقَاء " . ويقال : ريحٌ عاصفٌ ومُعْصِفٌ ، وأصله من العصف ، وهو ما يكبر من الزرع ، فقيل ذلك للريح الشديد ؛ لأنَّها تعصف ، أي : تكسر ما تمرُّ به , قوله : " لاَ يَقدِرُونَ " مستأنف ، ويضعف أن يكون صفة بـ " يَوْمٍ " على حذف العائدِ أي : لا يقدرون فيه ، و " ممَّا كَسبُوا " متعلق بمحذوف لأنه حالٌ من " شَيءٍ " إذ لو تأخر لكان صفة ، والتقدير : على شيء مما كسبوا . فصل وجه المشابهة بين هذا المثل وبين أعمالهم : هو أنَّ الريح العاصفة تُطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ، فكذا كفرهم يبطل أعمالهم ويحبطها بحيث لا يبقى من أعمالهم معه أثرٌ . واختلفوا في المراد بتلك الأعمال ، فقيل : ما عملوه من أعمال البرِّ كالصدقة ، وصلة الرحم ، وبر الواليدن ، وإطعام الجائع ، فتبطل وتحبط بسبب كفرهم بالله ، ولولا كفرهم لانتفعوا بها . وقيل : المراد بتلك الأعمال عبادتهم الأصنام ، وكفرهم الذي اعتقدوه إيماناً وطريقاً لخلاصهم ، وأتعبوا أبدانهم دهراً طويلاً لينتفعوا بها ، فصارت وبالاً عليهم . وقيل : المراد من أعمالهم كلا القسمين ؛ لأنَّ أعمالهم التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت ، والأعمال التي اعتقدوها خيراً ، وأفنوا فيها أعمالهم بطلت أيضاً ، وصارت في أعظم الموجبات لعذابهم ، ولا شك أنَّه يعظم حسرتهم وندامتهم ولذلك قال : { هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } . قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ } الآية لما بين بطلان أعمالهم بسبب كفرهم ، وإعراضهم عن قبول الحق ، وأنَّ الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداءً ، وكيف يليق بالحكمة أن يفعل ذلك والله تعالى ما خلق هذا العالم إلا لرعاية الحكمة والصواب . قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ } قرأ أبو عبد الرحمن رحمه الله تعالى : بسكون الراء ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف . والثاني : أنَّ العرب حذفت لام الكلمة عند عدم الجازم ، فقالوا : " ولوْ تَرَ مَا الصِّبْيَان " فلما دخل الجازم تخيلوا أنَّ الراء محل الجزم ، ونظيره " لَمْ أبَلْ " فإن أصله : أبالِي ، ثم حذفوا لامه رفعاً ، فلمَّا جزموه لم يعتدوا بلامه ، وتوهموا الجزم في اللام ، والرُّؤية هنا قلبية فـ " أنَّ " في محل المفعولين ، أو أحدهما على الخلاف . وقرأ الأخوان هنا : " ( خالق السماوات والأرض ) " خَالِقُ " اسم فاعل مضاف لما بعده فلذلك خفضوا ما عطف عليه ، وهو " الأرض " ، وفي " النور " : " خالقُ كُلِّ دابّةٍ " [ أية : 45 ] اسم فاعل مضاف لما بعده ، والباقون : " خَلَقَ " فعلاً ماضياً ، ولذلك نصبوا : " الأرْضَ " و { كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] وكسر " السَّمواتِ " في قراءة الأخوين خفض ، وفي قراءة غيرهما نصب ، ولو قيل : في قراءة الأخوين : يجوز نصب " الأرْضَ " على أحد وجهين ، إمَّا على المحل وإمَّا على حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، فتكون " السَّموات " منصوبة لفظاً وموضعاً لم يمتنع ولكن لم يقرأ به . و " بِالحقِّ " متعلق به " خَلَقَ " على أنَّ الباء سببيَّة ، أو بمحذوف على أنَّها حالية إمَّا من الفاعل ، أي : محقَّا ، أو من المفعول ، أي : متلبسة بالحق . قوله " بالحَقِّ " تقدم نظيره في يونس { مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [ يونس : 5 ] أي : لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح . ثم قال عزَّ وجلَّ { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } والمعنى : من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق ، فبأن يقدر على [ إفناء ] قوم إماتتهم وعلى إيجاد آخرين أولى ؛ لأنَّ القادر على الأصعب الأعظم ؛ يقدر على الأسهل الأضعف بطريق الأولى . قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ : هذا الخطاب مع كفَّار مكَّة يريد أميتكم يا معشر الكفَّار ، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم . { وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } أي : ممتنع لما ذكرنا من الأولوية .