Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 115-117)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ } الآية وقد تقدَّم الكلام عليها في سورة البقرة ، وحصر المحرَّمات في هذه الأشياء الأربعة مذكور عليها في سورة الأنعام ؛ عند قوله - تعالى - : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } [ الأنعام : 145 ] ، وفي سورة المائدة في قوله : { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 1 ] ، وأجمعوا على أن المراد بقوله : { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } هو قوله - تعالى - في سورة البقرة : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 173 ] وقوله - تعالى - : { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } [ المائدة : 3 ] فهذه الأشياء داخلة في الميتة . ثم قال - تعالى - : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] وهذا أحد الأقسام الداخلة تحت قوله { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 173 ] ، فثبت أن هذه السُّور الأربعة دالَّة على حصر المحرَّمات ، فيها سورتان مكِّيتان ، وسورتان مدنيَّتان ، فإن البقرة مدنيّة ، وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة ، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربعة ، إلا ما خصَّه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محلِّ أن يخشى عليه ؛ لأن هذه السورة دلَّت على أن حصر المحرَّمات في هذه الأربعة كان مشروعاً ثابتاً في أول زمان مكَّة وآخره ، وأول زمان المدينة وآخره وأنه - تعالى - أعاد هذا البيان في هذه السورة ، قطعاً للأعذار وإزالة للرِّيبة . قوله - تعالى - : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } الآية لما حصر المحرَّمات في تلك الأربعة ، بالغ في تأكيد زيادة الحصر ، وزيف طريقة الكفَّار في الزِّيادة على هذه الأشياء الأربعة تارة ، وفي النُّقصان عنها أخرى ؛ فإنَّهم كانوا يُحرِّمُونَ البَحيرةَ والسَّائبة والوَصِيلةَ والحَام ، وكانوا يقولون : { مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا } [ الأنعام : 139 ] فقد زادوا في المحرَّمات وزادوا أيضاً في المحلَّلات ؛ لأنهم حلَّلوا الميتة ، والدَّم ، ولحم الخنزير ، وما أهلَّ به لغير الله ، فبيَّن - تعالى - أن المحرَّمات هذه هي الأربعة ، وبيَّن أن الأشياء التي يقولون : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ ، كذبٌ وافتراء على الله تعالى ، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب . قوله : " الكَذِبَ " العامة على فتح الكاف ، وكسر الذَّال ، ونصب الباء ، وفيه أربعة أوجه : أظهرها : أنه منصوب على المفعول به ، وناصبه : " تَصِفُ " ، و " مَا " مصدرية ويكون معمول القول الجملة من قوله : { هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } ، و " لِمَا تَصفُ " علّة للنَّهْي عن قول ذلك ، أي : ولا تقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ ؛ لأجل وصف ألسنتكم بالكذب ، وإلى هذا نحا الزجاج [ رحمه الله تعالى ] والكسائي . والمعنى : لا تحلِّلُوا ولا تحرِّمُوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجَّة . فإن قيل : حمل الآية عليه يؤدِّي إلى التَّكرار ؛ لأن قوله : { لِّتَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } عين ذلك . فالجواب : أن قوله : { لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ } ليس فيها بيان أنه كذبٌ على الله تعالى ، فأعاد قوله : { لِّتَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } ليحصل فيه هذا البيان الزَّائد ؛ ونظائره في القرآن كثيرة وهو أنه تعالى يذكر كلاماً ، ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة . الثاني : أن ينتصب مفعولاً به للقول ، ويكون قوله : " هذَا حَلالٌ " بدلاً من " الكَذِب " ؛ لأنه عينه ، أو يكون مفعولاً بمضمر ، أي : فيقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ ، و " لِمَا تَصِفُ " علَّة أيضاً ، والتقدير : ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم ، وهل يجوز أن تكون المسألة من باب التَّنازع على هذا الوجه ؛ وذلك أن القول يطلب الكذب ، و " تَصِفُ " أيضاً يطلبه ، أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم ، وفيه نظر . الثالث : أن ينتصب على البدل من العائد المحذوف على " مَا " ، إذا قلنا : إنَّها بمعنى الذي ، والتقدير : لما تصفه ، ذكر ذلك الحوفي وأبو البقاء رحمهما الله تعالى . الرابع : أن ينتصب بإضمار أعني ؛ ذكره أبو البقاء ، ولا حاجة إليه ولا معنى عليه . وقرأ الحسن ، وابن يعمر ، وطلحة : " الكَذبِ " بالخفض ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه بدلٌ من الموصول ، أي : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب ، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذب ، جعله نفس الكذب ؛ لأنَّه هو . والثاني : - ذكره الزمخشري - : أن يكون نعتاً لـ " مَا " المصدرية . ورده أبو حيَّان : بأن النُّحاة نصُّوا على أن المصدر المنسبك من " أنْ " والفعل لا ينعت ؛ لا يقال : يُعْجِبني أن تخرج السريع ، ولا فرق بين باقي الحروف المصدرية وبين " أنْ " في النَّعت . وقرأ ابن أبي عبلة ، ومعاذ بن جبل - رحمهما الله - : بضمِّ الكاف والذَّال ، ورفع الباء صفة للألسنة ، جمع كذوب ؛ كصَبُور وصُبُر ، أو جمع كَاذِب ، كشَارِف وشُرُف ، أو جمع كَذَّاب ؛ نحو " كتَّاب وكُتُب " ، وقرأ مسلمة بن محارب فيما نقله ابن عطيَّة كذلك ، إلا أنه نصب الباء ، وفيه ثلاثة أوجهٍ ذكرها الزمخشري : أحدها : أن تكون منصوبة على الشَّتم ، يعني : وهي في الأصل نعت للألسنة ؛ كما في القراءة قبلها . الثاني : أن تكون بمعنى الكلم الكواذب ، يعني : أنها مفعول بها ، والعامل فيها إما " تَصِفُ " ، وإمَّا القول على ما مرَّ ، أي : لا تقولوا الكلم الكواذب أو لما تصف ألسنتكم الكلم الكواذب . الثالث : أن يكون جمع الكذاب ، من قولك : كذب كذاباً ، يعني : فيكون منصوباً على المصدر ؛ لأنه من معنى وصف الألسنة ، فيكون نحو : كُتُب في جمع كِتَاب . وقد قرأ الكسائي : " ولا كِذَاباً " بالتخفيف ، كما سيأتي في سورة النبأ إن شاء الله - تعالى - . واعلم أن قوله : { تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ } من فصيح الكلام وبليغه ، كأن ماهيَّة الكذب وحقيقته مجهولة ، وكلامهم الكذب يكشف عن حقيقة الكذب ، ويوضِّح ماهيته ، وهذه مبالغة في وصف كلامهم بكونه كذباً ؛ ونظيره قول ابي العلاء المعريِّ : [ الوافر ] @ 3371 - سَرَى بَرْقُ المَعرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ فَباتَ بِرامَةٍ يَصِفُ الكَلالا @@ المعنى : إذا سرى ذلك البرق يصف الكلال ، فكذا هاهنا . فصل وروى الدَّارمي بإسناده عن الأعمش قال : " ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلالاً ولا حراماً ، ولكن كان يقول : كانوا يتكرَّهون ، وكان يستحبُّون " وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا النَّاس أن يقولوا : هذا حلالٌ وهذا حرامٌ ، ولكن يقولوا : إيَّاكم كذا وكذا ، لم أكن لأصنع هذا ، ومعنى هذا : أن التَّحليل والتَّحريم إنَّما هو لله - عز وجل - وليس لأحد أن يقول أو يصرِّح بهذا في عين من الأعيان ، إلا أن يكون الباري - سبحانه وتعالى - فيخبر بذلك عنه ، فأما ما يئول إليه اجتهاده ، فإنه يحرم عليه أن يقول ذلك ، بل يقول : إني أكره كما كان مالك - رضي الله عنه - يفعل . قوله : " لِتَفْتَرُوا " في هذه اللاَّم ثلاثة أوجه : أحدها : قال الواحدي : إنه بدلٌ من " لِما تَصِفُ " ؛ لأن وصفهم الكذب هو افتراءٌ [ على الله ] . قال أبو حيَّان : " وهو على تقدير جعل " ما " مصدرية ، أما إذا كانت بمعنى الذي ، فاللاَّم فيها ليست للتَّعليل ، فيبدل منها ما يفهم التعليل ، وإنَّما اللام في " لِمَا " متعلِّقة بـ " لا تَقُولوا " على حدِّ تعلقها في قولك : لا تقولوا لما أحل الله هذا حرام ، أي : لا تسمُّوا الحلال حراماً ، وكما تقول : لا تقل لزيد : عمرو أي : لا تطلق عليه هذا الاسم " . قال شهاب الدين : وهذا وإن كان ظاهراً ، إلا أنه لا يمنع من إرادة التعليل وإن كانت بمعنى الذي . الثاني : أنها للصَّيرورة ؛ إذ لم يفعلوه لذلك الغرض ؛ لأن ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم . والمعنى : أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله - تعالى - ويقولون : إن الله أمرنا بذلك . قال ابن الخطيب : فعلى هذا تكون لام العاقبة ؛ كقوله - تعالى - : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنا } [ القصص : 8 ] . الثالث : أنها للتعليل الصريح ، ولا يبعد أن يصدر عنهم مثل ذلك . ثم إنَّه - تعالى - أوعد المفترين فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } ثم بيَّن أن ما هم فيه من [ متاع ] الدنيا يزول عنهم عن قربٍ ، فقال : { مَتَاعٌ قَلِيلٌ } قال الزجاج : معناه : متاعهم قليلٌ . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بل متاع كلِّ الدنيا متاع قليل ، ثم يردُّون إلى عذاب أليم . وفي " متاعٌ " وجهان : أحدهما : أنه مبتدأ ، و " قَليلٌ " خبره . وفيه نظر ؛ للابتداء بالنَّكرة من غير مسوِّغ ، فإن ادُّعي إضافة نحو : متاعهم قليلٌ ، فهو بعيد جدًّا . الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : بقاؤهم ، أو عيشهم ، أو منفعتهم فيما هم عليه .