Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 10-17)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً } لمَّا استدلَّ على وجود الصانع الحكيم بأحوال الحيوان ، أتبعه بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات . واعلم أنَّ الماء المنزَّل من السماء هو المطر وهو قسمان : أحدهما : الذي جعله الله شراباً لنا ، ولكل حيٍّ . فإن قيل : دلت الآية على أنَّ شراب الخلق ليس إلاَّ من المطرِ ، ومن المعلوم أنَّ الخلق يشربون من المياه التي في قعر الأرض ؛ وأجاب القاضي - رحمه الله - : بأنه تعالى بين أنَّ المطر شرابنا ، ولم ينفِ أن نشرب من غيره . وأجاب غيره : بأنه لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ما ينزل من السماء ؛ لقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ } [ المؤمنون : 18 ] ولا يمتنع أيضاً في العِذاب من الأنهار أن يكون أصلها من المطر . والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سبباً لتكوين النبات ، وهو قوله { وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } . قوله : " لَكُمْ " يجوز أن يتعلق بـ " أنْزَلَ " ويجوز أن يكون صفة لـ " مَاءً " فيتعلق بمحذوفٍ ، فعلى الأول يكون [ " شراب " مبتدأ ، و " منه " خبره مقدم عليه ، والجملة أيضاً صفة لـ " ماء " ، وعلى الثاني يكون " شراب " فاعلاً ] بالظرف ، و " مِنْهُ " حال من " شَرابٌ " ، و " مِنَ " الأولى للتبعيض ، وكذا الثانية عند بعضهم ، لكنَّه مجازٌ ؛ لأنَّه لما كان سقاه بالماء جعل كأنه من الماء ؛ كقوله : [ الرجز ] @ 3303 - أسْنِمَةُ الآبَالِ في رَبَابَهْ @@ أي : في سحابة ، يعني به المطر الذي ينبت به الكلأ الذي تأكله الإبل فتسمن أسنمتها . وقال ابنُ الأنباري - رحمه الله - : " هو على حذف مضافٍ إمَّا من الأول ؛ يعني قبل الضمير ، أي : ومن جهته أو سقيه شجر ، وإمَّا من الثاني ، يعني قبل شجر ، أي : شربُ شجرٍ أو حياة شجر " . وجعل أبو البقاءِ : الأولى للتبعيض ، والثانية للسببية ؛ أي : وبسببه إنباتُ شجرٍ ، ودل عليه قوله - سبحانه وتعالى - { يُنبِتُ لَكُم بِهِ ٱلزَّرْعَ } . والشجر ها هنا : كلُّ نباتٍ من الأرض حتَّى الكلأ ، وفي الحديث : " لا تَأكلُوا ثمنَ الشَّجرِ فإنَّهُ سُحْتٌ " يعني : الكلأ ينهى عن تحجر المباحاتِ المحتاج إليها ، وأنشدوا شعراً : [ الرجز ] @ 3304 - نُطْعِمُهَا اللَّحْمَ إذَا عَزَّ الشَّجَرْ @@ يريد : يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض ، قاله الزجاج . وقال ابن قتيبة في هذه الآية : المراد من الشجر : الكلأ . فإن قيل : قال المفسرون في قوله تعالى : { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] : إن المراد بالنجم : ما ينجم من الأرض ممَّا ليس له ساق ، ومن الشجر ما له ساق ، وأيضاً : عطف الشجر على النَّجم ؛ فيوجب مغايرة الشجر للنجم . فالجواب : أنَّ عطف الجنس على النوع وبالضدِّ مشهور وأيضاً : فلفظ الشجرِ يشعر بالاختلاط ، يقال : تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم ببعض ، وتشاجرتِ الرِّماح إذا اختلطت ، وقال تعالى : { حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] ، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب ، والكلأ ؛ فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه . وقيل المراد بالشجر ما له ساقٌ ؛ لأنَّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وإطلاق الشجر على الكلأ مجازٌ . قوله : { فِيهِ تُسِيمُونَ } هذه صفة أخرى لـ " مَاءً " ، والعامة على " تُسِيمُونَ " بضم التاء من أسام ، أي : [ أرسلها ] لترعى . وقرأ زيد بن علي بفتحها ، فيحتمل أن يكون متعدياً ، ويكون فعل وأفْعَل بمعنى ، ويحتمل أن يكون لازماً على حذف مضافٍ ، أي : تُسِيمُ مَواشِيكُمْ . يقال : أسمت الماشية إذا خلَّيتها ترعى ، وسامت هي تسُومُ سَوْماً ، إذا رعتْ حيثُ شاءتَ فهي سَوام وسَائِمَة . قال الزجاج - رحمه الله - : " أخذ ذلك من السومةِ وهي العلامة ؛ لأنَّها تؤثر في الأرض برعيها علاماتٍ " . وقال غيره : لأنها تعلَّم الإرسال والمرعى ، وتقدم الكلام في هذه المادة في آل عمران عند قوله تعالى : { وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ } [ الآية : 14 ] . قوله تعالى : { يُنبِتُ لَكُم } تحتمل هذه الجملة الاستئناف والتبعيَّة ، كما في نظيرتها ، ويقال : أنْبتَ الله الزَّرْعَ فهو منبُوت ، وقياسه : مُنْبَت . وقيل : أنْبتَ قد يجيء لازماً ، كـ " نَبَتَ " ؛ وأنشد الفراء : [ الطويل ] @ 3305 - رَأيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حولَ بُيوتهِمْ قَطِيناً لهُمْ حتَّى إذَا أنْبتَ البَقْلُ @@ وأباه الأصمعيُّ ؛ والبيت حجة عليه ، وتأويله : بـ " أنبت " البقل نفسه على المجاز بعيد جدًّا . وقرأ أبو بكر " نُنْبِتُ " بنون العظمة ، والزهري " تنَبِّتُ " بالتشديد ، والظاهر أنَّهُ تضعيف التَّعدي ، وقيل : بل للتَّكرير ، وقرأ أبي : " تُنْبُتُ " بفتح الياء وضمِّ الباءِ . " الزَّرْعَ " وما بعده رفع بالفاعلية ، وتقدم خلافُ القراء في رفع " الشَّمْس " وما بعدها ونصبها ، وتوجيه ذلك في سورة الأعراف . فصل النبات قسمان : أحدهما : لرعي الأنعام ؛ وهو المراد من قوله " تُسِيمُونَ " . والثاني : المخلوق لأكل الإنسانِ ؛ وهو المراد من قوله : { يُنبِتُ لَكُم بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ } . فإن قيل : إنه - تعالى - بدأ في هذه الآية بذكر مأكول [ الحيوان ] وأتبعه بذكر مأكولِ الإنسانِ ، وفي آية أخرى عكس الترتيب ؛ فقال : { كُلُواْ وَٱرْعَوْاْ أَنْعَامَكُم } [ طه : 54 ] فما الفائدة فيه ؟ . فالجواب : أنَّ هذه الآية مبنيَّةٌ على مكارم الأخلاق ؛ وهو أن يكون اهتمام الإنسانِ بمن يكون تحت يده ، أكمل من اهتمامه بنفسه ، وأمَّا الآية الأخرى ، فمبنيةٌ على قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ابْدَأ بِنفْسِكَ ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ " . فصل اعلم أنَّ الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء ، والغذاء ، إمَّا من الحيوانات ، وإمَّا من النبات ، والغذاء الحيوانيُّ أشرف من الغذاء النباتي ؛ لأنَّ تولد أعضاءِ الإنسانِ من [ أكل ] أعضاء الحيوان أسهل من تولدها من غذاء النبات ؛ لأنَّ المشابهة هناك أكمل وأتم ، والغذاء الحيواني إنما يحصل من إسامةِ الحيواناتِ وتنميتها بالرعي ؛ وهو الذي ذكره الله في الإسامةِ . وأمَّا الغذاء النباتيُّ ، فقسمان : حبوب ، وفواكه : أمَّا الحبوب ، فإليها الإشارة بقوله : " الزَّرْعَ " ، وأما الفواكه ، فأشرفها : الزيتونُ ، والنَّخيلُ ، والأعناب أما الزيتون ؛ فلأنه فاكهة من وجه ، وإدامٌ من وجه آخر ؛ لما فيه من الدهنِ ، ومنافع الدهنِ كثيرة : للأكلِ ، والطلاءِ ، وإشعالِ السِّراج . وأما امتياز النَّخيل والأعناب من سائر الفواكه ، فظاهر معلوم ، وكما أنَّه - تعالى - لما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل ، ثم وصف البقية بقوله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] فكذلك ههنا ، لمَّا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات ، قال في وصف البقية : { وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } تنبيهاً على أن تفصيل أنواعها ، وأجناسها ، وصفاتها ، ومنافعها ، ما لم يكن ذكره ، فالأولى أن يقتصر فيه على الكلام المجملِ ، ثم قال سبحانه وتعالى : { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . واعلم أن وجه الدَّلالة من هذه الآية على وجود الله - تعالى - : هو أنَّ الحبة الواحدة تقع في الطين ، فإذا مضى عليها زمنٌ معينٌ ، نفذت في تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ؛ فتنتفخ وتنشقُّ أعلاها وأسفلها ؛ فيخرج من أعلاها شجرة صاعدة إلى الهواء ، ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في [ قعرِ ] الأرض ؛ وهي عروقُ الشجرِ ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة لا تزال تزدادُ ، وتنمو وتقوى ، ثم يخرج منها الأوراق ، والأزهارُ ، والأكمام ، والثمار ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع ؛ كالعنب فإنَّ قشوره وعجمه باردان يابسان كثيفان ، ولحمه وماؤه حارٌ رطبٌ ، فنسبة هذه الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة ، ونسبة التأثيرات الفلكية ، والتحريكات الكوكبيَّة إلى الكلِّ متشابهة ، فمع تشابه هذه الأشياء ، ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع ، والطَّعم ، واللَّون ، والرائحة ، والصفة ؛ فدلَّ صريح العقل على أنَّ ذلك ليس إلا بفعل فاعل قادرٍ حكيمٍ رحيمٍ . وختم هذه الآية بقوله : { يَتَفَكَّرُونَ } لأنه تعالى ذكر أنَّه أنزل من السماءِ ماء ، فأنبت به الزرع ، والزيتون ، والنخيل ، والأعناب ، فكأنَّ قائلاً قال : لا نسلِّم أنه - تعالى - هو الذي أنبتها ، بل يجوز أن يكون حدوثها لتعاقبِ الفصولِ الأربعةِ ، وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب ، فما لم يقُم الدليل على فساد هذا الاحتمالِ لا يكون هذا الدليل وافياً بإفادة هذا المطلوب ، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً ، فلهذا ختم الآية بقوله : { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } الآية وهذه الآية هي الجواب عن السؤال المتقدم تقريره من وجهين : الأول : أن يقول : هبْ أن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مستندة إلى الاتِّصالات الفكليَّة إلاَّ أنه لا بدَّ لحركتها واتصالاتها من أسباب ، وأسباب تلك الحركات : إما ذواتها ، وإمَّا أمورٌ مغايرةٌ لها ، والأول باطل من وجهين : الأول : أنَّ الأجسام متماثلةٌ ، فلو كان الجسم علَّة لصفة ، لكان كل جسمٍ واجب الاتصاف بتلك الصفةِ ؛ وهو محالٌ . والثاني : أنَّ ذات الجسم لو كانت علَّة لحصول هذه الحركة ، لوجب دوامُ هذه الحركة بدوام تلك الذات ، ولو كان كذلك لوجب بقاءُ الجسم على حالةٍ واحدةٍ من غير تغيير أصلاً ؛ وذلك يوجبُ كونه ساكناً لذاته ، وما أفضى ثبوته إلى عدمه ، كان أصلاً باطلاً . فثبت أنَّ الجسم يمتنع أن يكون متحرِّكاً لكونه جسماً ، فبقي أن يكون متحركاً لغيره ، وذلك الغير : إمَّا أن يكون سارياً فيه ، أو مبايناً عنه ، والأول باطلٌ لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام ؛ فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها ، وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً ، عاد التقسيم الأول فيه ، وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً ، فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً ، والأول باطل لأنَّ نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على التسوية ؛ فلم يكن بعض الأجسام بقبولِ بعض الآثار المعينة أولى من بعض ؛ فثبت أنَّ محرك تلك الأفلاك والكواب هو الفاعل القادر المختار المنزَّهُ عن كونه جسماً ، وجسمانيًّا ؛ وذلك هو الله - تعالى - . فالحاصل أنَّا وإن حكمنا باستثناء حوادث العالم السفليِّ إلى الحركات الفلكية والكوكبية ، فهذه الحركاتُ الفلكية لا يمكن إسنادها إلى [ أفلاكٍ أخرى ] ؛ وإلاَّ لزم التَّسلسلُ ؛ وهو محالٌ ؛ فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله - تعالى - وإذا كان كذلك ، كان هذا اعترافاً بأنَّ الكُلَّ من الله - تبارك وتعالى - وبإحداثه وتخليقه ، وهذا هو المراد من قوله عز وجل : { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } يعني : أنَّ تلك الحوادث كانت لأجل تعاقبِ الليل والنَّهار ، وحركاتِ الشَّمس والقمر ، فهذه الأشياء لا بدَّ وأن يكون حدوثها بتخليق الله - تعالى - وتسخيره ؛ قطعاً للتسلسل . ولمَّا تم هذا الدليل ، ختم الآية بقوله : { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : كلّ عاقل يعلم أنَّ القول بالتسلسل باطل ، وأنه لا بدَّ من الانتهاءِ إلى الفاعل المختار . والجواب الثاني عن ذلك السؤال : أنَّ تأثير الطبائع ، والأفلاك ، والكواكب ؛ بالنسبة إلى الكلِّ واحد ، ثمَّ إنَّا نرى تولد العنب : قشره على طبع ، وعجمه على طبعٍ ، ولحمه على طبع ثالثٍ ، وماؤه على طبع رابع ، ونرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصُّفرةِ ، والوجه الثاني من تلك الورقةِ في غاية الحمرة ، وتلك الورقة في غاية الرقة واللَّطافة ، ونعلم بالضرورة أنَّ نسبة الأنجم ، والأفلاكِ ، إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة نسبة واحدة ، والطبيعة الواحدة هي المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً ؛ ألا ترى أنهم قالوا : شكل البسيط هو الكرة ؛ لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً ، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة ، وأيضاً إذا أضأنا الشمع ، فإذا استضاء خمسة أذرع من ضوء ذلك الشمع من أحد الجوانب ، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب ؛ لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب ، وإذا ثبت هذا ، فنسبة الشمس ، والقمر ، والأنجم ، والأفلاك ، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة ، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة ، وثبت أنَّ الطبيعة المؤثرة ، متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً ، وثبت أنَّ الأثر غير متشابهٍ ؛ لأنَّ أحد وجهي تلك الورقة في غاية الصفرة ، والوجه الثاني منها في غاية الحمرة ، وهذا يفيد القطع بأنَّ المؤثِّر في حصول تلك الصفات ، والألوان ، والأحوال - ليس هو الطبيعة ؛ بل الفاعل فيها هو الفاعل المختار الحكيم ، وهو الله - تعالى - وهذا هو المراد من قوله تعالى : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } . ولما كان مدار هذه الحجَّة على أنَّ المؤثر الموجب بالذاتِ وبالطبيعةِ ، يجب أن تكون نسبته إلى الكل متشابهة - لا جرم ختم الآية بقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } فلمَّا دلَّ الحسُّ في هذه الأحكام النباتيَّة على اختلاف صفاتها ، وتنافر أحوالها - على أنَّ المؤثِّر فيها ليس هو الطبيعة - ظهر أنَّ المؤثر فيها ليس موجباً بالذاتِ ؛ بل الفاعل المختار - سبحانه وتعالى - . فإن قيلك لا يقال : سخَّرتُ هذا الشيء مسخَّراً . فالجواب : أنَّ المعنى : أنه - تعالى - سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرةً تحت قدرته وإذنه . فإن قيل : التسخيرُ عبارة عن القهر والقسر ، ولا يليق ذلك إلاَّ بمن هو قادر يجوز أن يقهر ؛ فكيف يصحُّ ذلك في اللَّيل والنهار ، وفي الجمادات ؛ كالشمس والقمر ؟ . فالجواب من وجهين : الأول : أنه - تعالى - لما دبَّر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد ، صارت شبيهة بالعبدِ المنقادِ المطواع ؛ فلهذا المعنى أطلق على هذا النَّوع من التَّدبير لفظ التَّسخيرِ . والجواب الثاني : لا يستقيمُ إلاَّ على مذهب علماء الهيئة ؛ لأنهم يقولون : الحركة الطبيعية للشمس والقمر ، هي الحركة من المغرب إلى المشرقِ ، والله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب ، فكانت هذه الحركة قسرية ؛ فلذلك أطلق عليها لفظ التسخير . فإن قيل : إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس ؛ كان ذكر الليل والنهار مغنياً عن ذكر الشمس ، فالجواب : حدوث النهار واللّيل ليس بسبب [ حدوث ] حركةِ الشمس ؛ بل حدوثهما سبب حركة الفلك الأعظم الذي دلَّ الدليل على أن حركته ليست إلا بتحريكِ الله - تعالى - وأما حركةُ الشمسِ ، فَإنَّها علة لحدوث السنة ، لا لحدوث اليومِ . فإن قيل : المؤثر في التسخير هو القدرة ، لا الأمر ؛ فكيف قال الله : { مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } ؟ . فالجواب : هذه الآية مبنيّة على أنَّ الأفلاك والكواكب جماداتٌ ، أم لا ، وأكثر المسلمين على أنَّها جمادات ؛ فلهذا حملوا الأمر في هذه الآيةِ على الخلق [ والتقدير ] ، ولفظ الأمر بمعنى الشَّأنِ والفعل كثيرٌ ؛ قال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] . ومنهم من قال : إنها ليست بجماداتٍ ، فههنا يحمل الأمر على الإذنِ والتكليفِ . قوله : { وَمَا ذَرَأَ } عطف على الليل والنهار ؛ قاله الزمخشري ؛ يعني : ما خلق فيها من حيوانٍ وشجر . وقال أبو البقاء : " في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ ؛ أي : وخلق ، أو أنبت " . كأنه استبعد تَسلطَ " وسَخَّرَ " على ذلك ؛ فقدَّر فعلاً لائقاً ، و " مُخْتلِفاً " حال منه ، و " ألْوانهُ " فاعل به . وختم الآية الأولى بالتفكُّر ؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأملٍ ونظر ، والثانية بالعقل ؛ لأنَّ مدار ما تقدم عليه ، والثالثة بالتذكر ؛ لأنه نتيجة ما تقدم . وجمع " آيَاتٍ " في الثانية دون الأولى والثالثة ؛ لأنَّ ما يناط بها أكثر ؛ ولذلك ذكر معها الفعل . قوله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا } الآية لما استدلَّ على إثباتِ الإله أولاً بأجرامِ السَّمواتِ ، وثانياً ببدن الإنسان ، وثالثاً بعجائبِ خلق الحيوانات ، ورابعاً بعدائب النبات - ذكر خامساً عجائب العناصرِ فبدأ بالاستدلال بعنصر الماءِ . قال علماء الهيئةِ : ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة بالماءِ ، وذلك هو البحر المحيط ، وحصل في هذا الرابع المسكون سبعة أبحرٍ ؛ قال تعالى : { وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [ لقمان : 27 ] والبحر الذي سخره الله للناس هو هذه البحار ، ومعنى تسخيرها للخلق : جعلها بحيث يتمكن [ الناس ] من الانتفاع بها : إمَّا بالركوبِ ، أو بالغوصِ . واعلم أنَّ منافع البحارِ كثيرةٌ ، فذكر منها - تعالى - هنا ثلاثة أنواعٍ : الأول : قوله تعالى { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا } يجوز في " منهُ " تعلقه بـ " لِتَأكُلوا " وأن يتعلق بمحذوفٍ ؛ لأنه حال من النكرة بعده ، و " مِنْ " لابتداءِ الغاية أو للتبعيض ، ولا بدَّ من حذف مضافٍ ، أي : من حيوان ، و " طَريًّا " فعيلٌ من : طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً ؛ كـ " سَرُوَ يَسْرُو سَرَاوَة " . وقال الفراء : [ بل يقال : ] " طَرِيَ يَطْرَى طَرَاءً ممدوداً وطَراوَةً ؛ كما يقال : شَقِيَ يَشْقَى شَقاءً وشَقاوةً " . والطَّراوَةُ ضد اليُبوسَةِ أي : غضًّا جديداً ، ويقال : طَريْتُ كذا ، أي : جدَّدْتهُ ، ومنه الثياب المُطرَّاة ، والإطْراءُ : مدحٌ تجدَّد ذكرهُ ؛ وأمَّا " طَرَأ " بالهمز ، فمعناه : طَلَعَ . قال ابن الأعرابي - رحمه الله - : لحمٌ طَريٌّ غير مهموز ، وقد طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً . فصل اعلم أنَّه - تعالى - لما أخرج من البحر الملح الزُّعاقِ الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة ، علم أنَّه إنَّما حدث لا بحسبِ الطب ؛ بل بقدرة الله - تعالى - وحكمته بحيث أظهر الضد من الضدِّ . فصل لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السَّمك ، قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : لا يحنثُ ؛ لأنَّ لحم السَّمك ليس بلحم . وقال آخرون : يحنثُ لأنَّ الله - تعالى - نصَّ على تسميته لحماً ، وليس فوق بيان الله بيانٌ . روي أنَّ أبا حنيفة - رضي الله عنه - لما قال بهذا ، وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك محتجاً بهذه الآية ؛ فبعث إليه أبو حنيفة رجلاً وسأله عن رجلٍ حلف لا يصلِّي على البساطِ فصلَّى على الأرضِ ، هل يحنث أم لا ؟ . فقال سفيان - رحمه الله - : لا يحنثُ ، فقال السائل : أليس أنَّ الله - تعالى - قال : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً } [ نوح : 19 ] قال : فعرف سفيان أنَّ ذلك بتلقين أبي حنيفة - رضي الله عنه - قاله ابن الخطيب . وهذا ليس بقويِّ ؛ لأنَّ أقصى ما في الباب أنَّا تركنا العمل بظاهرِ القرآنِ في لفظ البساط لدليل قام ، فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى من غير دليل ، والفرق بين الصورتين من وجهين : الأول : أنه لما حلف لا يصلِّي على البساط ، فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساطِ ؛ لزمنا أن نمنعه من الصلاة ؛ لأنه إن صلَّى على الأرض حنث ، وإن صلَّى على البساط حنث ، بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظِ اللحم ؛ لأنه ليس في منعه من أكل اللَّحم على الإطلاق محذورٌ . الثاني : أنَّا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة ، أنَّ وقوع اسم البساط على الأرض مجازٌ ولم نعرف أن وقوع اسم اللحم على لحم السمك مجاز وحجة أبي حنيفة - رضي الله عنه - : أنَّ الأيمان مبناها على العرف ؛ لأن الناس إذا ذكروا اللحم على الإطلاقِ ، لا يفهم منه لحم السَّمك ؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه : " اشْترِ بهذا الدِّرهمِ لحماً " فجاء بلحمِ سمكٍ استحق الإنكار . والجواب : أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ ، وتارة تعتبرون المعنى ، وتارة تعتبرون العرف ، وليس لكم ضابط ؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه : اشتر بهذا الدرهم لحماً فجاء بلحم العصفور استحق الإنكار ، مع أنَّكم تقولون : إنه يحنث بأكل لحم العصفور ؛ فثبت أنَّ العرف مضطربٌ ، والرجوع إلى نصِّ القرآن متعين . النوع الثاني من منافع البحر : قوله : { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } " الحليةُ : اسم لما يتحلَّى به ، وأصلها الدَّلالةُ على الهيئة ؛ كالعِمَّة والخِمرة " . " تَلْبَسُونهَا " صفة ، و " مِنْهُ " يجوز فيه ما جاز في " مِنْهُ " قبل ، والمراد بالحلية : اللؤلؤ والمرجان . فصل المراد : يلبسهم لبس نسائهم ؛ لأنَّهن من جملتهم ، ولأنَّ تزينهنَّ لأجلهم فكأنها زينتهم ، وتمسك بعض العلماءِ في عدم وجوب الزكاةِ في الحليِّ المباح لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا زَكَاةَ في الحُلِيّ " . ويمكن أن يجاب على تقدير صحَّة الحديث : بأنَّ لفظ " الحُلِيّ " مفرد محلى بالألف واللام ؛ فيحمل على المعهود السابق ، وهو المذكور في هذه الآية ، فيصير تقدير الحديث : لا زكاة في اللآلىء ، وحينئذٍ يسقط الاستدلال بالحديث . النوع الثالث من منافع البحر : قوله تعالى : { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } قال أهل اللغة : مَخْرُ السَّفينةِ شقُّها الماء بصدرها . وعن الفراء : أنه صوتُ جَرْي الفلك بالرِّياحِ . إذا عرفت هذا ، فقول ابن عبَّاسٍ : " مَواخِرَ " أي : جَوارِي ، إنما حسن التفسير به ؛ لأنها لا تشقُّ الماء إلاَّ إذا كانت جارية . وقوله تعالى : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني : لتركبوه للتجارة ؛ فتطلبوا الريح من فضل الله ، وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه ؛ فلعلكم تقدمون على شكره . قال القرطبي : امتنَّ الله على الرِّجالِ والنساء امتناناً عامًّا بما يخرج من البحر ، فلا يحرم عليهم شيء منه ، وإنَّما حرَّم الله - تعالى - على الرجال الذهب والحرير . قال - صلوات الله وسلامه عليه - في الحرير والذهب : " هَذا حَرامٌ على ذُكورِ أمَّتِي حلٌّ لإنَاثهَا " . وروى البخاريُّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اتَّخذَ خاتماً من فضَّة ونقش فيه محمَّد رسول الله . فصل من حلف لا يلبس حلياً ، فلبس لؤلؤاً لم يحنث ، وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - . وقال بعض المالكية : " هذا ، وإن كان الاسم اللغويُّ يتناوله فلم يقصده باليمين ، والأيمان مبنية على العرف ، ألا ترى أنه لو حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث وكذلك لو حلف لا يستضيء بسراج ، وجلس في ضوء الشمس لا يحنث ، وإن كان الله سمى الأرض فراشاً والشمس سراجاً " . قوله : { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ } ، " تَرَى " جملة معترضة بين التعليلين : وهما " لِتأكُلوا " ، " ولِتَبْتغُوا " ، وإنما كانت اعتراضاً ، لأنه خطاب لواحدٍ بين خطابين لجمعٍ . و " فِيهِ " يجوز أن يتعلَّق بـ " تَرَى " وأن يتعلق بـ " مَوَاخِرَ " لأنها بمعنى شواقٍّ ، وأن يتعلق بمحذوفٍ ؛ لأنه حال من " مَواخِرَ " أو من الضمير المستكنِّ فيه . و " مَواخِرَ " جمع مَاخِرَة ، والمَخْرُ : الشقُّ ، يقال : مَخرتِ السَّفينةُ البَحْرَ ، أي : شقَّتهُ ، تَمْخرُه مَخْراً ومُخوراً ، ويقال للسُّفنِ : بَناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ ، بالميم والباء بدل منها . وقال الفراء : هُوَ صوتُ جري الفلك ، وقيل : صوتُ شدَّة هُبوبِ الرِّيح ، وقيل بنات مَخْر لسحاب [ ينشأ ] صيفاً ، وامْتخَرْتَ الرِّيحَ واسْتَخْرْتَهَا : إذا استقبلتها بأنفك . وفي الحديث : " اسْتَمخِرُوا الرِّيحَ وأعِدُّوا النبْلَ " يعني في الاستنجاءِ ، أي : ينظر أين مجراها وهبوبها ؛ فليستدبرها ؛ حتَّى لا يرد عليه البول . والمَاخُورُ : الموضع الذي يباع فيه الخمر ، و " تَرَى " هنا بصرية فقط . قوله { وَلِتَبْتَغُواْ } فيه ثلاثة أوجهٍ : أحدها : عطفٌ على " لِتَأكُلوا " وما بينهما اعتراضٌ كما تقدم ، وهذا هو الظاهر . وثانيها : أنه عطفٌ على علَّةٍ محذوفةٍ ، تقديره : لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ، ذكره ابن الأنباري . وثالثها : أنه متعلق بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فعل ذلك لتبتغوا . وفيهما تكلُّف لا حاجة إليه . ومعنى { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني : لتركبوها للتجارة ؛ لتطلبوا الرِّبْحَ من فضلِ الله ، فإذا وجدتم فضل الله فلعلكم تشكرونه . قوله تعالى : { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } والمقصود منه : ذكرُ بعض النعم التي خلقها الله في الأرض ، وتقدم ذكر الرواسي . قوله { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي : كراهة أن تميدَ ، أو لئلاَّ تميد ، أي : تتحرَّك ، والميدُ : هو الاضطرابُ [ والتكفؤ ] ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحرِ : ميدٌ . قال وهب : " لما خلق الله الأرض جعلت تمورُ ؛ فقالت الملائكة : إنَّ هذه غير مقرَّة أحدٍ على ظهرها ، [ فأصبحت ] وقد أُرسيتْ بالجبالِ ، فلم تدر الملائكة ممَّ خلقت الجبال ؛ كالسفينة إذا ألقيت في الماءِ ، فإنها تميل من جانب إلى جانب ، وتضطرب ، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة فيها ، استقرت على وجه الماء " . قال ابن الخطيب - رحمه الله - وهذا مشكلٌ من وجوهٍ : الأول : أنَّ هذا التعليل ؛ إمَّا أن يكون مع القولِ بأن حركاتِ هذه الأجسام بطبعها ، أو ليست بطبعها ؛ بل هي واقعةٌ بتحريكِ الفاعل المختارِ ، أمَّا على التقدير الأول فمشكلٌ ؛ لأن الأرض أثقل من الماءِ ، والأثقل من الماء يغوص في الماءِ ، ولا يبقى طافياً عليه ، وإذا لم يبق طافياً ، امتنع أن يقال : إنَّها تميلُ ، وتميدُ وتضطرب ، وهذا بخلافِ السفينة ؛ لأنها متخذة من الخشب ، وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء ، فلهذا السَّبب تبقى الخشبةُ طافية على الماء ، [ فحينئذ ] تميل وتميد وتضطرب على وجه الماء ، فإذا أرسيت بالأجرام الثقيلة ، استقرت وسكنت ؛ فافترقا . وأمَّا على التقدير الثاني : وهو أنَّه ليس للأرض والماء طبع يوجب الثقل والرسوب ، وإنَّما - الله تعالى - أجرى عادته بجعلها كذلك ، وصار الماء محيطاً بالأرض لمجردِ إجراءِ العادة ، وليس ههنا طبيعة للأرض ، ولا للماء ، توجب حالة مخصوصة ، فعلى هذا التقدير ؛ علَّة سكون الأرض : هي أنَّ الله - تعالى - خلق فيها السكون . وعلة كونها مائدة مضطربة : هي أنَّ الله يخلق فيها الحركة ، وعلى هذا ، فيفسد القول بأنَّ الأرض كانت مائدة مائلة ، فخلق الله تعالى الجبال وأرساها بها ؛ لتبقى ساكنة ؛ لأنَّ هذا إنما يصح إذا كانت طبيعة الأرض توجبُ الميلان ، وطبيعة الجبال توجبُ الإرساء ، والثبات ، ونحن نتكلم على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال ، فثبت أن هذا التعليل مشكلٌ على كلِّ تقديرٍ . الثاني : أنَّ إرساء الأرض بالجبال إنَّما كان ؛ لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء ساكنة من غير أن تميد وتميل ، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً . فنقول : فما المقتضي لسكونه في ذلك الحيِّز المخصوص ؟ فإن كان طبعه المخصوص أوجب وقوفه في ذلك الحيز المعين ، فلم لا نقولُ مثله في الأرض ؟ وهو أنَّ طبيعة الأرض المخصوصة أوجبت وقوفها في ذلك الحيِّز المعيَّن ، وحينئذٍ يفسد القول بأنَّ الأرض إنما وقفت ؛ بسبب أنَّ الله أرساها بالجبال ، وإن كان المقتضي لسكون الماء في حيِّزه المعين ، هو أنَّ الله - تعالى - سكَّن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص ، فلم لا نقول مثله في سكون الأرض ؟ وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً . الثالث : أنَّ الأرض كلها جسم ، فبتقدير أن تميل وتضطرب على وجه البحر المحيط ، فلم لم تظهر تلك الحالة للناس ؟ . فإن قيل : أليس أنَّ الأرض تحرِّكها البخارات المحتبسة في داخلها عند الزلزال ، وتظهر تلك الحركات للناس ، فبم تنكرون على من يقول : إنه لولا الجبال لتحركت الأرض ، إلاَّ أنَّه - تعالى - لما أرساها بالجبال الثقالِ ، لم تقو الريحُ على تحريكها ؟ . قلنا : تلك البخارات احتبست في [ داخل ] قطعة صغيرة من الأرض ، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة ، ظهرت تلك الحركة ، فظهور تلك الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضوٍ معينٍ من بدن الإنسانِ ، أما لو تحركت كلية الأرض لم تظهر تلك الحركةُ ؛ ألا ترى أنَّ الساكن في السفينة لا يحسُّ بحركة كليةِ السفينة ، وإنْ كانت على أسرع الوجوه ، وأقواها ، فكذا ها هنا . قال ابن الخطيب - رحمه الله - : والذي عندي ههنا أن يقال : ثبت بالدلائل اليقينية أنَّ الأرض كرة ، وثبت أنَّ الجبال على سطح الكرة جاريةٌ مجرى خشوناتٍ تحصل على وجه هذه الكرة . وإذا ثبت هذا فنقول : لو فرضنا أنَّ هذه الخشوناتِ ما كانت حاصلة ؛ بل كانت الأرض كرة حقيقية ، خالية عن الخشونات ، والتضريسات - لصارت بحيث تتحركُ بالاتسدارة بأدنى سبب ؛ لأنَّ الجرم البسيط المستدير : إمَّا ن يجب كونه متحركاً بالاستدارة ؛ وإن لم يجب ذلك عقلاً ، إلاَّ أنَّها بأدنى سبب تتحركُ على [ هذا الوجه ] ، فلما حصل على ظاهر سطح الكرة من الأرض هذه الجبال ، وكانت الخشونات الواقعة على وجهِ الكرةِ ، فكل واحدٍ من هذه الجبال إنَّما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم ، وتوجُّه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم ، وقوته الشديدة ، يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة ، فكان تخليقُ هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتادِ المغروزةِ في الكرة المانعة من الحركة المستديرة ، فكانت مانعة للأرض من المَيْدِ ، والمَيْلِ ، والاضطرابِ ، بمعنى أنها منعت الأرض من الحركةِ المستديرة والله أعلم . قوله : " وأنْهَاراً " عطف على " رَواسِيَ " ؛ لأنَّ الإلقاء بمعنى الخلقِ ، وادَّعى ابن عطيَّة رحمه الله : أنَّه منصوب بفعلٍ مضمرٍ ، أي : وجعل فيها أنهاراً . وليس كما ذكر . وقيل : الإلقاءُ معناه الجعلُ ، قال تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا } [ فصلت : 10 ] وقدره أبو البقاء : " وشقَّ فيها أنْهاراً " وهو مناسبٌ . واعلم أنَّه ثبت في العلوم العقليَّة ، أنَّ أكثر الأنهار إنما يتفجرُ منابعها في الجبال ، فلهذا [ السبب ] لمَّا ذكر الجبال ، أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار . قوله " وسُبُلاً " أي : وذلَّل ، أو وجعل فيها طرقاً ؛ لتهتدوا بها في أسفاركم ؛ كقوله تعالى : { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } [ طه : 53 ] إلى ما تريدون . وقوله : { وَعَلامَاتٍ } أي : وضع فيها علاماتٍ . قوله : " وبِالنَّجْمِ " متعلق بـ " يَهْتَدُون " والعامة على فتح النون ، وسكون الجيم ، بالتوحيد ، فقيل : المراد به : كوكب بعينه وهو الجَدْي أو الثُّريَّا . وقيل : بل هو اسم جنس ، وقرأ ابنُ وثَّاب : بضمهما ، والحسن : بضمِّ النون فقط ، وعكس بعضهم النقل عنهما . فأمَّا قراءة الضمتين ، ففيها تخريجان : أظهرهما : أنه جمع صريح ؛ لأنَّ فعلاء يجمع على فعل ؛ نحو : " سَقْفٌ وسُقُف ، وزَهْر وزُهُر " . والثاني : أنَّ أصله النجوم ، وفعل يجمع على فعول ؛ نحو : فَلْس وفُلُوس ، ثم خفِّف بحذف الواو ، كما قالوا : أسُد وأسُود وأسْد . قال أبو البقاء : وقالوا في " خِيَام : خُيُم " يعني أنَّه نظيرهُ من حيث حذفوا فيه حرف المدِّ . وقال ابن عصفورٍ : " إنَّ قولهم : " النُّجُم " من ضرورات الشِّعر " وأنشد : [ الرجز ] @ 3306 - إنَّ الذي قَضَى بِذَا قاضٍ حَكمْ أن تَرِدَ الماءَ إذَا غَابَ النُّجُمْ @@ يريد النجوم . كقوله : [ الرجز ] @ 3307 - حَتَّى إذَا بُلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ @@ يريد الحُلُوق . وأمَّا قراءة الضمِّ ، والسكون ، ففيها وجهان : أحدهما : أنها تخفيف من الضمِّ . والثاني : أنها لغة مستقلة . وتقديم كلِّ من الجارِّ ، والمبتدأ ، يفيد الاختصاص ، قال الزمخشريُّ - رحمه الله - : " فإن قلت : قوله تعالى : { وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } مخرج عن سنن الخطاب مقدم فيه " النجم " مقحم فيه " هُمْ " كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً ، فمن المراد بهم ؟ . قلت : كأنه أراد قريشاً كان لهم اهتداءٌ بالنجوم في مسائرهم ، وكان لهم به علمٌ لم يكن لغيرهم ؛ فكان الشكر عليهم أوجب ، ولهم ألزم " . وقال بعض المفسرين : قوله تعالى : { وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } مختصٌّ بسفرِ البحر ؛ لأنه تعالى لما ذكر صفة البحر ، ومنافعه ، بيَّن أنَّ من يسير فيه يهتدون بالنجم . وقال بعضهم : هو مطلقٌ في سفر البحر والبرِّ . فصل في المراد بالعلامات المراد بالعلاماتِ : معالمُ الطريق ، وهي الأشياء التي يهتدى بها ، وهذه العلامات هي الجبالُ والرياحُ . قال ابنُ الخطيب : " ورايتُ جماعة يشمُّون التراب ؛ فيعرفون الطرقان بشمِّه " . قال الأخفش - رحمه الله - : تم الكلام عند قوله : " وعَلامَاتٍ " ثم ابتدأ : { وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } . وقال محمد بن كعبٍ القرظيِّ ، والكلبيُّ - رحمهما الله - : الجبالُ علاماتُ النَّهار ، والنجوم علامات الليل . قال السديُّ : أراد بالنجم : الثُّريَّا ، وبنات نعش ، والفرقدين ، والجدي ، يهتدى بها إلى الطرق ، والقبلة . قال القرطبيُّ : " سأل ابنُ عباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم - عن النَّجم ؛ فقال - صلوات الله وسلامه عليه - : هُوَ الجَديُ عليْهِ قِبْلتكُمْ وبِهِ تَهْتَدونَ في بَرِّكُمْ وبَحْرِكُمْ " ، وذلك أنَّ آخر الجدي بناتُ نعشٍ الصغرى ، والقطب الذي تستوي عليه القبلة بينهما . قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } الآية لمَّا ذكر الدَّلائلَ الدالة على وجود الإله القادر الحكيم ، أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله - تعالى - والمقصود أنَّه لما دلت الدلائل [ القاهرة ] على وجود إله قادرٍ حكيمٍ ، وثبت أنَّه هو المُولِي لجميع هذه النعم ، والمعطي لكلِّ هذه الخيراتِ ، فكيف يحسنُ في العقولِ الاشتغال بعبادة غيره ، لا سيَّما إن كان غيره جماداً لا يفهم ، ولا يعقل ؟ . فلهذا قال تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ } هذه الأشياء التي ذكرناها { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } ، أي كمن لا يقدر على شيء ألبتة ؛ { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } فإنَّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبُّر ، ونظر ؛ بل يكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم ، من أنَّ العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم ، وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعم العظيمة ومع ذلك فتعلمون أنَّ عبادته تقبح ، فهذه الأصنام جمادات محضة ، ليس لها فهمٌ ، ولا قدرة ولا إحساس ، فكيف تعبدونها ؟ . قوله { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } إن أريد بـ { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } جميع ما عبد من دون الله ، كان ورود " مَنْ " واضحاً ؛ لأنَّ العاقل يغلب على غيره ، فيعبر عن الجميع بـ " مَنْ " ولو جيء أيضاً بـ " ما " لجاز ، وإن أريد به الأصنام ، ففي إيقاع " مَنْ " عليهم أوجهٌ : أحدها : إجراؤهم لها مجرى أولي العلم في عبادتهم إيَّاها ، واعتقادِ أنَّها تضرُّ ، وتنفع كقول الشاعر : [ الطويل ] @ 3308 - بَكيْتُ إلى سِرْبِ القَطَا إذْ مَرَرْنَ بِي فقُلْتُ : ومِثْلِي بالبُكَاءِ جَدِيرُ أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَناحَهُ ؟ لَعلِّي إلى مَنْ قَدْ هَويتُ أطِيرُ @@ فأوقع " مَنْ " على السرب ، لمَّا عاملها معاملة العقلاء . الثاني : المشاكلة بينه وبين " مَنْ يَخْلقُ " . [ الثالث : تخصيصه بمن يعلم ، والمعنى : أنه إذا حصل التباين بين من يخلق ] وبين " مَنْ لا يخلقُ " من أولي العلم ، وأنَّ غير الخالق لا يستحقُّ العبادة ألبتة ، فكيف يستقيم عبادة الجمادِ المنحطِّ رتبة ، السَّاقط منزلة عن المخلوقِ من أولي العلم ؛ كقوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] إلى آخره ؛ وأمَّا من يجيز إيقاع " مَنْ " على غيرِ العقلاءِ من غير شرطِ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويل . قال الزمخشري - رحمه الله - : فإن قلت : هو إلزامٌ للذين عبدوا الأوثان ، ونحوها ؛ تشبيهاً بالله تعالى - جلَّ ذكره - وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق - سبحانه لا إله إلا هو - فكان حقُّ الإلزامُ أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق . قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله عز وجل ، بتسميتهم والعبادة له ، جعلوا الله من جنسِ المخلوقات ، وتشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } . فصل في الاحتجاج بالآية احتجَّ أهل السنَّة بهذه الآية على أنَّ العبد غير خالقٍ لأفعالِ نفسه ؛ لأنَّه سبحانه - عز وجل - ميَّز نفسه عن الأشياءِ التي يعبدونها بصفة الخالقية ؛ لأنَّ الغرض من قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } بيان تميُّزه عن الأصنام بصفة الخالقية ، وأنَّه إنَّما يستحق الإلهية ، والمعبوديَّة ؛ لكونه خالقاً ، وهذا يقتضي أنَّ العبد لو كان خالقاً لشيءٍ ؛ وجب أن يكون إلهاً معبوداً ، ولما كان ذلك باطلاً ، علمنا أنَّ العبد لا يقدر على الخلق ، والإيجاد . أجاب المعتزلة من وجوه : الأول : المراد من قوله تعالى { أَفَمَن يَخْلُقُ } ما تقدم ذكره من السماوات والأرض ، والإنسان ، والحيوان ، والنبات ، والبحار ، والنجوم ، والجبال ، كمن لا يقدر على خلق شيءٍ أصلاً ، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً لهذه الأشياءِ ؛ فإنه يكون إلهاً ، ولم يلزم منه أنه إن قدر على خلق أفعال نفسه أن يكون إلهاً . الثاني : أنَّ معنى الآية : أنَّ من كان خالقاً كان أفضل ممَّن لا يكون خالقاً ، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهيَّة ، والمعبوديَّة ، وهذا القدر لا يدلُّ على انَّ كلَّ من كان خالقاً ؛ فإنَّه يجب أن يكون إلهاً ؛ لقوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] . ومعناه أنَّ الذي له رجلٌ يمشي بها يكون أفضل من الذي له رجلٌ لا يمشي بها ، وهذا يوجب كون الإنسان أفضل من الصَّنم ، والأفضل لا يليقُ به عبادة الأخسِّ . فهذا هو المقصود من هذه الآية ، ثم إنها لا تدل على أن من له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً ، فلذلك ها هنا المقصود من هذه الآية : أنَّ الخالق أفضل من غير الخالق ، فيمتنع التسويةُ بينهما في الإلهية والمعبودية ، ولا يلزم منه أنَّه بمجرَّد حصول صفة الخالقيَّة يكون إلهاً . الثالث : أنَّ كثيراً من المعتزلةِ لا يطلقون لفظ الخالق على العبد . قال الكعبيُّ في تفسيره : إنا لا نقول : إنا لا نخلق أفعالنا ، ومن أطلق ذلك ققد أخطأ ؛ إلاَّ في مواضع ذكرها الله تعالى ؛ كقوله تعالى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ } [ المائدة : 110 ] ؛ وفي قوله عز وجل : { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] واعلمْ أنَّ أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حقيقة ؛ حتَّى إنَّ أبا عبد الله البصري بالغ وقال : إطلاقُ لفظ الخالق حقيقة على العبد ، وعلى الله مجاز ؛ لأنَّ الخلق عبارةٌ عن التقدير ، وذلك عبارة عن الظنِّ ، والحسبان ، وهو في حقِّ العبد حاصلٌ ، وفي حق الله تعالى محالٌ .