Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 112-114)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - تعالى - : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً } الآية . اعلم أنه - تعالى - هدَّد الكفار بالوعيد الشَّديد في الآخرة ، وهدَّدهم أيضاً بآفاتِ الدنيا ، وهي الوقوع في الجوع والخوف ؛ كما ذكر - تعالى - في هذه الآية . واعلم أن المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معيَّنة ، سواءٌ كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن ، وقد يضرب بشيء موجود معيَّن ، فهذه القرية يحتمل أن تكون موجودة ويحتمل أن تكون غير موجودة . فعلى الأول ، قيل : إنها مكَّة ، كانت آمنة ، لا يهاجُ أهلها ولا يغار عليها ، مطمئنة قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتجاع كما يفعله سائر العرب ، { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ } يحمل إليها من البرِّ والبحر ، { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } جمع النِّعمة ، وقيل : جمع نُعمى ، مثل : بؤسَى وأبؤس فأذاقهم لباس الجوع ، ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين ، وقطعت العرب عنهم المِيرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جهدوا وأكلوا العظام المحرقة ، والجيف ، والكلاب الميِّتة والعلهز : وهو الوبر يعالج بالدَّم . قال ابن الخطيب : والأقرب أنَّها غير مكَّة ؛ لأنها ضربت مثلاً لمكَّة ، ومثل مكَّة يكون غير مكَّة . وهذا مثل أهل مكة ؛ لأنَّهم كانوا في الطمأنينة والخصب ، ثم أنعم الله عليهم بالنِّعمة العظيمة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به ، وبالغوا في إيذائه ، فسلَّط الله عليهم البلاء ، وعذَّبهم بالجوع سبع سنين ، وأمَّا الخوف فكان يبعث إليهم السَّرايا فيغيرون عليهم . وفي الآية سؤالات : السؤال الأول : أنه - تعالى - وصف القرية بصفات : أحدها : كونها آمنة ، والمراد : أهلها ، لأنها مكان الأمن ، ثم قال " مُطْمَئنَّةً " ، والاطمئنان هو الأمن ، فلزم التَّكرار . والجواب : أن قوله : " آمِنَةً " إشارة إلى الأمن ، وقوله : " مُطْمَئِنَّةً " إشارة إلى الصحَّة ؛ لأن هواء هذه البلد لمَّا كان ملائماً لأمزجتهم ، فلذلك اطمأنُّوا واستقرُّوا فيه ؛ قال العقلاء : [ الرجز ] @ 3364 - ثَلاثَةٌ ليْسَ لهَا نِهايَهْ الأمْنُ والصِّحَّةُ والكِفايَهْ @@ السؤال الثاني : الأنعم جمع قلَّة ، فكان المعنى : أنّ أهْلَ تلك القريةِ كفرت بأنواعٍ قليلة من نعم الله ، فعذبها الله ، وكان اللائقُ أن يقال : إنهم كفروا بنعم عظيمة لله تعالى ، فاستوجبوا العذاب ، فما السَّبب في ذكر جمع القلَّة ؟ . والجواب : أن المقصود التَّنبيه بالأدنى على الأعلى ، يعني : أنَّ كفران النِّعم القليلة لما أوجب العذاب ، فكفران النِّعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب . و " أنْعُم " فيها قولان : أحدهما : أنها جمع " نِعْمة " ؛ نحو : " شِدَّة وأشُدّ " . قال الزمخشري : " جمع نِعْمَة على ترك الاعتداد بالتاء ؛ كدِرْع وأدْرُع " . وقال قطرب : هي جمع " نُعْم " ، والنُّعم : النَّعيم ؛ يقال : " هذه أيَّام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُومُوا " . السؤال الثالث : نقل أن ابن الرَّاونْدِي قال لابن الأعرابي الأديب : هل يذاق اللِّباس ؟ قال ابن الأعرابي : لا باس ولا لباس ؛ يا أيُّها النِّسْنَاس ، هب أنَّك تشكُّ أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان نبيًّا أَوَما كان عربيًّا ؟ وكان مقصود ابن الرَّاوندِي الطَّعنَ في هذه الآية ، وهو أن اللِّباس لا يذاق بل يلبس ، فكان الواجب أن يقال : فكساهم الله لِبَاس الجوع ، أو يقال : فأذاقهم الله طعم الجوع . والجواب : من وجوه : الأول : أن ما أصابهم من الهزال والشحوب ، وتغيير ظاهرهم عمَّا كانوا عليه من قبل كاللِّباس لهم . الثاني : أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان : أحدهما : المذوق هو الطَّعام ، فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع . والثاني : أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً ، فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهاتِ ، فأشبه اللِّباس . فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق ، وحالة تشبه الملبوس ، فاعتبر تعالى كلا الاعتبارين ، فقال : { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } . الثالث : أن التقدير : عرفها الله لباس الجوع والخوف ، إلا أنه - تعالى - عبَّر عن التعريف بلفظ الإذاقة ، وأصل الذَّوق بالفم ، ثم يستعار فيوضع موضع التعريف والاختيار الذَّواق بالفم ، تقول : ناظر فلاناً وذُقْ ما عنده ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 3365 - ومَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فإنِّي طَعِمْتُها وسِيقَ إليْنَا عَذْبُهَا وعَذابُهَا @@ ولباس الجوع والخوف : ما ظهر عليهم من الضمور ، وشحوب اللون ، ونهكة البدن وتغيُّر الحال ؛ كما تقول : تعرَّفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان ، فكذلك يجوز أن تقول : ذقتُ لباس الجوع والخوف على فلان . الرابع : أن يحمل لفظ اللباس على المماسَّة ، فصار التقدير : فأذاقها الله مساس الجوع والخوف . ثم قال - تعالى - : { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يريد تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإخراجه من مكَّة وهمهم بقتله صلى الله عليه وسلم . قال الفراء : ولم يقل بما صنعت ، ومثله في القرآن كثير ؛ كقوله : { فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] ولم يقل : قائلة . وتحقيق الكلام : أنه - تعالى - وصف القرية بأنَّها مطمئنَّة يأتيها رزقها رغداً فكفرت بأنعم الله ، فكلّ هذه الصِّفات وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية ، إلا أن المراد في الحقيقة أهل القرية ، فلذلك قال : { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } . قوله : " والخَوْفِ " العامة على جرِّ " الخَوْفِ " نسقاً على " الجُوعِ " ، وروي عن أبي عمرو نصبه ، وفيه [ أوجه ] : أحدها : أنه يعطف على " لِباسَ " . الثاني : أنه يعطف على موضع الجوع ؛ لأنه مفعول في المعنى للمصدر ، التقدير أي : ألبسهم الجوع والخوف ، قاله أبو البقاء . وهو بعيد ؛ لأن اللباس اسم ما يلبس وهو استعارة بليغة . الثالث : أن ينتصب بإضمار فعل ؛ قاله أبو الفضل الرَّازي . الرابع : أن يكون على حذف مضافٍ ، أي : ولباس الخوف ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، قاله الزمخشري . ووجه الاستعارة ما قال الزمخشري : " فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحَّتهما والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحَّة إيقاعها عليه ؟ . قلت : الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة ؛ لشيوعها في البلايا ، والشدائد ، وما يمس الناس منها ، فيقولون : ذاق فلانٌ البؤس والضر وإذاقة العذاب شبَّه ما يُدْرك من أثر الضَّرر والألم ، بما يُدْرَك من طعم المُرّ والبشع ، وأما اللِّباس فقد شُبِّه به ؛ لاشتماله على اللاَّبس ما غشي الإنسان ، والتبس به من بعض الحوادث ، وأمَّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنَّه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ؛ فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في هذا طريقان : أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظروا إليه ههنا ؛ ونحوه قول كثيرة عزَّة : [ الكامل ] @ 3366 - غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبسَّمَ ضَاحِكاً غَلقَتْ لِضَحْكتِهِ رِقَابُ المَالِ @@ استعار الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرض صاحبه صون الرِّداء لما يلقى عليه ، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنَّوال لا وصف الرداء ؛ نظراً إلى المستعار له . والثاني : أن ينظر فيه إلى المستعار ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 3367 - يُنَازِعُنِي رِدائِي عَبْدُ عَمرٍو رُوَيْدكَ يا أخَا عَمْرِو بِنِ بَكْرِ لِيَ الشَّطْرُ الذي مَلكَتْ يَمِينِي ودُونكَ فاعْتَجِرْ مِنْهُ بشَطْرِ @@ أراد بردائه : سيفه ، ثم قال : " فاعْتَجِرْ منهُ بِشطْرٍ " فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال : فكساهم لباس الجوع والخوف ، ولقال كثير : صافي الرِّداء إذا تبسَّم ضاحكاً " انتهى . وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة . وقال ابن عطية : لمَّا باشرهم ، صار ذلك كاللِّباس ؛ وهذا كقول الأعشى : [ المتقارب ] @ 3368 - إذَا ما الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدهَا تَثَنَّتْ عَليْهِ فَكانَتْ لِبَاسَا @@ ومثله قوله - تعالى - : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] ؛ ومثله قول الشاعر : [ الطويل ] @ 3369 - وَقَدْ لَبِستْ بَعْدَ الزُّبَيْرِ مُجاشِعٌ لِباسَ الَّتي حَاضَتْ ولمْ تَغْسل الدِّمَا @@ كأن العار لما باشرهم ولصق بهم ، كأنهم لبسوه . وقوله : " فأذَاقَهَا " نظير قوله { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] ؛ ونظيره قول الشاعر : [ الرجز ] @ 3370 - دُونَكَ ما جَنَيْتَهُ فاحْسُ وذُقْ @@ وفي قراءة عبد الله : " فأذاقها الله الخوف والجوع " وفي مصحف أبيّ : " لِبَاسَ الخَوفِ والجُوعِ " . قوله : { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } يجوز أن تكون " مَا " مصدريَّة أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : بسبب صنعهم ، أو بسبب الذي كانوا يصنعونه . والواو في " يَصْنعُونَ " عائدة على " أهْل " المقدَّر قبل " قَرْيةٍ " ، ونظيره قوله : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] بعد قوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأعراف : 4 ] . قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ } الآية لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال : " ولقَدْ جَاءَهُم " يعني : أهل مكة ، " رسُولٌ مِنهُمْ " ، أي : من أنفسهم يعني : محمَّداً صلى الله عليه وسلم { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ } قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : يعني الجوع . وقيل : القتل يوم بدر ، والأول أولى ؛ لقوله - تعالى - بعده : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } ، أي : إنَّ ذلك الجوع بسبب كفرهم ، فاتركوا الكفر حتى تأكلوا . وقوله : { مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } [ المائدة : 88 ] ، أي من [ الغنائم ] ؛ قاله ابن عبَّاس - رضي اله عنه - . وقال الكلبي : " إن رؤساء مكَّة كلَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا ، وقالوا : عاديت الرِّجال ، فما بال النِّساء والصِّبيان ؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن بحمل الطعام إليهم " . قوله تعالى : { وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ } صرَّح هنا بالنِّعمة ؛ لتقدم ذكرها مع من كفر بها ، ولم يجىء ذلك في البقرة ، بل قال : { وَٱشْكُرُواْ لِلَّهِ } [ البقرة : 172 ] لما تقدَّم ذلك ، وتقدَّم نظير ما هنا .