Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 98-111)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - تعالى - { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ } الآية لما قال - تعالى - : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] ، أرشد إلى العمل الذي به يخلِّص أعماله من الوساوس ، فقال - جل ذكره - : { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ } أي : فإذا أردت ، فأضمر الإرادة . قال الزمخشري : " لأنَّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة من غير فاصل ، وعلى حسبه ، فكان منه بسببٍ قويٍّ وملابسة ظاهرة " . وقال ابن عطيَّة : " " فإذَا " وصلة بين الكلامين ، والعرب تستعملها في هذا ، وتقدير الآية : فإذا أخذت في قراءة القرآن ، فاستعذ " . وهذا مذهب الجمهور من القرَّاء والعلماء ، وقد أخذ بظاهر الآية - فاستعاذ بعد أن قرأ - من الصحابة - أبو هريرة - رضي الله عنه - ، ومن الأئمة : مالك وابن سيرين وداود ، ومن القرَّاء حمزة - رضي الله عنهم ؛ قالوا : لأنَّ الفاء في قوله : { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } للتعقيب ، والفائدة فيه : أنه إذا قرأ القرآن يستحقُّ به ثواباً عظيماً ، فإذا لم يأت بالاستعاذة ، وقعت الوسوسة في قلبه ، وذلك الوسواس يحبط ثواب القراءة ، فإذا استعاذ بعد القراءة ، اندفعت تلك الوساوس ، وبقي الثَّواب مصوناً عن الانحطاط . وذهب الأكثرون : إلى أنَّ الاستعاذة مقدمة على القراءة ، والمعنى : إذا أردت أن تقرأ القرآن ، فاستعذ ؛ كقوله : إذَا أكلت ، فقل : بِسْم الله ، وإذا سافرت ، فتأهَّب ، وقوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَٰوةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } [ المائدة : 6 ] ، وأيضاً : قد ثبت أن الشَّيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ بدليل قوله - عز وجل - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَٰنُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] ، ومن الظاهر أنه - تعالى - إنما أمر الرَّسول - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة عند القراءة ؛ لدفع تلك الوساوس ، وهذا المقصود إنَّما يحصل عند تقديم الاستعاذة . وذهب عطاء إلى أنَّ الاستعاذة واجبة عند قراءةِ القرآن ، كانت في الصَّلاة أو غيرها . ولا خلاف بين العلماء في أن التَّعوذ قبل القراءة في الصَّلاة أوكد . واعلم أنَّ هذا الخطاب للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ، والمراد منه الكلُّ ؛ لأن الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - إذا كان محتاجاً للاستعاذة عند القراءةِ ، فغيره أولى ، والمراد بالشيطان في هذه الآية : قيل : إبليس ، وقيل : الجنس ؛ لأنَّ جميع المردة لهم حظٌّ في الوسوسة . ولما أمر رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة من الشيطان ، وكان ذلك يوهم أنَّ للشيطان قدرة على التصرُّف في أبدان النَّاس ، فأزال الله تعالى هذا الوهم وبيَّن أنه لا قدرة له ألبتَّة على الوسوسة ؛ فقال - تعالى - : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ويظهر من هذا أنَّ الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفاً ، وأنَّه لا يمكنه التحفُّظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله - تعالى - ، ولهذا المعنى قال المحقِّقون : لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله تعالى ، ولا قوَّة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ، والتَّفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله : { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ، والاستعاذة بالله هي الاعتصام به . ثم قال : { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : يطيعونه ، يقال : توليته ، أي : أطعته ، وتولَّيت عنه ، أي : أعرضت عنه . قوله : { وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } الضمير في " بِهِ " الظاهر عوده على الشيطان ، لتتحد الضمائر ، و المعنى : والذين هم به مشركون بسببه ؛ كما تقول للرجل إذا تكلَّم بكلمة مؤدِّية إلى الكفر : كفرت بهذه الكلمة ، أي : من أجلها ؛ فكذلك قوله : { وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } والمعنى : من أجل حمله إيَّاهم على الشِّرك صاروا مشركين . وقيل : والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله ، ويجوز أن يعود على " ربِّهِمْ " . قوله : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ } اعلم أنه - سبحانه جل ذكره - شرع في حكاية شبهات مُنْكِري نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : كان المشركون إذا نزلت آية فيها شدَّة ، ثم نزلت آية ألين منها يقولون : إن محمَّداً يسخر بأصحابه ؛ يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً ، ما هو إلا مفترٍ يتقولَّه من تلقاء نفسه ، فأنزل الله - تعالى - : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ } والتَّبدِيل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، وهو هنا النسخ . قوله : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } في هذه الجملة وجهان : أظهرهما : أنها اعتراضٌ بين الشرط وجوابه . والثاني : أنَّها حاليَّة ؛ فعلى الأول يكون المعنى : والله أعلم بما ينزِّل من الناسخ والمنسوخ ، والتغليظ والتخفيف ، أي : هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد ، وهذا توبيخٌ للكفار على قولهم : " إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ " ، أي : إذا كان هو أعلم بما ينزِّل ، فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء ؛ لأجل التَّبديل والنسخ ، وقوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لا يعلمون حقيقة القرآن ، وفائدة النسخ والتبديل ، وأن ذلك لمصالح العباد ، وقولهم : " إنَّما أنْت مُفتَرٍ " نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم الافتراء بأنواع من المبالغات وهي الحصر والخطاب ، واسم الفاعل الدال على الثُّبوت والاستقرار ، ومفعول " لا يعلمون " محذوف للعلم به ، أي : لا يعلمون أنَّ في نسخ الشَّرائع وبعض القرآن حكماً بالغة . قوله : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ } تقدَّم تفسيره في البقرة . قال الزمخشري رحمه الله : " رُوحُ القدس : جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - أضيف إلى القدس وهو الطُّهْر ؛ كما تقول : حاتم الجُودِ ، وزيد الخَيْرِ ، والمراد : الرُّوح المقدس ، وحاتم الجواد ، وزيد الخيِّر " . و " مِنْ " في قوله : " مِن رَّبِّكَ " صلة للقرآن ، أي أن جبريل نزَّل القرآن من ربك ؛ ليثبِّت الذين آمنوا ، أي : ليبلوهم بالنسخ ، حتَّى إذا قالوا فيه : هو الحقُّ من ربِّنا ، حكم لهم بثبات القدم في الدِّين ، وصحَّة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب . قوله تعالى : { وَهُدًى وَبُشْرَىٰ } يجوز أن يكون عطفاً على محلِّ " لِيُثبِّتَ " فينصبان ، أو على لفظه باعتبار المصدر المؤوَّل ؛ فيجران ، والتقدير : تثبيتاً لهم ، وإرشاداً وبشارة ، وقد تقدم كلام الزمخشري في نظيرهما وما ردَّ به أبو حيَّان عليه وجوابه . وجوَّز أبو البقاء ارتفاعهما خبر مبتدإ محذوف ، أي : وهو هدى ، والجملة حال وقرىء : " لِيُثبتَ " مخففاً من " أثْبَت " . فصل قد تقدَّم أن أبا مسلم الأصفهاني ينكر النسخ في هذه الشريعة ، فقال : المراد ههنا : وإذا بدَّلنا آية مكان آية ، أي : في الكتب المتقدمة ؛ مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، قال المشركون : أنت مفترٍ في هذا التبديل ، وأكثر المفسرين على خلافه ، وقالوا : إن النسخ واقعٌ في هذه الشريعة . فصل قال الشافعي - رضي الله عنه - : القرآن لا ينسخ بالسنة ؛ لقوله - تعالى - : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ } وهذا يقتضي أن الآية لا تنسخ إلا بآية أخرى ، وهذا ضعيف ؛ لأن هذه الآية تدلُّ على أنَّه - تعالى - يبدِّل آية بآيةٍ أخرى ، ولا دلالة فيها على أنه - تعالى - لا يبدِّل آية إلا بآيةٍ ، وأيضاً : فجبريل - عليه السلام - قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية . قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } الآية هذه حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لأنهم كانوا يقولون : إن محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - إنَّما يذكر هذه القصص ، وهذه الكلمات إنما يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمُّها منه . واختلفوا في ذلك البشر : فقال ابن عباس - رضي الله عنه - : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم فتى بمكة اسمه " بلْعَام " ، وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان يقال له : أبو ميسرة ، وكان يتكلم بالروميَّة ، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج ، فكانوا يقولون : إنما يعلمه " بلعام " . وقال عكرمة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرىء غلاماً لبني المغيرة ، يقال له : " يَعِيش " ، وكان يقرأ الكتب ، فقالت قريش : إنما يعلمه " يَعِيش " . وقال الفراء : كان اسمه " عائش " مملوك لحويطب بن عبد العزى ، وكان قد أسلم وحسن إسلامه ، وكان أعجميًّا ، وقيل : اسمه " عدَّاس " غلام " عتبة بن ربيعة " . وقال ابن إسحاق : كان رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام روميٍّ نصراني عبد لبني الحضرمي ، يقال له : " جَبْر " ، وكان يقرأ الكتب ، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل عين التَّمر ، يقال لهما : يسار ويكنى : أبا فكيهة ، وجبر ، وكانا يصنعان السيوف بمكَّة ، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل ، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن ، فيقف ويسمع . قال الضحاك : وكان - صلوات الله وسلامه عليه - إذا آذاه الكفَّار يقعد إليهما ، فيستروح بكلامهما ، فقال المشركون : إنما يتعلَّم محمد منهما فنزلت الآية . وقيل : سلمان الفارسي رضي الله عنه ، فكذبهم الله - تعالى - بقوله : { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } . قوله تعالى : { لِّسَانُ ٱلَّذِي } العامة على إضافة " لِسانُ " إلى ما بعده ، و المراد باللسان هنا : القرآن ، والعرب تقول للغة : لسان . وقرأ الحسن - رضي الله عنه - : اللِّسان معرفاً بـ " أل " ، و " الَّذِي " نعت له وفي هذه الجملة وجهان : أحدهما : لا محلَّ لها ؛ لاستئنافها ، قاله الزمخشري . والثاني : أنَّها حال من فاعل " يَقُولونَ " ، أي : يقولون ذلك والحال هذه ؛ أي : علمهم بأعجميَّة هذا البشر ، وإبانة عربيَّة هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم من تلك المقالة ؛ كقولك : تَشْتمُ فلاناً وهُو قَدْ أحْسنَ إليْكَ ، أي : وعلمك بإحسانه إليك كان يمنعك من شتمه ، قاله أبو حيان رحمه الله . ثم قال : " وإنَّما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف لا إلى الحال ؛ لأن من مذهبه أنَّ مجيء الحال جملة اسميَّة من غير واو شاذٌّ ، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء " . و " أعجَميٌّ " خبر على كلتا القراءتين ، والإلحاد في اللغة : الميل ، يقال : لَحَدَ وألْحَدَ ؛ إذا مال عن القصد ، ومنه يقال للعادل عن الحقِّ : مُلْحِد . وقرأ حمزة والكسائي : " يَلْحَدُونَ " بفتح الياء والحاء ، والباقون بضم الياء وكسر الحاء . قال الواحدي - رحمه الله - : والأولى ضم الياء ؛ لأنه لغة القرآن ، ويدلُّ عليه قوله - تعالى - : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } [ الحج : 25 ] وتقدَّم خلاف القراء في المفتوح في الأعراف . والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة ؛ ومنه يقال : الْحَدت له لَحْداً ؛ إذا حفرت له في جانب القبر مائلاً عن الاستواء ، وقبر مُلْحَد ومَلْحُود ، ومنه المُلْحِد ؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلِّها ، لم يمله عن دينٍ إلى دينٍ ، وفسِّر الإلحاد في هذه الآية بالقولين . قال الفراء : يَمِيلُون من المَيْلِ . وقال الزجاج : يَمِيلُونَ من الإمالةِ ، أي : لسان الذي يميلون القول إليه أعجمي . والأعجمي : قال أبو الفتح الموصلي : " تركيب " " ع ج م " وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء ، وضدُّه البيان والإيضاح ؛ ومنه قولهم : رَجُلٌ أعجم وامْرأةٌ عَجماء ؛ إذا كانا لا يفصحان ، والأعجمي : من لم يتكلم بالعربية . وقال الراغب : العجم خلاف العرب ، والعجم منسوب إليهم ، والأعجم : من في لسانه عجمه عربيًّا كان أو غير عربي ؛ اعتباراً بقلَّة فهمه من العجمة . والأعجمي منسوب إليه ، ومنه قيل للبهيمة : عجماء ؛ لأنها لا تفصح عما في نفسها ، وصلوات النَّهار عجماء ، أي : لا يجهر فيها ، والعجَمُ : النَّوى لاختفائه . قال بعضهم : معناه أن الحروف المجرَّدة لا تدلُّ على ما تدلُّ عليه الموصولة وأعْجَمتُ الكتابَ ضد أعربتهُ ، وأعجمتهُ : أزلت عجمتهُ ؛ كأشْكَيتهُ : أزلتُ شِكايَتهُ . قال الفراء وأحمد بن يحيى : الأعجم : هو الذي في لسانه عجمة ، وإن كان من العرب ، والأعجمي والعجمي : الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي : الذي لا يفصح سواءٌ كان من العرب أو من العجم ؛ ألا ترى أنهم قالوا : زياد الأعجم ؛ لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنَّه كان عربيًّا ؟ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في " الشعراء " ، و " حم السجدة " . وقال بعضهم : العجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً ، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحاً . فصل المعنى : إنَّ لسان الذي ينسبون التعلّم منه أعجمي ، وهذا القرآن عربي فصيح ، فتقرير هذا الجواب كأنه قال : هب أنه يتعلَّم المعاني من ذلك الأعجمي ، إلا أنَّ القرآن إنَّما كان معجزاً لما في ألفاظه من الفصاحة ، فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل ، إلا أن ذلك لا يقدح في المقصود ؛ لأن القرآن إنما كان معجزاً لفصاحته اللفظيَّة . ولما ذكر - تعالى - هذا الجواب ، أردفه بالتهديد ؛ فقال - عز وجل - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَٰتِ ٱللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ } قال القاضي : لا يهديهم إلى طريق الجنَّة لقوله بعده : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : أنهم لما تركوا الإيمان بالله ، لا يهديهم الله إلى الجنَّة ، بل يسوقهم إلى النَّار ، ثم إنه - تعالى - بين كونهم كاذبين في ذلك القول ، فقال - تعالى - : { إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } والمقصود منه أنه - تعالى - بيَّن في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح في المقصود ، ثم بين في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصحَّ ، وهم كذبوا فيه ، والدليل على كذبهم وجوه : أحدها : أنهم لا يؤمنون بآيات الله تعالى وهم كافرون ، وإذا كان الأمر كذلك ، كانوا أعداء للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وكلام العدو ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتَّهم . وثانيها : أن التعلُّم لا يتأتَّى في جلسه واحدة ولا يتم بالخفية ، بل التعلُّم إنما يتمُّ إذا اختلف المتعلِّم إلى المعلِّم أزمنة متطاولة ، وإذا كان كذلك ، اشتهر فيما بين [ الخلق ] أن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - يتعلم العلوم من فلان ومن فلان . وثالثها : أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة ، وتعلُّمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق ، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في العلم والتحقيق إلى هذا الحد ، لكان مشاراً إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا ، فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية الشريفة والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان ؟ وإذا كان الأمر كذلك ، فالطَّعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأمثال هذه الكلمات الرَّكيكة يدلُّ على أن الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة باهرة ، وهذه الآية تدلُّ على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش ؛ لأن كلمة " إنَّما " للحصر ، والمعنى : أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله - تعالى - . فإن قيل : قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } فعل ، وقوله تعالى : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } اسم وعطف الجملة الاسميَّة على الجملة الفعلية قبيح فما السَّبب في حصولها ههنا ؟ . فالجواب : الفعل قد يكون لازماً وقد يكون مفارقاً ، ويدلُّ عليه قوله - تعالى - : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُـنَّهُ } [ يوسف : 35 ] ذكره بلفظ الفعل تنبيهاً على أن ذلك الحبس لا يدوم . وقال فرعون لموسى : { لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } [ الشعراء : 29 ] ذكره بصيغة الاسم تنبيهاً على الدَّوام ، وقالوا في قوله - تعالى - : { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [ طه : 121 ] لا يجوز أن يقال : إن آدم - صلوات الله وسلامه عليه - عاصٍ وغاوٍ ؛ لأن صيغة الفعل لا تفيد الدَّوام ، وصيغة الاسم تفيده . إذا عرفت هذه المقدمات ، فقوله - تعالى - : { إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } تنبيه على أنَّ من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر . ثم قال - جل ذكره - { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } ؛ تنبيهاً على أن صفة [ الكذب ] فيهم ثابتة [ راسخة ] دائمة ؛ كما تقول : كذبت ، وأنت كاذب ، فيكون قولك : " وأنت كاذب " زيادة في الوصف بالكذب ، ومعناه : إنَّ عادتك أن تكون كاذباً . واعلم أن الآية تدلُّ على ان الكاذب المفتري هو الذي لا يؤمن بآيات الله ، والأمر كذلك ؛ لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهيَّة ونبوَّة الأنبياء ، ولا معنى لهذا الإنكار . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : هَلْ يَكْذبُ المُؤمِنُ ؟ قال : " لاَ " ثم قرأ هذه الآية . قوله تعالى : { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ } يجوز فيه أوجه : أحدهما : أن يكون بدلاً من " الَّذينَ لا يُؤمِنُونَ " ، أي : إنَّما يفتري الكذب من كفر ، واستثنى منهم المكره ، فلم يدخل تحت الافتراء . الثاني : أنه بدل من " الكَاذبُونَ " . الثالث : أنه بدلٌ من " أوْلئِكَ " ، قاله الزمخشري . فعلى الأول يكون قوله : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } جملة معترضة بين البَدَل والمُبْدَل منه . واستضعف ابو حيَّان الأوجه الثلاثة ؛ فقال : " لأن الأوَّل يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه ، والوجود يقتضي أن المفتري هو الذي لا يؤمن بالله سواء كان ممن كفر بعد إيمانه أو كان ممن لم يؤمن قطّ ؛ بل الأكثر الثاني ، وهو المفتري . قال : وأما الثاني : فيؤول المعنى إلى ذلك ؛ إذ التقدير : وأولئك ، أي : الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، والذين لا يؤمنون هم المفترون . وأما الثالث : فكذلك ؛ إذ التقدير : أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، مخبراً عنهم بأنهم الكاذبون " . الوجه الرابع : قال الزمخشري : " أن ينتصب على الذَّمِّ " . قال ابن الخطيب : وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها من التَّعسُّف . الخامس : أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر على الذَّمِّ . السادس : أن يرتفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، تقديره : فعليهم غضب ؛ لدلالة ما بعد " مَنْ " الثانية عليه . السابع : أنها مبتدأ أيضاً ، وخبرها وخبر " مَنْ " الثانية قوله : " فَعَليْهم غَضب " . قال ابن عطية رحمه الله : " إذ هو واحد بالمعنى ؛ لأنَّ الإخبار في قوله - تعالى - : { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ } إنَّما قصد به الصنف الشارح بالكفر " . قال أبو حيَّان : " وهذا وإن كان كما ذكر ، إلا أنَّهما جملتان شرطيتان ، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك ، فلا بدَّ لكل واحدة منهما على انفرادها من جواب لا يشتركان فيه ، فتقدير الحذف أجرى على صناعة الإعراب ، وقد ضعَّفوا مذهب الأخفش في ادِّعائه أن قوله - تعالى - : { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } [ الواقعة : 91 ] وقوله - جل ذكره - : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقعة : 89 ] جواب لـ " أمَّا " و " إنْ " ، هذا ، وهما أداتا شرط وليست إحداهما الأخرى " . الثامن : أن تكون " مَنْ " شرطية ، وجوابها مقدَّر ، تقديره : فعليهم غضبٌ ؛ لدلالة ما بعد " مَنْ " الثانية عليه ، وقد تقدَّم أن ابن عطيَّة جعل الجزاء لهما معاً ، وتقدم الكلام معه فيه . قوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } فيه أوجه : أحدها : أنه مستثنى مقدم من قوله : " فأولئك عليهم غضب " وهذا يكون فيه منقطعاً ؛ لأن المكره لم يشرح بالكفر صدراً . وقال أبو البقاء : وقيل : ليس بمقدَّم ؛ فهو كقول لبيد : [ الطويل ] @ 3360 - ألاَ كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ بَاطلُ … @@ فظاهر كلامه يدلُّ على أن بيت لبيد لا تقديم فيه ، وليس كذلك ؛ فإنه ظاهر في التقديم جدًّا . الثاني : أنه مستثنى من جواب الشرط ، أو من خبر المبتدأ المقدَّر ، تقديره : لعليهم غضب من الله إلا من أكره ، ولذلك قدر الزمخشري جزاء الشَّرط قبل الاستثناء وهو استثناء متصل ؛ لأنَّ الكفر يكون بالقول من غير اعتقاد كالمكره ، وقد يكون - والعياذ بالله - باعتقاد ، فاستثنى الصنف الأول . { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ } جملة حاليَّة { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } في هذه الحالة ، وهذا يدلُّ على أن محلَّ الإيمان القلب ، والذي [ محله ] القلب إما الاعتقاد ، وإما كلام النَّفس ؛ فوجب أن يكون الإيمان عبارة : إما عن المعرفة ، وإما عن التَّصديق بكلام النَّفس . قوله تعالى : { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ } الاستدراك واضح ؛ لأن قوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } قد يسبق الوهم إلى الاستثناء مطلقاً ، فاستدرك هذا ، وقوله : { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ } لا ينفي ذلك الوهم ، و " مَنْ " إما شرطية أو موصولة ، ولكن متى جعلت شرطية ، فلا بدَّ من إضمار مبتدأ قبلها ، لأنه لا يليها الجمل الشرطيَّة ، قاله أبو حيَّان ؛ ثم قال : ومثله : [ الطويل ] @ 3361 - … ولكِنْ مَتى يَسْترفِدِ القَوْمُ أرْفدِ @@ أي : ولكن أنا متى يسترفد القوم . وإنَّما لم تقع الشرطية بعد " لكِنْ " ؛ لأنَّ الاستدراك لا يقع في الشروط ، هكذا قيل ، وهو ممنوع . وانتصب " صَدْراً " على أنه مفعول للشرح ، والتقدير : ولكن من شرح بالكفر صدره ، وحذف الضمير ؛ لأنه لا يشكل بصدر غيره ؛ إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره ، فهو نكرةٌ يراد بها المعرفة ، والمراد بقوله : { مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } ، أي : فتحه ووسعه لقبُول الكفر . فصل قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : نزلت هذه الآية في عمَّار بن ياسر ؛ وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمَّه سميَّة وصهيباً وبلالاً وخبَّاباً وسالماً فعذبوهم . وأما سميَّة : فإنها ربطت بين بعيرين ووجىء في قُبُلها بحربة ، فقتلت وقتل زوجها ، وهما أول قتيلين في الإسلام - رضي الله عنهما - . وقال مجاهد : أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وخبَّاب ، وصهيب ، وبلال ، وعمَّار ، وسميَّة - رضي الله عنهم - . أما الرَّسول صلى الله عليه وسلم فمنعه أبو طالب ، وأما أبو بكر - رضي الله عنه - فمنعه قومه ، وأخذ الآخرون ، وألبسوا الدروع الحديد ، ثم أجلسوهم في الشمس ، فبلغ منهم الجهد لحرِّ الحديد والشمس ، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويشتم سميَّة ، ثم طعنها في فرجها بحربة . وقال آخرون : ما نالوا منهم غير بلال ؛ فإنهم جعلوا يعذِّبونه ، ويقول : أحَدٌ أحَدٌ ، حتى ملوه فتركوه . وقال خبَّاب : ولقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري ، وقال مقاتل : نزلت في جبر مولى عامر الحضرمي ، أكرهه سيِّده على الكفر ، فكفر مكرهاً وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ، ثم أسلم مولى جبر وحسن إسلامهما ، وهاجر جبر مع سيِّده . فصل الإكراه الذي يجوز عنده التلفُّظ بكلمة الكفر : هو أن يعذَّب بعذابٍ لا طاقة له به ؛ مثل : التَّخويف بالقتل ؛ ومثل الضَّرب الشَّديد ، والإتلافات القويَّة ، وأجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرىء قلبه عن الرِّضا ، وأن يقتصر على التَّعريضات ؛ مثل أن يقول : إن محمداً كذَّاب ، ويعني عند الكفار أو يعني به محمَّداً آخر ، أو يذكره على نيَّة الاستفهام بمعنى الإنكار ، وهنا بحثان : الأول : أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النيَّة ، أو لأنه لمَّا عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النيَّة كان ملوماً وعفو الله متوقَّع . البحث الثاني : لو ضيَّق المكره الأمر عليه وشرح له أقسام التَّعريضات ، وطلب منه أن يصرِّح بأنه ما أراد شيئاً منها ، وما أراد إلاَّ ذلك المعنى - فههنا يتعيَّن إما التزام الكذب ، وإما تعريض النفس للقتل ، فمن الناس من قال : يباح له الكذب ههنا ، ومنهم من قال : ليس له ذلك ، وهو الذي اختاره القاضي ؛ قال : لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً ، فوجب أن يقبح على كل حال ، ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح ، لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح ، وحينئذٍ لا يبقى وثوق بوعد الله ولا وعيده ؛ لاحتمال أنَّه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله - تعالى - . فصل أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر ، ويدل عليه وجوه : أحدها : أن بلالاً صبر على العذاب ، وكان يقول : أحد أحد ، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ما صنعت ، بل عظَّمه عليه ، فدل ذلك على أنه لا يجب التكلُّم بكلمة الكفر . وثانيها : ما روي أن مسيلمة الكذَّاب أخذ رجلين ، فقال لأحدهما : ما تقول في محمَّد ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما تقول فيَّ ؟ قال : أنت أيضاً فتركه ، وقال للآخر : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله ، فقال : ما تقول فيَّ ؟ قال : أنا أصمُّ ، فأعاد عليه ثلاثاً ، فأعاد جوابه ، فقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الثاني : فقد صدع بالحقِّ ، فهنيئاً له فسمَّى التلفظ بكلمة الكفر رخصة ، وعظَّم حال من أمسك عنه حتى قتل . وثالثها : أن بذل [ النفس ] في تقرير الحق أشق ، فوجب أن يكون أكثر ثواباً ؛ لقوله - صلوات الله وسلامه عليه - : " أفْضَلُ العِبادَاتِ أحْمزُهَا " أي : أشقُّها . ورابعها : أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهَّر قلبه ولسانه عن الكفر ، وأمَّا الذي تلفَّظ بها فهب أن قلبه طاهرٌ ، إلا أنَّ لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة ؛ فوجب أن يكون حال الأول أفضل . فصل الإكراه له مراتب : أحدها : أن يجب الفعل المكروه عليه ؛ كما لو أكره على شرب الخمر ، وأكل الخنزير ، وأكل الميتة ، فإذا أكره عليه بالسَّيف فهاهنا ، يجب الأكل ؛ وذلك لأن صون الرُّوح عن الفواتِ واجبٌ ، ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بالأكل ، وليس في هذا الأكل ضررٌ على حيوان ، وإلا إهانةٌ لحقِّ الله ، فوجب أن يجب ؛ لقوله - تعالى - : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [ البقرة : 195 ] . المرتبة الثانية : أن يصير ذل الفعل مباحاً ولا يصير واجباً ؛ كما لو أكره على التلفُّظ بكلمة الكفر ، فههنا يباح له ذلك ، ولكنه لا يجب . المرتبة الثالثة : أنه لا يجب ولا يباح ، بل يحرم ؛ كما لو أكرهه إنسان على قتل إنسان ، أو على قطع عضو من أعضائه ، فههنا يبقى الفعل على الحرمةِ الأصلية ، وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا ؟ . قال الشافعي - رضي الله عنه - في أحد قوليه : يجب القصاص ؛ لأنَّه قتله عمداً عدواناً ، فوجب عليه القصاص ؛ لقوله - تعالى - : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } [ البقرة : 178 ] ، وأيضاً : أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنَّ له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل ، فلما كان يوهم إقدامه على القتل ، أوجب إهدار دمه ، فلأن يكون عند صدور القتل عنه حقيقة يصير دمه مهدراً أولى . فصل من الأفعال ما يمكن الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر ، ومنها ما لا يقبل الإكراه ، قيل : وهو الزِّنا ؛ لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد ، وذلك يمنعُ من انتشار الآلة ، فحيث دخل الزِّنا في الوجود ، دل على أنَّه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه . وقيل : الإكراه على الزِّنا مقصور ؛ كما لو انتشر ذكره وهو نائمٌ فاستدخلته المرأة في تلك الحالة ، أو كان به مرض الانتصاب ، فلا يزال منتشراً ، أو علم أنَّه لا يخلص من الإكراه إلا باستحضار الأسباب الموجبة للانتشار . فصل قال القرطبي - رحمه الله تعالى - : ذهب بعض العلماء إلى أنَّ الرُّخصة إنما جاءت في القول ، وأما في الفعل فلا رخصة فيه ؛ مثل أن يكره على السُّجود لغير الله تعالى أو الصَّلاة لغير القبلة ، أو قتل مسلم ، أو ضربه ، أو أكل ماله ، أو الزِّنا ، أو شرب الخمر ، أو أكل الرِّبا ، روي ذلك عن الحسن البصري ، وهو قول الأوزاعي والشافعي وبعض المالكيَّة - رضي الله تعالى عنهم - . فصل قال القرطبي : وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان : الأول : أن يبيع ماله في حق وجوب عليه ، فذلك ماضٍ سائغ لا رجوع فيه ؛ لأنَّه يلزمه أداء الحقِّ من غير المبيع ، وأما بيع المكره ظلماً أو قهراً ، فذلك لا يجوز عليه ، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن ، ويتبع المشتري بالثَّمن ذلك الظالم فإنْ فات المتاع ، رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه ، وأما يمين المكره فغير لازمةٍ عند مالك والشافعي - رضي الله عنهما - وأكثر العلماء ، قال ابن العربي : " واختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع أم لا ؟ " . قال ابن العربي رحمه الله : " وأي فرقٍ بين الإكراه على اليمين في أنَّها لا تلزم ، وبين الحنث في أنه لا يقع " . فصل إذا أكره الرَّجل على أن يحلف وإلاَّ أخذ ماله ، فقال مالك : لا تقيَّة في المال ، فإنَّما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه . وقال ابن الماجشون : " لا يحنث وإن درأ عن ماله أيضاً " . قال القرطبي : " وأجمع العلماء على أنَّ من أكره على الكفر فاختار القتل ، أنَّه يكون أعظم أجراً عند الله ممَّن اختار الرخصة " . فصل قال الشافعي وأحمد - رضي الله عنهما - : لا يقع طلاق المكره ، وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : يقع . واستدلَّ الشافعي - رضي الله عنه - بقوله - تعالى - : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } [ البقرة : 256 ] ، ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته ؛ لأن ذاته موجودة ؛ فوجب حمله على نفي آثاره ، أي : لا أثر له ولا عبرة به ، وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : " رُفِعَ عن أمَّتي الخَطأ والنِّسيَانُ وما اسْتكْرِهُوا عليْهِ " . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " لا طَلاقَ في إغلاقٍ " ، أي : إكراه . فإن قالوا : طلقها ، فيدخل تحت قوله - تعالى - : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ } [ البقرة : 230 ] . فالجواب : لمَّا تعارضت الدلائل ، وجب أن يبقى ما كان على ما كان هو لنا . فصل قال القرطبي - رحمه الله - : " وأما نكاح المكره : فقال سحنون : أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة وقالوا : لا يجوز المقام عليه ؛ لأنَّه لم ينعقد ، فإن وطئها المكره على النِّكاح ، لزمه المسمَّى من الصَّداق ولا حد عليه " . قوله : { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ } أي : إنه - تعالى - حكم عليهم بالعذاب ، ثم وصف ذلك العذاب فقال - تعالى - : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . قوله : { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ } مبتدأ وخبره ؛ كما تقدم ، والإشارة بـ " ذلك " إلى ما ذكر من الغضب والعذاب ؛ ولذلك وحَّد ، كقوله : " بين ذلك " و : [ الرجز ] @ 3362 - كَأنَّهُ في الجِلْدِ … @@ قوله : { ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَٰوةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَى ٱلآخِرَةِ } أي : ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر ؛ لأجل أنَّهم رجَّحوا الدنيا على الآخرة ، { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } أي : ذلك الارتداد إنما حصل لأجل أنه - تعالى - ما هداهم إلى الإيمان ، وما عصمهم عن الكفر . قال القاضي : المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنَّة ، وهذا ضعيف ؛ لأن قوله - تعالى - : { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } معطوف على قوله : { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَى ٱلآخِرَةِ } فوجب أن يكون قوله : { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } علَّة وسبباً موجباً لإقدامهم على ذلك الارتداد ، وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سبباً لذلك الارتداد ولا علَّة ، بل كسباً عنه ولا معلولاً له ، فبطل هذا التَّأويل . ثم أكد أنه - تعالى - صرفهم عن الإيمان ؛ فقال - عز وجل - : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } قال القاضي : الطبع ليس يمنع من الإيمان لوجوه : الأول : أنه - تعالى - أشرك ذكر ذلك في معرض الذَّم ، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذَّم بتركه . الثاني : أنه - تعالى - أشرك بين السَّمع ، والبصر ، والقلب في هذا الطبع ، ومعلوم أن مع فقد السمع والبصر قد يصحُّ أن يكون مؤمناً ، فضلاً عن طبع يلحقهما في القلب . الثالث : وصفهم بالغفلة ، ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه ، فثبت أن المراد بهذا الطَّبع السِّمة والعلامة التي يخلقها في القلب ، وتقدَّم الجواب في أول سورة البقرة . ثم قال - تعالى - : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أي : عما يراد بهم في الآخرة . ثم قال : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } ، أي : المغبونون ، والموجب لهذا الخسران أنه - تعالى - وصفهم بصفاتٍ ستة : أولها : أنهم استوجبوا غضب الله . وثانيها : أنَّهم استحقُّوا العذاب الأليمَ . وثالثها : أنَّهم استحبُّوا الحياة الدُّنيا على الآخرة . ورابعها : أنه - تعالى - حرمهم من الهِدايةِ . وخامسها : أنه - تعالى - طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم . وسادسها : أنه - تعالى - جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة ، فكل واحد من هذه الصِّفات من أعظم الموانع عن الفوز بالسعادات والخيرات ، ومعلوم أنه - تعالى - إنما أدخل الإنسان في الدنيا ؛ ليكون كالتَّاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة ، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة ، عظم خسرانه ؛ فلهذا قال - تعالى - : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أي هم الخاسرون لا غيرهم . قوله - تعالى - : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ } الآية لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه ، وحال من أكره على الكفر ذكر [ بعده ] حال من هاجر من بعد ما فتن . في خبر " إنَّ " هذه ثلاثة أوجه : أحدها : قوله - تعالى - : { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، و " إنَّ ربَّكَ " الثانية ، واسمها تأكيد للأولى واسمها ؛ فكأنه قيل : ثمَّ إنَّ ربّك إنَّ ربَّك لغفور رحيم ، وحينئذ يجوز في قوله : " للَّذِينَ " وجهان : أحدهما : أن يتعلق بالخبرين على سبيل النتازع ، أو بمحذوف على سبيل البيان ؛ كأنه قيل : الغفران والرحمة للَّذين هاجروا . الثاني : أن الخبر هو نفس الجار بعدها ؛ كما تقول : إنَّ زيداً لك ، أي : هو لك لا عليك ، بمعنى : هو ناصرهم لا خاذلهم ، قال معناه الزمخشري ، ثم قال : " كما يكون الملك للرجل لا عليه ، فيكون محميًّا منفُوعاً غير مضرورٍ " . قال شهاب الدِّين : " قد يتوهَّم أن قوله : " مَنْفُوعاً " استعمال غير جائز ؛ لما قاله الأهوازي عليه رحمة الله في شرح موجز الرماني : إنَّه لا يقال : " مَنْفُوع " اسم مفعول من نفعته ، فإن الناس قد ردُّوا على الأهوازي " . الثالث : أن خبر الأولى مستغنًى عنه بخبر الثانية ، يعني : أنه محذوف لفظاً ؛ لدلالة ما بعده عليه ، وهذا معنى قول أبي البقاء : " وقيل : لا خبر لـ " إنَّ " الأولى في اللَّفظ ؛ لأنَّ خبر الثانية أغنى عنه " . وحينئذ لا يحسن ردُّ أبي حيَّان عليه بقوله : " وهذا ليس بجيّد ؛ لأنه ألغى حكم الأولى ، وجعل الحكم للثانية ، وهو عكس ما تقدَّم ، وهو لا يجوز " . قوله : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } قرأ ابن عامر : " فَتَنُوا " مبنيًّا للفاعل ، أي : فتنوا أنفسهم فإن عاد الضمير على المؤمنين ، فالمعنى : فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول ظاهراً ، أو أنهم صبروا على عذاب المشركين ، فكأنهم فتنوا أنفسهم . وإن عاد على المشركين ، فهو واضح ، أي : فتنوا المؤمنين . والباقون " فُتِنُوا " مبنياً للمفعول ، والضمير في " بَعْدهَا " للمصادر المفهومة من الأفعال المتقدمة ، أي : من بعد الفتنة ، والهجرة ، والجهاد . وقال ابن عطيَّة : " عائدٌ على الفتنة ، أو الفتنة والهجرة أو الجهاد أو التوبة " . فصل وجه القراءة الأولى أمور : الأول : أن يكون المراد أنَّ أكابر المشركين - وهم الذين آذوا فقراء المسلمين - لو تابوا وهاجروا وصبروا ، فإنَّ الله يقبل توبتهم . والثاني : أن " فَتَن " و " أفْتنَ " بمعنى واحد ؛ كما يقال : مَانَ وأمَان بمعنى واحد . والثالث : أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقيَّة ؛ فكأنهم فتنوا أنفسهم ؛ لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت . وأما وجه القراءة الثانية فظاهر ؛ لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم المشركون على الرجوع عن الإيمان ، فبين - تعالى - أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا ، فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم كلمة الكفر . فصل يحتمل أن يكون المراد بالفتنةِ : هو وأنهم عذِّبوا ، وأنهم خوِّفوا بالتَّعذيب ، ويحتمل أن يكون المراد : أن أولئك المسلمين ارتدُّوا . وقال الحسن - رضي الله عنه - : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكَّة ، فعرضت لهم فتنة فارتدُّوا ، وشكُّوا في الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ثم أسلموا وهاجروا ، ونزلت هذه الآية فيهم . وقيل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستزلَّه الشيطان فلحق بالكفَّار ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكَّة بقتله ، فاستجار له عثمان ، وكان أخاهُ لأمه ، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه أسلم وحسن إسلامه فأنزل الله هذه الآية ؛ قاله الحسن وعكرمة . وهذه الرِّواية إنا تصحُّ إذا جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنيَّة ، ويحتمل أن يكون المراد : أنَّ أولئك الضعفاء المعذَّبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقيَّة ، فقوله : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } يحتمل كلَّ واحدٍ من هذه الوجوه ، وليس في اللفظ ما يدل على التَّعيين . وإذا كان كذلك ، فهذه الآية إن كانت نازلة فيمن أظهر الكفر ، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه ، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره ، وإن كانت نازلة فيمن ارتدَّ ، فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب ، ويحصل له الغفران والرحمة . قوله : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ } يجوز أن ينتصب " يَوْمَ " بـ " رَحِيمٌ " ولا يلزم من ذلك [ تقييد ] رحمته بالظرف ؛ لأنه إذا رحم في هذا اليوم ، فرحمته في غيره أحرى وأولى . وأن ينتصب بـ " اذكُر " مقدَّرة ، وراعى معنى " كل " فأنث الضمائر في قوله " تُجَادلُ … إلى آخره " ؛ ومثله قوله : [ الكامل ] @ 3363 - جَادَتْ عَليْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتركْنَ كُلَّ قَرارَةٍ كالدَّرهَمِ @@ إلا أنه زاد في البيت الجمع على المعنى ، وقد تقدَّم أول الكتاب . وقوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } حملاً على المعنى ؛ فلذلك جمع . فإن قيل : النَّفس لا تكون لها نفس أخرى ، فما معنى قوله : " تُجادِلُ عن نَفْسِهَا " ؟ . فالجواب : أن النَّفْس قد يراد بها بدن [ الإنسان ] الحيّ ، وقد يراد بها ذات الشيء وحقيقته ، فالنفس الأولى هي الجثَّة والبدن ، والثانية : عينها وذاتها ؛ فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ، ولا يهمه شأن غيره ، قال - تعالى - : { لِكُلِّ ٱمْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] . روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لكعب الأحبار : خوِّفنا ، قال يا أمير المؤمنين : والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيًّا ، لأتت عليك تارات وأنت لا يهمُّك إلا نفسك ، وإن لجهنَّم زفرة ما يبقى ملك مقرَّب ، ولا نبي مرسلٌ إلا وقع جاثياً على ركبتيه ، حتَّى إن إبراهيم خليل الرحمن - صلوات الله وسلامه عليه - ليدلي بالخلَّة فيقول : يا ربِّ ، أنا خليلك إبراهيم لا أسألك إلا نفسي ، وأن تصديق ذلك الذي أنزل عليكم : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } ، ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار ؛ كقولهم : { هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا } [ الأعراف : 38 ] ، وكقولهم : { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] . { وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } فيه محذوف ، أي : جزاء ما عملت من غير بخسٍ ولا نقصان ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } لا ينقصون . روى عكرمة عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - في هذه الآية قال : " ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة ، حتى تخاصم الرُّوح الجسد ، فتقول الرُّوح : يا رب ، لم تكن لي يدٌ أبطش بها ، ولا رجلٌ أمشي بها ، ولا عينٌ أبصر بها ، ولا أذن أسمع بها ، ولا عقلٌ أعقل به ، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعِّف عليه أنواع العذاب ، ونجِّني ، ويقول الجسد : يا ربِّ ، أنت خلقتني بيدك ، فكنت كالخشبة ، وليس لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عينٌ أبصر بها ، ولا سمع أسمع به ، فجاء هذا كشُعَاع النُّور ، فيه نطق لساني ، وأبصرت عيني ، ومشت رجلي ، وسمعت أذني ، فضعِّف عليه أنواع العذاب ، ونجِّني منه ، قال : فيضرب الله لهما مثلاً ؛ أعمى ومقعداً دخلا [ بستاناً ] فيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثَّمر ، والمقعد لا يتناوله ، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر ، [ فغشيهما ] العذاب " .