Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 90-97)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإِحْسَانِ } الآية لما شرح الوعد ، والوعيد ، والتَّرغيب ، والتَّرهيب ، أتبعه بقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإِحْسَانِ } فجمع في هذه الآية ما يتصل بالتكاليف ؛ فرضاً ، ونفلاً ، وما يتصل بالأخلاق ، والآداب : عموماً وخصوصاً . روى ابن عباس - رضي الله عنه - : أن عثمان بن مظعون الجمحيَّ قال : ما أسلمتُ أولاً إلاَّ حياء من محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يتقرر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم ، فبينما هو يحدِّثني ، إذ رأيت بصره شخص إلى السماءِ ، ثم خفضه عن يمينه ، ثم عاد لمثل ذلك ؛ فسألته - صلوات الله وسلامه عليه - فقال : " بينما أنا أحدِّثك إذ بجبريل - صلوات الله وسلامه عليه - ينزل عن يميني ، فقال : يا محمد ، إنَّ الله - تعالى - يأمرك بالعدل : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإحسان : القيام بالفرائض ، وإيتاء ذي القربى ، أي : صلة القربى ، وينهى عن الفحشاء : الزِّنا ، والمنكرِ : ما لا يعرف في شريعة ، ولا سنة ، والبغي : الاستطالة " . قال عثمان : فوقع الإيمان في قلبي ، فأتيت أبا طالب ؛ فأخبرته ، فقال : يا معشر قريش ، اتَّبعُوا ابن أخي ؛ ترشدوا ، ولئن كان صادقاً أو كاذباً ، فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق ، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم من عمه اللِّين قال : يا عمَّاه ، أتأمر الناس أن يتَّبعوني ، وتدع نفسك ! وجهد عليه ؛ فأبى أن يسلم ؛ فنزل : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - " إنَّ أجمع آيةٍ في القرآن لخيرٍ وشرٍّ هذه الآية " . وعن قتادة : ليس في القرآن من خلقٍ حسنٍ ، كان في الجاهلية يعمل ، ويستحسن ، إلاَّ أمر الله - تعالى - به في هذه الآية ، وليس من خلقٍ سيِّىءٍ ، إلاَّ نهى عنه في هذه الآية . وعن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال : " أمر الله - تعالى - نبيَّهُ أن يعرض نفسه على قبائل العرب ؛ فخرج ، وأنا معه وأبو بكرٍ - رضي الله عنه - فوقفنا على مجلسٍ عليهم الوقارُ ، فقال أبُو بكر - رضي الله عنه - : ممَّن القوم ؟ فقالوا : من شيبان ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشهادتين إلى أن ينصروه ؛ فإنَّ قريشاً كذَّبوه ، فقال مقرون بن عمرو : إلام تدعونا ، أخا قريش ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإِحْسَانِ } الآية فقال مقرون : دعوت والله ، إلى مكارم [ الأخلاق ] ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قومٌ كذَّبوك ، وظاهروا عليك " . فصل قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه - : العدلُ : التوحيدُ ، والإحسانُ : أداءُ الفرائضِ ، وعنه : العدلُ : الإخلاصُ في التوحيد ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّكَ تَراهُ " وسمِّي هذا إحساناً ؛ لأنه محسن إلى نفسه . وقيل : العدلُ : في الأفعال ، والإحسان : في الأقوال ؛ فلا تفعل إلاَّ ما هو عدلٌ ، ولا تقل إلاَّ ما هو إحسانٌ . قوله : { وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ } مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ، ولم يذكر متعلقات العدلِ والإحسان والبغي ؛ ليعمَّ جميع ما يعدل فيه ، ويحسن به وإليه ويبغي فيه ، ولذلك لم يذكر المفعول الثاني للإيتاء ، ونصَّ على الأول حضًّا عليه ؛ لإدلائه بالقرابة ، فإنَّ إيتاءه صدقة وصلة . قال - صلوات الله وسلامه عليه - : " إنَّ أعجلَ الطَّاعةِ ثَواباً صِلةُ الرَّحمِ " . وقوله : { وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ } قيل : الزِّنا ، وقيل : البُخل ، وقيل : كل [ ذنب ] صغيرة كانت أو كبيرة ، وقيل : ما قبح من القول أو الفعل ، وأما المنكر فقيل : الكفر بالله ، وقيل : ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ، والبغي : التَّكبر والظُّلم . فصل قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - كلاماً حاصله : إنَّ في المأمورات كثرة ، وفي المنهيَّات كثرة ، وإنتما يحسن في تفسير لفظ بمعنًى إذا كان بين ذلك اللفظ والمعنى مناسبة ، وألا يكون ذلك التفسير فاسداً ، فإذا فسَّرنا العدل بشيء مثلاً ، وجب أن يتبيَّن مناسبة العدل لذلك المعنى ، وألاَّ يكون مجرَّد تحكم ، فنقول : إنه - تعالى - أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء ؛ وهي : العدل والإحسان وإيتاءِ ذي القربى ، ونهى عن ثلاثة أشياء ؛ وهي : الفحشاء والمنكر والبغي ، فوجب أن يكون كل ثلاثة منها متغايرة ؛ لأن العطف يوجب المغايرة ، فنقول : العدل عبارة عن الأمور المتوسِّطة بين طرفي الإفراط والتَّفريط ، وذلك واجب الرِّعاية في جميع الأشياء ، فنقول : التَّكليف إمَّا في الاعتقادات وإما في أعمال الجوارح . أما الاعتقاد فنذكر منه أمثلة : أحدها : ما قاله ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : إن العدل هو قولنا : لا إله إلاَّ الله ، وتحقيقه : أنَّ نفي الإله تعطيلٌ محضٌ ، وإثبات أكثر من إله واحد إشراك وتشبيه ، وهما مذمومان ، والعدل هو إثبات إلهٍ واحد . وثانيها : أن القول بأنَّ الإله ليس بموجود ولا شيء تعطيل محضٌ ، والقول بأنه جسم مركب ومتحيِّز تشبيه محضٌ ، والعدل : إثبات إلهٍ واحدٍ موجودٍ منزَّه عن الجسميَّة والأجزاء والمكان . وثالثها : أن القول بأنَّ الإله غير موصوف بالصِّفات من العلم والقدرة تعطيل محضٌ ، و القول بأنَّ صفاته حادثة متغيِّرة تشبيه محض ، العدل : إثبات أن الإله عالم قادرٌ حيٌّ ، وأن صفاته ليست محدثة ولا متغيرة - سبحانه وتعالى - . ورابعها : أن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محضٌ ، والقول بأن العبد مستقلٌّ بأفعاله قدر محضٌ ؛ وهما مذمومان ، والعدل أن يقال : إن العبد يفعل الفعل بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله فيه . وأما رعاية العدل في أفعال الجوارح فنذكر منه أمثلة : أحدها : قال قوم : لا يجب على العبد شيء من الطَّاعات ، ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي ، ونفورا التَّكاليف أصلاً . وقال المانويَّة وقوم من الهند : إنه يجب على الإنسان أن يجتنب الطيِّبات ، ويحترز عن كل ما يميل الطَّبع إليه ، ويبالغ في تعذيب نفسه ، حتى إن المانويَّة يخصُّون أنفسهم ويحترزون عن التزوج ، ويحترزون عن أكل الطَّعام الطيِّب ، والهند يحرقون أنفسهم ، ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل ، فهذان الطريقان مذمومان ، والعدل هو شرعنا . وثانيها : قيل : إنه كان في شرع موسى - صلوات الله وسلامه عليه - في القتلِ العمد استيفاءُ القصاص لا محالة ، وفي شرع عيسى - صلوات الله وسلامه عليه - العَفو ، وأمَّا في شرعنا : فإن شاء استوفى القصاص ، وإن شاء عفا عن الدِّية ، وإن شاء عفا مطلقاً . وقيل : كان في شرع موسى - صلوات الله وسلامه عليه - الاحتراز العظيم عن الحائض ؛ حتَّى إنَّه يجب إخراجها من الدَّار ، وفي شرع عيسى صلى الله عليه وسلم حلُّ وطئها ، والعدل ما حكم به شرعنا ؛ وهو تحريم وطئها فقط . وثالثها : قال - تعالى - : { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] وقال - جل ذكره - : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] وقال - جل ذكره - : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُ الأمُورِ أوْسَطُهَا " . ورابعها : أن شريعتنا أمرت بالختان ، والحكمة فيه : أن رأس الذَّكر جسم شديد الإحساس ، فلو بقيت القلفة ، لبقي العضو على كمال قوَّته ، فيعظم الالتذاذ ، أمَّا إذا قطعت الجلدة ، بقي العضو عارياً ، فيلقى الثياب وسائر الأجسام ، فيتصلب فيضعف حسُّه ويقل شعوره ، فيقلُّ الالتذاذُ بالوقاع ، فتقلُّ الرغبة فيه ، فأمرت الشريعة بالختان ؛ سعياً في تقليل تلك اللذة ، حتَّى يصير ميلُ الإنسان إلى الوقاع معتدلاً ، وألاّ تصير الرَّغبة فيه داعية غالبة على الطَّبع . فالذي ذهب إليه المانويَّة من الإخصاء وقطع الآلات مذموم ؛ لأنه إفراطٌ ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة ، والعدل الوسط هو الختانُ . واعلم أن الزِّيادة على العدل قد تكون إحساناً ، وقد تكون إساءة ؛ فالعدل في الطاعات هو أداءُ الواجبات ، والزيادة على الواجبات طاعاتٌ ، فهي من جملة الإحسانِ ؛ ولهذا قال - صلوات الله وسلامه عليه - لجبريل - صلوات الله وسلامه عليه - حين سأله عن الإحسان : " أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّك تَراهُ فإن لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ " . وسمِّي هذا المعنى بالإحسان ؛ لأنه بالمبالغة في الطاعة ، كأنه يحسن إلى نفسه بإيصالِ الخير والفعل الحسن ، ويدخل في الإحسان التعظيم لأمر الله ، والشَّفقة على خلق الله ، ويدخل في الشَّفقة على خلق الله أقسامٌ كثيرة ، وأعظمها : صلة الرحم ؛ فلهذا أفرده - تعالى - بالذِّكر ، فقال - تعالى - : { وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ } وأما الثَّلاثة التي نهى الله عنها ؛ وهي : " الفحشاء والمنكر والبغي " فنقول : إنه - تعالى - أودع في النَّفس البشرية قوى اربعة ؛ وهي : الشَّهوانيَّة البهيميَّة ، والغضبية والسبعيَّة ، والوهميَّة الشيطانية ، والعقلية الملكية . فالعقلية الملكيَّة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها ؛ لأنه من جوهر الملائكة . وأما القوَّة الشهوانية فرغبتها في تحصيل اللذَّات الشهوانية ، وهذا النَّوع مخصوص بالفحشاءِ ، ألا ترى أنه - تعالى - سمى الزنا فاحشة ؛ فقال - جل ذكره - : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] ، وقوله - تعالى - : { وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ } المراد منه : المنع من تحصيل اللذات الشهوانيَّة . وأما القوَّة الغضبية السبعية : فهي أبداً تسعى في إيصال الشرور والأذى إلى سائر النَّاس ، وهذا ممَّا ينكره الناس ، فالمنكر عبارةٌ عن الإفراطِ الحاصل من آثار القوَّة الغضبيَّة . وأما القوة الوهمية الشيطانية : فهي أبداً تسعى في الاستعلاء على الناس ، والترفع وإظهار الرِّياسة والتكبُّر ، وذلك هو المراد من البغي ؛ فإنه لا معنى للبغي إلا التَّطاول على الناس والترفُّع عليهم . قوله : " يَعِظُكمْ " يجوز أن يكون مستأنفاً في قوَّة التعليل للأمر بما تقدم ، أي : أن الوعظ سبب في أمره لكم بذلك ، وجوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير في " يَنْهَى " . وفي تخصيصه الحال بهذا الفاعل فقط نظر ؛ إذ يظهر جعله حالاً من فاعل " يَأمرُ " أيضاً ، بل أولى ؛ فإنَّ الوعظ يكون بالأوامر والنَّواهي ، فلا خصوصية له بالنَّهي . ثم قال تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } قال الكعبي : دلَّت الآية على أنَّه - تعالى - لا يخلق الجور والفحشاء من وجوه : الأول : أنه - تعالى - كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم ، وكيف ينهى ويريد تحصيله فيهم ؟ ولو كان الأمر ما قالوه ، لكان كأنَّه - تعالى - قال : إنَّما يأمركم بخلاف ما خلقه فيكم ، وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم ، وذلك باطلٌ في بديهة العقل . الثاني : أنه - تعالى - أمر بالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فلو أنَّه - تعالى - أمر بتلك الثلاثة ، ثم إنه - تعالى - ما فعلها ، لدخل تحت قوله - تعالى - : { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] ، وقوله - عز وجل - : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ، 3 ] . الثالث : أن قوله - تعالى - : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ليس المراد منه الترجِّي والتَّمني ؛ فإن ذلك محالٌ على الله - تعالى - ، فوجب أن يكون معناه : أنه - تعالى - يعظكم لإرادة أن يذكروا طاعته ، وذلك يدلُّ على أنه يريد الإيمان من الكلِّ . الرابع : أنه - تعالى - لو صرَّح وقال : إن الله يأمر بالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، ولكنَّه يمنع منه ويصدُّ عنه ، ولا يمكن العبد منه ، ثم قال - تعالى - : { وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْيِ } ، ولكنَّه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى ، وأراده منه ومنعه من تركه ، ومن الاحتراز عنه ؛ لحكم كل واحدٍ عليه بالرَّكاكة وفساد النظم والتركيب ، وذلك يدلُّ على كونه - تعالى - منزَّهاً عن فعل القبائح . والمعتمد في الجواب مسألة العلم والدَّاعي . فصل اتَّفق المتكلِّمون من أهل السنَّة ومن المعتزلة على أن تذكُّر الأشياء من فعل الله - تعالى - لا من فعل العبد ؛ لأنَّ التذكُّر عبارة عن طلب المتذكر ، فحال الطَّلب إمَّا أن يكون لديه شعور أو لا يكون ؛ فإن كان له شعور به ، فذلك الذِّكر حاصلٌ ، والحاصل لا يطلب تحصيله ، وإن لم يكن له به شعور ، فكيف يطلبه بعينه ؛ لأنَّ توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون بعينه متصوراً محال . إذا ثبت هذا ، فقوله : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } معناه : أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكُّر ، فإذا لم يكن التذكر فعلاً له ، فكيف طلب منه تحصيله ؟ وهذا هو الذي يحتجُّ به أهل السنَّة على أنَّ قوله : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } لا يدلُّ على أنه - تعالى - يريد ذلك منه . قوله - تعالى - : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ } الآية لما جمع المأمورات والمنهيَّات في الآية الأولى على سبيل الإجمال ، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام ، فبدأ بذكر الوفاء بالعهد . قال الزمخشري : عهد الله : هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ؛ لقوله - تعالى - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ، { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } وقيل : كل عهدٍ يلتزمه الإنسان باختياره . قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : والوَعْدُ من العهد . وقال ميمون بن مهران : من عاهدته ، أوْفِ بعهده مسلماً كان أو كافراً ، فإنَّما وفاء العهد لله - تعالى - . وقال الأصم : المراد منه الجهاد ، وما فرض الله في الأموال من حق ، وقيل : عهد الله هو اليمين بالله . قال الشعبي : العهد يمين الله ، وكفَّارته كفارة يمين ، وإنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ حَلفَ علَى يَمِينٍ فَرَأى غَيْرهَا خَيْراً مِنْها فلْيَأتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ وليكفرْ عن يَمينهِ " . واعلم أن قوله - تعالى - : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ } يجب أن يكون مختصًّا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه ، ويؤيِّده قوله - عز وجل - بعد ذلك : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } ، وأيضاً : يجب ألا يحمل العهد على اليمين ؛ لأنَّا لو حملناه على اليمين ، لكان قوله بعد ذلك : { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } تكرار ؛ لأنَّ الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان ؛ لأن الأمر بالفعل يستلزم النَّهي عن التَّرك ؛ إلاَّ إذا قلنا : إن الوفاء بالعهد عامٌّ يدخل تحته اليمين ، ثم إنَّه تعالى - خصَّ اليمين بالذِّكر ؛ تنبيهاً على أنَّه أولى أنواع العهد على ما تقدَّم ، يلتزمه الإنسان باختياره ، ويدخل فيه عهد الجهاد ، وعهد الوفاءِ بالملتزمات من المنذورات والمؤكدات بالحلف . قوله : " بَعْدَ تَوكِيدهَا " متعلق بفعل النَّهي ، والتَّوكيد مصدر وكَّد يُوكِّدُ بالواو وفيه لغة أخرى : أكَّد يُؤكِّدُ بالهمز ، ومعناه : التقوية ؛ وهذا كقولهم : أرَّخْتُ الكتابَ ووَرَّخْتهُ ، وليست الهمزة بدلاً من واو كما زعم أبو إسحاق ؛ لأن الاستعمالين في المادَّتين متساويان ، فليس ادِّعاء كون أحدهما أصلاً أولى من الآخر ، وتبع مكي الزجاج - رحمهما الله تعالى - في ذلك ، ثم قال : " ولا يحسن أن يقال : الواو بدل من الهمزة ، كما لا يحسن أن يقال ذلك في " أحد " ، إذ أصله " وحَد " فالهمزة بدلٌ من الواو " يعني : أنه لا قائل [ بالعكس ] . وكذلك تبعه في ذلك الزمخشري أيضاً ، و " تَوْكيدِهَا " مصدر مضافٌ لمفعوله ، وأدغم أبو عمرو الدَّال في التَّاء ، ولا ثاني له في القرآن ، أعني : أنه لم يدغم دال مفتوحة بعد ساكنٍ إلاَّ في هذا الحرف . قوله تعالى : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ } الجملة حال : إمَّا من فاعل " تَنْقضُوا " ، وإمَّا من فاعل المصدر وإن كان محذوفاً . فصل المعنى : ولا تنقضوا الأيمان بعد تشديدها فتحنثوا فيها ، و { وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } : شهيداً عليكم بالوفاء . { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } قالت الحنفيَّة : يمين اللَّغو هي يمين الغموس ؛ لقوله - تعالى - : { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } فنهى عن نقض الأيمان فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث ، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث ، فوجب ألا يكون من الأيمان . وقال غيرهم : هي قول الإنسان في معرض حديثه : لا والله ، وبلى والله ؛ لأن قوله - تعالى - { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } إنما تقال للفرق بين الأيمان المؤكَّدة بالعزم وبالعقد ، وبين غيرها . واعلم أن قوله - تعالى - : { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } عامٌّ دخله التخصيص ؛ لما تقدَّم من قوله - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ حَلفَ على يمينٍ فَرأى غَيْرهَا خيْراً منهَا ، فليَأتِ الَّذِي هو خَيْرٌ وليُكفر عن يَمينهِ " . ثم إنه - تعالى - ضرب مثلاً لنقض العهد ، فقال - جل ذكره - : { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } ، أي : من بعد إبرامه وإحكامه . قال الكلبيُّ ومقاتل - رحمهما الله تعالى - : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش ، يقال لها : ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم ، وتلقب بـ " جعراء " ، وكانت بها وسوسة وكانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع ، وصنَّارة مثل الأصبع ، وفلكة عظيمة على قدرها ، وكانت تغزل الغزل من الصوف أو الشعر والوبر هي وجواريها ، فكُنَّ يغزلنَ إلى نصف النَّهار ، فإذا انتصف النَّهار ، أمرتهنَّ بنقض جميع ما غزلن ، فكان هذا دأبها . والمعنى : أنَّها لم تكفَّ عن العمل ، ولا حين عملت كفَّت عن النقض ، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد لا كفَّيتم عن العهد ، ولا حين [ عهدتم ] وفيتم به . وقيل : المراد بالمثل : الوصف دو التَّعيين ؛ لأن القصد بالأمثال صرف المكلَّف عن الفعل إذا كان قبيحاً ، والدُّعاء إليه إذا كان حسناً ، وذلك يتم دون التَّعيين . قوله تعالى : " أنكاثاً " فيه وجهان : أظهرهما : أنه حال من " غَزلِهَا " ، والأنْكَاثُ : جمع نِكْث بمعنى منكُوث ، أي : منقوض . والثاني : أنه مفعول ثان لتضمين " نَقضَتْ " معنى صيَّرت ؛ كما تقول : فرقته أجزاء . وجوَّز الزجاج فيه وجهاً ثالثاً ، وهو النصب على المصدرية ؛ لأنَّ معنى نكثت : نقضت ، ومعنى نقضت : نكثت ؛ فهو ملاق لعامله في المعنى . قيل : وهذا غلط منه ؛ لأنَّ الأنكاث جمع نكث ، وهو اسمٌ لا مصدر ، فكيف يكون قوله : " أنْكَاثاً " بمعنى المصدر ؟ . والأنْكَاث : الأنقاض ، واحدها نِكْث ؛ وهو ما نقض بعد الفتل غزلاً كان أو حبلاً . فصل قال ابن قتيبة : هذه الآية متَّصلة بما قبلها ، والتقدير : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، فإنَّكم إن فعلتم ذلك ، كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ، فلما استحكم ، نقضته فجعلته أنكاثاً . قوله تعالى : { تَتَّخِذُونَ } يجوز أن يكون الجملة حالاً من واو " تكونوا " ، أو من الضمير المستتر في الجارِّ ؛ إذ المعنى : تكونوا مشبهين كذا حال كونكم متَّخذين ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار . قوله : " دَخَلاً بَيْنكُمْ " هو المفعول الثاني لـ " تَتَّخِذُونَ " ، والدَّخلُ : الفساد والدَّغل . وقيل : " دَخَلاً " مفعول من أجله ، وقيل : الدَّخل : الدَّاخل في الشيء ليس منه . قال الواحدي - رحمه الله تعالى - : " الدَّخلُ والدَّغلُ : الغِشُّ والخِيانةُ " . وقيل : الدَّخل : ما أدخل في الشيء على فسادٍ ، وقيل : الدَّخل والدَّغل : أن يظهر الوفاء به ويبطن الغدر والنقض . وقوله تعالى : " أنْ تَكُونَ " أي : بسبب أن تكون ، أو مخافة أن تكون ، و " تكون " يجوز أن تكون تامة ؛ فتكون " أمَّةٌ " فاعلها ، وأن تَكُونَ ناقصة ، فتكون " أمَّةٌ " اسمها وهي مبتدأ ، و " أرْبَى " خبره ، والجملة في محلِّ نصب على الحال على الوجه الأول ، وفي موضع الجر على الوجه الثاني ، وجوَّز الكوفيون أن تكون " أمَّةٌ " اسمها ، و " هِيَ " عماد ، أي : ضمير فصل ، و " أرْبَى " خبر " تَكونُ " ، والبصريُّون لا يجيزون ذلك ؛ لأجل تنكير الاسم ، فلو كان الاسم معرفة ، لجاز ذلك عندهم . فصل قال مجاهد - رحمه الله - : كانوا يحالفون الحلفاء ، فإذا وجدوا قوماً أكثر منهم وأعزَّ ، نقضوا حلف هؤلاء ، وحالفوا الأكثر ، فالمعنى : طلبتم العز بنقص العهدِ ؛ بأن كانت أمة أكثر من أمةٍ ، فنهاهم الله - تعالى - عن ذلك . ومعنى " أرْبَى من أمَّةٍ " ؛ أي : أزيدُ في العدد ، والقوَّة ، والشَّرف . ثم قال - جل ذكره - : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ } ، أي يختبركم الله بأمره إيَّاكم بالوفاءِ بالعهد . والضمير في " به " يجوز أن يعود على المصدر المنسبك من " أنْ تَكُونَ " ، تقديره : إنَّما يَبلُوكمُ الله بكون أمَّة ، أي : يختبركم بذلك . وقيل : يعود على الرِّبا المدلول عليه بقوله : " هي أرْبَى " . وقيل : على الكثرة ؛ لأنَّها في معنى الكثير . قال ابن الأنباري رحمه الله تعالى : لما كان تأنيثها غير حقيقي ، حملت على معنى التَّذكير ؛ كما حملت الصَّيحة على الصِّياح ولم يتقدم للكثرة للفظ ، وإنما هي مدلول عليها بالمعنى من قوله تعالى : { هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } . ثم قال : { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } في الدُّنيا ، فيميِّز المحقَّ من المبطل . قوله - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } الآية لما أمر القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه ، أتبعه ببيان أنه - تعالى - قادرٌ على أن يجمعهم على هذا الوفاء ، وعلى سائر أبواب الإيمان ، ولكنَّه - سبحانه وتعالى جل ذكره - بحكم الألوهية يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء . والمعتزلة حملوا ذلك على الإلجاء ، أي : لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الكفر ، لقدر عليه ، إلاَّ أنَّ ذلك يبطل التَّكليف ، فلا جرم ما ألجأهم إليه ، وفوَّض الأمر إلى اختيارهم ، وقد تقدَّم البحث في ذلك . وروى الواحدي رحمه الله : أنَّ عزيراً قال : ربِّ ، خلقت الخلق فتضلُّ من تشاء وتهدي من تشاء ، فقال : يا عزير ، أعرض عن هذا ، فأعاده ثانياً ، فقال : يا عزير أعرض عن هذا ، فأعاده ثالثاً ، فقال : أعرض عن هذا وإلا محوتُ اسمك من [ ديوان ] النبوَّة . قالت المعتزلة : ومما يدلُّ على أن المراد من هذه المشيئة مشيئته الإلجاء أنه - تعالى - قال بعده : { وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فلو كانت أعمال العباد بخلق الله - تعالى - ، لكان سؤالهم عنها عبثاً ، وتقدَّم جوابه . قوله تعالى - : { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } الآية لمَّا حذَّر في الآية الأولى عن نقض العهود والأيمان مطلقاً ، قال في هذه الآية : { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } وليس المراد منه التَّحذير عن نقض مطلق الأيمان ، وإلاَّ لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد ، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أو أقدموا عليها . فلهذا قال المفسرون : المراد : نهي الذين بايعوا الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - عن نقض عهده ؛ لأن قوله : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } لا يليق بنقض عهد قبله ، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وبشرائعه . وقوله - تعالى - : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } منصوب بإضمار " أنْ " على جواب النهي . وهذا مثل يذكر لكل من وقع في بلاءٍ بعد عافيةٍ ، أو سقط في ورطة بعد سلامة ، أو محنة بعد نعمة . قوله : { بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } " مَا " مصدرية ، و " صَددتُّمْ " يجوز أن يكون من الصُّدود ، وأن يكون من الصدِّ ، ومفعوله محذوف ، ونكِّرت " قدم " ؛ قال الزمخشري " فإن قلت : لِمَ وحِّدث القدم ونكِّرت ؟ . قلت : لاستعظام أن تزلَّ قدم واحدة عن طريق الحقِّ بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة ؟ " . قال أبو حيَّان : الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع ، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد ، فإذا لوحظ فيه المجموع ، كان الإسناد معتبراً فيه الجمعيَّة ، وإذا لوحظ فيه كل فردٍ فردٍ ، فإنَّ الإسناد مطابق للفظ الجمع كثيراً ، فيجمع ما أسند إليه ، ومطابق لكل فردٍ فرد فيفرد ؛ كقوله : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَءَاتَتْ } [ يوسف : 31 ] لما كان لوحظ في قوله : " لَهُنَّ " معنى لكل واحدة ، ولو جاء مراداً به الجمعيَّة أو على الكثير في الوجه الثاني ، لجمع المتَّكأ ؛ وعلى هذا يحمل قول الشاعر : [ الطويل ] @ 3359 - فإنِّي رأيْتُ الضَّامرينَ مَتاعهُمْ يَموتُ ويَفْنَى فَارضِخِي مِنْ وِعَائيَا @@ أي : رأيت كلَّ ضامرٍ ، ولذلك أفرد الضمير في " يَموتُ ويَفْنَى " ، ولمَّا كان المعنى : لا يتخذ كل واحدٍ منكم جاء " فتَزلَّ قدَمٌ " مراعاةً لهذا المعنى . ثم قال : " وتَذُوقُوا السوء " مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير ، إذا قلنا : إنَّ الإسناد لكل فرد فرد ، فتكون الآية قد تعرَّضت للنَّهي عن اتِّخاذ الأيمان دخلاً باعتبار المجموع ، وباعتبار كل فرد فرد ، ودلَّ على ذلك بإفراد " قَدمٌ " وبجمع الضمير في " وتَذُوقُواْ " . قال شهاب الدين - رضي الله عنه - : وبهذا التقدير الذي ذكره أبو حيان يفوت المعنى الجزل الذي اقتنصه الزمخشري من تنكير " قَدمٌ " وإفرادها ، وأمَّا البيت المذكور ، فإن النحويين خرَّجوه على أن المعنى : يَموتُ من ثم ومن ذكر ، وأفرد الضمير لذلك لا لما ذكر . فصل المعنى : وتذوقوا العذاب بصدِّكم عن سبيل الله ، وقيل : معناه : سهَّلتم نقض العهد على النَّاس بنقضكم العهد ، { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، أي : ذلك السوء الذي تذوقونه " عَذابٌ عَظيمٌ " . ثم أكَّد هذا التَّحذير فقال - جل ذكره - : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي : لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضاً قليلاً من الدنيا ، ولكن أوفوا بها فإنَّ ما عند الله من الثَّواب لكم على الوفاء { هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } فضل ما بين العوضين . ثم ذكر الدَّليل القاطع على أنَّ ما عند الله خير فقال : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } ، أي الدنيا وما فيها تفنى ، { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } فقوله : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ } مبتدأ وخبر ، والنَّفادُ : الفَناءُ والذهاب ، يقال : " نَفِدَ " بكسر العين " يَنْفَدُ " بفتحها نفَاداً ونُفوداً ، وأما نقذَ بالذَّال المعجمة ففعله نَفَذَ الفتح ينفذُ بالضمِّ ، وسيأتي . ويقال : أنفد القوم إذا فَنِيَ زادهم ، وخَصْمٌ مُنافِدٌ لينفد حجة صاحبه ، يقال : نافدته فنفدته . وقوله : " بَاقٍ " تقدَّم الكلام عليه في الوقف في سورة الرعد ، وهذه الآية حجة عليه . قوله تعالى : { وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ } قرأ ابن كثيرٍ ، وعاصم وابن ذكوان : " وَلنَجْزينَّ " بنون العظمة التفاتاً من الغيبة إلى التكلُّم ، وتقدم تقرير الالتفات . والباقون بياء الغيبة رجوعاً إلى الله - تعالى - ؛ لتقدم ذكره العزيز في قوله : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } . قوله : { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ } يجوز أن يكون [ " أفعل " ] على بابها من التفضيل ، وإذا جازاهم بالأحسن ، فلأن يجازيهم بالحسن أولى . وقيل : ليست للتَّفضيل ، وكأنهم فرُّوا من مفهوم أفعل ؛ إذ لا يلزم من المجازاة بالأحسن المجازاة بالحسن ، وهو وهمٌ ، لما تقدَّم من أنَّه من مفهوم الموافقة بطريق الأولى ، والمعنى : ولنجزين الذين صبروا على الوفاءِ في السَّراء والضَّراء { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . ثم إنه رغَّب المؤمنين في الإتيان بكلِّ ما كان من شرائع الإسلام ؛ فقال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وفيه سؤالٌ : وهو أن لفظة " مَنْ " في قوله : " مَن عَملَ " تفيد العموم ، فما الفائدة في ذكر الذَّكر والأنثى ؟ . والجواب : أن هذه الآية للوعد بالخيراتِ ، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرَّحمة ، فأتى بذكر الذَّكر والأنثى للتأكيد ، وإزالة الوهم بالتخصيص . قوله : " مِنْ ذَكرٍ " " مِنْ " للبيان ، فتتعلق بمحذوف ، أعني : من ذكرٍ ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل " عَمِلَ " ، وقوله : " وهُوَ مُؤمِنٌ " جملة حاليَّة أيضاً . وهذه الآية تدلُّ على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح ؛ لأنه - تعالى - جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصَّالح موجباً للثَّواب ، وشرط الشيء مغاير لذلك الشيء . فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أنَّ الإتيان بالعمل الصَّالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان ، وظاهر قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو عدمه . فالجواب : أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان ، أمَّا إفادته لأثرٍ غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العذاب ؛ فإنَّه لا يتوقف على الإيمان . فصل قال سعيد بن جبير - رحمه الله - وعطاء : " الحياة الطَّيِّبة : هي الرِّزقُ الحلال " وقال الحسن : هي القناعة ، وقال مجاهد وقتادة : هي الجنة . قال القاضي : الأقرب أنها تحصل في الدنيا ؛ لقوله تعالى : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } والمراد : ما [ لا ] يكون في الآخرة . قوله : " ولنَجْزِينَّهُمْ " راعى معنى " مَنْ " ، فجمع الضمير بعد أن راعى لفظها ، فأفرد في " لنحيينه " وما قبله ، وقرأ العامة : " ولنجزينه " بنون العظمة ؛ مراعاة لما قبله ، وقرأ ابن عامر في رواية بياء الغيبة ، وهذا ينبغي أن يكون على إضمار قسم ثان ، فيكون من عطف جملة قسميَّة على جملة قسمية مثلها ، حذفتا وبقي جوابهما ، ولا جائز أن يكون من عطف جواب على جواب ؛ لإفضائه إلى [ إخبار ] المتكلم عن نفسه إخبار الغائب ، ولا يجوز ؛ لو قلت : " زيد قال : والله لأضربن هِنْداً وليَنْفِينَّهَا زَيْدٌ " لم يجز ، فإن أضمرت قسماً آخر ، جاز ، أي : وقال : والله لينفينَّها فإن لك في مثل هذا التركيب أن تحكي لفظه ، ومنه { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } [ التوبة : 107 ] وأن يحكي معناه ، ومنه { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ } [ التوبة : 74 ] ولو جاء على اللفظ ، لقيل ما قلنا .